مجالس الرويضة لكل العرب

مجالس الرويضة لكل العرب (http://www.rwwwr.com/vb/httb:www.rwwwr.com.php)
-   روحانيات (http://www.rwwwr.com/vb/f5.html)
-   -   خطب الشيخ عبدالله البصري (http://www.rwwwr.com/vb/t31002.html)

ناصرعبدالرحمن 06-09-2012 11:34 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن رَحمَةِ اللهِ بِنَا وَفَضلِهِ عَلَينَا ، أَن جَعَلَنَا مُسلِمِينَ ، وَأَلحَقَنَا بِأُمَّةِ خَيرِ المُرسَلِينَ " هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ مِن قَبلُ وَفي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " الإِسلامُ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ هُوَ صِبغَةُ اللهِ لَنَا ، وَهُوَ الشَّرَفُ الَّذِي نَتَدَثَّرُ بِهِ وَنَحمِلُهُ ، وَالتَّاجُ الَّذِي نَفتَخِرُ بِهِ وَنَتَبَاهَى ، فَلا وَطَنِيَّةَ وَلا حِزبِيَّةَ ، وَلا عَصَبِيَّةَ وَلا قَبَلِيَّةَ ، وَلا انتِمَاءَ لِجَمَاعَةٍ وَلا مَذهَبٍ غَيرَ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ وَمَذهَبِهِم " إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم "
وَالإِسلامُ هُوَ الاستِسلامُ للهِ بِالتَّوحِيدِ ، وَالانقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ ، وَالخُلُوصُ مِنَ الشِّركِ . يَكُونُ الإِنسَانُ مِن أَهلِهِ وَالمُنتَسِبِين َ إِلَيهِ بِمُجَرَّدِ النُّطقِ بِشَهَادَةِ الحَقِّ ، وَمِن ثَمَّ يَعصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يَشهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّ الإِسلامِ ، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ ـ تَعَالى ـ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَالإِسلامُ الحَقِيقِيُّ الَّذِي يَجِبُ أَن يَحيَا عَلَيهِ المُسلِمُونَ وَيَتَمَسَّكُوا بِهِ ولا يَمُوتُوا إِلاَّ عَلَيهِ ، لَهُ سِمَةٌ عَظِيمَةٌ لا بُدَّ أَن تَنطَوِيَ عَلَيهَا القُلُوبُ ، وَشَاهِدٌ وَاضِحٌ لا بُدَّ أَن تَرَاهُ الأَعيُنُ وَيُلمَسَ في الوَاقِعِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " بَلَى مَن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ فَلَهُ أَجرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن أَحسَنُ دِينًا مِمَّن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلاً " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَمَن يُسلِمْ وَجهَهُ إِلى اللهِ وَهُوَ مُحسِنٌ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى وَإِلى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ "
إِنَّ نُطقَ اللِّسَانِ بِالشَّهَادَتَي نِ وَالإِقرَارَ بهما ، يَجِبُ أَن يَتبَعَهُ إِسلامُ الوَجهِ للهِ وَإِحسَانُ العَمَلِ ، وَإِسلامُ الوَجهِ للهِ يَعني الاستِسلامَ المُطلَقَ وَالتَّسلِيمَ التَّامَّ ، استِسلامًا مَعنَوِيًّا وَعَمَلِيًّا ، وَتَسلِيمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، فَلا مَعبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ اللهُ ، وَلا حُكمَ إِلاَّ للهِ " قُلْ إِنِّي أُمِرتُ أَنْ أَعبُدَ اللهَ مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ . قُلِ اللهَ أَعبُدُ مُخلِصًا لَهُ دِيني . فَاعبُدُوا مَا شِئتُم مِن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ "
وَمَعَ هَذَا فَلا بُدَّ مِنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ عَلَى ذَاكَ الاستِسلامِ البَاطِنِ وَالإِخلاصِ الخَفِيِّ ، وَذَلِكُمُ الدَّلِيلُ المُعلَنُ هُوَ إِحسَانُ العَمَلِ ، بِاتِّبَاعِ الأَوَامِرِ وَتَركِ النَّواهِي .
