مجالس الرويضة لكل العرب

مجالس الرويضة لكل العرب (http://www.rwwwr.com/vb/httb:www.rwwwr.com.php)
-   روحانيات (http://www.rwwwr.com/vb/f5.html)
-   -   خطب الشيخ عبدالله البصري (http://www.rwwwr.com/vb/t31002.html)

ناصرعبدالرحمن 17-05-2012 01:06 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

الضرورات الخمس بين حفظ الدين وتضييع المدعين 27 / 6 / 1433



الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ " وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا كَانَتِ القَوَانِينُ الوَضعِيَّةُ الأَرضِيَّةُ ، تَهتَمُّ بِإِسعَادِ المَرءِ في دُنيَاهُ فَحَسبُ ، وَقَد تَهتَمُّ بِهِ فَردًا عَلَى حِسَابِ الجَمَاعَةِ ، وَقَد تَغمِطُهُ حَقَّهُ عَلَى حِسَابِ الآخَرِينَ ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ السَّمَاوِيَّةَ المُنَزَّلَةَ مِن عِندِ رَبِّ العَالمِينَ ، جَاءَت لإِسعَادِ الإِنسَانِ في الدَّارَينِ ، وَقَصَدَت إِلى نَجَاتِهِ في دُنيَاهُ وَأُخرَاهُ ، وَاهتَمَّت بِهِ فَردًا مِن ضِمنِ جَمَاعَةٍ ، لَهُ عَلَيهَا حَقُوقٌ وَلَهَا عَلَيهِ حُقُوقٌ ، وَمِن أَجلِ هَذَا فَقَد جَاءَ الإِسلامُ بِكُلِّيَّاتٍ خَمسٍ ، أَوجَبَ حِفظَهَا وَحَمَى حِمَاهَا ، وَحَدَّ الحُدُودَ وَشَرَعَ التَّعزِيرَاتِ لِلحَيلُولَةِ دُونَ النَّيلِ مِنهَا ، إِنَّهَا الدِّينُ وَالنَّفسُ وَالمَالُ وَالعِرضُ وَالعَقلُ ، فَالإِنسَانُ مَخلُوقٌ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ ، وَهُوَ عَائِدٌ إِلى مَولاهُ فَمُحَاسِبُهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لا تُرجَعُونَ . فَتَعَالى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ . وَمَن يَدعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسلامُ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَمَن يَرتَدِدْ مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتُلُوهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ .


وَأَمَّا النَّفسُ البَشَرِيَّةُ فَهِيَ غَالِيَةٌ غَالِيَةٌ ، وَالحِفَاظُ عَلَيهَا أَمَانَةٌ وَمَسؤُولِيَّةٌ ، وَالاعتِدَاءُ عَلَيهَا وَإِزهَاقُهَا جَرِيمَةٌ وَأَيُّ جَرِيمَةٍ ، وَأَعظَمُ النُّفُوسِ عِندَ اللهِ نَفسُ المُؤمِنِ ، ثم كُلُّ نَفسٍ مُعَاهَدَةٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَن يَقتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إلاَّ بِإِحدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّاني ، وَالنَّفسُ بِالنَّفسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " كُلُّ ذَنبٍ عَسَى اللهُ أَن يَغفِرَهُ إِلاَّ الرَّجُلَ يَمُوتُ مُشرِكًا أَو يَقتُلُ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن قَتَلَ مُؤمِنًا فَاغتَبَطَ بِقَتلِهِ ، لم يَقبَلِ اللهُ مِنهُ صَرفًا وَلا عَدلاً " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا لم يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَزَالُ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ .


وَأَمَّا المَالُ ، فَقَد كَفَلَ الإِسلامُ فِيهِ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَحَرَّمَ الاعتِدَاءَ عَلَيهِ وَأَخذَهُ بِغَيرِ حَقٍّ ، وَشَرَعَ حَدَّ السَّرِقَةِ لِصِيَانَتِهِ ، وقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا تَحَاسَدُوا ، وَلا تَنَاجَشُوا ، وَلا تَبَاغَضُوا ، وَلا تَدَابَرُوا ، وَلا يَبِعْ بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا ، المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ، وَلا يَخذُلُهُ ، وَلا يَحقِرُهُ ، التَّقوَى هَاهُنَا ـ وَيُشِيرُ إِلى صَدرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ـ بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ ، كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .


وَأَمَّا العِرضُ فَقَد حَرِصَ الإِسلامُ عَلَى طَهَارَتِهِ وَنَقَائِهِ وَصَفَائِهِ ، وَوَضَعَ سَيَاجَاتٍ لِحِمَايَتِهِ وَوِقَايَتِهِ وَصَيَانَتِهِ ، فَحَرَّمَ النَّظَرَ إِلى العَورَاتِ وَتَتَبُّعَهَا ، وَحَرَّمَ الزِّنَا وَمَقَتَهُ وَقَبَّحَهُ ، وَجَعَلَ حَدَّ فَاعِلِهِ الجَلدَ أَوِ الرَّجمَ ، وَغَلَّظَ في أَمرِ رَميِ المُحصَنَاتِ ، وَعَدَّهُ مِنَ السَّبعِ المُوبِقَاتِ المُهلِكَاتِ ، قَالَ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ ثم لم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقبَلُوا لهم شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَا مَعشَرَ مَن قَد أَسلَمَ بِلِسَانِهِ وَلم يُفضِ الإِيمَانُ إِلى قَلبِهِ ، لا تُؤذُوا المُسلِمِينَ وَلا تُعَيِّرُوهُم وَلا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِم ، فَإِنَّهُ مَن تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ ، وَمَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحْهُ وَلَو في جَوفِ رَحلِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ : الشِّركُ بِاللهِ ، وَالسِّحرُ ، وَقَتلُ النَّفسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَأَكلُ الرِّبَا ، وَأَكلُ مَالِ اليَتِيمِ ، وَالتَّولي يَومَ الزَّحفِ ، وَقَذفُ المُحصَنَاتِ المُؤمِنَاتِ الغَافِلاتِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .


وَأَمَّا العُقُولُ فَقَد كَرَّمَ اللهُ بها بَني الإِنسَانِ ، وَجَعَلَهَا مَنَاطَ التَّكلِيفِ وَمُتَعَلَّقَهُ ، وَلم يُكَلِّفْ بِعَمَلٍ وَلا أَوجَبَ حِسَابًا عَلَى مَن زَالَ عَقلُهُ بِغَيرِ فِعلٍ مِنهُ ، غَيرَ أَنَّ غَلاءَ العَقلِ وَأَهمِيَّتَهُ ، جَعَلَ الاعتِدَاءَ عَلَيهِ حَتى مِن صَاحِبِهِ أَمرًا مُحَرَّمًا ، وَمِن أَجلِ هَذَا حُرِّمَتِ الخَمرُ وَوُصِفَت بِأَنَّهَا رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ وَأَنَّهَا أُمُّ الخَبَائِثِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ في الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهُونَ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الخَمرُ أُمُّ الفَوَاحِشِ وَأَكبَرُ الكَبَائِرِ " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، بِكُلِّ هَذِهِ الحُقُوقِ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ ، وَعَنهَا دَافَعَ الإِسلامُ ، وَلأَجلِهَا أُوجِبَ فِعلُ الوَاجِبَاتِ وَحُتِّمَ الانتِهَاءُ عَنِ المَنهِيَّاتِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا مُسَوِّغَ بَل وَلا مَجَالَ لِلتَّفرِيقِ بَينَهَا في اهتِمَامِ المُكَلَّفِينَ ، بَل لا بُدَّ مِن حِمَايَتِهَا كُلِّهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، وَتَأثِيمِ كُلِّ مُعتَدٍ عَلَى أَيٍّ مِنهَا وَمُحَارَبَتِهِ وَمَنعِهِ وَالأَخذِ عَلَى يَدِهِ وَصَدِّهِ ، وَإِنَّ مِمَّا طَالَ أُمَّةَ الإِسلامِ مِن زَحفِ الأَفكَارِ الغَربِيَّةِ وَالشَّرقِيَّةِ النَّتِنَةِ ، أَنَّ مَن يُسَمُّونَ أَنفُسَهُم بِالحُقُوقِيِّي نَ أَو طُلاَّبَ الحُرِّيَّةِ أَوِ المُدَافِعِينَ عَنِ الإِنسَانِيَّةِ ، جَعَلَت جُهُودُهُم تَتَرَكَّزُ عَلَى حَقٍّ وَاحِدٍ مِن هَذِهِ الحُقُوقِ ، لَيسَ هُوَ أَفضَلَهَا وَلا أَهَمَّهَا وَإِن كَانَ مُهِمًّا وَمُقَدَّرًا ، ذَلِكُم هُوَ الحَقُّ المَاليُّ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَن تَتَعَالى الأَصوَاتُ وَتَنتَشِرُ المُطَالَبَاتُ ، في الصُّحُفِ وَالقَنَوَاتِ ، وَفي بَرَامِجِ التَّوَاصُلِ الاجتِمَاعِيِّ في الشَّبَكَاتِ ، فَلا تَتَجَاوَزُ كُلُّهَا المُطَالَبَةَ بِحَقِّ في وَظِيفَةٍ أَو تَرقِيَةٍ ، أَوِ التَّسَاؤُلِ عَن نَصِيبِ فَردٍ في عَطَاءٍ أَو دَرَجَةٍ ، حَتى لَيَكَادُ يُحصَرُ ظُلمُ الوُلاةِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ لِرَعَايَاهُم في استِئثَارِهِم بِالمَالِ وَالمَنَاصِبِ وَالزَّعَامَاتِ ، وَأَمَّا اعتِدَاؤُهُم عَلَى الدِّينِ وَاتِّخَاذُهُ لَهوًا وَلَعِبًا ، وَالتَّقصِيرُ في حِمَايَةِ جَنَابِهِ ، وَمُحَارَبَتُهُ م لِلمُتَمَسِّكِي نَ بِهِ وَمُطَارَدَتُهُ م الدَّاعِينَ إِلى سَبِيلِ رَبِّهِم ، وَإِهَانَتُهُم لِلبَشَرِ وَظُلمُهُم إِيَّاهُم في أَجسَادِهِم أَو هَتكُ أَعرَاضِهِم ، وَالسَّمَاحُ لِكُلِّ دَعِيٍّ أَن يَبُثَّ سُمُومَهُ في أَوسَاطِهِم ، فَلا تَكَادُ تَجِدُ مُتَنَاوِلاً لَهُ إِلاَّ فِئَةٌ مِنَ النَّاصِحِينَ الغَيُورِينَ ، الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ، الَّذِينَ هُم خَيرٌ عَلَى مُجتَمَعَاتِهِم في دِينِهَا وَدُنيَاهَا وَأُولاهَا وَأُخرَاهَا ، وَمَعَ هَذَا تَجتَمِعُ الجُهُودُ الشَّيطَانِيَّة ُ عَلَى حَربِهِم ، ظَانَّةً أَنَّهُم بِدِفَاعِهِم عَنِ الدِّينِ وَالعِرضِ ، إِنَّمَا يَحُولُونَ بَينَ النَّاسِ وَبَينَ حُرِّيَاتِهِم ، وَمَا عَلِمَ أُولَئِكَ المُغَرَّرُ بهم وَالمَخدُوعُونَ أَنَّ حِفظَ الدِّينِ وَالعِرضِ ، هُوَ حِمَايَةٌ لِلنُّفُوسِ وَالعُقُولِ وَالأَموَالِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ ـ وَلْيَتَّقِ اللهَ قَومٌ جَعَلُوا الدُّنيَا هَمَّهُم ، وَمَنَاطَ طَاعَتِهِم لِوُلاةِ أَمرِهِم ، وَمِيزَانَ مَحَبَّتِهِم لهم وَرِضَاهُم عَنهُم ، فَبِئسَ القَومُ هُم ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيهِم وَلا يُزَكِّيهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمنَعُ مِنهُ ابنَ السَّبِيلِ ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً لا يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنيَا ، فَإِنْ أَعطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفى لَهُ وَإِلاَّ لم يَفِ لَهُ ، وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلعَةٍ بَعدَ العَصرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَد أُعطِيَ بها كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا "
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " قُلْ تَعَالَوا أَتلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالوَالِدَين ِ إِحسَانًا وَلا تَقتُلُوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيَّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ . وَلا تَقرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتَّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ "



