مجالس الرويضة لكل العرب

مجالس الرويضة لكل العرب (http://www.rwwwr.com/vb/httb:www.rwwwr.com.php)
-   روحانيات (http://www.rwwwr.com/vb/f5.html)
-   -   خطب الشيخ عبدالله البصري (http://www.rwwwr.com/vb/t31002.html)

ناصرعبدالرحمن 19-08-2011 05:14 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

أحيوا العشر واغتنموا ليلة القدر 19 / 9 / 1432




الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَحسِنُوا العَمَلَ " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لَقَد خَصَّكُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِخَصَائِصَ وَجَعَلَ لَكُم مَزَايَا ، وَمَنَحَكُم كَثِيرًا مِنَ الفَضَائِلِ وَنَوَّعَ لَكُمُ العَطَايَا ، وَمِن ذَلِكَ أَنَّهُ ـ تَعَالى ـ لَمَّا قَدَّرَ أَعمَارَكُم في هَذِهِ الدَّارِ الفَانِيَةِ بِسِنِينَ قَلِيلَةٍ ، عَوَّضَكُم عَن ذَلِكَ بِأَوقَاتٍ ثَمِينَةٍ وَمَوَاسِمَ جَلِيلَةٍ ، أَوقَاتٌ تُضَاعَفُ فِيهَا الحَسَنَاتُ وَتُمنَحُ الأُجُورُ ، وَمَوَاسِمُ تَزدَانُ فِيهَا العِبَادَةِ وَتَحلُو الطَّاعَةُ ، فَالسَّعِيدُ مِنكُم مَن بَادَرَ أَيَّامًا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ، وَاغتَنَمَ لَيَاليَ سَرِيعَةَ الانقِضَاءِ وَالذَّهَابِ .

لَقَد قُمتُم في خَيرِ الشُّهُورِ تِسعَ عَشرَةَ لَيلَةً ، وَصُمتُم مِن أَيَّامِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَومًا وَأَنتُم في التَّاسِعَ عَشَرَ ، وَمَا هِيَ إِلاَّ لَيلَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَومٌ وَاحِدٌ ، ثُمَّ تَدخُلُونَ في أَفضَلِ لَيَالي العَامِ عَلَى الإِطلاقِ ، وَتَلِجُونَ في لَيَالي العَشرِ الأَخِيرَةِ مِن رَمَضَانَ ، تِلكَ اللَّيَالي الَّتي فِيهَا لَيلَةٌ عَظِيمَةُ الفَضلِ جَلِيلَةُ القَدرِ ، جَعَلَ المَولى ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ العِبَادَةِ فِيهَا خَيرًا مِن عِبَادَةِ أَلفِ شَهرٍ ، إِنَّهَا اللَّيلَةُ الَّتي يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ في السَّنَةِ بِأَمرِ اللهِ مِن أَقدَارٍ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ "
إِنَّهَا اللَّيلَةُ الَّتي يَنزِلُ فِيهَا مَلائِكَةٌ ذَوُو شَرَفٍ وَقَدرٍ ، إِنَّهَا اللَّيلَةُ الَّتي نَزَلَ فِيهَا كِتَابٌ ذُو مَنزِلَةٍ وَقَدرٍ ، بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ كَرِيمٍ أَمِينٍ ذِي قَدرٍ ، عَلَى رَسُولٍ ذِي قَدرٍ وَأُمَّةٍ ذَاتِ قَدرٍ " إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ " " إِنَّا أَنزَلنَاهُ في لَيلَةِ القَدرِ "
إِنَّهَا لَيلَةٌ لِلَطَّاعَاتِ فِيهَا قَدرٌ ، وَمَن أَقَامَهَا وَأَحيَاهَا صَارَ ذَا مَكَانَةٍ وَقَدرٍ ، وَفِيهَا أَنزَلَ اللهُ ـ تَعَالى ـ سُورَةً كَامِلَةً هِيَ سُورَةُ القَدرِ ، بَل أَنزَلَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ القُرآنَ فِيهَا مِنَ اللَّوحِ المَحفُوظِ إِلى السَّمَاءِ الدُّنيَا ، وَابتَدَأَ فِيهَا إِنزَالَهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنيَا إِلى الأَرضِ .
فَخَّمَ ـ سُبحَانَهُ ـ أَمرَهَا وَعَظَّمَهَا فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ " ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الأَعمَالَ فِيهَا خَيرٌ مِنَ الأَعمَالِ في أَلفِ شَهرٍ فِيمَا سِوَاهَا ، وَأَلفُ شَهرٍ تُعَادِلُ مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ المَلائِكَةَ فِيهَا تَتَنَزَّلُ إِلى الأَرضِ ، وَالمَلائِكَةُ عِبَادٌ مُكرَمُونَ ، لا يَنزِلُونَ إِلاَّ بِالخَيرِ وَالبَرَكَةِ وَالرَّحمَةِ ، وَمِن ثَمَّ صَارَت تِلكَ اللَّيلَةُ سَلامًا ؛ لِكَثرَةِ السَّلامَةِ فِيهَا مِن أَلِيمِ العِقَابِ ، وَلِفِكَاكِ الرِّقَابِ فِيهَا وَنَجَاتِهَا مِنَ العَذَابِ " لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ، تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ . سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطلَعِ الفَجرِ "