وَالإِسلامُ بهذَا وِحدَةٌ بَينَ الشُّعُورِ الدَّاخِلِيِّ وَالسُّلُوكِ الخَارِجِيِّ , وَامتِزَاجٌ بَينَ عَقِيدَةِ القَلبِ وَعَمَلِ الجَوَارِحِ , إِنَّهُ إِيمَانٌ قَلبِيٌّ وَإِحسَانٌ عَمَلِيٌّ ، إِنَّهُ مَنهَجٌ لِلحَيَاةِ الإِنسَانِيَّةِ كُلِّهَا في كُلِّ عَصرٍ وَمِصرٍ ، بِهِ تَتَوَحَّدُ الشَّخصِيَّةُ الإِنسَانِيَّةُ بِكُلِّ نَشَاطِهَا وَاتِّجَاهَاتِه َا ، وَبِه تَسمُو جَمِيعُ غَايَاتِهَا وَتَتَهَذَّبُ كُلُّ شَهَوَاتِهَا ، فَتَستَحِقُّ عَظِيمَ الأَجرِ مِن عِندِ رَبِّهَا ، وَيَذهَبُ عَنهَا كُلُّ خَوفٍ وَلا يُسَاوِرُهَا أَيُّ حَزَنٍ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ الإِسلامُ هُوَ دِينَ جَمِيعِ الأَنبِيَاءِ ، وَمَنهَجَ مَن تَبِعَهُم مِنَ الأَولِيَاءِ وَالأَتقِيَاءِ ، وَالآيَاتُ في كِتَابِ اللهِ تَشهَدُ بِذَلِكَ وَتُقَرِّرُهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ عَن نُوحٍ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " فَإِنْ تَوَلَّيتُم فَمَا سَأَلتُكُم مِن أَجرٍ إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسلِمِينَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ عَن إِبرَاهِيمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " مَا كَانَ إِبرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسلِمًا "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ عَنهُ : " إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسلِمْ قَالَ أَسلَمتُ لِرَبِّ العَالمِينَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ عَنهُ وَعَن إِسمَاعِيلَ ـ عَلَيهِمَا السَّلامُ ـ : " وَإِذْ يَرفَعُ إِبرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيتِ وَإِسمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجعَلْنَا مُسلِمَينِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَينَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
وَقَالَ عَن مُوسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " وَقَالَ مُوسَى يَا قَومِ إِنْ كُنتُم آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُم مُسلِمِينَ "
وَقَالَ عَن عِيسَى وَالحَوَارِيِّي نَ : " وَإِذْ أَوحَيتُ إِلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بي وَبِرَسُولي قَالُوا آمَنَّا وَاشهَدْ بِأَنَّنَا مُسلِمُونَ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّا أَنزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحكُمُ بها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأَحبَارُ بما استُحفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ "
وَقَالَ عَن سُلَيمَانَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " فَلَمَّا جَاءَت قِيلَ أَهَكَذَا عَرشُكِ قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلمَ مِن قَبلِهَا وَكُنَّا مُسلِمِينَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ عَن يُوسُفَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " رَبِّ قَد آتَيتَني مِنَ المُلكِ وَعَلَّمتَني مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ أَنتَ وَلِيِّي في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّني مُسلِمًا وَأَلحِقني بِالصَّالِحِينَ "