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِصَالِحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّنَا لا نَقُولُ لِلنَّاسِ لا تُطَالِبُوا بِحُقُوقِكُم المَالِيَّةِ ، أَوِ ارضَوا بِالدُّونِ وَتَلَبَّسُوا بِالمَهَانَةِ ، وَلَكِنَّنَا نَدعُوهُم لاستِيضَاحِ الحَقَائِقِ وَوَزنِ الأُمُورِ بِمِيزَانِ الدِّينِ ، وَمُرَاعَاةِ الأَولَوِيَّاتِ وَاعتِبَارِ المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ ، وَالعِلمِ بِأَنَّ لِلبُيُوتِ أَبوَابًا لا مَدخَلَ إِلَيهَا إِلاَّ مِنهَا ، وَأَنَّهُ لا يَبذُلُ الأَعلَى لِتَحصِيلِ الأَدنى إِلاَّ جَاهِلٌ ، وَإِذَا ذَهَبَ الدِّينُ وَانتُهِكَ العِرضُ ، فَلا بَارَكَ اللهُ في دُنيًا وَلا مَالٍ ، وَأَنىَّ لِعَقلٍ بَعدَ ذَلِكَ أَن يَستَقِرَّ وَيَنفَعَ صَاحِبَهُ ، أَو يُورِدَهُ مَا يَنفَعُهُ وَيَسُرُّهُ ، وَلأَن يَمُوتَ المَرءُ وَهُوَ عَلَى الدِّينِ الحَقِّ ، خَيرٌ لَهُ مِن أَن تُفتَحَ عَلَيهِ الدُّنيَا ، عَلَى حِسَابِ تَضيِيعِ مَبَادِئِهِ ، ثم يَمُوتَ مِيتَةَ البَهَائِمِ أَو شَرًّا مِنهَا .
إِنَّهُ لَن يَكُونَ المُجتَمَعُ مُجتَمَعًا إِنسَانِيًّا يَشعُرُ كُلُّ فَردٍ فِيهِ بِالطُّمَأنِينَ ةِ وَالارتِيَاحِ ، مَا لم يَكُنِ الأَفرَادُ فِيهِ عَلَى مُستَوًى إِنسَانيٍّ حَقِيقِيٍّ ، يُقَدِّرُ كُلٌّ فِيهِ الآخَرَ وَلا يَستَذِلُّهُ وَلا يُؤذِيهِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الحُرِّيَّةَ الَّتي أَصَمَّ بها مُدَّعُو الحُقُوقِ الآذَانَ وَشَغَلُوا بها الخَلقَ ، لم تُعرَفْ في مَنهَجٍ وَلا نِظَامٍ غَيرِ الإِسلامِ ، فَلا بُدَّ مِن أَن تُفهَمَ كَمَا أَرَادَ اللهُ لا كَمَا أَرَادَ البَشَرُ ، فَهِيَ لَيسَت كَمَا يُرِيدُونَ وَيَفهَمُونَ في نَيلِ كُلِّ شَيءٍ بِلا حُدُودٍ وَلا قُيُودٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ تَحصِيلُ الإِنسَانِ مَا يَنفَعُهُ في إِطَارِ الشَّرِيعَةِ ، وَدُونَ تَعَدٍّ عَلَى المَصلَحَةِ العَامَّةِ لِلآخَرِينَ .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّهُ مَهمَا أُوتيَ الإِنسَانُ مِن نِعَمِ الدُّنيَا ، فَلَن يَنَالَ بها سَعَادَةً إِلاَّ إِذَا سَارَ فِيهَا عَلَى الوَجهِ الَّذِي لأَجلِهِ خُلِقَ ، مُوقِنًا أَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَعَلَ الدُّنيَا عَارِيَّةً لَهُ لِيَتَنَاوَلَ مِنهَا قَدرَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلى النِّعَمِ الدَّائِمَةِ وَالسَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ ، وَلَن يَكُونَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلمُؤمِنِينَ " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ "
وَأَمَّا المُنغَمِسُونَ في الدُّنيَا مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِين َ ، فَـ" إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بها في الحَياةِ الدُّنيا وَتَزهَقَ أَنفُسُهُم وَهُم كافِرُونَ "

ناصرعبدالرحمن 31-05-2012 02:41 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
الاختبارات بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة 4/7/1433

الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَبلَ سَنَوَاتٍ وَفي مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ مِن كُلِّ عَامٍ ، كَانَت حَالَةُ الطَّوارِئِ تُعلَنُ في كَثِيرٍ مِنَ البُيُوتِ ، فَيُمنَعُ مِنهَا الخُرُوجُ وَتَقِلُّ إِلَيهَا الزِّيَارَةُ ، وَتُستَنفَرُ فِيهَا الجُهُودُ وَتُستَفرَغُ الطَّاقَةُ ، وَتَتَحَوَّلُ بَعدَ طُولِ خُمُولٍ وَتَهَاوُنٍ إِلى حِيَاةِ جِدٍّ وَاجتِهَادٍ وَانضِبَاطٍ ، بَل قَد يَصِلُ الوَضعُ في بَعضِهَا إِلى قِمَّةِ التَّوَتُّرِ وَغَايَةِ القَلَقِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِن أَجلِ أَن يَتَفَرَّغَ الأَبنَاءُ لِلقِرَاءَةِ وَالاستِذكَارِ ، فَيَستَعِيدُوا مَعلُومَاتِهِم وَيَضبِطُوهَا وَيُرَتِّبُوهَا ، وَمِن ثَمَّ يَنجَحُونَ في الاختِبَارَاتِ وَيُحَصِّلُونَ أَعلَى الدَّرَجَاتِ ، وَأَمَّا في هَذِهِ السُّنَيَّاتِ المُتَأَخِّرَةِ ، فَقَد خَفَّت هَذِهِ الظَّاهِرَةُ أَوِ اختَفَت ، وَقَلَّ اهتِمَامُ الطُّلاَّبِ وَضَعُفَت مُتَابَعَةُ الأَولِيَاءِ لهم ، حَتى لَتَكَادُ أَيَّامُ الاختِبَارَاتِ تَكُونُ مَرتَعًا خِصبًا لِعَبِيدِ الشَّهَوَاتِ وَصَرعَى الهَوَى وَالغَفَلاتِ ، الَّذِينَ يَتَصَيَّدُونَ الشَّبَابَ لِيُوقِعُوا بهم في شِرَاكِهِم ، وَمِن ثَمَّ يَهوُونَ بهم في حُفَرٍ سَحِيقَةٍ مِنَ الضَّيَاعِ ، قَد يَطُولُ بهمُ الوَقتُ ولَمَّا يَخرُجُوا مِنهَا ، إِمَّا في اعتِيَادِ سَهَرٍ وَإِضَاعَةِ صَلَوَاتٍ ، أَو فِعلِ فَوَاحِشَ وَإِتيَانِ مُنكَرَاتٍ ، أَو إِدمَانِ مُخَدِّرَاتٍ وَمُفَتِّرَاتٍ ، أَو تَنَاوُلِ مُنَبِّهَاتٍ وَقِيَادَةٍ جُنُونِيَّةٍ لِلسَّيَارَاتِ . وَكُلُّهَا أُمُورٌ خَطِيرَةٌ وَمَصَائِبٌ كَبِيرَةٌ ، تُحَتِّمُ عَلَى الجَمِيعِ آبَاءً وَمُعَلِّمِينَ وَرِجَالَ أَمنٍ وَمَسؤُولِينَ ، أَن يَتَحَمَّلُوا المَسؤُولِيَّةَ وَيَرعَوُا الأَمَانَةَ ، فَيَبذُلُوا مَزِيدًا مِنَ الاهتِمَامِ وَيُكَثِّفُوا المُتَابَعَةَ ، وَيَتَعَاوَنُوا عَلَى حِفظِ هَؤُلاءِ الطُّلاَّبِ وَيُرَاقِبُوهُم ، في بُيُوتِهِم وَمَدَارِسِهِم ، وَفي شَوَارِعِهِم وَطُرُقَاتِهِم ، وَعِندَ ذَهَابِهِم وَإِيَابِهِم ، لِئَلاَّ تَكُونَ هَذِهِ الأَيَّامُ بِدَايَةَ انحِرَافٍ تَتَّسِعُ بِهِ الفَجوَةُ بَينَهُم وَبَينَ الخَيرِ وَأَهلِهِ ، وَيَدُومُ شَرُّهَا في مُقتَبَلِ أَعمَارِهِم عَلَيهِم وَعَلى أَهلِيهِم وَبِلادِهِم .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَيسَ مِنَ الصَّوَابِ أَن يَتَوَالى مِنَ الآبَاءِ وَالمُعَلِّمِين َ التَّرهِيبُ مِنَ الامتِحَانَاتِ وَجَعلُهَا شَبَحًا يُورِثُ الطُّلاَّبَ خَوفًا وَقَلَقًا , وَلَكِنَّ الوَاجِبَ أَن يَحُثُّوهُم عَلَى بَذلِ الوُسعِ وَالاجتِهَادِ قَدرَ الاستِطَاعَةِ ، وَالاستِعدَادِ لِلامتِحَانَاتِ دُونَ مُبَالَغَةٍ وَلا تَهوِيلٍ ، وَأَن يُعَمَّقَ في نُفُوسِهِم قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ الإِيمَانُ بِاللهِ رَبِّهِم ، وَيُعَوَّدُوا التَّوَكُّلَ عَلَى مَولاهُم وَتَفوِيضَ الأُمُورِ إِلَيهِ وَالاعتِمَادَ عَلَيهِ ، وَسُؤَالَهُ ـ تَعَالى ـ التَّوفِيقَ وَالنَّجَاحَ وَالسَّدَادَ ، فَإِنَّهُ وَحدَهُ الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ الأُمُورِ وَمَفَاتِيحُهَا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلاَ مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ "
وَإِنَّ ممَّا يَجِبُ أن يُرَبَّى عَلَيهِ الطُّلاَّبُ بَل وَالأُمَّةُ جَمِيعًا ، أَنَّهُم متى اتَّقَوُا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَجَعَلُوا هَمَّهُمُ النَّجَاحَ في الآخِرَةِ وَالفَوزَ بِرِضَا رَبِّهِم ، فَاجتَهَدُوا لِذَلِكَ وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِم وَاستَقَامُوا ، وَحَافَظُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَاستَغرَقُوا في العِبَادَاتِ ، وَعَمِلُوا بما تَعَلَّمُوا وَطَبَّقُوهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَيُورِثُهُم بَرَكَةً في الأَوقَاتِ وَالأَعمَارِ ، وَفَتحًا في العُلُومِ وَالفُهُومِ ، وَتَيسِيرًا لِكُلِّ عَسِيرٍ وَتَنفِيسًا لِلكُرُوبِ ، وَأَمَّا إِن هُم جَعَلُوا الدُّنيا هَمًّا لهم وَغَايَةً وَرَأسَ مَالٍ ، فَلَم يَنظُرُوا إِلاَّ إِلى النَّجَاحِ في امتِحَانَاتِهَا ، وَلم يَهتَمُّوا إِلاَّ بِتَحصِيلِ شَهَوَاتِهَا ، وَلم يَتَمَدَّحُوا إِلاَّ بِالتَّفَوُّقِ فِيهَا ، فَمَا أَبعَدَهُم حِينَئِذٍ عَنِ التَّوفِيقِ وَالتَّسدِيدِ ! وَمَا أَحرَاهُم أَن يُوكَلُوا إِلى جُهُودِهِم ! وَكَفَى بِذَلِكَ ضَيَاعًا وَخَسَارَةً ، في الحَدِيثِ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ يَقُولُ : يَا بنَ آدَمَ ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي أَملأْ صَدرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقرَكَ ، وَإِنْ لا تَفعَلْ مَلأتُ يَدَيكَ شُغلاً ولم أَسُدَّ فَقرَكَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيهِ أَمرَهُ ، وَجَعَلَ فَقرَهُ بَينَ عَينَيهِ ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ ، وَمَن كَانَتِ الآخِرَةُ نَيِّتَهُ ، جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمرَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلبِهِ ، وَأَتَتهُ الدُّنيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
لَقَد خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ الإِنسَانَ لِعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ شَرعِهِ وَدِينِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ " فَإِذَا عَرَفَ المُؤمِنُ الهَدَفَ مِن خَلقِهِ وَإِيجَادِهِ ، عَمِلَ بِهِ وَلَهُ ، وَاستَعَدَّ لِلِقَاءِ رَبِّهِ ، وَأَعَدَّ العُدَّةَ لِلامتِحَانِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مُقبِلٌ عَلَيهِ في قَبرِهِ وَيَومَ حَشرِهِ ، فَفِي الحَدِيثِ الطَّوِيلِ أَنَّ العَبدَ المُؤمِنَ إِذَا وُضِعَ في قَبرِهِ " يَأتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ : مَن رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللهُ . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : دِينيَ الإِسلامُ . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُم ؟ فَيَقُولُ : هُوَ رَسُولُ اللهِ . فَيَقُولانِ لَهُ : وَمَا عِلمُكَ ؟ فَيَقُولُ : قَرَأتُ كِتَابَ اللهِ فَآمَنتُ بِهِ وَصَدَّقتُ ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبدِي فَأَفرِشُوهُ مِنَ الجَنَّةِ وَأَلبِسُوهُ مِنَ الجَنَّةِ وَافتَحُوا لَهُ بَابًا إِلى الجَنَّةِ ، فَيَأتِيهِ مِن رَوحِهَا وَطِيبِهَا ، وَيُفسَحُ لَهُ في قَبرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، وَيَأتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الوَجهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ : أَبشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ ، هَذَا يَومُكَ الَّذِي كُنتَ تُوعَدُ . فَيَقُولُ لَهُ : مَن أَنتَ ، فَوَجهُكَ الوَجهُ يَجِيءُ بِالخَيرِ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الصَّالحُ . فَيَقُولُ : رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ "
وَأَمَّا الكَافِرُ فَـ" يَأتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ : مَن رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاه هَاه لا أَدرِي . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاه هَاه لا أَدرِي . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُم ؟ فَيَقُولُ : هَاه هَاه لا أَدرِي . فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ كَذَبَ عَبدِي فَأَفرِشُوهُ مِنَ النَّارِ ، وَافتَحُوا لَهُ بَابًا إِلى النَّارِ ، فَيَأتِيهِ مِن حَرِّهَا وَسَمُومِهَا ، وَيُضَيَّقُ عَلَيهِ قَبرُهُ حَتى تَختَلِفَ أَضلاعُهُ ، وَيَأتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الوَجهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنتِنُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبشِرْ بَالَّذِي يَسُوؤُكَ ، هَذَا يَومُكَ الَّذِي كُنتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ : مَن أَنتَ ، فَوَجهُكَ الوَجهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ ، فَيَقُولُ : رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعَةَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَعِندَ التِّرمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ : " لا تَزُولُ قَدَمَا عَبدٍ حَتى يُسأَلَ عَن أَربَعٍ : عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ ؟ وَعَن عِلمِهِ مَا فَعَلَ فِيهِ ؟ وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ ؟ وَعَن جِسمِهِ فِيمَ أَبلاهُ "

فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَحَذَارِ مِن أَن يَملأَ أَحَدُكُم قَلبَهُ بِالدُّنيَا أَو يُكثِرَ فِيهَا التَّمَنِّي ، أَو يَزدَادَ حِرصُهُ عَلَيهَا عَلَى حِسَابِ آخِرَتِهِ " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن بَرَكَةِ العِلمِ النَّافِعِ ، أَنَّهُ لا يَنتَهِي بِامتِحَانٍ يُفَرِّغُ فِيهِ الطَّالِبُ قَلِيلاً مِنَ المَعلُومَاتِ عَلَى وَرَقَاتٍ ، ثم يَنسَاهُ أَو يَتَنَاسَاهُ وَيَنطَلِقُ في دُنيَاهُ ، مِن غَيرِ أَن يَكُونَ لَهُ عَلَيهِ أَثَرٌ حَسَنٌ في سُلُوكِهِ وَأَخلاقِهِ ، وَفي تَعَامُلِهِ وَأَخذِهِ وَعَطَائِهِ .

إِنَّ العِلمَ النَّافِعَ لا يُشبَعُ مِنهُ ، بَل كُلَّمَا ازدَادَ صَاحِبُهُ لَهُ أَخذًا ، عَلِمَ أَنَّهُ لم يَنَلْ مِنهُ شَيئًا ، وَوَجَدَ أَنَّهُ لم يُؤتَ مِنهُ إِلاَّ قَلِيلاً ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَنهُومَانِ لا يَشبَعَانِ : طَالِبُ عِلمٍ ، وَطَالِبُ دُنيَا " رَوَاهُ البَزَّارُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِنَّ مَا نَرَاهُ اليَومَ بَعدَ خُرُوجِ الطُّلاَّبِ مِن قَاعَاتِ الامتِحَانِ ، مِن إِلقَاءِ الكُتُبِ في الشَّوَارِعِ تَدُوسُهَا الأَقدَامُ ، وَيُهَانُ مَا فِيهَا مِن عِلمٍ وَأَعظَمُهُ اسمُ اللهِ وَآيَاتُ كِتَابِهِ وَأَقوَالُ نَبِيِّهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ ، إِنَّهُ لَمُؤَشِّرٌ عَلَى أَنَّ طُلاَّبَنَا يَعِيشُونَ جَهلاً ذَرِيعًا وَسُوءَ فَهمٍ بَالِغًا ، إِنَّهَا أَزمَةٌ يَقَعُ فِيهَا الكِبَارُ مِنَّا قَبلَ الصِّغَارِ ، وَقَد تَبدُو عَلَى المُعلِمِينَ قَبلَ الطُّلاَّبِ ، وَمِن ثَمَّ فَلا عَجَبَ أَن يُستَهَانَ بِالعِلمِ وَأَوعِيَتِهِ ، إِنَّهَا عَدَمُ إِتبَاعِ العِلمِ بِالعَمَلِ ، وَعَدَمُ إِثبَاتِ الأَقوَالِ بِالأَفعَالِ ، وَطَلَبُ العِلمِ مِن أَجلِ الدَّرَجَاتِ وَالشَّهَادَاتِ ، وَجَعلُهُ سُلَّمًا لِلوُصُولِ إلى المَنَاصِبِ وَالوَظَائِفِ ، وَذَلِكَ في حَقِيقَتِهِ نَوعٌ مِنَ المَقتِ لِلنُّفُوسِ وَالبُعدِ عَنِ اللهِ وَقِلَّةِ البَرَكَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ "
أَلا فَرَحِمَ اللهُ امرَأً تَعَلَّمَ لِيَعمَلَ ، وَتَفَقَّهَ لِيُطَبِّقَ ، وَأَخَذَ القُرآنَ لِيَتَخَلَّقَ بِهِ ، فَعَن سَعدِ بْنِ هِشَامٍ قُلْتُ : يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ ، أَنبِئِيني عَن خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَت : أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قُلتُ : بَلَى . قَالَت : فَإِنَّ خُلُقَ نَبيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ القُرآنَ ... " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَكَانَ مِن دُعَائِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اللَّهُمَّ إِني أَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ ، وَمِن قَلبٍ لا يَخشَعُ ، وَمِن نَفسٍ لا تَشبَعُ ، وَمِن دَعوَةٍ لا يُستَجَابُ لها " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ ، وَعِندَ ابنِ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ : " سَلُوا اللهَ عِلمًا نَافِعًا ، وَتَعَوَّذُوا بَاللهِ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ "

وَرَحِمَ اللهُ القَائِلَ :
وَلم أَقضِ حَقَّ العِلمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا *** بَدَا طَمَعٌ صَيَّرتُهُ لِيَ سُلَّمَا
أَأَشقَى بِهِ غَرسًا وَأَجنِيهِ ذِلَّةً *** إِذًا فَاتِّبَاعُ الجَهلِ قَد كَانَ أَحزَمَا
وَلَو أَنَّ أَهلَ العِلمِ صَانُوهُ صَانَهُم *** وَلَو عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا *** مُحَيَّاهُ بِالأَطمَاعِ حَتى تَجَهَّمَا

ناصرعبدالرحمن 31-05-2012 02:42 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

