مجالس الرويضة لكل العرب

مجالس الرويضة لكل العرب (http://www.rwwwr.com/vb/httb:www.rwwwr.com.php)
-   روحانيات (http://www.rwwwr.com/vb/f5.html)
-   -   خطب الشيخ عبدالله البصري (http://www.rwwwr.com/vb/t31002.html)

ناصرعبدالرحمن 08-07-2011 05:08 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
الشباب في أزمة فمن ينقذهم ؟ 7 / 8 / 1432



الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد خَلَقَ اللهُ الإِنسَانَ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ ، وَمَيَّزَهُ بِالعَقلِ وَاكتِمَالِ الحَوَاسِّ وَجَعَلَ ذَلِكَ غَايَةَ التَّكرِيمِ ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدنَاهُ أَسفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ فَلَهُم أَجرٌ غَيرُ مَمنُونٍ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلَقَد كَرَّمنَا بَني آدَمَ وَحَمَلنَاهُم في البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاللهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لا تَعلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَلم نَجعَلْ لَهُ عَينَينِ . وَلِسَانًا وَشَفَتَينِ . وَهَدَينَاهُ النَّجدَينِ "

غَيرَ أَنَّ هَذَا الإِنسَانَ مَعَ تَكرِيمِ اللهِ لَهُ بِوُفُورِ العَقلِ وَاكتِمَالِ الحَوَاسِّ ، فَهُوَ مَخلُوقٌ مُرَكَّبٌ مِن جَوَانِبَ حَيَوَانِيَّةٍ ، تَظهَرُ في شَهَوَاتٍ يَمِيلُ إِلَيهَا قَلبُهُ ، وَمُغرِيَاتٍ تَرغَبُ فِيهَا نَفسُهُ ، وَهَذِهِ هِيَ نُقطَةُ الضَّعفِ الَّتي وَصَفَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بها حَيثُ قَالَ : " وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا " فَهُوَ ضَعِيفٌ في قُوَّتِهِ الجَسَدَيَّةِ ، ضَعِيفٌ في مُوَاجَهَةِ الفِتَنِ وَالبَلِيَّاتِ ، ضَعِيفٌ أَمَامَ المُغرِيَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، خَاصَّةً أَنَّ تِلكَ الشَّهَوَاتِ حُلوَةٌ مُزَيَّنَةٌ ، مُغرِيَةٌ فَاتِنَةٌ ، وَصَفَهَا ـ تَعَالى ـ بِقَولِهِ : " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ "

وَإِنَّهُ حِينَ يُوَفَّقُ المَرءُ إِلى سُلُوكِ السُّبُلِ المَشرُوعَةِ لِلحُصُولِ عَلَى هَذِهِ الشَّهَوَاتِ ، فَإِنَّ في ذَلِكَ نَجَاتَهُ وَفَوزَهُ ، وَحِينَ يُخذَلُ فَيَسلُكُ سَبِيلَ الحَرَامِ ، فَإِنَّ في ذَلِكَ هَلاكَهُ وَخَسَارَتَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن يَضمَنْ لي مَا بَينَ لَحيَيهِ ، وَمَا بَينَ رِجلَيهِ ، أَضمَنْ لَهُ الجَنَّةَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
لَكِنَّ الإِنسَانَ لا يُمكِنُهُ حِفظُ نَفسِهِ إِلاَّ بِحِفظِ مَا كَرَّمَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِهِ ، وَهُوَ ذَلِكُمُ العَقلُ الَّذِي اختَصَّهُ بِهِ مِن بَينِ سَائِرِ الحَيَوَانِ . وَقَد وَبَّخَ اللهُ ـ تَعَالى ـ الكَافِرِينَ بِأَنَّهُم شَرُّ مَن دَبَّ عَلَى وَجهِ الأَرضِ لأَنَّهُم كَفَرُوا وَجَرَّدُوا أَنفُسَهُم مِن نِعمَةِ الانتِفَاعِ بِالعَقلِ ، فَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُم لا يُؤمِنُونَ "
كَمَا بَيَّنَ ـ سُبحَانَهُ ـ أَنَّ سَبَبَ وُقُوعِ أَهلِ النَّارِ في الضَّلالِ هُوَ تَعطِيلُهُم حَوَاسَّهُمُ الَّتي هِيَ رَوَافِدُ العَقلِ ، حَتَّى صَارُوا وَكَأَنَّهُم لا أَسمَاعَ لَهُم وَلا أَبصَارَ وَلا قُلُوبَ ، بَل صَارُوا أَجسَادًا حَيَّةً مُتَحَرِّكَةً كَالأَنعَامِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بها وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بها أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعُونَ أَو يَعقِلُونَ إِنْ هُم إِلاَّ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلاً "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمِنهُم مَن يَستَمِعُونَ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ وَلَو كَانُوا لا يَعقِلُونَ . وَمِنهُم مَن يَنظُرُ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تَهدِي العُميَ وَلَو كَانُوا لا يُبصِرُونَ . إِنَّ اللهَ لا يَظلِمُ النَّاسَ شَيئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ "

أَلا وَإِنَّ شَرَّ آفَاتِ العَقلِ هُوَ اتِّبَاعُ الهَوَى وَالانقِيَادُ لِدَاعِي الشَّهَوَاتِ ، وَلِذَلِكَ فَقَد حَذَّرَنَا ـ تَعَالى ـ مِنِ اتِّبَاعِ الهَوَى ، مُبَيِّنًا أَنَّهُ ضَلالٌ وَفَسَادٌ ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدىً مِنَ اللهِ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهوَاءَهُم لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ وَمَن فِيهِنَّ "
وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ لا بُدَّ لِلإِنسَانِ مِنهَا بِقَدرٍ مُعَيَّنٍ ، فَقَد جَاءَ الإِسلامُ بَتَهذِيبِهَا وَالأَمرِ بِطَلَبِهَا بِالحَلالِ وَالتَّوَسُّطِ في تَنَاوُلِهَا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِن بَطنٍ ، بِحَسبِ ابنِ آدَمَ أُكْلاتٌ يُقِمنَ صُلبَهُ ، فَإِن كَانَ لا مَحَالَةَ ، فَثُلُثٌ طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ لِنَفسِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهوَتَهُ وَيَكُونَ لَهُ فِيهَا أَجرٌ ؟ قَالَ : " أَرَأَيتُم لَو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيهِ فِيهَا وِزرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .

يُقَالُ هَذَا الكَلامُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَنَحنُ نَرَى شَبَابَ اليَومِ قَد غَلَبَت شَهَوَاتُهُم عُقُولَهُم ، وَصَارُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ يُعَانُونَ مِن مُشكِلاتٍ وَتَمُرُّ بهم أَزَمَاتٌ ، مَا بَينَ فَرَاغٍ فِكرِيٍّ ، وَتَدَنِّي مُستَوًى عِلمِيٍّ ، وَأَزَمَاتِ عَمَلٍ وَزَوَاجٍ وَسَكَنٍ ، يَزِيدُهَا شِدَّةً ضَعفُ التَّوجِيهِ مِنَ الأَولِيَاءِ وَالمُرَبِّينَ ، وَيُعَقِّدُهَا سُوءُ التَّربِيَةِ وَتُوَفُّرُ القُدَوَاتِ السَّيِّئَةِ وَالبَرَامِجِ المُضِلَّةِ ، في ظِلِّ هَذِهِ الوَسَائِلِ الَّتي استَغَلَّهَا أَعدَاءُ الإِسلامِ لإِفسَادِ الأُمَّةِ وَإِمَاتَةِ عُقُولِ أَبنَائِهَا ، وَتَبدِيلِ فِطَرِهِم وَنَحرِ حَيَائِهِم وَعَفَافِهِم . إِنَّهَا لأَزمَةٌ أَن يَعِيشَ الشَبَابُ بِلا هَدَفٍ وَلا رِسَالَةٍ ، وَيَحيَونَ وَلا شُعُورَ لَدَيهِم بِمَسؤُولِيَّةٍ ، أَزمَةٌ حِينَ يَتَدَنَّى مُستَوَاهُمُ العِلمِيُّ ، وَيَقِلُّ وَعيُهُم بما يُرَادُ مِنهُم وَمَا يُخَطَّطُ لَهُم ، أَزمَّةٌ حِينَ تَكثُرُ المَدَارِسُ وَالمَعَاهِدُ وَالجَامِعَاتُ وَالكُلِّيَّاتُ ، ثُمَّ تَقِلُّ نَوعِيَّةُ المُتَخَرِّجِين فِيهَا وَيَضعُفُ مُستَوَاهُم ، فَلا يُطَبِّقُونَ مَا تَعَلَّمُوهُ ، وَلا يَعمَلُونَ بما دَرَسُوهُ ، بَل يَكُونُ قُصَارَى جُهدِ أَحَدِهِم أَن يَكتُبَ عَلَى أَورَاقِ الإِجَابَةِ كَلامًا حَفِظَهُ بِلا عِلمٍ ، وَأَن يَجتَرَّ في الاختِبَارِ نَظَرِيَّاتٍ التَهَمَهَا بِلا وَعيٍ وَلا فَهمٍ ، ثُمَّ يَتَنَاسَى كُلَّ ذَلِكَ بَعدَ خُرُوجِهِ مِن قَاعَةِ الامتِحَانِ وَانتِهَاءِ مَوسِمِ الاختِبَارِ ، نَاسِيًا أَنَّ العِلمَ يَجِبُ أَن يَكُونَ مِنَ المَهدِ إِلى اللَّحدِ ، وَأَنَّ النَّجَاحَ الحَقِيقِيَّ هُوَ تَطبِيقُ مَا تَعَلَّمَهُ عَلَى أَرضِ الوَاقِعِ ، وَالاستِفَادَةُ مِنهُ في حَيَاتِهِ العَمَلِيَّةِ وَتَعَامُلُهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الشَّبَابَ يُعَانُونَ مِن أَزَمَاتٍ وَمُشكِلاتٍ ، تَظهَرُ بِوُضُوحٍ في أَوقَاتِ العُطَلِ وَالإِجَازَاتِ ، مِنهَا تَركُ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ ، وَإِطلاقُ النَّظَرِ في فَاسِدِ القَنَوَاتِ ، ، وَفي جَانِبٍ آخَرَ تَجِدُ المُخَدِّرَاتُ إِلى الشَّبَابِ طَرِيقَهَا في غَفلَةٍ مِنَ الآبَاءِ ، فَتُدَمِّرُ عُقُولَهُم وَتُخَرِّبُ أَخلاقَهُم ، وَتُفسِدُ فِطَرَهُم وَتَجعَلُهُم يُغرِقُونَ في الشَّهَوَاتِ ، ثُمَّ لا يُفَكِّرُونَ وَقَد أَدمَنُوهَا في مُثُلٍ عُليَا ، وَلا يَنطَلِقُونَ في حَيَاتِهِم مِن قِيَمٍ سَامِيَةٍ ، بَل يُصبِحُ أَحَدُهُم كَالبَهِيمَةِ العَجمَاءِ ، وَقَد يَنحَطُّ حَتَّى يَكُونَ أَسفَلَ مِنهَا وَأَقَلَّ شَأنًا .