بَل حَتى فِرعَونُ الَّذِي دُعِيَ إِلى الإِسلامِ فَأَبى وَاستَكبَرَ ، لَمَّا أَدرَكَهُ الغَرَقُ " قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ "
إِنَّهُ الإِسلامُ ، دِينُ كُلِّ شَيءٍ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ " أَفَغَيرَ دِينِ اللهِ يَبغُونَ وَلَهُ أَسلَمَ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا وَإِلَيهِ يُرجَعُونَ "
نَعَم ، إِنَّ الإِسلامَ دِينُ كُلِّ شَيءٍ ، وَاللهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ ، وَمِن ثَمَّ فَلا غَرَابَةَ أَن يُسلِمَ كُلُّ شَيءٍ لِمَن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ ، وَأَن يَقِفَ كُلُّ شَيءٍ في وَجهِ مَن أَعرَضَ عَنِ اللهِ ، وَأَن يَدخُلَ النَّقصُ عَلَى كُلِّ مَنِ انتَقصَ مِن إِسلامِهِ شَيئًا بِحَسَبِهِ ، وَلَذَا فَقَد أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالإِسلامِ بِعَامَّةٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ "
وَلَمَّا كَانَ أَهلُ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ في القِمَّةِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِإِسلامِهِم ، إِذْ ذَاكَ خَضَعَ لَهُم كُلُّ شَيءٍ ، وَخَافَ مِنهُم كُلُّ شَيءٍ ، وَلم يَقِفْ في وُجُوهِهِم أَيُّ شَيءٍ ، وَلم يَزَلِ النَّقصُ يَدخُلُ عَلَى الأُمَّةِ بِنَقصِهَا مِن تَمَسُّكِهَا بِدِينِهَا وَانصِرَافِهَا إِلى دُنيَاهَا ، حَتى إِذَا فَرَّطَت كَثِيرًا في إِسلامِهَا ، عَادَت مِنَ الضَّعفِ بِمَكَانٍ لا يَرَاهَا مَن حَولَهَا شَيئًا وَلا يَعتَدُّونَ بها ، وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " يُوشِكُ الأُمَمُ أَن تَدَاعَى عَلَيكُم كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلى قَصعَتِهَا " فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِن قِلَّةٍ نَحنُ يَومَئِذٍ ؟ قَالَ : " بَل أَنتُم يَومَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ ، وَلَيَنزِعَنَّ اللهُ مِن صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنكُم ، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ في قُلُوبِكُمُ الوَهْنَ " فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا الوَهْنُ ؟ قَالَ : " حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، فَإِنَّ اللهَ لم يَجعَلِ المُسلِمِينَ كَالمُجرِمِينَ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا وَمَا أُنزِلَ إِلى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَالأَسبَاطِ وَمَا أُوتيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِم لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنهُم وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ "




الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَأَسلِمُوا الوُجُوهَ إِلَيهِ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ قُوَّةَ المُسلِمِينَ وَغَلَبَتَهُم وَانتِصَارَهُم عَلَى كُلِّ عَدُوٍّ لَهُم بَعُدَ أَو قَرُبَ ، إِنَّمَا هُوَ بِقَدرِ مَا يَكُونُ في قُلُوبِهِم مِنِ استِسلامٍ لِرَبِّهِم وَانقِيَادٍ لَهُ ، وَصَرفٍ لِلعِبَادَةِ إِلَيهِ وَتَوَجُّهٍ بِالوُجُوهِ إِلَيهِ ، وَعَدَمِ التِفَاتٍ عَنِ صِرَاطِهِ المُستَقِيمِ يَمنَةً أَو يَسرَةً ، نُزُوعًا إِلى رَغبَةِ نَفسٍ أَو انجِذَابًا لِهَوًى ، أَو نُزُولاً عِندَ رَأيِ قَبِيلَةٍ أَو مُسَايَرَةً لِعَشِيرَةٍ ، أَو تَعَلُّقًا بِشَخصٍ أَو تَعَصُّبًا لِمَنهَجٍ ، أَو خَوفًا مِن دَولَةٍ أَو هَيبَةً لِسُلطَانٍ ، وَقَد أُمِرَ المُسلِمُونَ أَن يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً ، مُعتَصِمِينَ بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا ، غَيرَ مُتَفَرِّقِينَ وَلا مُختَلِفِينَ ، وَوُعِدُوا إِذْ ذَاكَ أَن تَكُونَ لَهُمُ القُوَّةُ ، وَتَتَنَزَّلَ عَلَيهِم مِنَ اللهِ الرَّحمَةُ ، وَأَن تَمتَلِئَ صُدُورُ أَعدَائِهِم بِالرُّعبِ مِنهُم وَالهَيبَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدخِلُهُم في رَحمَةٍ مِنهُ وَفَضلٍ وَيَهدِيهِم إِلَيهِ صِرَاطًا مُستَقِيمًا "
وَأَمَّا حِينَ تَتَجَاذَبُ الأُمَّةَ فِتَنُ الأَهوَاءِ ، وَتَتَنَازَعُهُ م شُعَبُ الآرَاءِ ، فَمَا أَضعَفَهُم حِينَهَا أَمَامَ الأَعدَاءِ ! قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "
بَل إِنَّهُم حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَسعَونَ في طَرِيقِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ "

إِنَّهُ لَظُلمٌ كَبِيرٌ أَن يَتَحَوَّلَ بَعضُ المُسلِمِينَ وَخَاصَّةً مِن أَهلِ العِلمِ وَالدَّعوَةِ وَالمُثَقَّفِين َ ، عَن سِعَةِ الإِسلامِ وَرَحَابَتِهِ ، وَيَدخُلُوا في مَضَايِقَ مُظلِمَةٍ مِنَ التَّحَزُّبِ ، وَالانتِمَاءِ لِبَلَدٍ أَو عُنصُرٍ أَو مَذهَبٍ ، أَو مُؤَسَّسَةٍ أَو دَائِرَةٍ أَو مَكتَبٍ ، وَيَا للهِ ! كَم يُمنَى العَمَلُ الإِسلامِيُّ بِعَامَّةٍ ، وَبَعضُ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالرُّؤَسَاءِ بِخَاصَّةٍ ، بِمَن يَفُتُّ في عَضُدِهِم مِن إِخوَانِهِم ، الَّذِينَ بَدَلاً مِن أَن يَنصُرُوهُم وَيَكُونُوا مَعَهُم في خَندَقٍ وَاحِدٍ ، مُتَسَلِّحِينَ بِسَعَةِ الأُفُقِ وَمُرَاعَاةِ المَصَالِحِ العَامَّةِ ، صَارُوا لا يَحمِلُونَ إِلاَّ هَمَّ أَنفُسِهِم وَمَصَالِحِهِمُ الخَاصَّةِ ، وَالأَحدَاثُ الَّتي تَمُرُّ بها أُمَّةُ الإِسلامِ عَلَى مُستَوَى حُكُومَاتِهَا ، وَالأَنشِطَةُ الَّتي يَتَوَلاَّهَا أَفرَادُهَا وَمُؤَسَّسَاتُه َا ، خَيرُ شَاهِدٍ عَلَى هَذَا الظُّلمِ " وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدعَى إِلى الإِسلامِ وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً وَصَفًّا وَاحِدًا " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرصُوصٌ " قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَقَالَ : " المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ، وَلا يَخذُلُهُ ، وَلا يَحقِرُهُ ، التَّقوَى هَاهُنَا ـ وَيُشِيرُ إِلى صَدرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ـ بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمِ . كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ . دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .

ناصرعبدالرحمن 05-10-2012 11:49 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

القناعة أربح بضاعة 19 / 11 / 1433



الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَقدِيرُ النِّعَمِ أَوِ ازدِرَاؤُهَا ، سَبَبٌ لِلقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ، أَو سَبِيلٌ إِلى الطَّمَعِ وَالجَشَعِ ، وَمَرَدُّ ذَلِكَ في الغَالِبِ هُوَ نَظرُ الإِنسَانِ إِلى مَن حَولَهُ ، فَإِنْ هُوَ مَدَّ عَينَيهِ إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ أَقوَامٌ مِن زَهرَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا ، وَتَشَوَّفَ إِلى مَا يَملِكُهُ الأَغنِيَاءُ وَالكُبَرَاءُ وَالمُترَفُونَ ، أَدَّى بِهِ ذَلِكَ إِلى ازدِرَاءِ مَا عِندَهُ مِن نِعَمِ اللهِ الكَثِيرَةِ ، فَجَعَلَ يَتَطَلَّعُ إِلى مَا لا يُطِيقُ ، وَجَعَلَت نَفسُهُ تَتَلَهَّفُ عَلَى مَا لا يُحَصِّلُ ، وَأَمَّا إِنْ رَزَقَهُ اللهُ التَّبَصُّرَ وَالتَّأَمُّلَ في الأَكثَرِينَ ، وَعَلِمَ بِأَنَّهُم أَقَلُّ مِنهُ في الدُّنيَا حَظًّا وَأَضيَقُ رِزقًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَيُورِثُهُ تَقدِيرَ مَا أَنعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيهِ ، وَالكَفَّ عَمَّا لَيسَ في يَدَيهِ ، وَالالتِفَاتَ إِلى مَا يُصلِحُ شَأنَهُ في أُخرَاهُ ، لِعِلمِهِ أَنَّهُ لَن يَكُونَ إِلاَّ مَا قَدَّرَ اللهُ ، وَلَن يَنَالَ أَحَدٌ غَيرَ مَا قُسِمَ لَهُ ، وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم ، وَلَا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم ، فَإِنَّهُ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ "
إِنَّهَا وَصِيَّةٌ نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ ، وَتَوجِيهٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ ، لَوِ اتَّخَذَهُ المُسلِمُ مَنهَجًا لَهُ في هَذَا الجَانِبِ المُهِمِّ مِن حَيَاتِهِ ، لَرُزِقَ شُكرَ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِ بِالاعتِرَافِ بها ، وَلَتَحَدَّثَ بها وَلَو بَينَهُ وَبَينَ نَفسِهِ ، وَلَرُزِقَ الاستِعَانَةَ بها عَلَى طَاعَةِ الخَالِقِ المُنعِمِ ـ سُبحَانَهُ ـ وَلَسَلِمَ مِن كَثِيرٍ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ غَيرُهُ مِن دُيُونٍ ، أَو مَا يَتَعَدَّونَ عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ ، أَو مَا يَتَّصِفُونَ بِهِ مِن سَيِّئِ خُلُقٍ وَلَئِيمِ طَبعٍ ، وَهِي السَّيِّئَاتُ الَّتي يَدفَعُ الكَثِيرِينَ إِلَيهَا أَو إِلى بَعضِهَا ، نَظَرُهُم بِتَلَهُّفٍ إِلى مَن هُوَ فَوقَهُم ، وَتَغَافُلُهُم عَمَّن هُوَ أَسفَلَ مِنهُم .
إِنَّ القُلُوبَ لَتَمرَضُ وَإِنَّ النُّفُوسَ لَتَسقَمُ ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيُبتَلَى بِالهَمِّ وَالغَمِّ ، مِن دَوَامِ النَّظَرِ إِلى مَن هُوَ أَكثَرُ مِنهُ في الدُّنيَا حَظًّا ، وَنِسيَانِ مَن هُوَ أَقَلُّ مِنهُ عَطَاءً وَنَصِيبًا ، وَلِهَذَا فَإِنَّ أَعظَمَ دَوَاءٍ لِتِلكَ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ وَالنُّفُوسِ الخَوَّارَةِ ، أَن يَلحَظَ أَصحَابُهَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ أَنَّهُم لَيسُوا الأَقَلَّ مِن غَيرِهِم نَصِيبًا وَلا الأَسوَأَ حَظًّا ، بَل ثَمَّةَ مَن هُوَ دُونَهُم في عَقلِهِ أَو مَالِهِ ، وَهُنَاكَ مَن هُوَ أَوضَعُ نَسَبًا وَأَقَلُّ شَرَفًا ، وَمَن هُوَ أَدنى جَاهًا أَو عِلمًا ، وَالدُّنيَا مَلِيئَةٌ بِالمُبتَلَينَ بِأَصنَافِ البَلاءِ في أَجسَادِهِم أَو دِينِهِم أَو خَلقِهِم أَو خُلُقِهِم ، في حِينِ أَنَّ آخَرِينَ يُوَازِنُونَ أَنفُسَهُم بِالأَغنِيَاءِ وَأَهلِ الجَاهِ ، فَيَزدَادُونَ غَمًّا وَهَمًّا ، وَلَو وَازَنُوهَا بِالفُقَرَاءِ وَالمَحرُومِينَ ، لَمَا وَسِعَتهُمُ الدُّنيَا مِنَ الفَرَحِ ، وَلَطَفَحَ بِهِمُ السُّرُورُ ، وَلأَكثَرُوا مِن شُكرِ رَبِّهِم وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ وَحَمدِهِ ، فَعُوفُوا وَسَلِمُوا مِنَ البَلاءِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّ في هَذَا الحَدِيثِ تَحطِيمًا لِلطُّمُوحِ وَتَقيِيدًا لِلتَّفكِيرِ ، وَقَتلاً لِرُوحِ التَّنَافُسِ الشَّرِيفِ ، وَمَنعًا لِلنَّاسِ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالازدِيَادِ مِنَ الخَيرِ ، وَلَيسَ الأَمرُ كَذَلِكَ ، وَمَا كَانَ الإِسلامُ لِيَأمُرَ أَتبَاعَهُ بِهَذَا وَلا يُقِرُّهُم عَلَيهِ ، إِذْ مَا هُوَ بِدِينِ رَهبَنَةٍ وَلا تَبَتُّلٍ تَامٍّ ، وَلا انقِطَاعٍ عَمَّا يَقُوتُ الإِنسَانَ وَيُقِيمُ أَوَدَهُ ، وَلا انصِرَافٍ عَمَّا يَضمَنُ لَهُ الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ وَالعِيشَةَ النَّقِيَّةَ ، وَلَكِنَّ المَقصُوَدَ أَن يَتَّصِفَ المُسلِمُ بِالقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ؛ لِيَهنَأَ بِحَيَاتِهِ وَيَصفُوَ لَهُ عَيشُهُ ، وَلا يَكُونَ كَحَالِ مَن شَغَلُوا أَنفُسَهُم بِمُطَارَدَةِ الآخَرِينَ وَالنَّظَرِ إِلى مَا أُوتُوا ، ظَانِّينَ أَنَّهُم بِذَلِكَ يَدفَعُونَ أَنفُسَهُم لِلصُّعُودِ في مَرَاقي السَّعَادَةِ ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ مَن كَانَ هَذَا شَأنَهُ ، يَنظُرُ فِيمَا عِندَ فُلانٍ وَيَطمَعُ أَن يَكُونَ مِثلَ فُلانٍ ، وَيَتَطَلَّعُ إِلى مِثلِ مَالِ هَذَا ولا يَقنَعُ بِغَيرِ جَاهِ ذَاكَ ، فَلَن يُحَصِّلَ السَّعَادَةَ أَبَدًا ؛ لأَنَّ مَعنى ذَلِكَ أَنَّهُ لَن يَسعَدَ إِلاَّ إِذَا أَصبَحَ أَعلَى النَّاسِ في كُلِّ شَيءٍ ، وَهَذَا مِن أَبعَدِ المُحَالِ ؛ وَقَدِ اقتَضَت الحِكمَةُ الرَّبَّانِيَّة ُ في هَذَا الكَونِ ، أَنَّ مَن كَمُلَت لَهُ أَشيَاءُ قَصُرَت عَنهُ أَشيَاءُ ، وَمَن عَلا بِأُمُورٍ سَفُلَت بِهِ أُمُورٌ ، وَيَأبى اللهُ ـ تَعَالى ـ الكَمَالَ المُطلَقَ لأَحَدٍ مِن خَلقِهِ كَائِنًا مَن كَانَ ؛ وَمِن ثَمَّ كَانَتِ القَنَاعَةُ وَالرِّضَا مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعظَمِ المِنَحِ الَّتي يُغبَطُ عَلَيهَا صَاحِبُهَا ، بَل هِيَ الفَلاحُ وَالنَّجَاةُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَإِذَا كَانَ بَعضُ السَّلَفِ قَد جَعَلَ أَعلَى مَنَازِلِ القَنَاعَةِ أَن يَقتَنِعَ المُسلِمُ بِالبُلغَةِ مِن دُنيَاهُ ، وَيَصرِفَ نَفسَهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا سِوَاهُ ، ثم جَعَلَ أَوسَطَ حَالِ المُقتَنِعِ أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الكِفَايَةِ ، وَيَحذِفَ الفُضُولَ وَالزِّيَادَةَ ، ثم جَعَلَ أَدنى مَنَازِلِهَا أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الوُقُوفِ عَلَى