يا أهل الشام لا تحسبوه شرًّا لكم 11 / 7 / 1433



الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، حِينَ يَسمَعُ مُؤمِنٌ بِاللهِ مُصَدِّقٌ بِرَسُولِهِ حَدِيثًا مِن أَحَادِيثِ المُصطَفَى ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيهِ البِشَارَةُ لِقَومٍ أَو مَدحُ جِهَةٍ أَو وَعدٌ بِخَيرٍ ، فَإِنَّهُ لا يَزدَادُ بِهِ إِلاَّ يَقِينًا وَتَصدِيقًا وَفَرَحًا ، لا يَمنَعُهُ مِن ذَلِكَ أَلاَّ يُدرِكَ بِعَقلِهِ القَاصِرِ أَثَرَ مَا سَمِعَ ، أَو أَنَّهَ مُخَالِفٌ في الظَّاهِرِ لِلوَاقِعِ المُشَاهَدِ ؛ لِعِلمِهِ أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ عَنِ الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَهُوَ حَقٌّ مِن عِندِ اللهِ كَائِنٌ لا مَحَالَةَ ، وَصِدقٌ لا يَقبَلُ الشَّكَّ مِن أَيِّ وَجهٍ . وَإِنَّ مما جَاءَ عَنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَولَهُ فِيمَا رَوَاهُ زَيدُ بنُ ثَابِتٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " طُوبى لِلشَّامِ " قُلنَا : لأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ بَاسِطَةٌ أَجنِحَتَهَا عَلَيهَا " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَطُوبى أَيْ رَاحَةٌ وَطِيبُ عَيشٍ حَاصِلٌ لَهَا وَلأَهلِهَا ، أَو هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ في بَيَانِ مَا عَلَيهِ المَمدُوحُ بها مِن نَعِيمٍ وَنَعمَةٍ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد يَقرَأُ هَذَا الحَدِيثَ أَو يَسمَعُهُ بَعضُ مَن قَلَّ بِالغَيبِ إِيَماَنُهُم ، وَابتُلُوا بِتَقدِيمِ عُقُولِهِمُ الخَاوِيَةِ عَلَى النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ ، فَيَقُولُ : وَأَيُّ نَعِيمٍ لِلشَّامِ وَأَهلِهَا وَأَيُّ نَعمَةٍ ، وَنَحنُ نَرَى اليَهُودَ يُدَنِّسُونَ المَسجِدَ الأَقصَى مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا ، وَالنُّصَيرِيَّ ةُ تَسُومُ أَهلَ السُّنَّةِ العَذَابَ مُنذُ أَكثَرَ مِن أَربَعِينَ سَنَةً ؟ وَهَذِهِ المَصَائِبُ مَا تَزَالُ تَتَوَالى عَلَيهِم وَالقَتلُ فِيهِم مُستَحِرًّا ؟ وَهَذَا لَعَمرُ اللهِ نَوعٌ مِن قُصُورِ النَّظَرِ وَضِيقِ الأُفُقِ وَمَحدُودِيَّةِ التَّفكِيرِ ، بَل هُوَ دَلِيلٌ عَلَى استِحكَامِ مَحَبَّةِ الدُّنيَا في النُّفُوسِ وَتَغَلغُلِهَا في القُلُوبِ وَتَفضِيلِهَا عَلَى الآخِرَةِ ، حَتى عَادَتِ الأَعيُنُ لا تَرَى الخَيرَ وَالشَّرَّ إِلاَّ بِقَدرِ مَا يُنَالُ مِنَ الدُّنيَا أَو يَضِيعُ عَلَى أَهلِهَا مِنهَا ، وَحَتى عَادَ النَّاسُ لا يَعُدُّونَ مِنَ البِلادِ مَحظُوظًا إِلاَّ مَا كَانَت في رَغَدٍ مِنَ العَيشِ آمِنَةً عَلَى دُنيَاهَا ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَن نَصِيبِهَا مِنَ الآخِرَةِ ، أو تَمَسُّكِ أَهلِهَا بِعَقِيدَةٍ وَحَظِّهِم مِن استِقَامَةٍ عَلَى دِينٍ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لا يَلزَمُ مِن فَضِيلَةِ بَلَدٍ وَطِيبِ عَيشِ أَهلِهِ عِندَ اللهِ ، أَنَّهُم لا يُبتَلَونَ وَلا يُصَابُونَ ، لا وَاللهِ ، بَل لَقَد قَضَت سُنَّةُ اللهِ أَن يُبتَلَى المُؤمِنُونَ ، وَأَن يَكُونَ الابتِلاءُ عَلَى قَدرِ قُوَّةِ الدِّينِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " لَتُبلَوُنَّ في أَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم وَلَتَسمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءُ ثم الأَمثَلُ فَالأَمثَلُ ، يُبتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ في دِينِهِ صُلبًا اشتَدَّ بَلاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ في دِينِهِ رِقَّةٌ ابتُلِيَ عَلَى قَدرِ دِينِهِ ... " وَقَالَ : " مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُصِبْ مِنهُ " رَوَاهُمَا البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ ، بَل بَيَّنَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَنَّ عَدَمَ البَلاءِ لا يَكُونُ إِلاَّ لِلمُنَافِقِينَ ، فَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَثَلُ المُؤمِنِ كَمَثَلِ الخَامَةِ مِنَ الزَّرعِ تُفِيئُهَا الرِّيَاحُ ، تَصرَعُهَا مَرَّةً وَتَعدِلُهَا أُخرَى حَتى يَأتِيَهُ أَجَلُهُ ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الأَرزَةِ المُجذِيَةِ ، الَّتي لا يُصِيبُهَا شَيءٌ حَتى يَكُونَ انجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . لَقَد كَانَ لِمَكَّةَ وَالمَدِينَةِ ، وَهُمَا المَدِينَتَانِ المُقَدَّسَتَان ِ اللَّتَانِ شَهِدَت إِحدَاهُمَا مَولِدَ الإِسلامِ وَفي الأُخرَى شَبَّ وَتَرَعرَعَ ، لَقَد كَانَ لهما وَمَعَ أَفضَلِيَّتِهِم َا وَقَدَاسَتِهِمَ ا نَصِيبٌ مِنَ البَلاءِ ، الَّذِي كَانَ وَمَا زَالَ وَلَن يَزَالَ يُصِيبُ أَجزَاءً مِنَ العَالمِ الإِسلامِيِّ حَتى يَلقَى النَّاسُ رَبَّهُم ، فَقَد ابتُلِيَ فِيهِمَا النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَحبَهُ وَلا سِيَّمَا السَّابِقِينَ مِنهُم ، وَعَانَوا مَا عَانَوا مِنَ المُشرِكِينَ وَالمُنَافِقِين َ وَاليَهُودِ ، وَأَصَابَهُم مِن أَذَاهُم مَا أَصَابَهُم ، وَمَعَ هَذَا فَقَد عَاشُوا نَعِيمًا رُوحِيًّا عَظِيمًا ، وَأَدرَكُوا رَاحَةَ قُلُوبٍ بَالِغَةً ، لم تَستَطِعْ آلَةُ الحَربِ وَالتَّعذِيبِ وَلا فُنُونُ الغَدرِ وَالخِيَانَةِ أَن تَنتَزِعَهَا مِنهُم ، فَيَرجِعُوا عَن دِينِهِم أَو يَتَخَلَّوا عَن إِسلامِهِم ، أَو يَضعُفُوا أَو يُدَاهِنُوا ، لماذَا ؟ لأَنَّهُم ذَاقُوا لَذَّةَ الإِيمَانِ وَخَالَطَت بَشَاشَتُهُ قُلُوبَهُم ، وَاستَطعَمُوا النَّصرَ مِن رَبِّهُمُ الرَّحِيمِ ، وَاستَشعَرُوا الفَوزَ الكَرِيمَ وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ ، فَارتَفَعُوا عَنِ الدُّنيَا الدَّنِيَّةِ ، وَوَصَلُوا بِقُلُوبِهِم إِلى عِيشَةِ الآخِرَةِ الرَّضِيَّةِ ، فَصَارَ العَذَابُ عِندَهُم في سَبِيلِ اللهِ عَذبًا ، وَغَدَت الشَّهَادَةُ أَلَذَّ لَدَيهِم مِنَ الشَّهدِ ، وَأَرخَصُوا في ذَاتِ اللهِ كُلَّ غَالٍ وَنَفِيسٍ ، وَمَا كَانُوا في ذَلِكَ بِدعًا ، وَإِنَّمَا هُم لِمَن سَبَقَهُم عَلَى الأَثَرِ . فَعَن خَبَّابٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَتَيتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُردَةً وَهُوَ في ظِلِّ الكَعبَةِ ، وَقَد لَقِينَا مِنَ المُشرِكِينَ شِدَّةً ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلا تَدعُو اللهَ ؟! فَقَعَدَ وَهُوَ مُحمَرٌّ وَجهُهُ فَقَالَ : " لَقَد كَانَ مَن قَبلَكُم لَيُمشَطُ بِمِشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِن لَحمٍ أَو عَصَبٍ ، مَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ ، وَيُوضَعُ المِنشَارُ عَلَى مَفرِقِ رَأسِهِ فَيُشَقُّ بِاثنَينِ ، مَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ ، وَلَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعَاءَ إِلى حَضرَمَوتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللهَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . لَقَد أَيقَنَ المُؤمِنُونَ أَنَّ الفَوزَ الحَقِيقِيَّ هُوَ الفَوزُ في الآخِرَةِ ، وَأَنَّ الخَسَارَةَ المُتَيَقَّنَةَ هِيَ خَسَارَةُ الدِّينِ ، وَمِن ثَمَّ فَلَم يَأسَوا مِنَ الدُّنيَا عَلَى شَيءٍ وَقَد صَحّ لهم دِينُهُم ، وَلم يَحزَنُوا عَلَى مَا ذَهَبَ مِنهَا وَقَد صَفَت عَقِيدَتُهُم ، وَأَمَّا مَا عَلَيهِ أَهلُ الدُّنيَا اليَومَ مِن قِيَاسِ مُؤَشِّرَاتِ السَّعَادَةِ في المُجتَمَعَاتِ بِقَدرِ انغِمَاسِهَا في بُحُورِ الدُّنيَا وَنَيلِهَا مِن زَخَارِفِهَا ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ هُوَ الخِذلانُ بِعَينِهِ ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ بَعضَ مَن أُوتُوا ظَاهِرًا مِنَ العِلمِ بِالحَيَاةِ الدُّنيَا يَرَونَ أَنفُسَهُم مُنَعَّمِينَ ، في حِينِ يَرَونَ أَنَّ مَنِ ابتُلُوا هُم أَهلُ النِّقمَةِ ، وَمَا شَعُرَ أُولَئِكَ الجَهَلَةُ أَنَّ اللهَ كَمَا يَبتَلِي قَومًا بَالشَّرِّ فَإِنَّهُ يَبتَلِي آخَرِينَ بِالخَيرِ ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبيِّ أَكرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبيِّ أَهَانَنِ " وَقَد أَجَابَ العَلِيمُ الخَبِيرُ بِقَولِهِ : " كَلاَّ " لِيَردَعَ النُّفُوسَ المَهزُوزَةَ وَيَقرَعَ القُلُوبَ المُتَرَدِّدَةَ ؛ لِتَعلَمَ أَنَّ الصَّوَابَ لَيسَ فِيمَا تَرَاهُ في القَرِيبِ العَاجِلِ ، ظَانَّةً أَنّهُ هُوَ المُؤَشِّرُ عَلَى مَحَبَّةِ رَبِّهَا لها ، غَافِلَةً عَن أَنَّ العِبرَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّهَايَةِ السَّعِيدَةِ وَالخَاتِمَةِ الحَسَنَةِ ، وَالَّتي لا تَكُونُ إِلاَّ لِمَن وُفِّقَ فَنَالَهَا بِرِضَا رَبِّهِ ، فَسَعِدَ في أُخرَاهُ سَعَادَةً لا يَشقَى بَعدَهَا أَبَدًا . فَيَا مَعشَرَ المُؤمِنِينَ ، حِينَ تَستَعِرُ نِيرَانُ المُجرِمِينَ مِنَ اليَهُودِ وَالنُّصَيرِيِّ ينَ وَغَيرِهِم مِن أَعدَاءِ الدِّينِ ، فَيَصُبُّوا عُدوَانَهُم عَلَى رُؤُوسِ المُسلِمِينَ وَفي عُقرِ دِيَارِهِم بِالشَّامِ ، فَيَقتُلُوا الشُّيُوخَ وَالعَجَائِزَ ، وَيَهتِكُوا أَعرَاضَ المُسلِمَاتِ العَفِيفَاتِ ، وَيَنحَرُوا الأَطفَالَ الأَبرِيَاءَ كَمَا تُنحَرُ البَهَائِمُ ، في صُوَرٍ تَشمِئَزُّ مِنهَا الفِطَرُ السَّوِيَّةُ ، فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ إِنَّمَا أَرَادَ بِأُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ في الدُّنيَا أَن تَكُونَ تِلكَ الابتِلاءَاتُ هِيَ قَاطِعَةَ الشَّرِّ عَنهُم وَحَاسِمَةَ العَذَابِ ، لِيَنعَمُوا بَعدَهَا في جَنَّاتِ وَنَهَرٍ ، في مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ ، بَينَمَا يَتَنَقَّلُ أُولَئِكَ المُجرِمُونَ مِن عَذَابٍ إِلى آخَرَ ، وَيُصَابُونَ في نُفُوسِهِم بِالضِّيقِ وَالحَرَجِ ، ثم لا يَلبَثُونُ أَن تَتَحَقَّقَ فِيهِم سُنَّةُ اللهِ في الظَّالمِينَ ، فَيَهلِكُوا شَرَّ مَهلِكٍ ، وَيَبدَأَ طَرِيقُ إِهَانَةِ اللهِ لهم " وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ "
نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ حِينَمَا يَمُوتُ أَهلُ الشَّامِ شُهَدَاءَ ، وَتُقطَعُ في سَبِيلِ اللهِ رِقَابُهُم وَيُنحَرُونَ ، عِندَ ذَلِكَ يَحِقُّ لهم أَن يَستَبشِرُوا وَيَفتَخِرُوا وَيَصبِرُوا ، لا أَن يَيأَسُوا وَيَجزَعُوا ، وَيَحِقُّ لِكُلِّ مُؤمِنٍ يَعلَمُ حَقِيقَةَ الدُّنيَا وَكُنهَ الآخِرَةِ ، أَن يُرَدِّدَ قَولَ الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " طُوبى لأَهلِ الشَّامِ " إِنَّهُ لَفَرقٌ كَبِيرٌ بَينَ مَن يُمَحَّصُ لِيُخَلَّصَ ، وَيُبتَلَى بِالشِّدَّةِ لِيُعَافى ، وَيُسَلَّطُ عَلَيهِ مَن يَسُومُهُ عَذَابًا دُنيَوِيًّا لا يَلبَثُ أَن يَنقَطِعَ بِخُرُوجِ رُوحِهِ ، فَيَلقَى اللهَ شَهِيدًا قَد غُفِرَ لَهُ مَعَ أَوَّلِ قَطرَةٍ مِن دَمِهِ ، وَبَينَ مَن يُملَى لَهُ في دُنيَاهُ وَيُبتَلَى بِالعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ ، وَيُفسَحُ لَهُ لِيَتَمَادَى في الغَيِّ وَلا يُقصِرُ ، ثم يُؤخَذُ عَلَى غِرَّةٍ وَيُهلَكُ في حِينِ غَفلَةٍ ، فَيَوافي بِذُنُوبِهِ عَلَى ظَهرِهِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّ اللهَ لا يُقَدِّرُ عَلَى عِبَادِهِ شَرًّا مَحضًا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " لا يَسأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الخَيرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ . وَلَئِنْ أَذَقنَاهُ رَحمَةً مِنَّا مِن بَعدِ ضَرَّاءَ مَسَّتهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلحُسنى فَلَنُنَبِّئَنّ َ الَّذِينَ كَفَرُوا بما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّه ُم مِن عَذَابٍ غَلِيظٍ . وَإِذَا أَنعَمنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ "




الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ " وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
عِبَادَ اللهِ ، لَيسَ المُؤمِنُ بِالَّذِي يَمدَحُ البَلاءَ أَو يَتَمَنَّى حُصُولَهُ أَو يُعَرِّضُ نَفسَهُ لَهُ ، أَو يُحِبُّ بَقَاءَ الأُمَّةِ عَلَيهِ ، وَلَكِنَّ ممَّا يَفرِضُهُ وَاجِبُ الإِيمَانِ بِالقَدَرِ وَالرِّضَا بِالقَضَاءِ ، الصَّبرَ وَالتَّفَاؤُلَ وَحُسنَ الظَّنِّ بِاللهِ ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيهِ نَبِيُّنَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَتى وَهُوَ في أَحلَكِ المَوَاقِفِ وَأَصعَبِ النَّوَازِلِ ، فَهَا هُوَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في بَعضِ أَيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ يَنتَظِرُ حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمسُ قَامَ فِيهِم فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ ، وَاسأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُم فَاصبِرُوا وَاعلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحتَ ظِلالِ السُّيُوفِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . فَيَا مُعَافَونَ لا تَطِيرُوا فَرَحًا ، وَيَا مُبتَلَونَ لا تَمُوتُوا كَمَدًا ، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ ثم تُرَدُّونَ إِلى اللهِ مَولاكُمُ الحَقُّ " وَالوَزنُ يَومَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ . وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بما كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظلِمُون " وَإِنَّ لَحظَةً مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ كَفِيلَةُ بِأَن تَمسَحَ عَن أَهلِهَا مَا عَانَوهُ في دُنيَاهُم مِن بَلاءٍ وَمَا أَصَابَهُم مِن بُؤسٍ ، وَلَحظَةٌ مِن عَذَابِ النَّارِ كَافِيَةٌ بِأَن تُنسِيَ المُعَذَّبِينَ مَا انغَمَسُوا فِيهِ مِن شَهَوَاتٍ وَمَا كَانُوا فِيهِ مُترَفِينَ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " يُؤتى بِأَنعَمِ أَهلِ الدُّنيَا مِن أَهلِ النَّارِ يَومَ القِيَامَةِ فَيُصبَغُ في النَّارِ صَبغَةً ، ثُمَّ يُقَالُ : يَا بنَ آدَمَ ، هَل رَأَيتَ خَيرًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ . وَيُؤتى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤسًا في الدُّنيَا مِن أَهلِ الجَنَّةِ ، فَيُصبَغُ صَبغَةً في الجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا بنَ آدَمَ ، هَل رَأَيتَ بُؤسًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بي بُؤسٌ قَطُّ ، وَلا رَأَيتُ شِدَّةً قَطُّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ

ناصرعبدالرحمن 08-06-2012 12:15 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

لتكون ناجحًا 18 / 7 / 1433


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في هَذِهِ الأَيَّامِ خَرَجَ مِنَ المَدَارِسِ أَبنَاءٌ لَنَا وَبَنَاتٌ مَسرُورِينَ مُبتَهِجِينَ ، يَكَادُونَ يَطِيرُونَ فَرَحًا وَفَخرًا ، بَينَمَا عَادَ آخَرُونَ مُنَكَّسَةً رُؤُوسُهُم ضَائِقَةً نُفُوسُهُم ، لا يَرفَعُونَ إِلى نَاظِرٍ طَرفًا وَلا يُعطُونَ سَائِلاً إِجَابَةً .
وَمَعَ أَنَّ الفُرَصَ كَانَت مُتَاحَةً لِلجَمِيعِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، إِلاَّ أَنَّ النَّاجِحِينَ اجتَهَدُوا فَأَدرَكُوا مَا أَمَّلُوا ، بَينَمَا فَرَّطَ المُخفِقُونَ وَقَصَّرُوا ، فَخَرَجُوا مِن مَوسِمِهِم وَلم يُدرِكُوا مَا كَانُوا يَرجُونَهُ ، نَعَم ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ لم يَكُنْ كُلُّ النَّاجِحِينَ عَبَاقِرَةً أَذكِيَاءَ ، وَلا كُلُّ المُخفِقِينَ مُغَفَّلِينَ أَغبِيَاءَ ، وَلَكِنَّهُ الجِدُّ في الطَّلَبِ وَدَوامُ السَّيرِ نَحوَ الهَدفِ ، وَأَخذُ النُّفُوسِ بِالعَزِيمَةِ وَالصَّبرُ لإِدرَاكِ المُبتَغَى .

عِبَادَ اللهِ ، نَحنُ في هَذِهِ الحَيَاةِ في اختِبَارٍ دَائِمٍ ، تَتَكَرَّرُ نَتَائِجُهُ في كُلِّ يَومٍ بَل في كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحظَةٍ ، غَيرَ أَنَّهُ لا يَستَفِيدُ مِن تِلكَ النَّتَائِجِ وَيَستَثمِرُهَا في التَّقَدُّمِ نَحوَ الأَفضَلِ ، إِلاَّ المُوَفَّقُونَ مِن ذَوِي البَصَائِرِ النَّيِّرَةِ وَالقُلُوبِ الحَيَّةِ ، الَّذِينَ يَعلَمُونَ أَنَّ طُلاَّبِ الآخِرَةِ لَن يَرَوُا النَّتِيجَةَ النِّهَائِيَّةَ عَينَ اليَقِينِ إِلاَّ يَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَومَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُم في رَوضَةٍ يُحبَرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ في العَذَابِ مُحضَرُونَ "
وَمِن أَجلِ هَذَا ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّ العُقَلاءَ لا يَزدَادُونَ بِطُولِ العُمُرِ إِلاَّ نَجَاحًا في إِثرِ نَجَاحٍ ، بَينَمَا لا يَزدَادُ المُفَرِّطُونَ بِتَقَدُّمِ أَعمَارِهِم إِلاَّ تَعَثُّرًا تِلوَ تَعَثُّرٍ وَإِخفَاقًا بَعدَ إِخفَاقٍ .