أَلا فَشَمِّرُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ عَن سَوَاعِدِ الجَدِّ وَالاجتِهَادِ ، وَاعقُدُوا العَزمَ عَلَى مُوَاصَلَةِ العَمَلِ الصَّالِحِ ، وَطَلِّقُوا التَّوَانيَ وَانبُذُوا الكَسَلَ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مَن قَامَ هَذِهِ اللَّيلَةَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ ، فَمَاذَا يُرِيدُ مُسلِمٌ أَفضَلَ مِن هَذَا ؟! وَمَاذَا عَسَاهُ يَنَالُ أَكمَلَ مِنهُ أَو أَعظَمَ ؟ يَعمَلُ يَسِيرًا وَيُؤجَرُ كَثِيرًا ، وَيَقُومُ لَيلَةً وَاحِدَةً وَيُجزَى جَزَاءَ مَن قَامَ ثَلاثِينَ أَلفَ لَيلَةٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَمَعنى " مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا " أَي ‏:‏ تَصدِيقًا بِفَضلِهَا ، وَتَصدِيقًا بِمَشرُوعِيَّةِ العَمَلِ الصَّالحِ فِيهَا‏ ، مِن صَلاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَدُعَاءٍ ، وَابتِهَالٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ .‏ وَأَمَّا الاحتِسَابُ ،‏ فَمَعنَاهُ خُلُوصُ النِّيَّةِ وَصِدقُ الطَّوِيَّةِ ، بِحَيثُ لا يَكُونُ في قَلبِ المُؤمِنِ شَكٌّ وَلا تَرَدُّدٌ ، وَلا يُرِيدُ مِن صَلاتِهِ وَلا مِن قِيَامِهِ وَلا دُعَائِهِ شَيئًا مِن حُطَامِ الدُّنيَا ، وَلا يُرِيدُ مُرَاءَاةَ النَّاسِ وَلا التِمَاسَ شَيءٍ مِن مَدحِهِم أَو ثَنَائِهِم عَلَيهِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَجرَهُ وَثَوَابَهُ مِنَ اللهِ وَحدَهُ ، فَهَذَا هُوَ مَعنى قَولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ‏ ـ : "‏ إيمانًا وَاحتِسَابًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ نَبِيُّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ في تَحَرِّي تِلكَ اللَّيلَةِ العَظِيمَةِ ، حَتَّىَ لَقَد كَانَ يُعلِنُ النَّفِيرَ العَامَّ في بَيتِهِ في العَشرِ الأَوَاخِرِ ، طَمَعًا في الفَوزِ بها وَحِرصًا عَلَى إِدرَاكِهَا ، رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّهَا قَالَت : كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشرُ أَحيَا اللَّيلَ ، وَأَيقَظَ أَهلَهُ ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئزَرَ . هَكَذَا كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يُحيِي اللَّيلَ وَيُوقِظُ أَهلَهُ ، وَيَشُدُّ المِئزَرَ اجتِهَادًا في العِبَادَةِ وَانشِغَالاً بِالطَّاعَةِ ، وَتَخلِّيًا عَنِ الدُّنيَا وَهَجرًا لِمَلَذَّاتِهَا ، وَالتِفَاتًا عَن نِسَائِهَا وَزُهدًا في شَهَوَاتِهَا ، لَقَد عَلِمَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَنَّهَا لَيَالٍ فَاضِلاتٌ مَعدُودَاتٌ ، تِسعٌ أَو عَشرٌ ، وَمِن ضِمنِهَا لَيلَةٌ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ ، فَكَيفَ يَسمَحُ لِنَفسِهِ وَالحَالُ تِلكَ أَن تُفَرِّطَ في هَذَا الأَجرِ أَو تَزهَدَ في ذَلِكَ الفَضلِ ؟! لم يَكُنْ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يَترُكُ وَلا لَيلَةً وَاحِدَةً ، بَل كَانَ يُحيِي العَشرَ كُلَّهَا ، وَيَجتَهِدُ فِيهَا اجتِهَادًا عَظِيمًا ، وَأَمَّا المُسلِمُونَ اليَومَ ، فَنَسأَلُ اللهَ لَنَا وَلَهُمُ الهِدَايَةَ وَالتَّوفِيقَ ، مَا تَكَادُ تَدخُلُ العَشرُ إِلاَّ وَقَد دَبَّ إِلى قُلُوبِ بَعضِهِمُ الضَّعفُ وَالخَوَرُ ، وَدَاخَلَ نُفُوسَهُمُ العَجزُ وَالكَسَلُ ، وَقَلَّ نَشَاطُهُم وَفَتَرَت مِنهُمُ العَزَائِمُ وَخَمَدَتِ الهِمَمُ ، وَالمُجتَهِدُ مِنهُم مَن تَرَاهُ يُحَافِظُ عَلَى لَيَالي الأَوتَارِ خَاصَّةً ، أَو يَقتَصِرُ عَلَى قِيَامِ لَيلَةِ سَبعٍ وَعِشرِينَ ، وَتَرَاهُم يَتَسَاءَلُونَ عَن عَلامَاتِ لَيلَةِ القَدرِ وَيَبحَثُونَ عَنهَا ، وَيَتَحَرَّونَ فِيهَا المَرَائِيَ المَنَامِيَّةَ أَوِ العَلامَاتِ الظَّنِّيَّةَ ، وَيُجهِدُونَ أَنفُسَهُم فِيمَا لا يَحتَاجُونَ إِلَيهِ ، لأَنَّهُم لَو قَامُوا تِسعَ لَيَالٍ أَو عَشرًا ، لأَدرَكُوا لَيلَةَ القَدرِ قَطعًا ، وَلَنَالُوا مِن قِيَامِ اللَّيَالي الأُخرَى نَصِيبًا مِنَ الأَجرِ مُضَاعَفًا ، وَلَخَرَجُوا مِن شَهرِهِم وَقَدِ امتَلأَت قُلُوبُهُم إِيمَانًا وَانشَرَحَت صُدُورُهُم بِالطَّاعَةِ ، وَلَتَزَوَّدُوا لأُخرَاهُم مِنَ زَادِ التَّقوَى الَّذِي هُوَ خَيرٌ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ ـ وَاحرِصُوا عَلَى تَحَرِّي لَيلَةِ القَدرِ في كُلِّ هَذِهِ اللَّيَالي العَشرِ ، وَأَكثِرُوا مِن تِلاوَةِ القُرآنِ وَاشتَغِلُوا بِالذِّكرِ ، وَقُومُوا في المَسَاجِدِ وَلا تُفَوِّتُوا وَلا رَكعَةً مَعَ الإِمَامِ ، وَصَلُّوا بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ، وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفشُوا السَّلامَ وَصِلُوا الأَرحَامَ ، وَأَزِيلُوا مَا في القُلُوبِ مِنَ الشَّحنَاءِ وَالخِصَامِ ، وَأَكثِرُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ وَأَدُّوا مَا وَجَبَ عَلَيكُم مِن زَكَوَاتٍ ، وَادعُوا رَبَّكُم وَأَنتُم مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ ، وَاسأَلُوهُ ـ تَعَالى ـ العَفوَ وَالعَافِيَةَ ، فَقَد صَحَّ في الحَدِيثِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّهَا قَالَت لِلنَّبيِّ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : أَرَأَيتَ إِنْ وَافَقتُ لَيلَةَ القَدرِ ، مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : " قَولي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِهَذِهِ اللَّيلَةِ عَلامَاتٌ مُقَارِنَةٌ لَهَا وَعَلامَاتٌ لاحِقَةٌ تَأتي بَعدَهَا ، قَدِ اجتَهَدَ أَهلُ العِلمِ في تَعدَادِهَا وَذِكرِهَا ، إِلاَّ أَنَّنَا ـ وَرَبِّ البَيتِ ـ لَسنَا بِحَاجَةٍ إِلى أَن نَتَتَبَّعَ هَذِهِ العَلامَاتِ وَنَذكُرَهَا وَنُفَصِّلَ فِيهَا وَنَشرَحَهَا ، بِقَدرِ مَا نَحنُ بِحَاجَةٍ إِلى أَن نَقُولَ : يَا أُمَّةَ الإِسلامِ ، اتَّقُوا اللهَ في أَنفُسِكُم وَقُومُوا لَيَاليَ العَشرِ جَمِيعًا ، وَتَقَرَّبُوا إِلى رَبِّكُم واغَنمُوا عُمُرًا يَمُرُّ سَرِيعًا ، وَاعلَمُوا أَنَّ في إِخفَاءِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لِلَيلَةِ القَدرِ عَنكُم لِتَتَحَرَّوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ كُلِّهَا ، إِنَّ في ذَلِكَ لَتَرغِيبًا مِنهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ لَكُم في عِبَادَتِهِ ، وَحَثًّا عَلَى الاجتِهَادِ في طَاعَتِهِ ، وَمَحَبَّةً مِنهُ لاستِكثَارِكُم مِمَّا يُقَرِّبُكُم إِلَيهِ ، وَفي ذَلِكَ اختِبَارٌ لَكُم وَامتِحَانٌ ؛ يَتَبَيَّنُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُم جَادًّا في طَلَبِهَا حَرِيصًا عَلَى إِدرَاكِهَا ، مِمَّن كَانَ كَسلانَ مُتَهَاوِنًا مُتَبَاطِئًا . وَمَن حَرِصَ عَلَى شَيءٍ جَدَّ في طَلَبِهِ ، وَهَانَ عَلَيهِ التَّعَبُ في سَبِيلِ الوُصُولِ إِلَيهِ ، وَبَذلَ مَا في وُسعِهِ لِلظَّفَرِ بِهِ . فَهَنِيئًا لِمَن صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ ، وَاتَّقَى رَبَّهُ وَجَاهَدَ نَفسَهُ وَعَمِلَ صَالِحًا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُحسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ . وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ . وَفي أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الأَعمَالَ بِالخَوَاتِيمِ ، وَالعِبرَةَ بِالنِّهَايَاتِ وَحُسنِ الثَّبَاتِ . وَإِنَّ مِمَّا يُلحَظُ في كُلِّ عَامٍ ، أَنَّ أَعدَادَ المُصَلِّينَ في عَشرِ العِتقِ مِنَ النَّارِ تَقِلُّ ، وَنَشَاطَهُم في ثُلُثِ البَرَكَاتِ وَالتَّجَلِّيَا تِ يَضمَحِلُّ ، فَيَكثُرُ المُتَخَلِّفُون َ عَن صَلاةِ القِيَامِ بِالأَسحَارِ ، بَل يَتَهَاوَنُ بَعضُهُم بِالمَكتُوبَاتِ وَالفَرَائِضِ ، فَيَا مَعشَرَ الصَّائِمِينَ القَائِمِينَ ، صُومُوا اليَومَ عَن شَهَوَاتِ الهَوَى لِتُدرِكُوا عِيدَ الفِطرِ يَومَ اللِّقَاءِ ، لا يَطُولَنَّ عَلَيكُمُ الأَمَلُ بِاستِبطَاءِ الأَجَلِ ، فَإِنَّ مُعظَمَ نَهَارِ الصِّيَامِ قَد ذَهَبَ ، وَعِيدَ اللِّقَاءِ قَدِ اقتَرَبَ ، وَا إِخوَتَاهُ ! أَنقِذُوا أَنفُسَكُم مِنَ النَّارِ ، وَاطلُبُوا رَحمَةَ العَزِيزِ الغَفَّارِ ، وَا إِخوَتَاهُ ! خُذُوا نَصِيبَكُم مِن هَذِهِ الأَعضَاءِ في طَاعَةِ اللهِ قَبلَ أَن تُودَعَ اللُّحُودَ وَيَأكُلَهَا الدُّودُ ، وَا إِخوَتَاهُ ! اغتَنِمُوا أَوقَاتَكُم وَسَاعَاتِ أَعمَارِكُم ، قَبلَ أَن يَقُولَ المُفَرِّطُونَ : " يَا حَسرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطنَا فِيهَا "
لَقَد كَانَ نَبِيُّكُم وَقُدوَتُكُم وَهُوَ المَغفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، كَانَ يَجتَهِدُ في هَذِهِ العَشرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهَا ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ . رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَعَنهَا ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَعتَكِفُ العَشرَ الآوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ ، ثُمَّ اعتَكَفَ أَزوَاجُهُ مِن بَعدِهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
وَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوَّلَ مِن رَمَضَانَ ، ثُمَّ اعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ في قُبَّةٍ تُركِيَّةٍ ، ثُمَّ أَطلَعَ رَأسَهُ فَقَالَ : " إِنِّي اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوَّلَ أَلتَمِسُ هَذِهِ اللَّيلَةَ ، ثُمَّ اعتَكَفتُ العَشرَ الأَوسَطَ ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لي : إِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ ، فَمَنِ اعتَكَفَ مَعِي فَلْيَعتَكِفِ العَشرَ الأَوَاخِرَ ، فَقَد أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيلَةَ ثُمَّ أُنسِيتُهَا ، وَقَد رَأَيتُني أَسجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ مِن صَبِيحَتِهَا ، فَالتَمِسُوهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ ، وَالتَمِسُوهَا في كُلِّ وِترٍ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
أَلا فَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم وَحَبِيبِكُم ، وَأَقبِلُوا عَلَى رَبِّكُم وَخَالِقِكُم ، وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَبِّكُم ، وَنَوِّعُوا الأَعمَالَ وَتَحَرَّوا لَيلَةَ القَدرِ لَعَلَّكُم تُدرِكُونَهَا فَتَسعَدُوا وَتَفُوزُوا ، فَإِنَّ المَحرُومَ مَن حُرِمَ مَا فِيهَا مِنَ الأَجرِ وَعَظِيمِ الثَّوَابِ ، وَالخَاسِرَ مَن أَعرَضَ عَن فَضلِ الكَرِيمِ الوَهَّابِ .