مَا سَنَحَ ، فَلا يَكرَهُ مَا أَتَاهُ وَإِن كَانَ كَثِيرًا ، وَلا يَطلُبُ مَا تَعَذَّرَ وَإِن كَانَ يَسِيرًا . فَإِنَّنَا نَقُولُ لِلنَّاسِ : إِن لم تَتَّصِفُوا بِأَعلَى القَنَاعَةِ وَهُوَ الزُّهدُ في الدُّنيَا وَالتَّقَلُّلُ مِنهَا ، فَكُونُوا مِن أَهلِ الكِفَايَةِ تَرتَاحُوا وَتَسلَمُوا ، وَإِلاَّ فَمَا لَكُم عَنِ المَرتَبَةِ الثَّالِثَةِ ، الَّتي تُنَمُّونَ فِيهَا أَموَالَكُم وَتِجَارَاتِكُم ، وَتَضرِبُون في الأَرضِ طَلَبًا لِرِزقِ رَبِّكُم ، وَتَمشُونَ في مَنَاكِبِهَا سَعيًا فِيمَا يُصلِحُ شَأنَكُم ، وَلَكِنْ بِلا تَجَاوُزٍ لِحُدُودِ اللهِ ، وَلا تَخَوُّضٍ في مَالِ اللهِ ، وَلا تَحَاسُدٍ وَلا تَنَافُسٍ وَلا تَكَاثُرٍ ، وَلا تَسَخُّطٍ مِن مَرتَبَةٍ وَلا تَبَرُّمٍ مِن مِهنَةٍ ، وَلا اتِّصَافٍ بِالنِّفَاقِ وَإِذلالٍ لِلنُّفُوسِ لِغَيرِ اللهِ مِن أَجلِ مَنصِبٍ أَو جَاهٍ ، وَلا تَنَازُلٍ عَنِ المَبَادِئِ أَو تَميِيعٍ لِلثَّوَابِتِ رَغبَةً في المَالِ ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يُقَرُّ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى . وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لَا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَا كَانَتِ القَنَاعَةُ لِتَمنَعَ مِن مُلكِ مَالٍ وَلو كَانَ وَفِيرًا ، وَلا مِن تَحصِيلِ جَاهٍ وَلَو كَانَ عَرِيضًا ، وَلَكِنَّهَا تَأبى أَن يَلِجَ حُبُّ الدُّنيَا قَلبَ المُسلِمِ فَيَملِكَ عَلَيهِ عَقلَهُ وَيَستَحوِذَ عَلَى تَفكِيرِهِ ، حَتى يَدفَعَهُ إِلى مَنعِ مَا عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ أَو تَعَدِّي مَا يَردَعُهُ مِن حُدُودٍ ، أَوِ إِلى أَن يَتَكَاسَلَ عَن طَاعَةٍ أَو يُفَرِّطَ في فَرِيضَةٍ ، أَو يَرتَكِبَ مُحَرَّمًا أَو يَستَسهِلَ مَكرُوهًا ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَالزَمُوا القَنَاعَةَ ، وَاتَّخِذُوهَا سِلاحًا وَاجعَلُوهَا لِلسَّعَادَةِ مِفتَاحًا ، واملَؤُوا بها قُلُوبَكُم تَرتَاحُوا ، وَيَحصُلْ لَكُمُ الأَمنُ وَالطُّمَأنِينَ ةُ في الدُّنيَا ، وَالفَوزَ وَالفَلاحَ في الأُخرَى ، " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجزَى إِلَّا مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ "


الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد ضَمِنَ اللهُ لَكُم أَرزَاقَكُم بِقُدرَتِهِ ، وَقَسَمَهَا بَينَكُم بِحِكَمَتِهِ ، وَلَن يَسُوقَ مَا لم يُقَدَّرْ مِنهَا حِرصُ حَرِيصٍ ، وَلَن يَرُدَّ مَا قُدِّرَ كَرَاهَةُ كَارِهٍ ، وَلَكِنَّ مَن قَنِعَ طَابَ عَيشُهُ ، وَمَن طَمِعَ طَالَ طَيشُهُ ، وَلا يَزَالُ الرَّجُلُ كَرِيمًا عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ ، يُحِبُّونَهُ وَيُكرِمُونَهُ وَيُجِلُّونَهُ ، مَا لم يَتَطَلَّعْ إِلى مَا في أَيدِيهِم وَيُنَافِسْهُم عَلَى مَا عِندَهُم ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ استَخَفُّوا بِهِ وَكَرِهُوهُ وَأَبغَضُوهُ ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : " مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخشَى أَن تُبسَطَ عَلَيكُمُ الدُّنيَا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اِزهَدْ في الدُّنيَا يُحِبَّكَ اللهُ ، وَازهَدْ فِيمَا عِندَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ المُؤمِنَ القَانِعَ في نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ ، إِن تَجَدَّدَت لَهُ نِعمَةٌ أَو رَبِحَ شَكَرَ ، وَإِن أُخِذَت مِنهُ أُخرَى أَو خَسِرَ صَبَرَ ؛ يَعلَمُ أَنَّهُ مَهمَا حَصَّلَ مِن زَهرَةِ الدُّنيَا ، فَإِنَّ ثَمَّةَ مَن هُوَ أَفضَلُ مِنهُ في شَيءٍ ، وَمَهمَا فَاتَهُ مِن حُطَامِهَا ، فَإِنَّ هُنَالِكَ مَن هُوَ أَقَلُّ مِنهُ في أَشيَاءٍ ؛ وَإِذَا كَانَ الفَقرُ قَد عَضَّهُ فَقَد أَكَلَ غَيرَهُ ، وَإِذَا كَانَتِ المِحَنُ قَد أَضعَفَتهُ فَقَد أَقعَدَت مَن سِوَاهُ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَإِذَا تَاقَت إِلى مَا عِندَ غَيرِكُم نُفُوسُكُم ، وَارتَفَعَت إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم رُؤُوسُكُم ، فَاخفِضُوهَا وَلَو مَرَّةً لِتُبصِرُوا مَن هُوَ تَحتَكُم ، وَتَطَامَنُوا لِتَعرِفُوا مَوَاقِعَ أَقدَامِكُم ، قَبلَ أَن تُفجَؤُوا بِانقِضَاءِ الأَجَلِ وَانقِطَاعِ الأَمَلِ ، فَيُسَوِّيَ المَوتُ بَينَ غَنِيِّكِم وَفَقِيرِكِم ، وَيُلحِقَ مَالِكَكُم بِأَجِيرِكِم ، ثم لا يُفَرِّقَ دُودُ الأَرضِ بَينَ صُعلُوكٍ مِنكُم وَلا أَمِيرٍ ، وَلا بَينَ كَبِيرٍ وَلا صَغِيرٍ ، وَ" أَكثِرُوا ذِكرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ المَوتَ ؛ فَإِنَّهُ لم يَذكُرْهُ أَحَدٌ في ضِيقٍ مِنَ العَيشِ إِلاَّ وَسَّعَهُ عَلَيهِ ، وَلا ذَكَرَهُ في سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهَا عَلَيهِ " وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ ، لِتَكُونُوا عَلَى ذِكرٍ مِمَّا رَوَاهُ مُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا شَبِعَ آلُ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِن خُبزٍ وَشَعِيرٍ يَومَينِ مُتَتَابِعَينِ حَتى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ
وَرَوَى الشَّيخَانِ عَنهَا قَالَت : كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِن أَدَمٍ وَحَشوُهُ مِن لِيفٍ "
وَلا تَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَانَ عَن قِلَّةٍ وَعَدَمٍ دَائِمَينِ ، لا وَاللهِ وَبِاللهِ وَتَاللهِ ، وَلَكِنْ لأَنَّهُ كَانَ أَزكَى النَّاسِ عَقلاً وَأَصلَحَهُم قَلبًا ، وَأَكمَلَهُم إِيمَانًا وَأَقوَاهُم يَقِينًا ، فَقَد صَارَ أَكثَرَهُم قَنَاعَةً بِالقَلِيلِ وَرِضًا بِاليَسِيرِ ، وَأَندَاهُم كَفًّا وَأَسخَاهُم نَفسًا ، حَتى كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يُفَرِّقُ المَالَ العَظِيمَ عَلَى طَالِبِيهِ وَيُعطِيهِ سَائِلِيهِ ، ثم يَبِيتُ طَاوِيًا ثِقَةً فِيمَا عِندَ اللهِ مِن عَاجِلِ الرِّزقِ في الدُّنيَا وَآجِلِ الأَجرِ في الآخِرَةِ .


الساعة الآن 06:42 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
- arab-line : Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.3.0 TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010

... جميع الحقوق محفوظه لمجالس رويضة العرض لكل العرب ...

.. جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ...ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر المنتدى..

a.d - i.s.s.w