وَيَتَسَاءَلُ مُرِيدٌ لِنَفسِهِ النَّجَاحَ وَالنَّجَاةَ :
هَل مِن سَبِيلٍ لأَكُونَ مِنَ النَّاجِحِينَ الفَائِزِينَ ؟
وَمَا مِقيَاسُ النَّجَاحِ الأُخرَوِيِّ لأَزِنَ بِهِ نَفسِي ؟
فَيُقَالُ : إِنَّ مَن صَدَقَت نِيَّتُهُ وَسَمَت هِمَّتُهُ ، وَصَبَرَ وَصَابَرَ وَجَاهَدَ وَأَحسَنَ ، فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ لَهُ جُهدًا وَعَمَلاً ، وَلا يُخَيِّبُ لَهُ رَجَاءَ وَأَمَلاً ، غَيرَ أَنَّ لِذَلِكَ النَّجَاحِ مَسَارَاتٍ ثَلاثَةً ، مَنِ التَزَمَهَا كَمَا يَنبَغِي وَحَقَّقَ السَّيرَ فِيهَا كَمَا يُرَادُ ، فَهُوَ النَّاجِحُ بِإِذنِ اللهِ ، وَمَن غَفَلَ وَتَسَاهَلَ وَكَثُرَ التِفَاتُهُ ، فَفِيهِ مِنَ النَّقصِ بِقَدرِ مَا نَقَصَ مِنهَا ، تِلكُم ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ هِيَ عِلاقَةُ العَبدِ بِرَبِّهِ ، وَتَعَامُلُهُ مَعَ نَفسِهِ الَّتي بَينَ جَنبَيهِ ، وَصِلَتُهُ بِمَن حَولَهُ ، وَقَد جَمَعَهَا إِمَامُ النَّاجِحِينَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لِمَن أَوصَاهُ في كَلِمَاتٍ مَعدُودَاتٍ وَعِبَارَاتٍ مُوجَزَةٍ ، فَعَن أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ لي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِتَّقِ اللهَ حَيثُمَا كُنتَ ، وَأَتبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
إِنَّها مَوَازِينُ عَظِيمَةٌ وَمَقَايِيسُ وَاضِحَةٌ ، وَسِمَاتٌ كَرِيمَةٌ بَيِّنَةٌ ، يُمكِنُ لِلمَرءِ أَن يَعرِضَ نَفسَهُ عَلَيهَا لِيَعلَمَ أَينَ مَوقِعُهُ ؟
فَتَأَمَّلْ حَالَكَ ـ عَبدَ اللهِ ـ وَأَنتَ تَسِيرُ إِلى أُخرَاكَ ، كَيفَ أَنتَ مَعَ رَبِّكَ ؟
هَلِ استَوَى ظَاهِرُكَ وَبَاطِنُكَ ؟
هَل أَنتَ في الخَلوَةِ كَمَا أَنتَ في الجَلوَةِ ؟
هَل تَخَافُ اللهَ في سِرِّكَ كَمَا تَخشَاهُ في عَلَنِكَ ؟
هَل تَخشَعُ إِذَا كُنتَ وَحدَكَ كَمَا أَنتَ أَمَامَ المَلأِ ؟
هَل تَذكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحيَانِكَ ؟
هَل تَرَاهُ أَمَامَكَ كُلَّمَا هَمَمتَ بِمُخَالَفَةِ أَمرِهِ ؟
إِن كُنتَ هَكَذَا حَقًّا وَصِدقًا ، تَعِيشُ تَقِيًّا نَقِيًّا ، وَتَحيَا خَائِفًا وَجِلاً ، فَهَنِيئًا لَكَ ، فَقَدِ امتَلأَت تَقوًى وَبَلَغتَ مَنزِلَةَ الخَشيَةِ ، فَلَن تَغُشَّ إِذْ ذَاكَ أَحَدًا ، وَلَن تَهتِكَ لِمُسلِمٍ عِرضًا ، وَلَن تَقَعَ عَينُكَ عَلَى حَرَامٍ ، وَلَن تَسمَعَ أُذُنُكَ قَبِيحًا ، وَلَن تَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَعذِرُ مِنهُ غَدًا ، لَن تَشتَغِلَ بِنَمِيمَةٍ وَلَن تَغتَابَ ، وَلَن تَبهَتَ وَلَن تَكذِبَ ، وَلَن تَشهَدَ بِزُورٍ وَلَن تَغشَى زُورًا ، سَيَقشَعِرُّ جِلدُكَ كُلَّمَا هَمَمتَ بِمَعصِيَةٍ ، وَسَتَنتَفِضُ كُلَّمَا دَعَتكَ نَفسُكَ لِشَهوَةٍ ، وَسَتَتَذَكَّرُ يَومًا تَرجِعُ فِيهِ إِلى رَبِّكَ ، وَسَيَكُونُ ذَلِكَ لَكَ رَادِعًا عَنِ الحَرَامِ مَانِعًا ، وَسِيَاجًا دُونَ المُشتَبِهِ وَاقِيًا ، لَن تَحتَاجَ إِلى رَقَابَةٍ مِن بَشَرٍ ، وَلَن يَشرَئِبَّ عُنُقُكَ إِلى مَدحٍ مَادِحٍ ، وَلَن يَتَطَامَنَ رَأسُكَ لِذَمِّ قَادِحٍ ، وَلَن يُغَيِّرَكَ مَنصِبٌ وَلا جَاهٌ وَلا مَالٌ ، فَأَنتَ مَعَ اللهِ وَحدَهُ تَتَعَامَلُ ، لَهُ تَرجُو وَمِنهُ تَخَافُ ، تُحِبُّ فِيهِ وَتُبغِضُ فِيهِ ، وَلَهُ تُعطِي وَمِن أَجلِهِ تَمنَعُ ، فَهَنِيئًا لَكَ قَولُهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ هُم مِن خَشيَةِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِم يُؤمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِم لا يُشرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلى رَبِّهِم رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَهُم لها سَابِقُونَ " وَقَولُهُ : " إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ حَقًّا لَهُم دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِم وَمَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ "
وَقَولُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن أَحَبَّ للهِ وَأَبغَضَ للهِ ، وَأَعطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ فَقَدِ استَكمَلَ الإِيمَانَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

عِبَادَ اللهِ ، مَن نَجَحَ في عِلاقَتِهِ مَعَ اللهِ أَوَّلاً ، فَكَانَ لأَمرِهِ طَائِعًا وَفِيمَا عِندَهُ طَامِعًا ، وَلِمَا نَهَى عَنهُ مُجَانِبًا وَلِرِضَاهُ طَالِبًا ، فَإِنَّهُ لَن يَجِدَ بَعدَ ذَلِكَ صُعُوبَةً في تَجَاوُزِ الاختِبَارِ الثَّاني وَالثَّالِثِ ، إِذْ هُمَا مِن ذَاكَ الأَصلِ يَنطَلِقَانِ ، وَعَلَيهِ يُبنَيَانِ ، وَمِنهُ يَستَمِدَّانِ رُوحَهُمَا وَغِذَاءَهُمَا .
مَنِ اتَّقَى اللهَ وَخَافَهُ بِالغَيبِ ، وَعَرَفَ نَفسَهُ حَقَّ المَعرِفَةِ وَقَدَرَهَا قَدرَهَا ، تَعَاهَدَهَا في كُلِّ حِينٍ ، وَعَالَجَهَا مِن كُلِّ مَرَضٍ ، وَزَمَّهَا عَنِ التَّعَدِّي وَالخَطَأِ ، وَخَطَمَهَا عَنِ الظُّلمِ وَالبَغيِ ، لماذَا ؟ لِعِلمِهِ أَنَّهُ بَشَرٌ خَطَّاءٌ وَلا بُدَّ ، مُعَرَّضٌ لِلزَّلَلِ وَلا مَحَالَةَ ، طَبعُهُ النِّسيَانُ وَالغَفلَةُ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يَشعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلى مَا يَغسِلُ بِهِ أَدرَانَ نَفسِهِ ، لِئَلاَّ تَجتَمِعَ عَلَيهِ فَتُلَوِّثَ قَلبَهُ وَتُدَنِّسَ عِرضَهُ ، وَتُسَوِّدَ صَحِيفَتَهُ وَوَجهَهُ ، فَلا تَرَاهُ لِذَلِكَ إِلاَّ تَوَّابًا أَوَّابًا ، رَجَّاعًا لِلحَقِّ غَيرَ مُتَمَادٍ في البَاطِلِ ، قَاعِدَتُهُ الَّتي يَسِيرُ عَلَيهَا في ذَلِكَ وَلا يَحِيدُ عَنهَا ، قَولُ اللهِ ـ تَعَالى ـ : " أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ " وَقَولُ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ "
وَقَولُ رَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيمَا رَوَاهُ التَّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ : " كُلُّ ابنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، النَّاجِحُونَ في الحَيَاةِ قَومٌ مُوَحِّدُونَ ، لِرَبِّهِم مُتَّقُونَ ، وَمِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ ، قُلُوبُهُم وَجِلَةٌ ، ونُفُوسُهُم مُطمَئِنَّةٌ ، وَصُدُورُهُم بِالإِسلامِ مُنشَرِحَةٌ ، عَلَى نُورٍ مَن رَبِّهِم يَسِيرُونَ ، وَإِلى مَن حَولَهُم يُحسِنُونَ ، لا يُحقِرُونَ أَحَدًا وَلا يَتَكَبَّرُونَ ، وَلا يَغمِطُونَ صَاحِبَ حَقٍّ وَلا يَظلِمُونَ ، يُحِبُّونَ لإِخوَانِهِم مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّونَهُ لأَنفُسِهِم ، حَيَاتُهُم بَينَ عَدلٍ وَإِحسَانٍ وَإِيتَاءٍ لِذِي القُربى ، وَمِن ثَمَّ فَهِيَ أَغلَى مِن أَن تَمضِيَ في حِقدٍ وَحَسَدٍ أَو بَغضَاءَ وَشَحنَاءَ ، وَأَثمَنُ مِن أَن تُضَاعَ في تَبَادُلِ هَجرٍ وَقَطِيعَةٍ ، وَأَسمَى مِن أَن تُلَوَّثَ بِطُولِ صُدُودٍ وَتَنَافُرِ وُدٍّ ، وَأَمَّا الفَحشَاءُ وَالمُنكَرُ وَالبَغيُ فَهُم عَنهَا بَعِيدُونَ .
لَقَد عَلِمُوا أَنَّهُ لا طَرِيقَ لِلنَّجَاحِ في عِلاقَتِهِم مَعَ الآخَرِينَ إِلاَّ لُزُومُ سَبِيلِ الإِحسَانِ إِلَيهِم وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُم ، وَتَجَنُّبُ الشُّحِّ وَالحَذَرُ مِنَ الكِبرِ وَالغُرُورِ ، لأَنَّهُ مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ وَوَفَّقَهُ وَسَدَّدَهُ ، وَلا تَكَبَّرَ أَحَدٌ إِلاَّ خَذَلَهُ وَوَكَلَهُ إِلى نَفسِهِ ، وَإِنَّمَا تَسُوءُ عِلاقَةُ المَرءِ بِمَن حَولَهُ وَيَكثُرُ تَعَدِّيهِ عَلَيهِم وَظُلمُهُم ، بِقَدرِ تَكَبُّرِهِ عَلَيهِم وَتَعَالِيهِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ أَوحَى إِليَّ : أَنْ تَوَاضَعُوا حَتى لا يَفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَا مِن آدَمِيٍّ إِلاَّ في رَأسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٌ ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلمَلَكِ ارفَعْ حَكَمَتَهُ ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلمَلَكِ : دَعْ حَكَمَتَهُ " وَالحَكَمَةُ هِيَ : مَا يُحِيطُ بِحَنَكَيِ الفَرَسِ مِن لِجَامِهِ ، وَالمُقصُودُ أَنَّ مَن تَوَاضَعَ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ ، وَمَن تَكَبَّرَ وُكِلَ إِلى نَفسِهِ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَأَقِيمُوا إِلَيهِ وُجُوهَكُم ، وَلا يَغُرَّنَّكُم مَن نَجَحَ في دُنيَاهُ ، وَهُوَ أَبعَدُ مَا يَكُونُ عَن مَولاهُ " فَأَقِمْ وَجهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَومَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ . مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَتَأَمَّلُوا فِيمَا حَولَكُم ، فَإِنَّ في الدُّنيَا عِبَرًا ، وَوَرَاءَ المَوتِ خَبَرًا " وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّه لا وَسِيلَةَ لِنَجَاحِ المَرءِ في عِلاقَتِهِ مَعَ رَبِّهِ وَمَعَ نَفسِهِ وَمَعَ الآخَرِينَ ، كَمَثَلِ تَسلُّحِهِ بِالعِلمِ وَتَدَثُّرِهِ بِالفَهمِ ، وَخَيرُ ذَلِكَ العِلمُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَمَن كَانَ بهما أَعلَمَ ، كَانَ في حَيَاتِهِ أَكثَرَ نَجَاحًا وَسَعَادَةً ، وَمَنِ اشتَدَّ بهما جَهلُهُ ، وَقَصَّرَ في الأَخذِ مِنهُمَا قِرَاءَةً وَتَدَبُّرًا ، فَأَنىَّ لَهُ أَن يَكُونَ مَعَ النَّاجِحِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ "
وَمَعَ هَذَا ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّهُ لا تَكفِي سَعَةُ العِلمِ وَلا قُوَّةُ الفَهمِ وَحدَهُمَا ، مَا لم يَكُنْ لِلمَرءِ إِرَادَةٌ جَادَّةٌ وَعَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ ، وَحِرصٌ على تَطبِيقِ كُلِّ مَا يَعلَمُ ، وَمُجَاهَدَةٌ لِنَفسِهِ عَلَى إِتبَاعِ الأَقوَالِ بِالأَفعَالِ ، وَإِلاَّ كَانَ عِلمُهُ عَلَيهِ وَبَالاً ، وَلم يَزدَدْ بِهِ إِلاَّ مَقتًا لِنَفسِهِ وَبُعدًا مِن رَبِّهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ "
فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاعلَمُوا أَنَّ سَبَبَ فَشلِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ وَإِخفَاقِهِ في حَيَاتِهِ ، إِنَّمَا هُوَ ضَعفُ الإِرَادَةِ وَقُصُورُ الهِمَّةِ وَفُتُورُ العَزِيمَةِ ، وَأَقوَى أَسبَابِ ذَلِكَ النِّسيَانُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَقَد عَهِدنَا إِلى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلم نَجِدْ لَهُ عَزمًا "
فَلازِمُوا العِلمَ وَالتَّعَلُّمَ ، وَاحرِصُوا عَلَى الفِقهِ وَالتَّفَقُّهِ ، وَتَآمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَتَنَاهَوا عَنِ المُنكَرِ " وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