ناصرعبدالرحمن 26-08-2011 01:47 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
رمضان قد أزف الرحيل فرفقا 26/9/1432


الخطبة الأولى
:

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ
وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في اليَومِ السَّادِسِ
وَالعِشرِينَ مِن رَمَضَانَ ، وَفي آخِرِ جُمُعَةٍ في شَهرِ الرَّحمَةِ وَالغُفرَانِ ، مَا الَّذِي يَجُولُ بِخَاطِرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنكُم وَفِيمَ تُفَكِّرُونَ ؟!
هَا هِيَ أَيَّامُ الشَّهرِ الفَضِيلِ تُسَارِعُ
بِالرَّحِيلِ ، كَانَت كَمَا وَصَفَهَا اللهُ ـ تَعَالى ـ أَيَّامًا مَعدُودَاتٍ ، مَضَت سَرِيعَةً وَكَأَنَّهَا سُوَيعَاتٌ !
فَلِلَّهِ الحَمدُ عَلَى مَا بَلَّغَنَا
مِنهَا ، وَلَهُ الشُّكرُ عَلَى مَا وَفَّقَنَا إِلَيهِ مِن عَمَلٍ صَالِحٍ فِيهَا، وَنَسأَلُهُ ـ تَعَالى ـ قَبُولَ مَا فَاتَ وَانقَضَى ، وَالتَّوفِيقَ لِلازدِيَادِ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِيمَا بَقِيَ .

أَزِفَ الرَّحِيلُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاقتَرَبَ
النَّفِيرُ ، فَهَلاَّ وَقَفنَا مَعَ أَنفُسِنَا وَساءَلْنَاهَا : مَا الَّذِي خَرَجنَا بِهِ مِن رَمَضَانَ ؟
وَكَيفَ غَدَا لَدَينَا مُستَوَى الإِيمَانِ
؟
مَا
الَّذِي كَسِبنَاهُ في رَصِيدِ حَسَنَاتِنَا ؟
وَمَا الَّذِي أَضَفنَاهُ لِصَحَائِفِ
أَعمَالِنَا ؟
مَاذَا تَغَيَّرَ في دَوَاخِلِنَا
؟
وَمَاذَا
عَدَّلْنَا في أَنفُسِنَا ؟
مَن مِنَّا نَالَ الرَّحمَةَ وَمَن ذَاكَ المَغفُورُ
لَهُ ؟
وَمَن هُوَ عَتِيقُ رَبِّهِ مِنَ النَّارِ بِفَضلِهِ
؟
مَن
ذَلِكَ المُوَفَّقُ الَّذِي أَفلَحَ إِذْ أَعطَى وَاتَّقَى ، وَتَزَكَّى وَذَكَرَ اسمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ؟
وَمَن ذَاكَ الخَائِبُ الَّذِي بَخِلَ وَاستَغنى ،
وَتَدَسَّى وَتَرَدَّى وَانسَاقَ وَرَاءَ النَّفسِ وَالهَوَى؟
مَن
مِنَّا شَمَّرَ وَشَدَّ المِئزَرَ وَصَامَ وَقَامَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا؟
وَمَن
مِنَّا شَغَلَهُ النَّومُ عَن شُهُودِ لَيلَةٍ هِيَ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ؟
مَن هُوَ
صَاحِبُ الذِّكرِ وَتَالي الآيَاتِ ؟
وَمَن هُوَ مُرتَادُ الأَسوَاقِ وَالمُتَسَمِّرُ أَمَامَ
القَنَوَاتِ ؟
مَنِ الَّذِي أَطَالَ الدُّعَاءَ وَبَالَغَ في
الرَّجَاءِ ؟
مَنِ الَّذِي أَحسَنَ وَمَن ذَاكَ الَّذِي أَسَاءَ
؟
هَا هِيَ
الرِّحلَةُ الرَّمَضَانِيَّ ةُ قَد أَوشَكَت عَلَى الانتِهَاءِ ، فَاسأَلْ نَفسَكَ وأَجِبْهَا بِصِدقٍ : هَل كُنتُ مِنَ المُسَدِّدِينَ المُقَارِبِينَ ، أَم أَنَّي مَا زِلتُ مِنَ المُطَفِّفِينَ المُخسِرِينَ ؟!