وَمِن أَزَمَاتِ الشَّبَابِ الانغِمَاسُ في المَلاهِي وَالمُثِيرَاتِ ، مِن أَغَانيَّ مَاجِنَةٍ وَرَقصَاتٍ مَائِعَةٍ ، وَرَسَائِلِ جَوَّالٍ مُنحَطَّةٍ وَصُوَرٍ مُسِفَّةٍ ، ، وَأَجهِزَةِ أَلعَابٍ مُدَمِّرَةٍ ، تُعَلِّمُ الجَرَائِمَ وَتُعَوِّدُ عَلَى التَّمَرُّدِ ، لَقَدِ انتَشَرَتِ المَسرَحِيَّاتُ وَالتَّمثِيلِيّ َاتُ في أَكثَرِ القَنَوَاتِ ، وَارتَفَعَ صَوتُ الغِنَاءِ وَالمُوسِيقَى ، وَكَثُرَ الرَّقصُ وَالتَمَيُّعُ ، وَقُصِدَ إِلى نَشرِ الإِبَاحِيَّةِ قَصدًا ، وَصَارَ الرَّاقِصُونَ وَالرَّاقِصَاتُ يَتَبَارَونَ في ذَلِكَ وَيَعُدُّونَه فَنًّا مِنَ الفُنُونِ ، بَل وَيُسَمُّونَهُ فَنًّا رَفِيعًا ، هَكَذَا يَزعُمُونَ ، وَاللهُ يَعلَمُ أَنَّهُم لَكَاذِبُونَ ، وَالحَقِيقَةُ أَنَّ الأَمَةَ لم تَستَفِدْ مِن هَذِهِ المَلاهِي لا عِزَّةً في النُّفُوسِ وَلا صَلاحًا في القُلُوبِ ، وَلا تَقوِيمًا لِلأَخلاقِ وَلا تَهذِيبًا لِلسُّلُوكِ ، وَلا بِنَاءً لِلقِيَمِ وَلا حِفظًا لِلشِّيَمِ ، لم يَرتَفِعْ بها مُستَوَى الشُّعُوبِ الثَّقَافيِّ ، وَلم تُغرَسْ بها في نُفُوسِ الشَّبَابِ فَضِيلَةٌ ، بَل عَلَى العَكسِ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ ، لم تُحَصِّلِ الأُمَّةُ مِنهَا إِلاَّ الخَلاعَةَ وَالمُجُونَ وَالبَلاءَ ، وَذَهَابَ العَفَافِ وَنَزعَ الحَيَاءِ ، وَقَلَّ أَن تُوجَدَ أُغنِيَّةٌ أَو تَمِثِيلِيَّةٌ إِلاَّ وَفِيهَا تَهيِيجٌ لِلشَّهَوَاتِ ، وَحَثٌّ عَلَى مُحَرَّمِ العِلاقَاتِ ، وَإِفسَادٌ لأَخلاقِ الأَبنَاءِ وَالبَنَاتِ ، وَنَشرٌ لِلعُريِّ وَتَعلِيمٌ لِلحُبِّ الكَاذِبِ وَبَثٌّ لِلإِعجَابِ الخَادِعِ . وَقَدِ انسَاقَ السَّوَادُ الأَعظَمُ مِنَ الشَّبَابِ مَعَ هَذِهِ المَوجَةِ العَاتِيَةِ مِنَ المَلاهِي ، فَصَارَ الغِنَاءُ لَهُم عَادَةً ، يَسمَعُونَ المُطرِبِينَ وَالمُطرِبَاتِ غَادِينَ رَائِحِينَ ، وَيُشَاهِدُونَ التَّمثِيلِيَّا تِ وَالمَسرَحِيَّا تِ لَيلاً وَنَهَارًا ، حَتَّى طُمِسَ عَلَى قُلُوبِ بَعضِهِم فَنَسُوا ذِكرَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَانصَرَفُوا إِلى مَا أَفسَدَ قُلُوبَهُم ، وَصَارَ بَعضُهُم بَدَلاً مِن أَن يَنظُرَ إِلى العُلَمَاءِ وَالبَاحِثِينَ وَالمُختَرِعِين َ بِإِجلالٍ وَتَقدِيرٍ وَيَتَمَنَّى أَن يَكُونَ مِثلَهُم ، إِذَا بِهِ يَتَمَنَّى أَن يَكُونَ مِثلَ الفَنَّانِ أَوِ المُمَثِّلِ أَوِ المُهَرِّجِ . وَإِنَّهُ وَإِن كَانَ لا بَأسَ مِن أَن يَلهُوَ المَرءُ بما هُوَ حَلالٌ وَمُبَاحٌ ، وَأَن يُرَفِّهَ عَن نَفسِهِ أَو يَسِيرَ في الأَرضِ لِيُمَتِّعَ بَصَرَهُ بِمَحَاسِنِ مَا خَلَقَ اللهُ ، وَأَن يَستَمِعَ لِلأَنَاشِيدِ الَّتي لا تَحتَوِي عَلَى مُوسِيقَى ، وَأَن يَلعَبَ الأَلعَابَ المُبَاحَةَ كَالرِّمَايَةِ وَالسِّبَاحَةِ ، وَأَن يُمَارِسَ رُكُوبَ الخَيلِ أَو غَيرَهُ ، وَأَن يُتقِنَ عَمَلَهُ وَيَتَفَنَّنَ في هِوَايَاتِهِ ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا العَفَنَ الَّذِي تُكشَفُ فِيهِ العَورَاتُ وَتُهتَكُ السُّتُورُ ، وَيُدعَى الشَّبَابُ إِلى المُنكَرَاتِ وَفَاحِشِ الأُمُورِ ، إِنَّهُ لا يَستَحِقُّ أَن يُسَمَّى فَنًّا ، وَلا يَجُوزُ أَن يَكُونَ تَرفِيهًا عَنِ النَّفسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ في الحَقِيقَةِ حَرقٌ لِلنُّفُوسِ وَإِفسَادٌ لِلقُلُوبِ ، وَتَدمِيرٌ لِلعُقُولِ وَهَدَمٌ لِلأَخلاقِ .
فَمَنِ المَسؤُولُ عَنِ الشَّبَابِ وَهَذِهِ بَعضُ حَالِهِم ؟ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهلِ بَيتِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيتِ زَوجِهَا وَمَسؤُولَةٌ عَن رَعِيَّتِهَا ، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، فَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ "
فَكُلٌّ مَسؤُولٌ وَعَلَيهِ جُزءٌ مِن مُهِمَّةِ الإِصلاحِ ، فَالحَاكِمُ مَسؤُولٌ وَالوَالِدَانِ مَسؤُولانِ ، وَالمَدرَسَةُ مَسؤُولَةٌ وَالجَامِعَةُ كَذَلِكَ ، وَعَلَى المُجتَمَعِ في هَذَا الشَّأنِ مَا عَلَيهِ ، وَأَمَّا المَسؤُولِيَّةُ المُبَاشِرَةُ ، فَإِنَّهَا مِنَ الشَّابِّ عَن نَفسِهِ ، فَهُوَ المَسؤُولُ الأَولُ عَن إِصلاحِ قَلبِهِ وَتَهذِيبِ نَفسِهِ . مُصِيبَةٌ أَن يَظُنَّ الشَّابُّ أَنَّهُ سَيَظَلُّ هَكَذَا صَغِيرًا دَائِمًا ، غَافِلاً عَن أَنَّهُ سَوفَ يَكبُرُ وَيَتَسَلَّمُ مَقَالِيدَ الأُمُورِ يَوَمًا مَا ، وَمِن ثَمَّ فَلا بُدَّ أَن يَتَعَاهَدَ نَفسَهُ بِالعِلمِ وَالثَّقَافَةِ ، وَأَن يَشُقَّ طَرِيقَهُ لِلقِيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ ، وَأَن يَختَارَ في طَرِيقِهِ صَدِيقًا عَاقِلاً وَجَلِيسًا صَالِحًا ، وَيَنتَقِيَ خَلِيلاً تَقِيًّا وَرَفِيقًا رَضِيًّا ، فَإِنَّ مَن صَادَقَ الصَّالِحِينَ اكتَسَبَ مِنهُمُ الخَيرَ وَأَخَذَ عَنهُمُ الصَّلاحَ ، وَمَن عَاشَرَ الفَاسِقِينَ المَائِعِينَ أُصِيبَ بِمَرَضِهِم ، وَإِذَا وَقَعَتِ الإِصَابَةُ فَهِيَ خَطِيرَةٌ جِدًّا ، وَقَلَّمَا شُفِيَ صَدِيقٌ مِن عَادَةٍ سَيِّئَةٍ اكتَسَبَهَا مِن صَدِيقٍ أَحمَقَ ، أَو تَعَافى مِن بَلوَى عَلَّمَهُ إِيَّاهَا رَفِيقٌ جَاهِلٌ . قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤمِنًا ، وَلا يَأكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ ، فَلْيَنظُرْ أَحَدُكُم مَن يُخَالِلُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَلا يَغتَرَّنَّ أَحَدٌ بِمُوَافَقَةِ أَصدِقَائِهِ لَهُ فِيمَا تَهوَاهُ نَفسُهُ وَتَشتَهِيهِ ، فَقَد قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ في أَمثَالِ هَؤُلاءِ : " الأَخِلاَّءُ يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ "

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ " وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ " اللَّهُمَّ أَصلِحْ لَنَا دَينَنَا الَّذِي هُوَ عِصمَةُ أَمرِنَا ، وَأَصلِحْ لَنَا دُنيَانَا الَّتي فِيهَا مَعَاشُنَا ، وَأَصلِحَ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتي فِيهَا مَعَادُنَا ، وَاجعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيرٍ ، وَاجعَلِ المَوتَ رَاحَةً لَنَا مِن كُلِّ شَرٍّ .



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ سَبَبَ وُقُوعِ الشَّبَابِ فِيمَا يَقَعُونَ فِيهِ مِن أَزَمَاتٍ وَمُشكِلاتٍ ، إِنَّمَا هُوَ وُفُورُ الصِّحَّةِ وَكَمَالُ القُوَّةِ وَحِدَّةُ النَّشَاطِ ، مَعَ كَثرَةِ الفَرَاغِ وَقِلَّةِ الشُّغلِ ، وَتَوَفُّرِ المَالِ لَهُم مِن أَولِيَاءِ الأُمُورِ أَو مِن مَصَادِرَ أُخرَى . وَهَذِهِ كُلُّهَا مِمَّا يُفسِدُ المَرءَ وَيُسَاعِدُ عَلَى انحِرَافِهِ ، وَقَد قَالَ القَائِلُ :
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَة *** مَفسَدَةٌ لِلمَرءِ أَيُّ مَفسَدَةٌ

أَمَّا وَهَذِهِ الثَّلاثُ مُتَوَفِّرَةٌ وَلا سِيَّمَا في أَوقَاتِ الإِجَازَاتِ ، فَحَرِيٌّ بِنَا أَن نَتَعَاوَنَ جَمِيعًا آبَاءً وَإِخوَانًا كِبَارًا وَمَسؤُولِينَ وَمُرَبِّينَ ، فَنُوَجِّهَهَا الوِجهَةَ السَّلِيمَةَ ، وَنَسعَى لأَن يُحَقِّقَ أَبنَاؤُنَا مِنهَا أَكبَرَ قَدرٍ مِنَ الفَائِدَةِ ، لا أَن يَخرُجُوا مِن إِجَازاتِهِم وَقَدِ اكتَسَبُوا مِنَ الأَخلاقِ أَرذَلَهَا وَأَخَذُوا مِنَ العَادَاتِ أَسوَأَهَا ، وَهَا هِيَ النَّوَادِي الصَّيفِيَّةُ الثَّقَافِيَّةُ تُقَامُ في المَدَارِسِ ، وَبَينَ أَيدِيكُمُ الدَّورَاتُ الصَّيفِيَّةُ لِحِفظِ القُرآنِ في المَسَاجِدِ ، وَالسَّفَرُ لأَدَاءِ العُمرَةِ أَو زِيَارَةِ مَسجِدِ رَسُولِ اللهِ مِن خَيرِ مَا تُشَدُّ لَهُ الرِّحَالُ ، وَلا بَأسَ أَن تُسَافِرَ الأُسرَةُ لِصَلَةِ رَحِمٍ أَو حُضُورِ زَوَاجِ قَرِيبٍ ، أَو لِتَمشِيَةٍ في رُبُوعِ البِلادِ لاكتِشَافِ جَدِيدٍ وَتَغيِيرِ النُّفُوسِ لِلأَحسَنِ . وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِمَّا انتَشَرَ في الإِجَازَاتِ مِن طُولِ السَّهَرِ وَالعُكُوفِ عَلَى القَنَوَاتِ المَاجِنَةِ ، وَتَركِ الشَّبَابِ يَجتَمِعُونَ عَلَى مَا لا يَعلَمُ الأَولِيَاءُ حَقِيقَتَهُ ، ثُمَّ يَنَامُونَ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ طُولَ النَّهَارِ وَكَأَنَّهُم قَد رُفِعَ عَنهُمُ القَلَمُ ، فَـ"كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ "

ناصرعبدالرحمن 13-07-2011 12:31 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

إنا لا نضيع أجر المصلحين 14 / 8 / 1432




الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لم يَعُد خَافِيًا عَلَى كُلِّ ذِي لُبٍّ وَبَصِيرَةٍ ، مَا تُجَرُّ إِلَيهِ بِلادُنَا جَرًّا عَنِيفًا ، وَمَا يَسعَى إِلَيهِ المُنَافِقُونَ سَعيًا حَثِيثًا ، في حَمَلاتٍ تَغرِيبِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ ، وَأُخرَى خَافِيَةٍ مَاكِرَةٍ ، يَلبَسُونَ فِيهَا أَلبِسَةً شَتَّى ، ويَتَقنَّعُونَ بِأَقنِعَةٍ مُختَلِفَةٍ ، وَيَتَلَوَّنُون َ بِأَلوَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَيَحمِلُونَ هُوِيَّاتٍ مُختَلِفَةً ، وَيَنزِعُونَ إِلى أَفكَارٍ مُتَنَاقِضَةٍ وَينطَلِقُونَ مِن رُؤًى مُتَبَايِنَةٍ ، وَإِن كَانُوا في الحَقِيقَةِ لا يَحمِلُونَ فِكرًا وَلا يُرِيدُونَ بِرًّا ، وَلا يَسعَونَ إِلى تَقَدُّمٍ وَلا يَنشُدُونَ حَلَّ مُشكِلَةٍ ، وَإِنَّمَا نَيلَ الشَّهَوَاتِ يَطلُبُونَ ، وَلِتَضيِيعِ الأُمَّةِ يَهدِفُونَ " يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ . في قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بما كَانُوا يَكذِبُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُم لا تُفسِدُوا في الأَرضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ . أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشعُرُونَ "

وَفي مُقَابِلِ هَؤُلاءِ الضَّالِّينَ المُضِلِّينَ ، وَمَا يَحمِلُونَهُ مِن نَوَايَا سَيِّئَةٍ وإِرَادَاتٍ شِرِّيرَةٍ ، وَمَا تَنطَوِي عَلَيهِ أَعمَالُهُم مِن أَهدَافٍ وَضِيعَةٍ وَغَايَاتٍ دَنِيئَةٍ ، فَإِنَّ مِمَّا يُبهِجُ النُّفُوسَ وَيَسُرُّ الخَوَاطِرَ ، وَيَشفِي صُدُورَ قَومٍ مُؤمِنِينَ وَيُذهِبُ غَيظَ قُلُوبِهِم ، وُجُودَ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الشُّيُوخِ الأَبرَارِ وَالدُّعَاةِ الأَخيَارِ وَطَلَبَةِ العِلمِ الأَطهَارِ ، يُحَارِبُونَ هَذَا التَّخطِيطَ الإِجرَامِيَّ وَيُقَاوِمُونَه ُ لَيلَ نَهَارَ ، وَيَتَصَدَّونَ بِقُوَّةٍ لِهَذَا الخُبثِ الظَّاهِرِ وَالمَكرِ الكُبَّارِ ، وَيَفضَحُونَ مُخَطَّطَاتِ ذَلِكَ التَّغرِيبِ الإِفسَادِيِّ المَقِيتِ ، مُتَحَمِّلِينَ في ذَلِكَ مَا يَتَحَمَّلُونَه ُ ، مِنِ استِهزَاءٍ بهم في الصُّحُفِ ، وَتَعرِيضٍ بهم في وَسَائِلِ الإِعلامِ ، وَتَضيِيقٍ عَلَيهِم مِن بَعضِ أَصحَابِ القَرَارِ ، مِمَّن وَهَبَهُمُ اللهُ جَاهًا في الدَّولَةِ ، وَنَالُوا لَدَى وُلاةِ الأُمُورِ حُظوَةً ، وَحَطَّ المَولى مِن قَدرِهِم لَدَيهِ وَكَسَاهُم صَغَارًا وَهَوَانًا وَذِلَّةً ، حَتَّى لم يَرَوا لَهُم عَدُوًّا غَيرَ حَمَلَةِ العِلمِ وَحُمَاةِ الشَّرِيعَةِ ، وَلم يَجِدُوا حَقِيقًا بِالحَربِ وَالمُقَاوَمَةِ إِلاَّ حَامِلِي لِوَاءِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَيَتَسَاءَلُ مُتَسَائِلٌ وَيَقُولُ :
مَا هَذِهِ المُفَارَقَةُ بَينَ الفَرِيقَينِ ؟
وَلماذَا يَسعَى أَذنَابُ الغَربِ لِتَسوِيقِ خُطَطٍ نَصرَانِيَّةٍ وَتَحقِيقِ مَآرِبَ يَهُودِيَّةٍ ، وَيَتَفَانَونَ في تَنفِيذِ مَشرُوعٍ تَغرِيبيٍّ حَقِيرٍ ، قَد لَفَظَتهُ دُوَلٌ سَبَقَتنَا إِلَيهِ بِعَشَرَاتِ السِّنِينِ ؟
وَمَا الَّذِي في المُقَابِلِ يَدفَعُ الدُّعَاةَ العُقَلاءَ وَالمُصلِحِينَ الفُضَلاءَ لِمُجَابَهَةِ هَذَا الوَبَاءِ وَتَجرِيمِ ذَلِكَ الهُرَاءِ ، وَالحَيلُولَةِ دُونَ أُولَئِكَ المُنَافِقِينَ وَتَغرِيبِ العِبَادِ وَالبِلادِ ؟
أَمَّا المُؤمِنُونَ الأَخيَارُ وَالمُحتَسِبُون َ الأَطهَارُ ، فَإِنَّمَا يَدفَعُهُم إِلى مَا يَتَكَلَّفُونَه ُ في ذَلِكَ مِن عَنَاءٍ وَيَتَحمَّلُونَ هُ مِن هَمٍّ ، أَنَّهُم عَلِمُوا أَنَّهُم مُكَلَّفُونَ بِأَمَانَةٍ عَظِيمَةٍ وَيَحمِلُونَ مَسؤُولِيَّةً ثَقِيلَةً ، وَأَنَّ مِنَ الوَاجِبِ الشَّرعِيِّ عَلَيهِم لِلنَّاسِ ، أَن يُبَلِّغُوهُم العِلمَ وَيَحمِلُوهُم عَلَى تَطبِيقِ الشَّرعِ ، وَأَن يُبَيِّنُوا لَهُمُ الحَقَّ وَالمَعرُوفَ وَيَرَغِّبُوهُم فِيهِ ، وَأَن يُنكِرُوا عَلَيهِمُ البَاطِلَ وَالمُنكَرَ وَيَحذِّرُوهُم مِنهُ ، وَكَيفَ لا يَفعَلُونَ وَقَد أَخَذَ اللهُ عَلَى أَهلِ العِلمِ العَهدَ أَن يُبَيِّنُوهُ وَلا يَكتُمُوهُ ؟
وَكَيفَ لا يُنكِرُونَ المُنكَرَ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ رَآهُ وَعَلِمَ بِهِ صَغِيرًا كَانَ أَو كَبِيرًا ؟ فَكَيفَ بهم وَهُم أَهلُ العِلمِ وَالصَّلاحِ ، الَّذِينَ هُم أَولى النَّاسِ بِالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَالاحتِسَابُ في حَقِّهِم آكَدُ وَهُوَ عَلَيهِم أَوجَبُ ، لِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن عِلمٍ وَفَهمٍ ، وَبمَا رَزَقَهُم مِن فِقهٍ وبَصِيرَةٍ ؟ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلا تَكتُمُونَهُ "
وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِن لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِن لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ "

إِنَّ العُلَمَاءَ وَالدُّعَاةَ حِينَ يُنكِرُونَ المُنكَرَاتِ وَيَحتَسِبُونَ عَلَى أَهلِ المُنكَرِ ، إِنَّهُم إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَن يُعذِرُوا إِلى اللهِ ـ تَعَالى ـ بِقِيَامِهِم بما أَوجَبَهُ عَلَيهِم مِن بَيَانِ الحَقِّ وَإِنكَارِ ضِدِّهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذْ قَالَت أُمَّةٌ مِنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا اللهُ مُهلِكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعذِرَةً إِلى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ "
وَلَولا الغَيرَةُ عَلَى الأَعرَاضِ ، الَّتي هِيَ مِن أَعظَمِ صِفَاتِ ذَوِي الشَّهَامَةِ مِنَ الرِّجَالِ فَضلاً عَنِ المُسلِمِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بها إِلى اللهِ ، لَولا تِلكَ الغَيرَةُ ، لانتُهِكَتِ الأَعرَاضُ وَفَسَدتِ الأَخلاقُ ، وَلاختَلَطَتِ الأَنسَابُ وَذَهَبَتِ الآدَابُ ، وَلَكِنَّ اللهَ كَرَّمَ مَنِ اصطَفَاهُ مِن عِبَادِهِ بهذِهِ الغَيرَةِ ، فَحَمَلُوا عَلَى عَوَاتِقِهِم مُهِمَّةَ إِنكَارِ المُنكَرَاتِ ، وَاتَّصَفُوا بِالغَضَبِ لانتِهَاكِ الحُرُمَاتِ ، وَتَمَيَّزُوا بِتَمَعُّرِ الوُجُوهِ في ذَاتِ اللهِ ، وَللهِ دَرُّ أَصحَابِ الغَيرَةِ مَا أَكرَمَهُم وَمَا أَجَلَّ شَأنَهُم وَمَا أَعلَى هِمَّتَهُم ، حَيثُ كَانُوا سَمَاوِيِّينَ رَبَّانِيِّينَ ، عَلَى صِفَةٍ يَتَّصِفُ بها اللهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبَّانِهَا ؛ فَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ سَعدَ بنَ عُبَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : لَو رَأَيتُ رَجُلاً مَعَ امرَأَتي لَضَرَبتُهُ بِالسَّيفِ غَيرَ مُصْفَحٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " أَتَعجَبُونَ مِن غَيرَةِ سَعدٍ ؟ وَاللهِ لأَنَا أَغيَرُ مِنهُ ، وَاللهُ أَغيَرُ مِنِّي ، وَمِن أَجلِ غَيرَةِ اللهِ حَرَّمَ اللهُ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ " الحَدِيثَ .
وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَينَ أَمرَينِ قَطُّ إِلاَّ أَخَذَ أَيسَرَهُمَا مَا لم يَكُن إِثمًا ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ إِثمٌ كَانَ أَبعَدَ النَّاسِ مِنهُ ، وَمَا انتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِنَفسِهِ في شَيءٍ قَطُّ إِلاَّ أَن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ فَيَنتَقِمَ لهَِ ـ تَعَالى ـ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
إِنَّ عُلَمَاءَنَا وَدُعَاتِنَا وَالمُصلِحِينَ مِن أُمَّتِنَا حِينَ تَحمِلُهُم غَيرَتُهُم عَلَى الدِّينِ وَالأَعرَاضِ أَن يَذُبُّوا عَنهَا وَيُنَافِحُوا لِحِمَايَتِهَا ، وَأَن يُدَافِعُوا أَهلَ البَاطِلِ لِصِيَانَتِهَا وَوِقَايَتِهَا ، إِنَّمَا هُم في ذَلِكَ عَلَى الأَصلِ الأَصِيلِ ، مُقتَفُونَ لِلأَثَرِ مُتَّبِعُونَ لِلسُّنَنِ ، سَائِرُونَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ نَبِيُّهُم مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ، نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّهُ لَيسَ العَجَبُ مِمَّن تَشتَدُّ غَيرَتُهُ فَيُنكِرُ المُنكَرَ مُكَاتَبَةً أَو مُشَافَهَةً ، أَو يَجُولُ في الأَسوَاقِ وَيَغشَى المَجَامِعَ لِهَذَا الهَدَفِ النَّبِيلِ ، لا وَالهَِ مَا في ذَلِكَ مِن عَجَبٍ وَلا هُوَ بِمُستَنكَرٍ ، وَإِنَّمَا العَجَبُ الَّذِي لا يَنقَضِي ، إِنَّمَا هُوَ مِن قَومٍ نُزِعَتِ الغَيرَةُ مِن قُلُوبِهِم ، فَأَصبَحُوا لا يَعرِفُونَ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُونَ مُنكَرًا ، إِلاَّ مَا أُشرِبُوا مِن أَهوَائِهِم ، قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَمَا جَاهَدَ مُؤمِنٌ نَفسَهُ وَعَدُوَّهُ ، وَلا أَمرَ بِمَعرُوفٍ وَلا نَهَى عَنِ مُنكَرٍ إِلاَّ بهَذِهِ الغَيرَةِ ، وَمَتَى خَلَت مِنَ القَلبِ خَلا مِنَ الدِّينِ . انتَهَى كَلامُهُ .

إِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ، وَيَتَنَقَّصُون َ المُحتَسِبِينَ وَيُضَيِّقُونَ عَلَيهِم ، بَل وَصَلَ بهمُ الأَمرُ بَعدَ أَن ضَاقُوا بِأَصوَاتِهِم وَكِتَابَاتِهِم ، إِلى أَن يَتَّهِمُوهُم في وَلائِهِم ، ثُمَّ يُوقِفُوهُم وَيَسجُنُوهُم ، إِنَّ أُولَئِكَ لَهُمُ المَفتُونُونَ حَقًّا ، الَّذِينَ لا دِينًا يَحمِلُونَ ، وَلا مُرُوءَةً يُكِنُّونَ ، بَل هُم كَالبَهَائِمِ يَسِيرُونَ ، وَفي الشَّهَوَاتِ يَتَهَوَّكُونَ ، وَفي الرَّذَائِلِ يَرتَعُونَ ، وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ عَرضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ ، حَتَّى يَصِيرَ القَلبُ أَبيَضَ مِثلَ الصَّفَا لا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَالآخَرُ أَسوَدَ مُربَدًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا ، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ حُبَّ الخَيرِ لِلآخَرِينَ ، وَالَّذِي لا يَكمُلُ إِيمَانٌ إِلاَّ بِهِ ، إِنَّهُ لَمِنَ أَعظَمِ مَا دَفَعَ المُصلِحِينَ إِلى الإِصلاحِ ، حَيثُ جَعَلُوا نُصبَ أَعيُنِهِم قَولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا في الصَّحِيحَينِ : " لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ " وَقَولَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَمَا عِندَ مُسلِمٍ : " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لا يُؤمِنُ عَبدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفسِهِ "
وَلَقَد عَلِمَ المُصلِحُونَ بما عَلَّمَهُمُ اللهُ وَمَا فَهِمُوهُ مِن سُنَنِهِ ، أَنَّهُ لا بُدَّ مِن مُدَافَعَةِ أَهلِ البَاطِلِ وَالأَخذِ عَلَى أَيدِيهِم ، وَأَنْ لا سَبِيلَ لِحِفظِ الأُمَّةِ مِنَ الهَلاكِ إِلاَّ بِذَلِكَ ، وَإِلاَّ فَلْيَرقُبِ الجَمِيعُ الهَلاكَ صَالِحِينَ وَفَاسِدِينَ وَمُفسِدِينَ ، وَقَد جَاءَ ذَلِكَ في كِتَابِ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ، حَيثُ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاتَّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا في الصَّحِيحَينِ : " مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعضُهُم أَعلاهَا وَبَعضُهُم أَسفَلَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ في أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَن فَوقَهُم ، فَقَالُوَا لَو أَنَّا خَرَقنَا في نَصِيبِنَا خَرقًا وَلم نُؤذِ مَن فَوقَنَا ، فَإِن يَترُكُوهُم وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِن أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِم نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا "
وَعَن أَبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّكُم تَقرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم وَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ " رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ " وَلا تَركَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ "




الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَكَمَا أَنَّ التَّقوَى وَخَوفَ اللهِ وَالغَيرَةَ تَدفَعُ المُصلِحِينَ إِلى الإِصلاحِ ، فَإِنَّ قِلَّةَ الدِّيَانَةِ وَضَعفَ الأَمَانَةِ ، وَعَدَمَ إِرَادَةِ الخَيرِ بِالأُمَّةِ وَلا الإِحسَاسَ بِالمَسؤُولِيَّ ةِ ، إِنَّهَا لَمِمَّا يَحمِلُ كَثِيرًا مِنَ المُنَافِقِينَ المُفسِدِينَ وَالفَسَقَةِ الضَّالِّينَ عَلَى تَخَبُّطِهِم وَسَعيِهِم في طُرُقِ الإِفسَادِ وَاتِّبَاعِهِم سُبُلَ الإِضلالِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الشَّقَاءِ أَن يُعرِضَ أُولَئِكَ عَنِ الحَقِّ مَعَ مَا تَوَفَّرَ لهم مِن عِلمٍ مَبسُوطٍ في الكُتُبِ وَفَتَاوَى العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ " وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا . وَإِذًا لآتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا . وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا " لَكِنَّهُم لَمَّا لم يَستَسلِمُوا لِرَبِّهِم وَيَنقَادُوا لأَمرِهِ وَنَهيِهِ ، وَضَرَبُوا بِعُرضِ الحَائِطِ فَتَاوَى العُلَمَاءِ وَمَا بُنِيَ عَلَيهَا مِن أَوَامِرِ وُلاةِ الأَمرِ ، إِذْ ذَاكَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا يَأتُونَهُ مِن مُنكَرَاتٍ ، وَحَبَّبَ إِلَيهِمُ الاختِلاطَ وَانكِشَافَ العَورَاتِ ، فَحَقَّ فِيهِم قَولُ اللهِ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ الَّذِينَ ارتَدُّوا عَلَى أَدبَارِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيطَانُ سَوَّلَ لَهُم وَأَملَى لَهُم "
كَمَا أَنَّ المَيلَ إِلى الشَّهَوَاتِ وَحُبَّ المَلَذَّاتِ ، وَتَقدِيمَ الفَاني عَلَى البَاقي ، وَالرِّضَا بِالدُّنيَا مِنَ الآخِرَةِ ، مِن أَعظَمِ أَسبَابِ سَعيِ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ في الفَسَادِ وَالإِفسَادِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَالهُو يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيمًا "
وَأَمَّا دَعوَى المَدَنِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ ، فَإِنَّهَا مِن أَتَفَهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَؤُلاءِ الحَمقَى المَأفُونِينَ ، وَإِنَّ المُؤمِنَ العَاقِلَ لَيَتَسَاءَلُ : وَأَيُّ مَدَنِيَّةٍ وَتَقَدُّمٍ حِينَ تَقُودُ المَرأَةُ السَّيَّارَةَ فَيَضِيعَ عِرضُهَا وَيُهتَكَ شَرَفُهَا وَيَفسُدَ خُلُقُهَا ؟
أَيُّ تَقَدُّمٍ وَمَدَنِيَّةٍ حِينَ تَختَلِطُ المَرأَةُ بِالرِّجَالِ في الشَّارِعِ وَالسُّوقِ وَالمُستَشفَى ، أَو في المَكتَبِ وَالمَصنَعِ وَالمَدرَسَةِ وَالجَامِعَةِ ؟
وَمَاذَا جَنى مَن فَعَلَ ذَلِكَ قَبلَنَا إِلاَّ تَحَرُّشَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ ، وَكَثرَةِ حَملِ السِّفَاحِ وَأَولادِ الزِّنَا ؟
إِنَّ دِينَنَا وَهُوَ الشَّرعُ الكَامِلُ ، لَهُوَ دِينُ السِّيَاسَةِ وَالاقتِصَادِ ، وَدِينُ الفَردِ وَالمُجتَمَعِ ، وَدِينُ التَّقَدُّمِ وَالرُّقِيِّ وَالحَضَارَةِ ، لَكِنَّ هَؤُلاءِ يَستَبدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدنى بِالَّذِي هُوَ خَيرٌ ، وَيَترُكُونَ شَرعَ اللهِ وَرَاءَهُم ظِهِريًّا طَلَبًا لِلشُّهرَةِ أَو حُبًّا لِلظُّهُورِ ، وَقَد يَكُونُ مِن أَهدَافِهِم نَيلُ عَرَضٍ مِن أَعرَاضِ الدُّنيَا قَلِيلٍ ، بِتَوَلِّي مَنصِبٍ أَو تَحصِيلِ مَالٍ ، أو التَّمَكُّنُ والحُضوَةُ عِندَ أَسيَادِهِم وَالتَّقَرُّبُ إِلى مَوَالِيهِم ، الَّذِينَ سَيَتَبَرَّؤُون َ مِنهُم يَومًا مَا ، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ قَالَ : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَو يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَونَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ . إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَت بِهِمُ الأَسبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَو أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعمَالَهُم حَسَرَاتٍ عَلَيهِم وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار "

أَلا فَقَاتَلَهُمُ اللهُ وَأَبعَدَهُم وأَخزَاهُم ، مَا أَضَلَّ في الدُّنيَا سَعيَهُم ! وَمَا أَقَلَّ في الآخِرَةِ حَظَّهُم ! " يُرِيدُونَ أَن يُطفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَيَأبى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ "

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَلنَضَعْ أَيدِيَنَا بِأَيدِي إِخوَانِنَا مِنَ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالمُصلِحِينَ وَالمُحتَسِبِين َ ، وَلْنَحذَرْ مِن خِذلانِهِم ، فَإِنَّ العُقُوبَةَ إِذَا وَقَعَت عَمَّت ، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ مَن أَسبَابِ رَحمَةِ اللهِ لِلأُمَّةِ ، وَهُوَ سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَقُوَّتِهَا ، وَأَهلُهُ هُم المَوعُودُونَ بِرِضَا اللهِ وَالفَوزِ بِجَنَّاتِهِ ، وَمِن أَفضَلِ الجِهَادِ المَأمُورِ بِهِ جِهَادُ المُنَافِقِينَ وَالمُفسِدِينَ ، وَفضحُ خُطَطِهِم وَتَوضِيحُ سُبُلِهِمُ المُلتَوِيَةِ لِلنَّاسِ لِيَحذَرُوهُم ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . وَعَدَ اللهُ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدنٍ وَرِضوَانٌ مِنَ اللهِ أَكبَرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيم "
ثم قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ بَعدَ ذَلِكَ : " يَا أَيُّهَا النَّبيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِين َ وَاغلُظْ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ "

ناصرعبدالرحمن 29-07-2011 10:00 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
رمضان قد حضركم 28 / 8 / 1432



الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَومَانِ في عِلمِ اللهِ أَو ثَلاثَةٌ ، وَيَكُونُ المُسلِمُونَ في شَهرِ رَمَضَانَ ، ويُعَانِقُونَ بِأَفئِدَتِهِم شَهرَ الصِّيَامِ وَالقُرآنِ ، وَتَحضُرُهُم أَيَّامُ التَّبَتُّلِ وَالتَّعَبُّدِ وَالدُّعَاءِ ، وَتَتَوَالى بَينَ أَيدِيهِم لَيَالي القِيَامِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرَّجَاءِ .
إِنَّهُ المَوسِمُ الَّذِي يَعظُمُ فِيهِ أَمَلُ المُسلِمِينَ بِرَبِّهِم ، فَيَحفَظُونَ جَوَارِحَهُم بِإِقبَالِهِم عَلَى أَنوَاعِ البِرِّ وَالطَّاعَاتِ ، وَيَصُونُونَ حَوَاسَّهُم بالتَّخَفُّفِ مِنَ الأَوزَارِ وَالسَّيِّئَاتِ ، فَلَيتَ شِعرِي مَنِ المُدرِكُ لِذَلِكَ الشَّهرِ العَظِيمِ فَيُهَنَّأَ ؟
وَمَن المُوَفَّقُ فِيهِ لأَفضَلِ الأَعمَالِ وَأَزكَاهَا فَيُبَارَكَ لَهُ ؟
إِنَّ التَّوفِيقَ لِلعَمَلِ الصَّالحِ في شَهرِ رَمَضَانَ ، وَتَسدِيدَ العَبدِ فِيهِ وَفي غَيرِهِ مِنَ المَوَاسِمِ ، لَيسَ مُعَادَلَةً صَعبَةً وَلا أُمنِيَّةً مُستَحِيلَةً ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيَجعَلَ عَلَى عِبَادِهِ في دِينِهِم حَرَجًا وَلا يُكَلِّفَهُم مِن أَمرِهِم عُسرًا ، بَل إِنَّ هَذَا الدِّينَ العَظِيمَ في أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلاتِهِ ، قَائِمٌ عَلَى التَّيسِيرِ مَبنيٌّ عَلَى الرِّفقِ , مَحفُوفٌ بِالرَّحمَةِ مُزَيَّنٌ بِالعَفوِ , مُجَمَّلٌ بِالغُفرَانِ بَعِيدٌ عَنِ الحَرَجِ , مُنَافٍ لِلعَنَتِ مُنَاقِضٌ لِلمَشَقَّةِ ، التَّيسِيرُ مَقصِدٌ أَسَاسِيٌّ مِن مَقَاصِدِهِ , وَرَفعُ الحَرَجِ سِمَةٌ ظَاهِرَةٌ مِن سِمَاتِهِ ، كِتَابُهُ يُسرٌ وَذِكرَى ، وَآيَاتُهُ رَحمَةٌ وَبُشرَى ، وَنَبِيُّهُ مُبَشِّرٌ وَمُيَسِّرٌ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُدَّكِرٍ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " فَإِنَّمَا يَسَّرنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ "
وَالمُتَأَمِّلُ في عِبَادَاتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَخلاقِهِ وَأَقوَالِهِ وَأَفعَالِهِ ، يَجِدُهَا مُعَطَّرَةً بِأَرِيجِ اليُسرِ مُطَيَبَّةً بِشَذَا الرِّفقِ , يُبَشِّرُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أُمَّتَهُ بِاليُسرِ فَيَقُولُ : " إِنَّكُم أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ اليُسرُ " أَخرَجَهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَيُبَيِّنُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي اختَارَهُ اللهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ هُوَ دِينُ اليُسرِ وَالسُّهُولَةِ فَيَقُولُ : " إِنَّ خَيرَ دِينِكُم أَيسَرُهُ , إِنَّ خَيرَ دِينِكُم أَيسَرُهُ " أَخرَجَهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَيَقُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ الدِّينَ يُسرٌ ، وَلَن يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبشِرُوا ، وَاستَعِينُوا بِالغَدوَةِ وَالرَّوحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلجَةِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .

عِبَادَ اللهِ ، لَيسَ الانتِظَامُ في سِلكِ العَابِدِينَ صَعبًا وَلا مُستَحِيلاً ، وَمَا التَّشَبُّهُ بِالزَّاهِدِينَ طَرِيقًا وَعرًا وَلا طَوِيلاً ، وَإِنَّمَا يَكفِي العَبدَ مِن بِدَايَةِ شَهرِهِ إِخلاصٌ وَنِيَّةٌ حَسَنَةٌ ، يَتبَعُهَا عَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ وَتَوَكُّلٌ عَلَى اللهِ ، ثُمَّ تَحَرٍّ لِلخَيرِ وَتَقَرُّبٌ ، وَسَيرٌ إِلى الأَمَامِ وَعَدَمُ التِفَاتٍ أَو تَقَهقُرٍ ، مَعَ حِرصٍ عَلَى الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ ، وَبَدءٍ بِالأُصُولِ وَالمُهِمَّاتِ ، وَبَعدَ ذَلِكَ سَيَجِدُ العَبدُ أَنَّ رَبَّهُ مَعَهُ يُؤَيِّدُهُ وَيَنصُرُهُ ، وَيُعِينُهُ وَيُصَبِّرُهُ ، وَسَيَرَى الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ تَأتي إِلَيهِ مُنقَادَةً مُتَتَابِعَةً ، آخِذًا بَعضُهَا بِرِقَابِ بَعضٍ ، ذَلِكَ أَنَّ فِعلَ الفَرَائِضِ وَحِفظَ الوَاجِبَاتِ ، يَهدِي بِهِ اللهُ لِفِعلِ المَندُوبَاتِ ، وَيُوَفِّقُ بِبَرَكَتِهِ لِلتَّزَوُّدِ مِنَ المُستَحَبَّاتُ ، وَالحَسَنَةُ تَدعُو لِلحَسَنَةِ ، وَالبِرُّ يَدفَعُ لِلبِرِّ " وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ ، وَمَن يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ " قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالحُسنى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى " وقَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَني ، فَإِنْ ذَكَرَني في نَفسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفسِي ، وَإِنْ ذَكَرَني في مَلإٍ ذَكَرتُهُ في مَلإٍ خَيرٍ مِنهُم ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِليَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَاني يَمشِي أَتَيتُهُ هَرَوَلَةً " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ التَّعَامُلَ مَعَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ في مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ وَأَوقَاتِ العِبَادَاتِ ، لا يَحتَاجُ مِنَ العَبدِ إِلاَّ أَن يَنطَلِقَ في ذَلِكَ الطَّرِيقِ المَهْيَعِ وَالبَحرِ المُتَنَوِّعِ ، فَيَأخُذَ مِنَ العِبَادَاتِ مَا يُطِيقُ ، وَيَكلَفَ مِنَ الطَّاعَاتِ مَا يَستَطِيعُ ، وَيَجِدَّ وَيَجتَهِدَ وَيَصبِرَ وَيُصابِرَ ويُرَابِطَ ، فَمَا يَشعُرُ إِلاَّ وَقَد أَلِفَت نَفسُهُ الخَيرَ وَاعتَادَتِ البِرَّ ، فَكَسِبَ مَا لم يَكسَبْهُ المُتَكَاسِلُون َ ، وَفَازَ بمَا لم يَفُزْ بِهِ المُفَرِّطُونَ ، وَأَمَّا مَا قَد يَجِدُهُ في أَوَّلِ الطَّرِيقِ أو في أَثنَائِهِ مِن أَلَمٍ أو تَعَبٍ أَو نَصَبٍ ، فَسَيَذهَبُ وَلا شَكَّ وَيَنتَهِي ، وَسَتَبقَى في النَّفسِ بَعدَهُ لَذَّةٌ لا تَعدِلُهَا لَذَّةٌ ، في حِينِ يَشعُرُ المُفرِّطُ بِحَسرَةٍ مَا بَعدَهَا حَسرَةٌ ، وَالنَّتِيجَةُ الكُبرَى يَومَ يُبعَثُ الخَلقُ وَيَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ ، فَتَجِدُ كُلُّ نَفسٍ مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ مُحضَرًا ، وَمَا عَمِلَت مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا .
غَيرَ أَنَّ ثَمَّةَ عِلَّةً عَظِيمةً وَسَبَبًا كَبِيرًا مِمَّا يُثَبِّطُ العَزَائِمَ عَنِ الخَيرِ ، وَيُخذَلُ بِهِ العَبدُ عَنِ الطَّاعَةِ ، وَيُحَالُ بِشُؤمِهِ بَينَهُ وَبَينَ البِرِّ ، ويُقَيِّدُهُ عَنِ اللَّحَاقِ بِالرَّكبِ وَيُحرَمُ بِسَبَبِهِ التَّوفِيقَ ، وَمَعَ هَذَا فَقَد لا يَتَنَبَّهُ لَهَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في هَذَا الزَّمَانِ ، ذَلِكُم هُوَ تَنَاوُلُ الحَرَامِ أَكلاً وَشُربًا وَمُشَاهَدَةً وَاستِمَاعًا ، وَالتَّعَامُلُ بِهِ أَخذًا وَعَطَاءً وَبَيعًا وَشِرَاءً ، فَفِي الحِينِ الَّذِي تَجِدُ مِنَ النَّاسِ التَّسَاهُلَ بِفِعلِ المُحَرَّمَاتِ وَالوُقُوعَ المُتَكَرِّرَ في حِمَى المُشتَبَهَاتِ ، تَرَاهُم يَستَنكِرُونَ أَن تَثقُلَ عَلَيهِمُ الطَّاعَاتُ وَلا تُقبِلُ نُفُوسُهُم عَلَى القُرُبَاتِ ، وَتاللهِ مَا ذَاكَ لَدَى المُؤمِنِينَ بِمُستَنكَرٍ ، وَلا هُوَ لَدَى أَصحَابِ القُلُوبِ الحَيَّةِ بِمُستَغرَبٍ ، وَأَنَّى لِمَن تُحِيطُ بِهِ المُحَرَّمَاتُ مِن كُلِّ جَانِبٍ وَيَتَنَاوَلُهَ ا صَبَاحًا وَمَسَاءً ، أَنىَّ لَهُ أَن يُهدَى لِمَا هُدِيَ إِلَيهِ عِبَادُ اللهِ الصَّالِحُونَ القَانِتُونَ ، وَكَيفَ تَنبَعِثُ نَفسُهُ كَمَا انبَعَثَت نُفُوسُ الرَّاجِينَ الخَائِفِينَ ؟! لا وَاللهِ لا يَكُونُ ذَلِكَ وَهَيهَاتَ هَيهَاتَ ، فَيَا أُمَّةَ الإِسلامِ ، طَهِّرُوا نُفُوسَكُم وَبُيُوتَكُم قَبلَ دُخُولِ الشَّهرِ الكَرِيمِ ، وَأَزِيلُوا مِن طَرِيقِكُم كُلَّ مَانِعٍ وَقَاطِعٍ ، تَخَلَّصُوا مِنَ المُشغِلاتِ وَالمُلهِيَاتِ ، وَنَظِّفُوا أَيدِيَكُم مِمَّا لا يَحِلُّ لَكُم وَاتَّقُوا الشُّبُهَاتِ ، تُوبُوا إِلى اللهِ تَوبَةً نَصُوحًا ، فَإِنَّ طَاعَةَ اللهِ ـ تَعَالى ـ شَرَفٌ كَبِيرٌ , وَالوُقُوفَ بَينَ يَدَيهِ ـ سُبحَانَهُ ـ مَنقَبَةٌ عَظِيمَةٌ , وَاغتِنَامَ مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ تَوفِيقٌ كَبِيرٌ , وَإِنَّ اللهَ لا يَهَبُ طَاعَتَهُ وَلا يَأذَنُ لأَحَدٍ بِالقُربِ مِنهُ إِلاَّ لِمَنِ أَحَبَّهُ وَرَضِيَ عَنهُ . كَم تَرَونَ في رَمَضَانَ مِن كُلِّ عَامٍ مِن طَائِعِينَ مُقبِلِينَ ، هَذَا يُكثِرُ مِنَ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ , وَذَاكَ يَحبِسُ نَفسَهُ في المَسجِدِ لِتِلاوَةِ القُرآنِ , وَآخَرُ يُتَابِعُ أَعمَالَ الخَيرِ وَيَرعَى مَشرُوعَاتِ البِرَّ ، فَيُجَهِّزُ مَوَائِدَ التَّفطِيرِ لِلصَّائِمِينَ ، وَيُعِينُ الفُقَرَاءَ وَالمَسَاكِينَ ، وَيُسَاعِدُ الضُّعَفَاءَ وَالمُحتَاجِينَ , وَذَاكَ في أَعمَالِ دَعوَةٍ وَتَوعِيَةٍ لا تَكَادُ تَنقَطِعُ ! وَكَم تَرَونَ في المُقَابِلِ مَن لَيلُهُم سَهرٌ طَوِيلٌ فِيمَا لا يَنفَعُهُم ، وَنَهَارُهُم نَومٌ عَمِيقٌ عَمَّا يُقَرِّبُهُم ، وُجُوهُهُم عَابِسَةٌ ، وَصُدُورُهُم ضَائِقَةٌ ، وَنُفُوسُهُم بِالخَيرِ شَحِيحَةٌ ، وَأَيدِيهِم عَنِ البَذلِ مُمسِكَةٌ مَقبُوضَةٌ ، فَمَنِ الَّذِي قَرَّبَ قَومًا وَهَيَّأَ لهمُ الفُرَصَ وَوَفَّقَهُم لاغتِنَامِهَا ، وَخَذَلَ آخَرِينَ لِيُمضُوا شَهرَهُم بَينَ لَعِبٍ وَبَطَالَةٍ ؟ إِنَّهُ اللهُ مُوَفِّقُ المُقبِلِينَ المُخبِتِينَ ، وَخَاذِلُ المُعرِضِينَ المُستَنكِفِينَ ، مَن تَعَامَلَ مَعَهُ قَبِلَهُ وَرَضِيَهُ ، وَمَن أَعرَضَ عَنهُ رَدَّهُ ونَسِيَهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقوَاهُم "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ لا يَرجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالحَيَاةِ الدُّنيَا وَاطمَأَنُّوا بها وَالَّذِينَ هُم عَن آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأوَاهُمُ النَّارُ بما كَانُوا يَكسِبُونَ . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهدِيهِم رَبُّهُم بِإِيمَانِهِم تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهَارُ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ . دَعوَاهُم فِيهَا سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُم فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعوَاهُم أَنِ الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ مِن أَكبَرِ أَسبَابِ التَّوفِيقِ في الشَّهرِ الكَرِيمِ وَفي غَيرِهِ مِن مَوَاسِمِ الخَيرِ ، أَن يَحرِصَ العَبدُ أَوَّلَ مَا يَحرِصُ عَلَى المُحَافَظَةِ عَلَى الفَرَائِضِ وَالابتِعَادِ عَنِ المُحَرَّمَاتِ ، وَآكَدُ مَا يَجِبُ عَلَى المُسلِمِ في رَمَضَانَ وَغَيرِهِ الصَّلَوَاتُ الخَمسُ ، الَّتي أَوجَبَ اللهُ أَدَاءَهَا مَعَ الجَمَاعَةِ في المَسَاجِدِ ، فَمَن أَرَادَ تَوفِيقًا لِلخَيرِ في شَهرِ رَمَضَانَ ، فَلْيَقطَعْ عَلَى نَفسِهِ عَهدًا بِالمُحَافَظَةِ عَلَيهَا جَمَاعَةً مِن أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن لَيَالي رَمَضَانَ ، وَلْيُحَاسِبْ نَفسَهُ في ذَلِكَ مُحَاسَبَةً دَقِيقَةً ، فَوَاللهِ إِنَّهَا لَمِيزَانٌ كَبِيرٌ وَمِقيَاسٌ دَقِيقٌ لِلفَوزِ أَوِ الخَسَارَةِ ، مَن حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيهَا حَفِظَ دِينَهُ ، وَمَن ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضيَعُ .
وَبَعدَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ لَلمَرءِ عَزِيمَةٌ عَلَى الإِكثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ، وَلْيَأخُذْ بِحَظِّهِ مِن صَلاةِ التَّرَوايِحِ مَعَ الجَمَاعَةِ وَلْيَحذَرِ التَّكَاسُلَ ، وَلْيَعزِمْ عَلَى خَتمِ القُرآنِ وَتَأَمُّلِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَالانتِفَاعِ بِعِظَاتِهِ ، وَلْيَتَذَكَّرْ أَنَّ رَمَضَانَ أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ ، وَأَنَّ عُمرَةً في رَمَضَانَ تَعدِلُ حَجَّةً ، وَمَن فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثلُ أَجرِهِ ، وَأَنَّ " مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ "

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لما وَفَّقتَ إِلَيهِ عِبَادَكَ الصَّالحِينَ ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَينَا , وَانصُرْنَا وَلا تَنصُرْ عَلَينَا , وَامكُرْ لَنَا وَلا تَمكُرْ عَلَينَا , وَاهدِنَا وَيَسِّرْ هُدَانَا إِلَينَا .

ناصرعبدالرحمن 05-08-2011 05:10 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

رمضان ولذة العبادة 5 / 9 / 1432


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، شَهرُ رَمَضَانَ المُبَارَكِ ، الَّذِي كَانَ وَمَا زَالَ لَدَى الصَّالحِينَ فُرصَةً ثَمِينَةً لِلتَعَامُلِ مَعَ اللهِ ، وَسُوقًا رَابِحَةً لِلمُتَاجَرَةِ مَعَ الغَنيِّ الكَرِيمِ ـ سُبحَانَهُ ـ أَصبَحَ لَدَى بَعضِ المُسلِمِينَ اليَومَ كَغَيرِهِ مِن أَيَّامِ العَامِ ، يَمُرُّ مُرُورَ الكِرَامِ وَلم يَتَزَوَّدُوا مِنهُ لآخِرَتِهِم شَيئًا ، وَتَتَصَرَّمُ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ وَهُم في لَهوٍ وَسَهوٍ وَغَفلَةٍ .
عِندَمَا يَدخُلُ رَمَضَانُ يَتَبَادَلُ النَّاسُ المُكَالَمَاتِ وَالرَّسَائِلَ مُهَنِّئِينَ بَعضَهُم بِدُخُولِهِ ، وَلا تَمَلُّ أَلسِنَتُهُم مِنَ اللَّهَجِ بِالشُّكرِ لِلمَولى إِذْ بَلَّغَهُم إِيَّاهُ ، فَإِذَا تَأَمَّلتَ الوَاقِعَ لم تَجِدْ لِذَاكَ الشُّكرِ القَوليِّ مِنَ الشُّكرِ العَمَليِّ نَصِيبًا كَافِيًا ، إِذْ تَرَى نَومًا عَنِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَةِ ، وَتَركًا لِلسُّنَّنِ الرَّوَاتِبِ وَزُهدًا في النَّوَافِلِ ، وَإِحجَامًا عَنِ القِيَامِ مَعَ المُسلِمِينَ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ ، وَغَفلَةً شَنِيعَةً عَنِ الدُّعَاءِ وَهَجرًا طَوِيلاً لِلقُرآنِ ، وَقَبضًا لِلأَيدِي عَنِ الإِنفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ ، وَغَفلَةً عَن قَضَاءِ الحَاجَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ . فَهَل هَذِهِ هِيَ حَالُ الشَّاكِرِينَ المُدرِكِينَ لأَهَمِّيَّةِ بُلُوغِ هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ ؟
تَعَالَوا لِنَقرَأَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى تَوَرَّمَت قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تَصنَعُ هَذَا وَقَد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : " أَفَلا أَكُونُ عَبدًا شَكُورًا ؟ "
أَرَأَيتُم كَيفِيَّةَ الشُّكرِ الحَقِيقِيِّ ؟ أَعَرَفتُم حَقِيقَتَهُ لَدَى مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِنَّهَا لَيسَت مُجَرَّدَ دَعَاوَى لِسَانٍ أَو حُرُوفٍ تُرَدِّدُهَا شَفَتَانِ ، بَل قِيَامٌ طَوِيلٌ وَقُنُوتٌ ، وَتَبَتُّلٌ وَرُكُوعٌ وَسُجُودٌ ، وَقِرَاءَةٌ وَذِكرٌ وَدُعَاءٌ ، وَتَعَبٌ في طَاعَةِ اللهِ وَنَصَبٌ ، يَصِفُ تِلكَ العِبَادَةَ الثَّقِيلَةَ حُذَيفَةُ بنُ اليَمَانِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ فَيَقُولُ : صَلَّيتُ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ذَاتَ لَيلَةٍ فَافتَتَحَ البَقَرَةَ ، فَقُلتُ يَركَعُ عِندَ المِئَةِ ثُمَّ مَضَى ، فَقُلتُ يُصَلِّي بها في رَكعَةٍ فَمَضَى ، فَقُلتُ يَركَعُ بها ، ثُمَّ افتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ، ثُمَّ افتَتَحَ آلَ عِمرَانَ فَقَرَأَهَا ، يَقرَأُ مُتَرَسِّلاً ، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسبِيحٌ سَبَّحَ ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ : سُبحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ ، فَكَانَ رُكُوُعُهُ نَحوًا مِن قِيَامِهِ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَهُ ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلاً قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ : سُبحَانَ رَبِّيَ الأَعلَى ، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِن قِيَامِهِ . رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : صَلَّيتُ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَيلَةً ، فَلَم يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمتُ بِأَمرِ سُوءٍ . قُلنَا : وَمَا هَمَمتَ ؟ قَالَ : هَمَمتُ أَن أَقعُدَ وَأَذَرَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَوَاهُ البُخَارِيُّ . هَكَذَا كَانَ حَالُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في شُكرِهِ لِرَبِّهِ :
يَبِيتُ يُجَافي جَنبَهُ عَن فِرَاشِهِ
إِذَا استَثقَلَت بِالمُشرِكِينَ المَضَاجِعُ
فَمَا الَّذِي وَجَدَهُ رَسُولُ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَتَّى بَلَغَ بِهِ طُولُ القِيَامِ ذَلِكَ المَبلَغَ ، وَفَقَدنَاهُ نَحنُ حَتَّى لا يَكَادُ بَعضُنَا يُصَلِّي الفَرِيضَةَ ، وَحَتَّى صَارَ هَمُّنَا التَّسَابُقَ في تَخفِيفِ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ وَالخُرُوجَ مِنَ المَسَاجِدِ قَبلَ غَيرِنَا ؟!

لَقَدِ افتَقَدنَا لَذَّةَ الطَّاعَةِ وَلم نَجِدْ حَلاوَةَ المُنَاجَاةِ ، وَحُرِمنَا أُنسَ الخَلوَةِ بِاللهِ وَلم نَذُقْ سَعَادَةَ العَيشِ في مَرضَاتِهِ ، وَهِيَ الأُمُورُ الَّتي وَجَدَهَا مُحَمَّدُ بنُ عَبدِاللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَذَاقَهَا سَائِرُ العَابِدِينَ الزَّاهِدِينَ ، فَصَارُوا لا يَألُونَ جُهدًا في عِبَادَةِ رَبِّهِم وَلا يَمَلُّونَ مِن طَاعَتِهِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لِلعِبَادَةِ لَذَّةً لا تَعدِلُهَا لَذَّةٌ ، وَإِنَّ لِلطَّاعَةِ حَلاوَةً لا تُشبِهُهَا حَلاوَةٌ ، مَن وَجَدَهُمَا وَجَدَ في نَفسِهِ سَكِينَةً وَأَحَسَّ في قَلبِهِ بِطُمَأنِينَةٍ ، وَلَقِيَ في رُوحِهِ خِفَّةً وَشَعَرَ في صَدرِهِ بِسَعَادَةٍ ، إِنَّهَا لَذَّةٌ تَفِيضُ عَلَى النَّفسِ فَتَزدَادُ مَحَبَّةً لِلعِبَادَةِ ، وَحَلاوَةٌ تَغمُرُ القَلبَ فَيَمتَلِئُ فَرَحًا بِالطَّاعَةِ وَطَرَبًا لها ، ثُمَّ لا يَزَالُ المَرءُ يَزدَادُ مِنهُمَا حَتَّى لا يَرَى لِعَينِهِ قُرَّةً وَلا لِنَفسِهِ رَاحَةً وَلا لِقَلبِهِ هُدُوءًا إِلاَّ فِيهَا ، كَمَا قَالَ إِمَامُ المُتَعَبِّدِين َ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " حُبِّبَ إِليَّ مِن دُنيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمَونُ ـ لَقَد كَانَتِ العِبَادَةُ هِيَ مُنتَهَى سَعَادَتِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَغَايَةَ لَذَّتِهِ ، فِيهَا يَجِدُ رَاحَةَ نَفسِهِ ، وَبهَا يَطمَئِنُّ قَلبُهُ ، فَكَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمرٌ أَو أَصَابَهُ ضِيقٌ أَو أَرهَقَهُ عَمَلٌ ، نَادَى بِلالاً فَقَالَ : " يَا بِلالُ ، أَقِمِ الَّصَلاةَ أَرِحْنَا بها " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد جَاهَدَ المُوَفَّقُونَ أَنفُسَهُم عَلَى العِبَادَاتِ ، وَصَبَرُوا وَصَابَرُوا في مَيَادِينِ الطَّاعَاتِ ، وَرَابَطُوا وَثَابَرُوا عَلَى القُرُبَاتِ ، حَتَّى ذَاقُوا حَلاوَتَهَا وَوَجَدُوا لَذَّتَهَا ، فَمَا زَالُوا بَعدَ ذَلِكَ يَطلُبُونَ المَزِيدَ مِنَ اللَّذَّةِ بِزِيَادَةِ الطَّاعَةِ ، وَكُلَّمَا ازدَادَت عِبَادَتُهُم زَادَت لَذَّتُهُم ، فَاجتَهَدُوا في العِبَادَةِ لِيَزدَادُوا لَذَّةً إِلى لَذَّتِهِم . قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إِنَّ في الدُّنيَا جَنَّةً مَن لم يَدخُلْهَا لم يَدخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةِ . إِنَّهَا الجَنَّةُ الَّتي تُنسِي صَاحِبَهَا هُمُومَ الحَيَاةِ وَمَشَاقَّهَا ، بَل تُنسِيهِ تَعَبَ العِبَادَةِ وَنَصَبَهَا ، وَتُذهِبُ عَنهُ الكَلالَةَ وَالمَلَلَ ، بَلْ وَتُنسِيهِ الجُوعَ وَالظَّمَأَ ، فَتُغنِيهِ عَنِ الطَّعَامِ وَتُعَوِّضُهُ عَنِ الشَّرَابِ ، لَقَد ذَاقَهَا مُحَمَّدٌ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَجَعَلَ يُوَاصِلُ صِيَامَ اليَومَينِ وَالثَّلاثَةِ في رَمَضَانَ ، لا يَأكُلُ طَعَامًا وَلا يَشتَهِي شَرَابًا ، وَلَمَّا قِيَلَ لَهُ : إِنَّكَ تُوَاصِلُ . قَالَ : " إِنِّي أَبِيتُ يُطعِمُني رَبِّي وَيَسقِيني " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : المُرَادُ مَا يُغَذِّيهِ اللهَ بِهِ مِن مَعَارِفِهِ ، وَمَا يَفِيضُ عَلَى قَلبِهِ مِن لَذَّةِ مُنَاجَاتِهِ وَقُرَّةِ عَينِهِ بِقُربِهِ ، وَتَنَعُّمُهُ بِحُبِّهِ وَالشَّوقِ إِلَيهِ ، وَتَوَابِعُ ذَلِكَ مِنَ الأَحوَالِ الَّتي هِيَ غِذَاءُ القُلُوبِ وَنَعِيمُ الأَروَاحِ ، وَقُرَّةُ العَينِ وَبَهجَةُ النُّفُوسِ وَالرُّوحِ وَالقَلبِ ، بما هُوَ أَعظَمُ غِذَاءٍ وَأَجوَدُهُ وَأَنفَعُهُ ، وَقَد يَقوَى هَذَا الغِذَاءُ حَتَّى يُغنيَ عَن غِذَاءِ الأَجسَامِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ . انتَهَى كَلامُهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، هَل وَجَدَ لَذَّةَ العِبَادَةِ مَن نَامَ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ في رَمَضَانَ ؟
هَل وَجَدَ لَذَّةَ الطَّاعَةِ مَن لا يَقُومُ حَتَّى يَسمَعَ الإِقَامَةَ لِلِصَّلاةِ ؟
هَل وَجَدَهَا مَن يَتَمَلمَلُ في المَسجِدِ وَكَأَنَّهُ عُصفُورٌ في قَفَصٍ ؟
هَل وَجَدَهَا مَن إِذَا زَادَ الإِمَامُ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ دَقَائِقَ عَنِ المَسَاجِدِ الأُخرَى انسَحَبَ وَخَرَجَ ؟
هَل وَجَدَ لَذَّةَ المُنَاجَاةِ مَن يَستَثقِلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ؟
هَل أَحَسَّ بِطَعمِ العِبَادَةِ مَن لا يَختِمُ كِتَابَ اللهِ في شَهرِ رَمَضَانَ وَلَو مَرَّةً وَاحِدَةً ؟
إِنَّ الجَنَّةَ غَالِيَةُ الثَّمَنِ ، وَطَرِيقُهَا مَحفُوفَةٌ بِمَكَارِهِ النُّفُوسِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَن خَافَ أَدلَجَ ، وَمَن أَدلَجَ بَلَغَ المَنزِلَ ، أَلا إِنَّ سِلعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ ، أَلا إِنَّ سِلعَةَ اللهِ الجَنَّةُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ، وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاسلُكُوا سَبِيلَ المُوَفَّقِينَ ، وَابذُلُوا الأَسبَابَ الَّتي تُكسِبُكُم لَذَّةَ العِبَادَةِ ، جَاهِدُوا النُّفُوسَ وَعَوِّدُوهَا الطَّاعَةَ ؛ فَقَد قَالَ رَبُّكُم ـ تَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " تَدَرَّجُوا في الطَّاعَةِ شَيئًا فَشَيئًا حَتَّى تَألَفُوهَا وَتُحِبُّوهَا ، اِصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ، فَإِنَّ هَذِهِ سَبِيلُ الفَلاحِ ، وَقَد قَالَ مَولاكُم ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ " وَاعلَمُوا أَنَّ التَّعَبَ وَمَا قَد يَعتَرِي العَابِدَ مِن مَلَلٍ وَكَلالَةٍ ، إِنَّمَا يَكُونُ في البِدَايَةِ ، ثُمَّ تَأتي اللَّذَّةُ بَعدَ ذَلِكَ ، قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : السَّالِكُ في أَوَّلِ الأَمرِ يَجِدُ تَعَبَ التَّكَالِيفِ وَمَشَقَّةَ العَمَلِ لِعَدَمِ أُنسِ قَلبِهِ بِمَعبُودِهِ ، فَإِذَا حَصَلَ لِلقَلبِ رُوحُ الأُنسِ زَالَت عَنهُ تِلكَ التَّكَالِيَفُ وَالمَشَاقُّ ، فَصَارَت قُرَّةَ عَينٍ لَهُ وَقُوَّةً وَلَذَّةً . انتَهَى كَلامُهُ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا أُولَئِكَ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ . وَنَزَعنَا مَا في صُدُورِهِم مِن غِلٍّ تَجرِي مِن تَحتِهِمُ الأَنهَارُ وَقَالُوا الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَد جَاءَت رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثتُمُوهَا بما كُنتُم تَعمَلُونَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَومِ لِقَاهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا " ثُمَّ اعلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى مَحَبَّةِ العَبدِ لِلعِبَادَةِ وَاستِكثَارِهِ مِنَ الطَّاعَةِ حَتَّى يَجِدَ لَذَّتَهَا ، أَن يَأخُذَ بِحَقِّهِ مِنَ النَّوَافِلِ بِكُلِّ أَنوَاعِهَا ، وَأَن يَكُونَ لَهُ حَظٌّ مِنَ السُّنَنِ عَلَى اختِلافِ صِفَاتِهَا وَأَحوَالِهَا ، وَالمُؤمِنُ كَالنَّحلَةِ ، يَتَنَقَّلُ في بَسَاتِينِ العِبَادَةِ وَبينَ زُهُورِ الطَّاعَةِ ، فَتَارَةً تَرَاهُ مُصَلِّيًا ، وَتَارَةً تَجِدُهُ لِلقُرآنِ تَالِيًا ، وَحِينًا يُسَبِّحُ وَيُكَبِّرُ ، وَحِينًا يُهَلِّلُ وَيَستَغفِرُ ، وَلَهُ في الصَّدَقَةِ يَدٌ نَدِيَّةٌ ، وَهُوَ مَعَ أَهلِ البِرِّ وَالإِحسَانِ ضَارِبٌ بِسَهمٍ ، وَمَعَ الدُّعَاةِ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ آخِذٌ بِنَصِيبٍ ، إِنْ طَلَبتَهُ مَعَ القَائِمِينَ وَجَدتَهُ ، وَإِنِ التَمَستَهُ مَعَ الذَّاكِرِينَ وَقَعتَ عَلَيهِ ، وَهَكَذَا لا يَزَالُ يُكثِرُ مِنَ الطَّاعَاتِ وَيُنَوِّعُ النَّوَافِلَ ، وَيَتَقَرَّبُ إِلى رَبِّهِ حَتَّى يُحِبَّهُ ـ سُبحَانَهُ ـ فَإِذَا أَحَبَّهُ وَهَبَهُ أَجزَلَ الهِبَاتِ وَمَنَحَهُ أَكمَلَ الأُعطِيَاتِ ، في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بها وَرِجلَهُ الَّتي يَمشِي بها ، وَإِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ ، وَإِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَمِمَّا يُورِثُ لَذَّةَ العِبَادَةِ وَيُحَبِّبُ المَرءَ في الطَّاعَةِ أَن يَقتَدِيَ بِالصَّالِحِينَ المُجتَهِدِينَ ، وَيَتَشَبَّهَ بِالمُسَابِقِين َ وَالمُفلِحِينَ ، وَأَن يَحذَرَ صُحبَةَ الكُسَالى وَالبَطَّالِينَ ، فَإِنَّ مِن بَرَكَةِ صُحبَةِ أَهلِ الصَّلاحِ الاقتِدَاءَ بهم وَالتَّأَسِّيَ بِحَالِهِم ، وَالانتِفَاعَ بِكَلامِهِم وَالتَّشَبُّهَ بِعَمَلِهِم . وَمِمَّا يَجلِبُ لَذَّةَ العِبَادَةِ وَيُهَوِّنُ طَرِيقَ الطَّاعَةِ تَركُ المَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ، فَكَم مِن شَهوَةِ سَاعَةٍ أَورَثَت ذُلاًّ طَوِيلاً ، وَكَم مِن ذَنبٍ حَرَمَ عَبدًا قِيَامًا بَينَ يَدَي رَبِّهِ ، وَكَم مِن نَظرَةٍ حَرَمَت صَاحِبَهَا نُورَ البَصِيرَةِ ، وَهَذَا مَا نَرَاهَ اليَومَ في أَنفُسِنَا وَنَلمَسُهُ في مَسِيرِنَا ، فَقَد فَقَدنَا لَذَّةَ العِبَادَةِ وَاستَثقَلنَا الطَّاعَةَ ، وَكَثُرَ فِينَا التَّقَاعُسُ وَظَهَرَ مِنَّا التَّكَاسُلُ ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَنَّنَا تَسَاهَلنَا بِالذُّنُوبِ وَتَهَاوَنَّا بِالصَّغَائِرِ ، وَاعتَدنَا مُوَاقَعَةَ المَعَاصِي وَمُشَاهَدَةَ المُحَرَّمَاتِ وَاستِمَاعَهَا ، مِمَّا أَدَّى إِلى قَسوَةِ القُلُوبِ وَانتِكَاسِهَا ، وَتَقَاعُسِهَا عَنِ الطَّاعَاتِ وَمِيلِهَا إِلى الشَّهَوَاتِ ، وَفَقدِهَا لَذَّةَ الطَّاعَةِ وَعَدَمِ تَذَوُّقِهَا حَلاوَتَهَا ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ " وَرَحِمَ اللهُ القَائِلَ :
رَأَيتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوُبَ
وَقَد يُورِثُ الذُّلَّ إدمَانُهَا
وَتَركُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوُبِ
وَخَيرٌ لِنَفسِكَ عِصيَانُهَا


اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنَا ، وَكَرِّهْ إِلَينَا الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ ، وَاجعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ .

ناصرعبدالرحمن 19-08-2011 05:13 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

أحيوا العشر واغتنموا ليلة القدر 19 / 9 / 1432




الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَحسِنُوا العَمَلَ " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَقَد خَصَّكُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِخَصَائِصَ وَجَعَلَ لَكُم مَزَايَا ، وَمَنَحَكُم كَثِيرًا مِنَ الفَضَائِلِ وَنَوَّعَ لَكُمُ العَطَايَا ، وَمِن ذَلِكَ أَنَّهُ ـ تَعَالى ـ لَمَّا قَدَّرَ أَعمَارَكُم في هَذِهِ الدَّارِ الفَانِيَةِ بِسِنِينَ قَلِيلَةٍ ، عَوَّضَكُم عَن ذَلِكَ بِأَوقَاتٍ ثَمِينَةٍ وَمَوَاسِمَ جَلِيلَةٍ ، أَوقَاتٌ تُضَاعَفُ فِيهَا الحَسَنَاتُ وَتُمنَحُ الأُجُورُ ، وَمَوَاسِمُ تَزدَانُ فِيهَا العِبَادَةِ وَتَحلُو الطَّاعَةُ ، فَالسَّعِيدُ مِنكُم مَن بَادَرَ أَيَّامًا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ، وَاغتَنَمَ لَيَاليَ سَرِيعَةَ الانقِضَاءِ وَالذَّهَابِ .

لَقَد قُمتُم في خَيرِ الشُّهُورِ تِسعَ عَشرَةَ لَيلَةً ، وَصُمتُم مِن أَيَّامِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَومًا وَأَنتُم في التَّاسِعَ عَشَرَ ، وَمَا هِيَ إِلاَّ لَيلَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَومٌ وَاحِدٌ ، ثُمَّ تَدخُلُونَ في أَفضَلِ لَيَالي العَامِ عَلَى الإِطلاقِ ، وَتَلِجُونَ في لَيَالي العَشرِ الأَخِيرَةِ مِن رَمَضَانَ ، تِلكَ اللَّيَالي الَّتي فِيهَا لَيلَةٌ عَظِيمَةُ الفَضلِ جَلِيلَةُ القَدرِ ، جَعَلَ المَولى ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ العِبَادَةِ فِيهَا خَيرًا مِن عِبَادَةِ أَلفِ شَهرٍ ، إِنَّهَا اللَّيلَةُ الَّتي يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ في السَّنَةِ بِأَمرِ اللهِ مِن أَقدَارٍ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ "
إِنَّهَا اللَّيلَةُ الَّتي يَنزِلُ فِيهَا مَلائِكَةٌ ذَوُو شَرَفٍ وَقَدرٍ ، إِنَّهَا اللَّيلَةُ الَّتي نَزَلَ فِيهَا كِتَابٌ ذُو مَنزِلَةٍ وَقَدرٍ ، بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ كَرِيمٍ أَمِينٍ ذِي قَدرٍ ، عَلَى رَسُولٍ ذِي قَدرٍ وَأُمَّةٍ ذَاتِ قَدرٍ " إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ " " إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ "
إِنَّهَا لَيلَةٌ لِلَطَّاعَاتِ فِيهَا قَدرٌ ، وَمَن أَقَامَهَا وَأَحيَاهَا صَارَ ذَا مَكَانَةٍ وَقَدرٍ ، وَفِيهَا أَنزَلَ اللهُ ـ تَعَالى ـ سُورَةً كَامِلَةً هِيَ سُورَةُ القَدرِ ، بَل أَنزَلَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ القُرآنَ فِيهَا مِنَ اللَّوحِ المَحفُوظِ إِلى السَّمَاءِ الدُّنيَا ، وَابتَدَأَ فِيهَا إِنزَالَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنيَا إِلى الأَرضِ .
فَخَّمَ ـ سُبحَانَهُ ـ أَمرَهَا وَعَظَّمَهَا فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ " ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الأَعمَالَ فِيهَا خَيرٌ مِنَ الأَعمَالِ في أَلفِ شَهرٍ فِيمَا سِوَاهَا ، وَأَلفُ شَهرٍ تُعَادِلُ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ المَلائِكَةَ فِيهَا تَتَنَزَّلُ إِلى الأَرضِ ، وَالمَلائِكَةُ عِبَادٌ مُكرَمُونَ ، لا يَنزِلُونَ إِلاَّ بِالخَيرِ وَالبَرَكَةِ وَالرَّحمَةِ ، وَمِن ثَمَّ صَارَت تِلكَ اللَّيلَةُ سَلامًا ؛ لِكَثرَةِ السَّلامَةِ فِيهَا مِن أَلِيمِ العِقَابِ ، وَلِفِكَاكِ الرِّقَابِ فِيهَا وَنَجَاتِهَا مِنَ العَذَابِ " لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ، تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ . سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ "

أَلا فَشَمِّرُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ عَن سَوَاعِدِ الجَدِّ وَالاجتِهَادِ ، وَاعقُدُوا العَزمَ عَلَى مُوَاصَلَةِ العَمَلِ الصَّالِحِ ، وَطَلِّقُوا التَّوَانيَ وَانبُذُوا الكَسَلَ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مَن قَامَ هَذِهِ اللَّيلَةَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ ، فَمَاذَا يُرِيدُ مُسلِمٌ أَفضَلَ مِن هَذَا ؟! وَمَاذَا عَسَاهُ يَنَالُ أَكمَلَ مِنهُ أَو أَعظَمَ ؟ يَعمَلُ يَسِيرًا وَيُؤجَرُ كَثِيرًا ، وَيَقُومُ لَيلَةً وَاحِدَةً وَيُجزَى جَزَاءَ مَن قَامَ ثَلاثِينَ أَلفَ لَيلَةٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَمَعنى " مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا " أَي ‏:‏ تَصدِيقًا بِفَضلِهَا ، وَتَصدِيقًا بِمَشرُوعِيَّةِ العَمَلِ الصَّالحِ فِيهَا‏ ، مِن صَلاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَدُعَاءٍ ، وَابتِهَالٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ .‏ وَأَمَّا الاحتِسَابُ ،‏ فَمَعنَاهُ خُلُوصُ النِّيَّةِ وَصِدقُ الطَّوِيَّةِ ، بِحَيثُ لا يَكُونُ في قَلبِ المُؤمِنِ شَكٌّ وَلا تَرَدُّدٌ ، وَلا يُرِيدُ مِن صَلاتِهِ وَلا مِن قِيَامِهِ وَلا دُعَائِهِ شَيئًا مِن حُطَامِ الدُّنيَا ، وَلا يُرِيدُ مُرَاءَاةَ النَّاسِ وَلا التِمَاسَ شَيءٍ مِن مَدحِهِم أَو ثَنَائِهِم عَلَيهِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَجرَهُ وَثَوَابَهُ مِنَ اللهِ وَحدَهُ ، فَهَذَا هُوَ مَعنى قَولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ‏ ـ : "‏ إيمانًا وَاحتِسَابًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ نَبِيُّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ في تَحَرِّي تِلكَ اللَّيلَةِ العَظِيمَةِ ، حَتَّىَ لَقَد كَانَ يُعلِنُ النَّفِيرَ العَامَّ في بَيتِهِ في العَشرِ الأَوَاخِرِ ، طَمَعًا في الفَوزِ بها وَحِرصًا عَلَى إِدرَاكِهَا ، رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّهَا قَالَت : كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشرُ أَحيَا اللَّيلَ ، وَأَيقَظَ أَهلَهُ ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئزَرَ . هَكَذَا كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يُحيِي اللَّيلَ وَيُوقِظُ أَهلَهُ ، وَيَشُدُّ المِئزَرَ اجتِهَادًا في العِبَادَةِ وَانشِغَالاً بِالطَّاعَةِ ، وَتَخلِّيًا عَنِ الدُّنيَا وَهَجرًا لِمَلَذَّاتِهَا ، وَالتِفَاتًا عَن نِسَائِهَا وَزُهدًا في شَهَوَاتِهَا ، لَقَد عَلِمَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَنَّهَا لَيَالٍ فَاضِلاتٌ مَعدُودَاتٌ ، تِسعٌ أَو عَشرٌ ، وَمِن ضِمنِهَا لَيلَةٌ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ، فَكَيفَ يَسمَحُ لِنَفسِهِ وَالحَالُ تِلكَ أَن تُفَرِّطَ في هَذَا الأَجرِ أَو تَزهَدَ في ذَلِكَ الفَضلِ ؟! لم يَكُنْ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يَترُكُ وَلا لَيلَةً وَاحِدَةً ، بَل كَانَ يُحيِي العَشرَ كُلَّهَا ، وَيَجتَهِدُ فِيهَا اجتِهَادًا عَظِيمًا ، وَأَمَّا المُسلِمُونَ اليَومَ ، فَنَسأَلُ اللهَ لَنَا وَلَهُمُ الهِدَايَةَ وَالتَّوفِيقَ ، مَا تَكَادُ تَدخُلُ العَشرُ إِلاَّ وَقَد دَبَّ إِلى قُلُوبِ بَعضِهِمُ الضَّعفُ وَالخَوَرُ ، وَدَاخَلَ نُفُوسَهُمُ العَجزُ وَالكَسَلُ ، وَقَلَّ نَشَاطُهُم وَفَتَرَت مِنهُمُ العَزَائِمُ وَخَمَدَتِ الهِمَمُ ، وَالمُجتَهِدُ مِنهُم مَن تَرَاهُ يُحَافِظُ عَلَى لَيَالي الأَوتَارِ خَاصَّةً ، أَو يَقتَصِرُ عَلَى قِيَامِ لَيلَةِ سَبعٍ وَعِشرِينَ ، وَتَرَاهُم يَتَسَاءَلُونَ عَن عَلامَاتِ لَيلَةِ القَدرِ وَيَبحَثُونَ عَنهَا ، وَيَتَحَرَّونَ فِيهَا المَرَائِيَ المَنَامِيَّةَ أَوِ العَلامَاتِ الظَّنِّيَّةَ ، وَيُجهِدُونَ أَنفُسَهُم فِيمَا لا يَحتَاجُونَ إِلَيهِ ، لأَنَّهُم لَو قَامُوا تِسعَ لَيَالٍ أَو عَشرًا ، لأَدرَكُوا لَيلَةَ القَدرِ قَطعًا ، وَلَنَالُوا مِن قِيَامِ اللَّيَالي الأُخرَى نَصِيبًا مِنَ الأَجرِ مُضَاعَفًا ، وَلَخَرَجُوا مِن شَهرِهِم وَقَدِ امتَلأَت قُلُوبُهُم إِيمَانًا وَانشَرَحَت صُدُورُهُم بِالطَّاعَةِ ، وَلَتَزَوَّدُوا لأُخرَاهُم مِنَ زَادِ التَّقوَى الَّذِي هُوَ خَيرٌ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ ـ وَاحرِصُوا عَلَى تَحَرِّي لَيلَةِ القَدرِ في كُلِّ هَذِهِ اللَّيَالي العَشرِ ، وَأَكثِرُوا مِن تِلاوَةِ القُرآنِ وَاشتَغِلُوا بِالذِّكرِ ، وَقُومُوا في المَسَاجِدِ وَلا تُفَوِّتُوا وَلا رَكعَةً مَعَ الإِمَامِ ، وَصَلُّوا بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ، وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفشُوا السَّلامَ وَصِلُوا الأَرحَامَ ، وَأَزِيلُوا مَا في القُلُوبِ مِنَ الشَّحنَاءِ وَالخِصَامِ ، وَأَكثِرُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ وَأَدُّوا مَا وَجَبَ عَلَيكُم مِن زَكَوَاتٍ ، وَادعُوا رَبَّكُم وَأَنتُم مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ ، وَاسأَلُوهُ ـ تَعَالى ـ العَفوَ وَالعَافِيَةَ ، فَقَد صَحَّ في الحَدِيثِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّهَا قَالَت لِلنَّبيِّ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : أَرَأَيتَ إِنْ وَافَقتُ لَيلَةَ القَدرِ ، مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : " قَولي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِهَذِهِ اللَّيلَةِ عَلامَاتٌ مُقَارِنَةٌ لَهَا وَعَلامَاتٌ لاحِقَةٌ تَأتي بَعدَهَا ، قَدِ اجتَهَدَ أَهلُ العِلمِ في تَعدَادِهَا وَذِكرِهَا ، إِلاَّ أَنَّنَا ـ وَرَبِّ البَيتِ ـ لَسنَا بِحَاجَةٍ إِلى أَن نَتَتَبَّعَ هَذِهِ العَلامَاتِ وَنَذكُرَهَا وَنُفَصِّلَ فِيهَا وَنَشرَحَهَا ، بِقَدرِ مَا نَحنُ بِحَاجَةٍ إِلى أَن نَقُولَ : يَا أُمَّةَ الإِسلامِ ، اتَّقُوا اللهَ في أَنفُسِكُم وَقُومُوا لَيَاليَ العَشرِ جَمِيعًا ، وَتَقَرَّبُوا إِلى رَبِّكُم واغَنمُوا عُمُرًا يَمُرُّ سَرِيعًا ، وَاعلَمُوا أَنَّ في إِخفَاءِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لِلَيلَةِ القَدرِ عَنكُم لِتَتَحَرَّوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ كُلِّهَا ، إِنَّ في ذَلِكَ لَتَرغِيبًا مِنهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ لَكُم في عِبَادَتِهِ ، وَحَثًّا عَلَى الاجتِهَادِ في طَاعَتِهِ ، وَمَحَبَّةً مِنهُ لاستِكثَارِكُم مِمَّا يُقَرِّبُكُم إِلَيهِ ، وَفي ذَلِكَ اختِبَارٌ لَكُم وَامتِحَانٌ ؛ يَتَبَيَّنُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُم جَادًّا في طَلَبِهَا حَرِيصًا عَلَى إِدرَاكِهَا ، مِمَّن كَانَ كَسلانَ مُتَهَاوِنًا مُتَبَاطِئًا . وَمَن حَرِصَ عَلَى شَيءٍ جَدَّ في طَلَبِهِ ، وَهَانَ عَلَيهِ التَّعَبُ في سَبِيلِ الوُصُولِ إِلَيهِ ، وَبَذلَ مَا في وُسعِهِ لِلظَّفَرِ بِهِ . فَهَنِيئًا لِمَن صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ ، وَاتَّقَى رَبَّهُ وَجَاهَدَ نَفسَهُ وَعَمِلَ صَالِحًا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُحسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ . وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ . وَفي أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الأَعمَالَ بِالخَوَاتِيمِ ، وَالعِبرَةَ بِالنِّهَايَاتِ وَحُسنِ الثَّبَاتِ . وَإِنَّ مِمَّا يُلحَظُ في كُلِّ عَامٍ ، أَنَّ أَعدَادَ المُصَلِّينَ في عَشرِ العِتقِ مِنَ النَّارِ تَقِلُّ ، وَنَشَاطَهُم في ثُلُثِ البَرَكَاتِ وَالتَّجَلِّيَا تِ يَضمَحِلُّ ، فَيَكثُرُ المُتَخَلِّفُون َ عَن صَلاةِ القِيَامِ بِالأَسحَارِ ، بَل يَتَهَاوَنُ بَعضُهُم بِالمَكتُوبَاتِ وَالفَرَائِضِ ، فَيَا مَعشَرَ الصَّائِمِينَ القَائِمِينَ ، صُومُوا اليَومَ عَن شَهَوَاتِ الهَوَى لِتُدرِكُوا عِيدَ الفِطرِ يَومَ اللِّقَاءِ ، لا يَطُولَنَّ عَلَيكُمُ الأَمَلُ بِاستِبطَاءِ الأَجَلِ ، فَإِنَّ مُعظَمَ نَهَارِ الصِّيَامِ قَد ذَهَبَ ، وَعِيدَ اللِّقَاءِ قَدِ اقتَرَبَ ، وَا إِخوَتَاهُ ! أَنقِذُوا أَنفُسَكُم مِنَ النَّارِ ، وَاطلُبُوا رَحمَةَ العَزِيزِ الغَفَّارِ ، وَا إِخوَتَاهُ ! خُذُوا نَصِيبَكُم مِن هَذِهِ الأَعضَاءِ في طَاعَةِ اللهِ قَبلَ أَن تُودَعَ اللُّحُودَ وَيَأكُلَهَا الدُّودُ ، وَا إِخوَتَاهُ ! اغتَنِمُوا أَوقَاتَكُم وَسَاعَاتِ أَعمَارِكُم ، قَبلَ أَن يَقُولَ المُفَرِّطُونَ : " يَا حَسرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطنَا فِيهَا "
لَقَد كَانَ نَبِيُّكُم وَقُدوَتُكُم وَهُوَ المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، كَانَ يَجتَهِدُ في هَذِهِ العَشرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهَا ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ . رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَعتَكِفُ العَشرَ الآوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ ، ثُمَّ اعتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِن بَعدِهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوَّلَ مِن رَمَضَانَ ، ثُمَّ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ في قُبَّةٍ تُركِيَّةٍ ، ثُمَّ أَطلَعَ رَأسَهُ فَقَالَ : " إِنِّي اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوَّلَ أَلتَمِسُ هَذِهِ اللَّيلَةَ ، ثُمَّ اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوسَطَ ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لي : إِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ ، فَمَنِ اعتَكَفَ مَعِي فَلْيَعتَكِفِ العَشرَ الأَوَاخِرَ ، فَقَد أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيلَةَ ثُمَّ أُنسِيتُهَا ، وَقَد رَأَيتُني أَسجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ مِن صَبِيحَتِهَا ، فَالتَمِسُوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ ، وَالتَمِسُوهَا في كُلِّ وِترٍ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
أَلا فَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم وَحَبِيبِكُم ، وَأَقبِلُوا عَلَى رَبِّكُم وَخَالِقِكُم ، وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَبِّكُم ، وَنَوِّعُوا الأَعمَالَ وَتَحَرَّوا لَيلَةَ القَدرِ لَعَلَّكُم تُدرِكُونَهَا فَتَسعَدُوا وَتَفُوزُوا ، فَإِنَّ المَحرُومَ مَن حُرِمَ مَا فِيهَا مِنَ الأَجرِ وَعَظِيمِ الثَّوَابِ ، وَالخَاسِرَ مَن أَعرَضَ عَن فَضلِ الكَرِيمِ الوَهَّابِ .


الساعة الآن 08:26 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
- arab-line : Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.3.0 TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010

... جميع الحقوق محفوظه لمجالس رويضة العرض لكل العرب ...

.. جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ...ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر المنتدى..

a.d - i.s.s.w