ناصرعبدالرحمن 15-06-2012 12:07 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

الإسلام دين النظام 25 / 7 / 1433



الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ هَذَا الكَونَ وَأَبدَعَهُ ، وَبَنَاهُ عَلَى نِظَامٍ دَقِيقٍ وَأَحكَمَهُ ، حَتى لا يَتَقَدَّمَ فِيهِ مَخلُوقٌ عَلَى آخَرَ ، وَلا يَتَأَخَّرَ مَأمُورٌ عَمَّا أُمِرَ بِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيلُ نَسلَخُ مِنهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُظلِمُونَ . وَالشَّمسُ تَجرِي لِمُستَقَرٍّ لها ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ . وَالقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنَازِلَ حَتى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ . لا الشَّمسُ يَنبَغِي لها أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارَ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحُونَ " هَكَذَا خَلَقَ اللهُ الكَونَ ، وَهَكَذَا حَفِظَهُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتَوالي الدُّهُورِ ، دَقِيقًا في أَجوَدِ صَنعَةٍ ، مُتقَنًا في أَحسَنِ هَيئَةٍ ، لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَبَدَّلُ ، وَلا يَمِيلُ شَعرَةً عَن سَبِيلِهِ الَّتي قُدِّرَ لَهُ السَّيرُ فِيهَا ، " صُنعَ اللهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ "
تَصَوَّرُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ مَا الَّذِي يَحدُثُ لَو خَرَجَ كَوكَبٌ عَن مَسَارِهِ ، أَوِ اصطَدَمَ نَجمٌ بِآخَرَ ، أَو طَغَى بَحرٌ عَلَى يَابِسَةٍ ، أَو جَفَّ نَهرٌ فَجأَةً بَعدَ جَرَيَانِهِ ، أَو غَارَ بَحرٌ في سَاعَةٍ أَو زَالَ جَبَلٌ في لَحظَةٍ ، إِنَّهُ خَرَابُ الكَونِ وَفَسَادُ المَعَايِشِ وَاختِلالُ الحَيَاةِ ، وَاللهُ يُرِي النَّاسَ في حَيَاتِهِم مِن هَذَا أَمثِلَةً لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ وَيَعتَبِرُونَ ، فَحِينَ يَقَعُ زَلزَالٌ في بُقعَةٍ أَو تُبلَى بِفَيَضَانٍ ، يَتَكَدَّرُ أَهلُهَا وَيَتَنَغَّصُ عَيشُهُم ، وَيُخَيِّمُ عَلَيهِمُ الحُزنُ وَيَتَمَلَّكُهُ مُ الخَوفُ ، وَيَركَبُهُمُ الهَمُّ وَيُحِيطُ بهم الغَمُّ ، وَمِن ثَمَّ يَهُبُّ العَالمُ بِأَسرِهِ مُحَاوِلاً مَسحَ مَا ارتَسَمَ عَلَى تِلكَ البُقعَةِ مِن دَمَارٍ وَفَسَادٍ ، لِتَعُودَ حَيَاةُ النَّاسِ إِلى مَجرَاهَا الطَّبِيعِيِّ ، فَسُبحَانَ اللهِ الَّذِي أَجرَى كُلَّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ عَلَى نِظَامٍ دَقِيقٍ مُحكَمٍ ، وَسَخَّرَهُ لِهَذَا الإِنسَانِ وِفقَ سُنَنٍ ثَابِتَةٍ ، لِيَهنَأَ في عَيشِهِ وَتَستَقِرَّ حَيَاتُهُ ؛ وَمِن ثَمَّ يَقُومُ بِمُهِمَّتِهِ الَّتي أُنزِلَ عَلَى الأَرضِ مِن أَجلِهَا .

عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الكَونَ وَرَتَّبَ كُلَّ مَا فِيهِ ، جَعَلَ العِبَادَاتِ كَذَلِكَ مُرَتَّبَةً وَمُنَظَّمَةً ، وَحَدَّهَا بِحُدُودٍ مَنَعَ مِن تَعَدِّيهَا وَتَجَاوُزِهَا ، فَأَنتُم تَرَونَ الصَّلَوَاتِ في كُلِّ يَومٍ خَمسًا ، قَبلَهَا وُضُوءٌ وَطَهَارَةٌ ، وَلِكُلٍّ مِنهَا عَدَدُ رَكَعَاتٍ وَهَيئَاتٌ وَصِفَاتٌ ، وَأَوقَاتٌ لا يَجُوزُ تَعَدِّيهَا بَدأً وَلا انتِهَاءً ، وَمِثلُ ذَلِكَ تَرَونَ الزَّكَاةَ ، لها أَحكَامٌ في أَنوَاعِهَا وَوَقتِهَا وَمَقَادِيرِهَا وَنِسَبِهَا ، وَالصَّومُ لَهُ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ وَمُنطَلَقٌ وَغَايَةٌ ، وَالحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ وَمَنَاسِكُ وَشَعَائِرُ ، يَتَنَقَّلُ العِبَادُ مِن بَعضِهَا لِبَعضٍ في نِظَامٍ لا يَخرُجُونَ عَنهُ وَلا يَتَجَاوَزُونَه ُ ، في أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ وَأُخرَى مَعدُودَاتٍ ، وِللهِ فِيمَا بَينَ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ حُقُوقٌ في اللَّيلِ لا تُقبَلُ في النَّهَارِ ، وَأُخرَى نَهَارِيَّةٌ لا تُؤَخَّرُ لِلَّيلِ ، وَثَمَّةَ كَفَّارَاتٌ وَنَفَقَاتٌ حُدِّدَت بِمَقَادِيرَ مَعلُومَةٍ وَأَوصَافٍ مَضبُوطَةٍ .

عِبَادَ اللهِ ، أَلا تَرَونَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الإِحكَامِ لِسَيرِ الكَونِ وَالتَّنظِيمِ لِلشَّرَائِعِ وَالدِّقَّةِ في العِبَادَاتِ وَالأَحكَامِ إِنَّمَا هُوَ تَربِيَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِلمُسلِمِينَ خَاصَّةً ؛ لِيَكُونُوا في كُلِّ حَيَاتِهِم مُنَظَّمِينَ مُرَتَّبِينَ ، وَعَلَى الصَّوَابِ سَائِرِينَ ، وَعَنِ الخَطَأِ مُتَجَانِفِينَ ؟! إِنَّ الأَمرَ لَكَذَلِكَ ، كَيفَ وَقَد جَاءَ الإِسلامُ بما يُصلِحُ حَيَاةَ النَّاسِ وَيُنَظِّمُهَا وَيُرَتِّبُهَا ، وَيُكسِبُهُمُ السَّعَادَةَ وَالرَّاحَةَ وَالطُّمَأنِينَ ةَ ، فَمِن تَنصِيبِ الإِمَامِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَتَحرِيمِ الخُرُوجِ عَلَيهِ ، إِلى وُجُوبِ الصِّدقِ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ ، وَلُزُومِ الدِّقَّةِ في المَوَاعِيدِ وَتَقدِيرِ الوَقتِ ، إِلى تَعظِيمِ الأَمَانَةِ وَمَدحِ النَّزَاهَةِ ، وَالأَمرِ بِالوَفَاءِ بِالعُقُودِ وَالتِزَامِ المَوَاثِيقِ وَالإِتقَانِ وَالإِحسَانِ ، إِلى تَحَرِّي الحَلالِ وَالبُعدِ عَنِ الحَرَامِ وَاجتِنَابِ الشُّبُهَاتِ ، وَمُجَانَبَةِ الغِشِّ وَالخَدِيعَةِ وَالتَّطفِيفِ وَأَكلِ الأَموَالِ بِالبَاطِلِ ، وَنَحوِ ذَلِكَ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالحُدُودِ الشَّرعِيَّةِ وَالتَّعزِيرَات ِ ، الَّتي هِيَ مَجمُوعَةٌ مُتَرَابِطَةٌ مِنَ الأَنظِمَةِ الرَّبَّانِيَّة ِ المُحكَمَةِ ، البَعِيدَةِ الغَايَاتِ المُشرِقَةِ النِّهَايَاتِ ، أَنزَلَهَا لِلعِبَادِ رَبُّ العِبَادِ ، الَّذِي يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ كُلَّ مَا حَولَ الإِنسَانِ لَيَدفَعُهُ إِلى أَن يَكُونَ مُنَظَّمًا في حَيَاتِهِ ، مُرَتَّبًا في وَظِيفَتِهِ ، مُتقِنًا لِعَمَلِهِ ، مُحسِنًا في تَعَامُلِهِ ، صَادِقًا في بَيعِهِ وَشِرَائِهِ ، وَفِيًّا في أَخذِهِ وَعَطَائِهِ ، لِتَزكُوَ نَفسُهُ وَتَكمُلَ ذَاتُهُ ، وَيَنشَرِحَ صَدرُهُ وَيَسعَدَ في حَيَاتِهِ ، لَكِنَّ هَذَا الإِنسَانَ لِسُوءِ حَظِّهِ في بَعضِ الأَزمِنَةِ أَوِ الأَمكِنَةِ ، يَخرُجُ مِن نَعِيمِ النَّظَامِ وَالجِدِّ وَالإِتقَانِ وَالإِحسَانِ ، فَيَتَرَدَّى في جَحِيمِ اللَّهوِ وَالعَبَثِ وَالتَّقصِيرِ وَالإِسَاءَةِ ، وَيَستَسِيغُ حَيَاةَ البَهَائِمِ الدُّونِيَّةِ ، الَّتي لا يُسأَلُ فِيهَا عَامِلٌ عَمَّا عَمِلَ ، وَلا يُستَنكَرُ عَلَى مُتَصَرِّفٍ تَصَرُّفُهُ ، زَاعِمًا أَو مُتَوَهِّمًا أَنَّ هَذِهِ هِيَ الحُرِّيَّةُ ، غَافِلاً عَن أَنَّ الحُرِّيَّةَ إِذَا كَانَت تَركًا لِوَاجِبٍ ، أَوِ انتِهَاكًا لِمَمنُوعٍ ، أَو تَقصِيرًا في أَدَاءٍ ، أَو ضَعفًا في إِتقَانٍ ، أَوِ اختِرَاقًا لِنِظَامٍ أًو مُضَادَّةً لِسُنَّةٍ كَونِيَّةٍ ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ طَرِيقِ النِّهَايَةِ ، وَبِدَايَةُ خَرَابِ عَالَمِهِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ ، سَوَاءٌ عَلَى مُستَوَى بَيتِهِ وَأُسرَتِهِ ، أَو قَريَتِهِ وَمَدِينَتِهِ ، أَو عَلَى مُستَوَى دَولَتِهِ وَحُكُومَتِهِ ، بَل وَحَتى عَلَى المَستَوَى الفَردِيِّ وَالشَّخصِيِّ ، فَمَتى تَرَكَ الجَمِيعُ الوَاجِبَ وَانتَهَكُوا المُحَرَّمَ ، وَخَالَفُوا الأَنظِمَةَ بِدَعوَى الحُرِّيَّةِ وَانقِيَادًا لِرَغَبَاتِهِم ، فَلَن يَترُكُوا لِغَيرِهِمُ المَجَالَ لِلتَّمَتُّعِ بِحُرِّيَّةٍ ، وَسَتَضطَرِبُ الأُمُورُ وَتَختَلِطُ ، وَسَيكُونُ النَّاسُ في أَمرٍ مَرِيجٍ .