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد كَانَ
فِينَا مَن أَقبَلَ وَمِنَّا مَن أَقصَرَ ، وَوُجِدَ بَينَنَا مَن أَتَمَّ وَمَن قَصَّرَ ، وَكَانَ هُنَاكَ مُقِلٌّ وَمُكثِرٌ ومُتَعثِّرٌ وَمُستَغفِرٌ ، مِنَّا مَن أَذهَبَت حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ ، وَفِينَا مَن لم يَزَلْ يَحمِلُ عَلَى جَسَدِهِ جِبَالاً مِنَ الذُّنُوبِ تُثقِلُ كَاهِلَهُ ، وَمَعَ هَذَا فَقَد بَقِيَت في الشَّهرِ بَقِيَّةٌ مُبَارَكَةٌ ، وَالأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ ، وَمَن أَحسَنَ فِيمَا بَقِيَ غُفِرَ لَهُ مَا مَضَى ، وَمَن أَسَاءَ فِيمَا بَقِيَ أُخِذَ بما مَضَى وَمَا بَقِيَ .
سَلامٌ مِنَ الرَّحمَنِ كُلَّ أَوَانِ ** عَلَى خَيرِ شَهرٍ قَد مَضَى وَزَمَانِ
سَلامٌ عَلَى
شَهرِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ ** أَمَانٌ مِنَ الرَّحمَنِ كُلَّ أَمَانِ
لَئِن فَنِيَت أَيَّامُكَ الغُرُّ بَغتَةً
** فَمَا الحُزنُ مِن قَلبي عَلَيكَ بِفَانِ

عِبَادَ اللهِ ، مَا أَسرَعَ أَيَّامَ السُّرُورِ وَأَعجَلَ انقِضَاءَهَا !
وَمَا
أَشَدَّ فَوَاتَ لَحَظَاتِ الفَرَحِ وَأَقسَى زَوَالَهَا !
وَاللهِ
لَكَأَنَّنَا نَتَذَكَّرُ يَومَ هَلَّ بِالأَمسِ هِلالُهُ ، وَتَبَاشَرَ النَّاسُ بِنَسِيمِهِ وَظِلالِهِ ، وَهَا هِيَ سَفِينَتُهُ اليَومَ تَسِيرُ سَرِيعًا ، وَسَاعَاتُهُ تَمضِي جَمِيعًا ، هَا هُوَ قَدِ اقتَرَبَ رَحِيلُهُ وَأَزِفَ تَحوِيلُهُ ، فَيَا لَيتَ شِعرِي مَنِ المَقبُولُ مِنَّا فَيُهَنَّا ، وَمَنِ المَردُودُ فَيُعَزَّى ؟!

يَاقَومِ ، أَلا بَاكٍ عَلَى مَا ظَهَرَ مِن عُيُوبِهِ
!
أَلا
رَاغِبٌ إِلى اللهِ في غُفرَانِ ذُنُوبِهِ !
أَمَا هَذَا شَهرُ التَّوبَةِ وَالغُفرَانِ
؟!
أَمَا
هَذَا مَعدِنُ العَفوِ وَالرِّضوَانِ ؟!
أَمَا فِيهِ فُتِحَت أَبوَابُ الجِنَانِ
وَأُغلِقَت أَبوَابُ النِّيرَانِ ؟!
أَمَا فِيهِ صُفِّدَ كُلُّ مَارِدٍ وَشَيطَانٍ
؟!
أَمَا
فِيهِ تُفَرَّقُ هِبَاتُ الإِحسَانِ وَتَكثُرُ عَطَايَا المَلِكِ المَنَّانِ؟!
أَمَا
للهِ في كُلِّ لَيلَةٍ مِنهُ عُتَقَاءُ يَنَالُونَ الرِّضوَانَ؟!
فَمَا
لَكُم عَن ثَوَابِهِ غَافِلُونَ ؟!
وَفي ثِيَابِ المُخَالَفَةِ رَافِلُونَ
؟!
" أَفَسِحرٌ هَذَا أَم أَنتُم لا تُبصِرُونَ
"
أَلا فَانتَبِهُوا أَيُّهَا السَّادِرُونَ
" وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

أَيُّهَا الصَّائِمُونَ القَائِمُونَ ، لَقَد وَجَدْنَا
في رَمَضَانَ مَا لم نَجِدْ في غَيرِهِ ، فَيَا لَيتَهُ يَبقَى فِينَا طَوِيلاً ولا يَرحَلُ عَنَّا سَرِيعًا ، لَقَد طَهَّرَنَا وَغَيَّرَنَا ، وَجَعَلَنَا عِندَ بُلُوغِنَا إِيَّاهُ عَلَى غَيرِ مَا كُنَّا ، لَقَد تَعَلَّمنَا مِنهُ الكَثِيرَ وَالكَثِيرَ ، وَحَصَّلْنَا مِن جُودِهِ العَطَاءَ الجَزِيلَ ، عَلَّمَنَا أَن نَتَغَلَّبَ عَلَى شَهَوَاتِ بُطُونِنَا وَفُرُوجِنَا ، وَأَن نُجَاهِدَ أَنفُسَنَا وَنَنتَصِرَ عَلَى أَلَدِّ أَعدَائِنَا ، عَلَّمَنَا الصَّبرَ وَالحِلمَ وَالأَنَاةَ ، وَأَن نُحسِنَ إِلى مَن أَسَاءَ إِلَينَا وَلا نَجهَلَ عَلَى مَن جَهِلَ عَلَينَا ، عَلَّمَنَا أَن نُنفِقَ في وُجُوهِ البِرِّ وَنَتَغَلَّبَ عَلَى دَوَاعِي الشُّحِّ ، وَأَن نَثِقَ بِرِزقِ اللهِ العَاجِلِ وَإِخلافِهِ عَلَينَا ، عَلَّمَنَا أَن نَشعُرَ بِجُوعِ الفُقَرَاءِ وَنُحِسَّ بِمُعَانَاةِ المَسَاكِينِ وَآلامِ المَحرُومِينَ ، فَنَمُدَّ لَهُم أَيدِيَنَا بِكُلِّ مَا نَستَطِيعُ مِن مُسَاعَدَةٍ ، زَكَاةً كَانَت أَو صَدَقَةً أَو عَطِيَّةً أَو هِبَةً ، عَلَّمَنَا أَن نَقتَرِبَ إِلى أَقَارِبِنَا وَنَصِلَ أَرحَامَنَا ، وَأَن نَبدَأَ صَفحَةً جَدِيدَةً مِنَ العِلاقَةِ الطَّيِّبَةِ مَعَ جِيرَانِنَا ، وَأَن نَنسَى رَوَاسِبَ الأَيَّامِ المَاضِيَةِ ، وَنُقبِلَ عَلَى بَعضِنَا بِقُلُوبٍ صَافِيَةٍ ، عَلَّمَنَا أَن نَتَلَذَّذَ بِكَلامِ رَبِّنَا ، وَأَن نُدِيمَ تِلاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيلِ وَأَطرَافَ النَّهَارِ ، عَلَّمَنَا أَن نُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ جَمَاعَةً وَنَحرِصَ عَلَى إِدرَاكِ التَّكبِيرَةِ الأُولى مَعَ الإِمَامِ ، أَوقَفَنَا بَينَ يَدَي خَالِقِنَا في التَّرَاوِيحِ وَالتَّهَجُّدِ ، نُنَاجِيهِ وَنُنَادِيهِ وَنَدعُوهُ وَنَرجُوهُ ، وَنَشكُو لَهُ ضَعفَنَا وَعَجزَنَا وَقِلَّةَ حِيلَتِنَا ، وَنَستَغفِرُهُ مِن ذُنُوبِنَا وَخَطَايَانَا ، عُمِرَتِ المَسَاجِدُ بِأَصوَاتِ التَّالِينَ لِكِتَابِ اللهِ ، وَاصطَفَّتِ الصُّفُوفُ في الأَسحَارِ بَينَ يَدَيِ اللهِ ، رَأَينَا دُمُوعَ المُصَلِّينَ القَانِتِينَ ، وَسَمِعنَا بُكَاءَ الخَاشِعِينَ المُخبِتِينَ ، وَحَرَّكَت قُلُوبَنَا ابتِهَالاتُ الدَّاعِينَ ، وَهَيَّجَت أَفئِدَتَنَا تَضَرُّعَاتُ الطَّالِبِينَ ، شَعَرنَا فِيهِ بِالأَمَانِ وَالطُّمَأنِينَ ةِ ، وَذُقنَا الرَّاحَةَ النَّفسِيَّةَ وَالسَّكِينَةَ ، وَبِقَدرِ مَا تَعِبَت أَجسَامُنَا بِالصِّيَامِ وَالقِيَامِ والطَّاعَةِ ، بِقَدرِ مَا تَنَعَّمَت قُلُوبُنَا وَأَروَاحُنَا وَذَاقَتِ الرَّاحَةَ ، فَيَا أُمَّةَ الإِسلامِ ، يَا مَن كُنتُم في رَمَضَانَ خَلقًا آخَرَ، حَاسِبُوا أَنفُسَكُم فِيمَا أَنتُم عَلَيهِ قَادِمُونَ ، وَاستَمِرُّوا عَلَى طَهَارِةِ القُلُوبِ وَتَمَسَّكُوا بِصَفَاءِ النُّفُوسِ ، وَلْيَكُنْ رَمَضَانُ مُنطَلَقًا لَكُم لِحَيَاةٍ إِيمَانِيَّةٍ مُستَمِرَّةٍ ، حَيَاةٍ تُودِّعُونَ فِيهَا ذَنُوبًا طَالَمَا اقتَرَفتُمُوهَا ، وَتُبَادِرُونَ فِيهَا صَالِحَاتٍ طَالَمَا هَجَرتُمُوهَا ، المَسَاجِدُ الَّتي عُمِرَت بِالصَّلاةِ مَعَ الجَمَاعَةِ، النُّفُوسُ الَّتي خَفَّت لِرَبِّهَا بِالطَّاعَةِ ، المَصَاحِفُ الَّتي قُلِّبَت صَفَحَاتُهَا وَخُتِمَت مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ , السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ الَّتي حُوفِظَ عَلَيهَا وَأُكمِلَت , الأَيدِي الَّتي بُسِطَت بِالإِنفَاقِ وَالعَطَاءِ ، الجَوَارِحُ الَّتي حُفِظَت مِنَ اللَّغوِ وَالهُرَاءِ ، الهِمَمُ الَّتي زَادَت وَالفُرَصُ الَّتي اغتُنِمَت ، الحَسَنَاتُ الَّتي جُمِعَت وَالسَّيِّئَاتُ الَّتي مُحِيَت , إِنَّ هَذِهِ لَهِيَ الحَالُ الَّتي يَجِبُ أَن يَكُونَ عَلَيهَا المُؤمِنُ في دُنيَاهُ كُلِّهَا ، إِنَّهَا الخِطَّةُ الَّتي يَجِبُ أَن يَمضِيَ عَلَيهَا في أَيَّامِ عُمُرِهِ المُبَارَكِ ، إِنَّهَا الطَريِقَةُ الَّتي يَجِبُ أَن تَتَسَابَقَ عَلَيهَا سُوَيعَاتُ حَيَاتِهِ العَطِرَةِ ، وَكَمَا انقَضَى رَمَضَانُ سَرِيعًا ، فَمَا أَسرَعَ وَاللهِ مَا سَيَنقَضِي العُمُرُ كُلُّهُ !!
أَلا
فَلا يَرْكَنَنْ قَلبٌ إِلى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ ، بَعدَ أَن ذَاقَ لَذَّةَ النَّشَاطِ وَوَجَدَ فِيهَا السَّعَةَ !
أَلا لا يَهجُرَنَّ أَحَدٌ كِتَابَ رَبِّهِ
أَو يَتَرَاجَعَ عَن صَفِّ مَسجِدِهِ ، بَعدَ أَنِ اقتَرَبَ مِن رَبِّهِ في سُجُودِهِ مَعَ السَّاجِدِينَ ، وَبَعدَ أَنِ استَطَعَمَ عُذُوبَةَ كَلامِ الخَالِقِ في تِلاوَتِهِ مَعَ التَّالِينَ ، مَن رَاقَبَ لِسَانَهُ وَحَفِظَ جَوَارِحَهُ , وَحَرِصَ عَلَى الحَلالِ وَاجتَنَبَ الحَرَامَ ، فَذَاقَ بِذَلِكَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ ، وَوَجَدَ طُمَأنِينَةَ قَلبِهِ في رِضَا الرَّحمَنِ ، فَكَيفَ يَعُودُ إِلى سَبَبِ مَوتِ قَلبِهِ وَقَتلِهِ ، أَو يَنقُضُ الغَزلَ بَعدَ إِحكَامِ فَتلِهِ ؟!