عِبَادَ اللهِ ، مَا مِنَّا أَحَدٌ اليَومَ إِلاَّ وَهُوَ يَلحَظُ تَقصِيرَ الكَثِيرِينَ ممَّن حَولَهُ في تِطبِيقِ الأَنظِمَةِ وَتَهَاوُنَهُم بها ، سَوَاءٌ مِنهَا الأَنظِمَةُ الرَّبَّانِيَّة ُ الَّتي بَنى الخَالِقُ عَلَيهَا الكَونَ وَمَن فِيهِ ، أَوِ الَّتي جَاءَت في كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، أَو تِلكَ الَّتي سَنَّهَا وُلاةُ الأَمرِ لِتَسيِيرِ حَيَاةِ النَّاسِ وَضَبطِ شَأنِهِم ، وَالَّتي لَيسَ لهم عُذرٌ في تَركِ تَطبِيقِهَا وَهُم يَعلَمُونَ مَصلَحَتَهَا ، فَضلاً عَن وُجُوبِهَا الشَّرعِيِّ ، الَّذِي هُوَ لازِمٌ مِن لَوَازِمِ طَاعَةِ وَليِّ الأَمرِ ، وَمَعَ فُشُوِّ هَذَا التَّقصِيرِ وَظُهُورِ ذَلِكُمُ التَّجَاوُزِ ، تُستَنكَرُ قِلَّةُ البَرَكَاتِ مَعَ كَثرَةِ المَوَارِدِ ، وَضَعفُ الإِنتَاجِ مَعَ تَقَدُّمِ الآلاتِ ، وَتَعَقُّدُ العَيشِ وَانتِشَارُ الأَمرَاضِ النَّفسِيَّةِ وَالاجتِمَاعِيّ َةِ مَعَ تَحَقُّقِ وَسَائِلِ الرَّفَاهِيَةِ .
وَإِنَّ لَمِمَّا يَحُزُّ في النَّفسِ أَن تَجِدَ مِن أَبنَائِنَا الَّذِينَ سَافَرُوا لِبَعضِ دُوَلِ الشَّرقِ أَوِ الغَربِ أَو عَاشُوا فِيهَا لِسَبَبٍ أَو لآخَرَ ، أَن تَجِدَ مِنهُم إِعجَابًا بِدِقَّةِ النَّاسِ في تِلكَ الدُّوَلِ في مَوَاعِيدِهِم ، وَتَمَسُّكِهِمُ الصَّارِمِ بِالأَنظِمَةِ وَاللَّوَائِحِ ، وَعَدَمِ تَفرِيطِهِم فِيمَا بَينَ أَيدِيهِم مِن تَعلِيمَاتٍ وَضَوَابِطَ ، بَينَمَا تَجِدُهُ هُوَ وَغَيرُهُ في هَذِهِ البِلادِ ، مِن أَقَلِّ النَّاسِ تَمَسُّكًا وَانضِبَاطًا ، وَمِن أَسرَعِهِم تَفَلُّتًا مِن أَوَامِرِ الدَّينِ وَانتِهَاكًا لِلحُرُمَاتِ ، نَاهِيكَ عَنِ الأَنظِمَةِ الدُّنيَوِيَّةِ ..
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّ لَكُم دِينًا لَو تَمَسَّكتُم بِهِ ، لأَصبَحتُم في القِمَّةِ خُلُقًا وَأَدَبًا وَجَودَةً وَإِتقَانًا ، وَلَصُبَّت عَلَيكُمُ الخَيرَاتُ صَبًّا ، وَلَفُتِحَت عَلَيكُمُ البَرَكَاتُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ ، وَاحذَرُوا الفُسُوقَ وَتَعَدِّي الحُدُودِ وَتَضيِيعَ الأَمَانَاتِ ، فَإِنَّهَا مِن أَسبَابِ هَلاكِ الأُمَمِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا . وَكَم أَهلَكنَا مِنَ القُرُونِ مِن بَعدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا . مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذمُومًا مَدحُورًا . وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لها سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَشكُورًا . كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِن عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحظُورًا . اُنظُرْ كَيفَ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكبَرُ تَفضِيلاً "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ كَمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "

عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ التَّقَيُّدَ بِالنِّظَامِ قَبلَ أَن يَكُونَ قِيمَةً حَضَارِيَّةً وَحَاجَةً تَنمَوِيَّةً ، فَهُوَ فِطرَةٌ كَونِيَّةٌ وَضَرُورَةٌ شَرعِيَّةٌ ، وَلا يُمكِنُ أَن يَصِحَّ مُجتَمَعٌ أَو تَصلُحَ أُمَّةٌ ، وَفي أَعضَائِهَا خَلَلٌ يَقطَعُ دَائِرَةَ النِّظَامِ ، أَو يُفقِدَ سِلسِلتَهُ إِحدَى حَلَقَاتِهَا ، وَإِنَّ الحُكمَ عَلَى أَيِّ مُجتَمَعٍ بِالقُوَّةِ أَوِ الضَّعفِ ، أَوِ وَصفَهُ بِالتَّقَدُّمِ أَوِ التَّخَلُّفِ ، مَرهُونٌ بِمَدَى التِزَامِ أَفرَادِهِ وَمُؤَسَّسَاتِه ِ بِالنَّظَامِ العَامِّ وَتَقيُّدِهِم بِالقَوَاعِدِ المُنَظِّمَةِ لِحَيَاتِهِم .
إِنَّهُ لَمِنَ الضَّعفِ الإِيمَانيِّ قَبلَ أَن يَكُونَ تَخَلُّفًا فِكرِيًّا وَخَلَلاً في التَّصَوُّرِ ، أَن يَرَى بَعضُ النَّاسِ في التِزَامِ الأَنظِمَةِ نَقصًا في رَجُولَتِهِم ، أَو تَقيِيدًا لِحُرِّيَّتِهِم ، أَو حَطًّا مِن كِبرِيَائِهِم ، أَو يَشعُرُوا أَنَّهُ يَحُولُ بَينَهُم وَبَينَ مَصالِحِهِم أَو يَعُدُّونَهُ ظُلمًا لَهُم ، في حِينِ أَنَّ مِنَ المُتَقَرِّرِ لَدَى العُقَلاءِ ، أَنَّهُ لا يُمكِنُ بِغَيرِ تَطبِيقِ النَّظَامِ أَن يَنَالَ النَّاسُ حَقًّا ، وَلا أَن يَنعَمُوا بِعَدلٍ أَو يَجِدُوا أَمنًا ، أَو يَشعُرُوا بِطُمَأنِينَةٍ أَو يَذُوقُوا لِلرَّاحَةِ طَعمًا . بِتَجَاوُزِ النَّظَامِ يَكثُرُ في المُجتَمَعِ التَّظَالُمُ وَالتَّعَدِّي وَالتَّجَاوُزُ ، بِتَجَاوُزِ النَّظَامِ لَن يُبنى مُستَقبَلٌ وَلَن تُعمَرَ دِيَارٌ وَلَن يَحصُلَ استِقرَارٌ .
إِنَّ أُمَّةَ الإِسلامِ يَجِبُ أَن تَتَخَلَّصَ مِن هَذِهِ النَّزعَةِ الجَاهِلِيَّةِ ، الَّتي اعتَادَ أَهلُهَا الغَوغَائِيَّةَ وَخَرقَ النَّظَامِ انسِيَاقًا مَعَ هَوَى النُّفُوسِ ، أَوِ مُرَاعَاةً لِقَريبٍ أَو مُحَابَاةً لِصَدِيقٍ ، أَو طَمَعًا في مَصلَحَةٍ شَخصِيَّةٍ ، أَو حُبًّا لِمَدحٍ أَو خَشيَةً مِنَ ذَمٍّ ، أَو إِبرَازًا لِقُوَّةِ الذَّاتِ وَضَعفِ الخَصمِ .
إِنَّ النِّظَامَ هُوَ العَدلُ ، وَعَلَى العَدلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَوَاللهِ لا يُمكِنُ أَن تَتَطَهَّرَ أُمَّةٌ مِن أَدرَانِهَا وَتَنَالَ مَا تَصبُو إِلَيهِ إِلاَّ بِالعَدلِ وَإِعطَاءِ كُلِّ ذَي حَقٍّ حَقَّهُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّهُ لا قُدِّسَت أُمَّةٌ لا يَأخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيرَ مُتَعتَعٍ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِنَّ اختِزَالَ النِّظَامِ في المَصَالِحِ الشَّخصِيَّةِ وَالرَّغَبَاتِ الفَردِيَّةِ وَنَحوِهَا ، إِنَّهُ لَنَوعٌ مِن تَعَدِّي الحُدُودِ ، وَذَلِكَ هُوَ الظُّلمُ بِعَينِهِ ، وَالظُّلمُ سَبَبٌ لِخَرَابِ البِلادِ وَهَلاكِ العِبَادِ ، وَمُؤذِنٌ بِتَسَلُّطِ بَعضِ النَّاسِ عَلَى بَعضٍ ، وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَكَذَلِكَ نُوَليِّ بَعضَ الظَّالمِينَ بَعضًا بما يَكسِبُونَ "
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ رَاعٍ فِيمَا استُرعِيَ ، وَلْيَعُدِ النَّاسُ لِلجِدِّ وَالحَزمِ ، وَلْيَلزَمُوا الصِّدقَ وَالوَفَاءَ ، وَلْيَضَعُوا الأُمُورَ في أَنصِبَتِهَا وَلْيَعدِلُوا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَوفُوا الكَيلَ إِذَا كِلتُم وَزِنُوا بِالقِسطَاسِ المُستَقِيمِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ خَشيَتَكَ في السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ ، وَالعَدلَ في الرِّضَا وَالغَضَبِ ، وَالقَصدَ في الفَقرِ وَالغِنى .


الساعة الآن 08:27 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
- arab-line : Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.3.0 TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010

... جميع الحقوق محفوظه لمجالس رويضة العرض لكل العرب ...

.. جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ...ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر المنتدى..

a.d - i.s.s.w