عَبدَ اللهِ ، يَا مَن قَصَّرتَ فِيمَا مَضَى أَو
تَكَاسَلتَ ، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ ! نَعَم ، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ ، فَوَاللهِ مَا فَاتَ ، وَلَقَد بَقِيَ مِن هَذَا الشَّهرِ أَيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ ، وَلَيَالٍ فَاضِلاتٌ وَسَاعَاتٌ غَالِيَاتٌ ، بَقِيَت مِنَحٌ إِلَهِيَّةٌ وَهِبَاتٌ وَأُعطِيَاتٌ ، وَأَنتَ تَتَعَامَلُ مَعَ رَبٍّ رَحِيمٍ جَوَادٍ كَرِيمٍ ، وَلَو لم يَبقَ في هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ إِلاَّ دَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ , فَمَا الَّذِي يَصرِفُكَ عَنِ اغتِنَامِهِا ؟
كَيفَ وَقَد بَقِيَت بَقِيَّةٌ صَالِحَةٌ مِن خَيرِ
الأَيَّامِ وَأَشرَفِ اللَّيَالي ؟ وَمَا يُدرِيكَ فَلَعَلَّ لَيلَةَ القَدرِ لم تَأتِ بَعدُ ، وَقَد قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
أَلا فَلا تُضَيِّعِ الوَقتَ ـ رَحِمَكَ اللهُ ـ وَإِنْ
كُنتَ قَد قَصَّرتَ في بِدَايَةِ الشَّهرِ وَفَرَّطتَ ، أَو أَسَأتَ في أَوَّلِهِ وَتَعَدَّيتَ ، فَأَحسِنِ العَمَلَ في آخِرِهِ وَاصدُقِ الطَّلَبَ ، وَاجعَلْ مِن هَذِهِ اللَّيَالي القَلِيلَةِ مَطِيَّتَكَ إِلى الجِنَانِ ، وَسَابِقْ إِخوَانَكَ بِهِمَّةٍ وَنَافِسْهُم بِعَزِيمَةٍ ، فَعَسَى أَن تَكُونَ مِمَّن قِيلَ فِيهِم : " وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُون َ "
تَذَكَّرْ قَولَ الحَبِيبِ ـ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ العَبدَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ النَّارِ وَإِنَّهُ مِن أَهلِ الجَنَّةِ ، وَيَعمَلُ عَمَلَ أَهلِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ مِن أَهلِ النَّارِ ، وَإِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . فَاختِمْ شَهرَكَ بِخَيرٍ ، عَسَى اللهُ أَن يَشمَلَكَ بِالخَيرِ وَيُوَفِّقَكَ لِلخَيرِ وَيَجعَلَكَ مِن أَهلِ الخَيرِ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ
الرَّجِيمِ : " شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ . وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُو ا لي وَليُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ "


الخطبة الثانية
:


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ
وَأَطِيعُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، اِستَدرِكُوا بَقِيَّةَ شَهرِكُم بِكَثرَةِ الطَّاعَاتِ ، وَاعمُرُوا سَاعَاتِهِ بِالذِّكرِ وَتِلاوَةِ الآيَاتِ ، وَأَخرِجُوا الزَّكَاةَ وَأَكثِرُوا الصَّدَقَاتِ ، وَتُوبُوا إِلى اللهِ مِمَّا سَلَفَ مِنَ الزَّلاتِ ؛ وَاعلَمُوا أَنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ ، وَأَنَّ عَمَلَ المُؤمِنِ لا يَنقَضِي بِانقِضَاءِ رَمَضَانَ ، بَل هُوَ مُستَمِرٌّ في كُلِّ وَقتٍ وَأَوَانٍ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ "
وَقَالَ عَن عِيسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ
: " وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لَكُم في خِتَامِ
شَهرِكُم عِبَادَاتٍ جَلِيلَةً ، تَعمَلُونَ بهَا شُكرًا لِرَبِّكُم ، فَتَزدَادُونَ مِنهُ قُربًا وَيَمنَحُكُم وُدًّا وَحُبًّا ؛ مِن ذَلِكَ التَّكبِيرُ لَيلَةَ العِيدِ إِلى صَلاةِ العِيدِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ "
وَالتَّكبِيرُ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ وَسُنَّةٌ كَرِيمَةٌ
، يَنبَغِي إِعلانُهُ إِذَا ثَبَتَ العِيدُ ، وَرَفعُهُ في المَسَاجِدِ وَالأَسوَاقِ وَالبُيُوتِ ، يَجهَرُ بِهِ الرِّجَالُ وَتُسِرُّ بِهِ النِّسَاءُ ؛ إِعلانًا لِلشَّعِيرَةِ وَشُكرًا لِلنِّعمَةِ ، وَإِغَاظَةً لِلكَفَرَةِ وَالمُنَافِقِين َ .
وَمِمَّا شُرِعَ لَكُم في خِتَامِ الشَّهرِ زَكَاةُ
الفِطرِ ، وَهِيَ صَاعٌ مِن قُوتِكُم ، عَلَى الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ وَالذِّكرِ وَالأُنثَى وَالغَنيِّ وَالفَقِيرِ ، شَرَعَهَا اللهُ ـ تَعَالى ـ تَكمِيلاً لِلصِّيَامِ وَشُكرًا لَهُ عَلَى إِكمَالِ العِدَّةِ ، وَطُهرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ ، وَمُوَاسَاةً لِلفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ ، وَإِغنَاءً لَهُم عَن ذُلِّ الحَاجَةِ وَالسُّؤَالِ يَومَ العِيدِ ، وَوَقتُ إِخرَاجِهَا مِن ثُبُوتِ خَبَرِ العِيدِ إِلى صَلاةِ العِيدِ ، وَيَجُوزُ إِخرَاجُهَا قَبلَ العِيدِ بِيَومٍ أَو يَومَينِ ، فَأَخرِجُوهَا مِن طَيِّبِ قُوتِكُم ، وابذُلُوهَا طَيِّبَةً بها نُفُوسُكُم ، فَإِنَّكُم " لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا يُجزِئُ إِخرَاجُ القِيمَةِ بَدَلاً عَنِ الطَّعَامِ ، كَيفَ وَقَد أَخرَجَهَا النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصحَابُهُ طَعَامًا مَعَ وُجُودِ القِيمَةِ في عَهدِهِم ، وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ : " لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا "
وَمِمَّا
شُرِعَ لَكُم في خِتَامِ شَهرِكُم صَلاةُ العِيدِ ، أَمَرَ بها رَسُولُ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ ، بَلْ حَتَّى العَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الخُدُورِ وَالحُيَّضُ ، أُمِرنَ بِشُهُودِهَا لِيَشهَدْنَ الخَيرَ وَدَعوَةَ المُسلِمِينَ ، فَهَنِيئًا لِمَنِ احتَسَبَ صِيَامَهُ وَقِيَامَهُ ، وَعَمَّرَ بِالطَّاعَاتِ لَيَالِيَهُ وَأَيَّامَهُ ، وَتَابَ تَوبَةً نَصُوحًا يُكَفِّرُ اللهُ بها ذُنُوبَهُ وَآثَامَهُ ، ذَاكَ وَاللهِ هُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الفَرَحُ بِالعِيدِ وَالسُّرُورُ بِلِبسِ الجَدِيدِ ، فَاللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقتَ إِلَيهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ، وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ .


ناصرعبدالرحمن 29-08-2011 05:46 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

خطبة عيد الفطر 1432





الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .



أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَا مَن شَهِدتُمُ العِيدَ وَلَبِستُمُ الجَدِيدَ ، بَعدَ أَنْ صُمتُم وَقُمتُم وَزكَّيتُم وَأَعطَيتُم ، وأَفرَدتُمُ اللهَ وَوَحَّدتُمُوهُ وَدَعَوتُمُوهُ ، وَأَقبَلتُم عَلَيهِ في رَمَضَانَ وَرَجَوتُمُوهُ ، وَأَنتُم في هَذَا البَلَدِ بِالعَدلِ تَنعَمُونَ ، وَلِلخَيرَاتِ تَقطِفُونَ ، هَل شَهِدتُم مَا حَفَلَ بِهِ عَامُكُم مِن أَحدَاثٍ فِيمَا حَولَكُم ؟!
هَل وَعَيتُم مَا تَمَخَّضَ عَنهُ مِن عِبَرٍ وَدُرُوسٍ وَعِظَاتٍ ؟!
العُرُوشُ الَّتي ثُلَّت وَسَقَطَت ، الحُكَّامُ الَّذِينَ أَفَلَت نُجُومُهُم وَانكَدَرَت ، الدُّوَلُ الَّتي اهتَزَّ اقتِصَادُهَا وتَأَرجَحَ ، وَهِيَ الآنَ تَستَعِدُّ لِلسُّقُوطِ في مَزبَلَةِ التَّأرِيخِ لِتُصبِحَ نَسيًا مَنسِيًّا ، تَقَلُّبُ أَقوَامٍ في نَعِيمٍ وَأَحسَنِ حُلَّةٍ ، وَابتِلاءُ آخَرِينَ بِالفَقرِ وَالجُوعِ وَالقِلَّةِ ، أَعَرَفتُم مَنشَأَ ذَلِكَ ومَبدَأَهُ ؟!
أَعَلِمتُم أَعظَمَ سَبَبٍ في بَقَاءِ الأُمَمِ أَو فَنَائِهَا ؟!
أَفَقِهتُم بِمَ يَكُونُ الانتِصَارُ وَالبِنَاءُ وَالطُّمَأنِينَ ةُ ؟!
وَمِن أَينَ تَأتي الهَزِيمَةُ وَالهَدمُ وَيَتَزَعزَعُ الأَمنُ وَيَحِلُّ الرَّوعُ ؟!
اللهُ المُستَعَانُ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ وَعَلَيهِ التُّكلانُ ، إِنَّ أَسَاسَ عِمَارَةِ الكَونِ الَّذِي قَامَت عَلَيهِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَبِهِ يَصلُحُ العِبَادُ وَتَزدَهِرُ البِلادُ ، وَمِن أَجلِهِ أَرسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وَأَنزَلَ الكُتُبَ ، وَلِتَثبِيتِهِ أَمَدَّ ـ سُبحَانَهُ ـ النَّاسَ بِالقُوَّةِ ، إِنَّهُ العَدلُ وَالقِسطُ ، نَعَم ، إِنَّهُ العَدلُ وَالقِسطُ ، الَّذِي مَا فَرَّطَتِ الأُمَمُ اليَومَ في ثَمِينٍ مِثلِهِ ، وَلا فَقَدَتِ الدُّوَلُ عَظِيمًا أَعَزَّ مِنهُ وَلا أَغلَى ، وَمِن ثَمَّ فَقَد أَصَابَتهَا القَلاقِلُ وَالفِتَنُ ، وَبُلِيَت بِالحُرُوبِ الطَّوِيلَةِ وَعَظِيمِ المِحَنِ ، وَحَلَّ بها مَا حَلَّ مِن زَوَالٍ وَدَمَارٍ وَعَدَمِ قَرَارٍ ، وَزَالَ عَنهَا مَا زَالَ مِن نِعَمٍ وَنَعِيمٍ ، وَتَوَارَى عَنهَا مَا تَوَارَى مِن خَيرَاتٍ وَبَرَكَاتٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ "
وَاللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ هُوَ الحَكَمُ العَدلُ ، أَمَرَ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ ، وَنَهَى عَنِ الظُّلمِ وَالطُّغيَانِ ، وَحَرَّمَ الظُّلمَ عَلَى نَفسِهِ وَعَلَى عِبَادِه ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربى وَيَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ "
وَقَالَ : " إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ "
وَقَالَ : " وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ "
وَقَالَ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ : " يَا عِبَادِي ، إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي وَجَعَلتُهُ بَينَكُم مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اِتَّقُوا الظُّلمَ فَإِنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ " أَخرَجَهُ مُسلِمٌ .
وَكَمَا أَمَرَ ـ تَعَالى ـ بِالعَدلِ في الأَحكَامِ وَالأَفعَالِ ، فَقَد أَوجَبَهُ في الأَقوَالِ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهما فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا "
بَل حَتَّى الإِصلاحُ أَوجَبَ اللهُ أَن يَكُونَ بِالقِسطِ وَالعَدلِ ، بِلا جَورٍ عَلَى الظَّالِمِ وَلَو جَارَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِن بَغَت إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمرِ اللهِ فَإِن فَاءَت فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا بِالعَدلِ وَأَقسِطُوَا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ "
بَل أَوجَبَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَلَى المُؤمِنِينَ العَدلَ حَتَّى مَعَ أَعدَائِهِم فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى "
وَمَعَ كَونِ العَدلِ مَطلُوبًا مِن جَمِيعِ النَّاسِ مَعَ بَعضِهِم ، وَعَلَيهِ تَقُومُ حَيَاتُهُم وَتُبنى مَصَالِحُهُم ، فَإِنَّهُ لا أَجمَلَ وَلا أَكمَلَ مِن عَدلِ الأَئِمَّةِ وَالوُلاةِ ، إِذْ بِهِ يَتَنَزَّلُ في البِلادِ الخَيرُ وَالبَرَكَةُ ، وَتُبَثُّ في قُلُوبِ العِبَادِ الطُمَأنِينَةُ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد كَانَ مِنَ السَّبعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ : إِمَامٌ عَادِلٌ . جَاءَ بِذَلِكَ الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيهِ ، وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعوَتُهُم : الإِمَامُ العَادِلُ ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفطِرَ ، وَدَعوَةُ المَظلُومِ " الحَدِيِثَ رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ أَحمَدُ شَاكِرُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَصحَابُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ : إِمَامٌ مُقسِطٌ مُصَّدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ بِكُلِّ ذِي قُربى وَمُسلِمٍ ، وَرَجُلٌ عَفِيفٌ فَقِيرٌ مُصَّدِّقٌ " رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِنَّهُ لَمَّا عَمَّ العَدلُ في الرَّعِيلِ الأَوَّلِ مِن أَئِمَّةِ المُسلِمِينَ ، كَثُرَتِ الخَيرَاتُ إِذْ ذَاكَ وَتَنَزَّلَتِ البَرَكَاتُ ، وَبَادَلَ المُسلِمُونَ وُلاتَهُم حُبًّا بِحُبٍّ وَنَصَحُوا لَهُم ، وَأَعطَوهُم مَا لَهُم مِن حَقِّ السَّمَعِ وَالطَّاعَةِ وَدَافَعُوا عَنهُم ، وَلَمَّا تَوَلَّتِ القُرُونُ الأُولى ، كَانَتِ الدُّوَلُ مَعَ رَعَايَاهَا في مَدٍّ وَجَزرٍ ، وَاختَلَفَ الأُمَرَاءُ وَالوُلاةُ عَدلاً وَجَورًا ، حَتَّى وَصَلَ النَّاسُ إِلى هَذَا العَصرِ الَّذِي اشتَدَّت فِيهِ غُربَةُ الدِّينِ ، وَابتُعِدَ كَثِيرًا عَنِ الحُكمِ بما أَنزَلَهُ رَبُّ العَالَمِينَ ، فَأَصبَحَ كَثِيرٌ مِنَ المُسلِمِينَ يَعِيشُونَ غُربَةً وَهُم في أَوطَانِهِم وَبَينَ أَهلِيهِم وَإِخوَانِهِم ، حُورِبُوا في دِينِهِم ، وَاستُبِيحَت حُرُمَاتُهُم ، وَتُجُسِّسَ عَلَيهِم في عِبَادَاتِهِم ، وَرُوقِبَت حَرَكَاتُهُم وَسَكَنَاتُهُم ، وَفُرِضَت عَلَيهِم عَادَاتُ الكُفَّارِ فَرضًا ، وأُطِرُوا عَلَى البَاطِلِ أَطرًا ، وجُوِّعُوا وَاسَتُؤثِرَ بِالأَموَالِ دُونَهُم ، وهُضِمُوا حُقُوقَهُم وَضُيِّقَ عَلَيهِم في أَرزَاقِهِم ، وَعَادَ المَظلُومُ يَصرُخُ فَلا يَجِدُ مُجِيبًا ، وَصَارَ المَلهُوفُ يَستَغِيثُ فَلا يَلقَى مُغِيثًا ، فَنَشَأَت فَجوَةٌ سَحِيقَةٌ بَينَ الحُكَّامِ وَالشُّعُوبِ ، جَعَلَت تِلكَ الشُّعُوبَ تَتَحَوَّلُ بَينَ عَشِيَّةٍ وَضُحَاهَا إِلى أُسُودٍ ثَائِرَةٍ وَوُحُوشٍ كَاسِرَةٍ ، وَتَنقَلِبُ بُحُورًا مِنَ الغَضَبِ هَادِرَةً مَائِرَةً ، فَتَرمِي حُكُومَاتِهَا بِحُمَمٍ مِن غَيظِهَا ، وَتَصُبُّ عَلى رُؤَسَائِهَا جَامَّ غَضَبِهَا ، فَسُبحَانَ مَن أَحيَا بِالعَدلِ القُلُوبَ وَأَنَارَ بِهِ الصُّدُورَ ، فَانشَرَحَت لأَئِمَّةِ العَدلِ وَأَحَبَّتهُم ، وَوَالَتهُم وَأَطَاعَتهُم وَدَعَت لَهُم ، وَضَيَّقَ بِالظُّلمِ صُدُورَ المَظلُومِينَ وَقَسَّى بِهِ قُلُوبَهُم ، فَلَعَنُوا وُلاةَ الجَورِ وَأَبغَضُوهُم وَقَاتَلُوهُم ، وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم ، وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم ، وَتَلْعَنُونَهُ م وَيَلعَنُونَكُم " الحَدِيثَ ، رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّ اللهَ لَيُملِي لِلظَّالِمِ ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ ، ثُمَّ قَرَأَ : " وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ "


إِنَّهُ الظُّلمُ وَالطُّغيَانُ ، يُهلِكُ الأُمَمَ في الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ ، وَإِنَّهُمُ الظَّالمُونَ ، مُبغَضُونَ في الأَرضِ وَالسَّمَاءِ ، لا يُحِبُّهُمُ اللهُ وَلا يَهدِيهِم وَلا يُوَفِّقُهُم ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَتِلكَ القُرَى أَهلَكنَاهُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلنَا لِمَهلِكِهِم مَوعِدًا "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ عَن قَومِ نُوحٍ " فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُم ظَالمُونَ "
وَقَالَ عَن فِرعَونَ وَجُنُودِهِ : " فَأَخَذنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذنَاهُم في اليَمِّ فَانظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالمِينَ "
وقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّا أَعتَدنَا لِلظَّالمِينَ نَارًا أَحَاطَ بهم سُرَادِقُهَا وَإِن يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَت مُرتَفَقًا "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " قَالَ لا يَنَالُ عَهدِي الظَّالمِينَ "
وَقَالَ : " إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظَّالمُونَ "
وَقَالَ : " وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ "
وَقَالَ ـ : " وَسَيَعلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ "
وَقَالَ : " أَلا لَعنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالمِينَ "
وَقَالَ : " وَقَد خَابَ مَن حَمَلَ ظُلمًا "
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لم تَزَلْ هَذِهِ الدَّولَةُ مُنذُ قِيَامِهَا ـ وَللهِ الحَمدُ ـ تَتَفَيَّأُ ظِلَّ دَوحَةِ العَدلِ ، وَيحَكُمُ قُضَاتُهَا بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَيَجتَهِدُونَ لإِيصَالِ الحَقِّ لِمُستَحِقِّهِ وَرَفعِ الظُّلمِ عَمَّن وَقَعَ عَلَيهِ ، وَهُم في ذَلِكَ بَينَ أَجرٍ وَأَجرَينِ ، وَمِن ثَمَّ كَانُوا حَقِيقِينَ بِإِجَلالِهِم وَتَقدِيرِهِم وَتَوقِيرِهِم طَاعَةً لِرَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " إِنَّ مِن إِجلالِ اللهِ إِكرَامَ ذِي الشَّيبَةِ المُسلِمِ ، وَحَامِلِ القُرآنِ غَيرِ الغَالي فِيهِ وَلا الجَافي عَنهُ ، وَإِكرَامَ ذِي السُّلطَانِ المُقسِطِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
غَيرَ أَنَّهَا نَبَتَت نَابِتَةُ نِفَاقٍ مُجرِمَةٌ ، لم تَرفَعْ رَأسًا بما تَحَقَّقَ لِهَذِهِ البِلادِ في ظِلِّ الشَّرِيعَةِ مِن عَدلٍ ، وَلم تَذُقْ طَعمًا لما كَفَاهَا اللهُ بِبَرَكَةِ قَضَائِهَا الشِّرعِيِّ مِن ظُلمٍ ، فَاشتَغَلَت في صُحُفِها بِالطَّعنِ في أَحكَامِ القُضَاةِ ، وَجَعَلَت مِن مُسَلسَلاتِهَا الطَّائِشَةِ وَسِيلَةً لِلتَّنَدُّرِ بِهِم وَالاستِهزَاءِ بِهَيئَاتِهِم وَنَقدِ أَقضِيَتِهِم ، سَائِرَةً في ذَلِكَ مَعَ مَا بُلِيَ بِهِ الوُلاةُ مِن مُتَزَلِّفِينَ مُتَمَلِّقِينَ ، جَعَلُوا دَيدَنَهُم الثَّنَاءَ الكَاذِبَ عَلَى كُلِّ تَصَرُّفٍ مِن مَسؤُولٍ صَحِيحًا كَانَ أَو غَيرَ صَحِيحٍ ، وَدَرَجُوا عَلَى قَلبِ الحَقَائِقِ عَلَى مَن فَوقَهُم وَتَغيِيبِهِ عَنِ الوَاقِعِ وَإِنْ كَانَ مُرًّا ، وَعَمَدُوا إِلى الحَيلُولَةِ بَينَ الوُلاةِ وَبَينَ الأَخذِ بِنُصحِ المُخلِصِينَ ، أَوِ الاستِمَاعِ إِلى شَكَاوَى المَظلُومِينَ . وَإِنَّ مَا حَدَثَ في عَامِنَا هَذَا مِن ثَورَاتٍ عَارِمَةٍ عَصَفَت بِرُؤَسَاءِ دُوَلٍ وَأَسقَطَت عُرُوشَهُمُ ، وَاقتَلَعَتهُم مِن كَرَاسِيِّهِم وَطَرَدتهُم مِن أَوطَانِهِم ، إِنَّهَا لَتُؤَكِّدُ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَنَّ القُوَّةَ لهِم وَحدَهُ ، بِيَدِهِ المُلكُ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَيَنزِعُهُ مِمَّن يَشَاءُ ، وَيُعِزُّ مَن يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَن يَشَاءُ ، وَأَنَّ مَرتَعَ الظُّلمِ وَخِيمٌ وَعَاقِبَتَهُ سَيِّئَةٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَاحذَرُوا الظُّلمَ بِجَمِيعِ أَنوَاعِهِ وَأَشكَالِهِ ، وَكُونُوا أَشَدَّ حَذَرًا مِن أَكَبَرِهِ وَهُوَ الشِّركُ بِاللهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ "
ثُمَّ إِيَّاكُم وَمُشَارَكَةَ مُنَافِقِي هَذَا العَصرِ في ظُلمِهِم ، بِمُحَارَبَةِ الدُّعَاةِ المُصلِحِينَ ، أََو مُجَابَهَةِ الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِيَنَّ عَنِ المُنكَرِ ، أَوِ الاستِهزَاءِ بِهِم وَإِيذَائِهِم ، أَو تَُوَلِّي الكَافِرِينَ وَتَقلِيدِهِم في كُلِّ شَيءٍ ، فَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن أَظلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ وَسَعَى في خَرَابِهَا "
وَقَالَ : " وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ "
ثُمَّ احذَرُوا بَعدُ مِن أَنوَاعٍ مِنَ الظُّلمِ ، ذُكِرَت في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالذَمِّ ، مِن أَعظَمِهَا تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ وَالتَجَرُّؤُ عَلَى مَعاصِيهِ وَالإِعرَاضُ عَن آيَاتِهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعرَضَ عَنهَا إِنَّا مِنَ المُجرِمِينَ مُنتَقِمُونَ "
إِيَّاكُم وَكَتمَ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ مِنَ الظُّلمِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن أَظلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ "
وَاحذَرُوا الاعتِدَاءَ عَلَى الأَنفُسِ البَرِيئَةِ بِقَتلٍ أَو ضَربٍ أَو إِيذَاءٍ ، أَو تَضيِيقٍ في الرِّزقِ وَأَكلٍ لِعَرَقِ الجَبِينِ ؛ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَجِيءُ المَقتُولُ بِالقَاتِلِ يَومَ القِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأسُهُ بِيَدِهِ وَأَودَاجُهُ تَشخُبُ دَمًا فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَني ؟ حَتى يُدنِيَهُ مِنَ العَرشِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابنُ مَاجَهْ ، وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن ضَرَبَ بِسَوطٍ ظُلمًا ، اِقتُصَّ مِنهُ يَومَ القِيَامَةِ " رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَنِ اقتَطَعَ حَقَّ امرِئٍ مُسلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَد أَوجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ " فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " قَالَ اللهُ ـ تَعَالى ـ : ثَلاثةٌ أَنَا خَصمُهُم يَومَ القِيَامَةِ ـ وَذَكَرَ مِنهُم قَولَهُ ـ : وَرَجُلٌ استَأجَرَ أَجِيرًا فَاستَوفى مِنهُ وَلم يُعطِهِ أَجرَهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَمِنَ الظُّلمِ الاعتِدَاءُ عَلَى المُمتَلَكَاتِ العَامَّةِ وَالاستِئثَارُ بها أَو أَكلُهَا ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَنِ استَعمَلنَاهُ مِنكُم عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخيَطًا فَمَا فَوقَهُ ، كَان غُلُولاً يَأتي بِهِ يَومَ القِيَامَةِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَمِن الظُّلمِ التَّفرِقَةُ بَينَ الأَولادِ في العَطِيَّةِ ، أَو الجَورُ وَالحَيفُ في الوَصِيَّةِ ، أَو عَضلُ البَنَاتِ وَالمُتَاجَرَةُ بِمُهُورِهِنَّ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اِتَّقُوا اللهَ وَاعدِلُوا بَينَ أَولادِكُم " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ : اليَتِيمِ وَالمَرأَةِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ عَلَى الأُمَّةِ أَن تُوَاجِهَ الظُّلمَ وَتُحَارِبَ الظَّلَمَةَ ، إِنذَارًا وَإِعذَارًا ، وَحِفظًا لِسَفِينَةِ المُجتَمَعِ ، وَإِلاَّ فَلْتَنتَظِرِ الهَلاكَ جَمِيعًا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ ، أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ " رَوَاهُ أَهلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
فَيَا مَن عَدَى ثُمَّ اعتَدَى ، اِتَّقِ اللهَ وَاعلَمْ أَنَّ الظَّالمَ يِأتي يَومَ القِيَامَةِ وَقَد شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، فَيُعطَى هَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِن حَسَنَاتِهِ ، فَإِن فَنِيَت حَسَنَاتُهُ قَبلَ أَن يُقضَى مَا عَلَيهِ ، أُخِذَ مِن خَطَايَاهُم فَطُرِحَت عَلَيهِ ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ . بهَذَا جَاءَ الخَبَرُ عَنِ المَعصُومِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَمَا في صَحِيحِ مُسلِمٍ وَغَيرِهِ .
أَمَّا أَنتَ ـ أَيُّهَا المَظلُومُ ـ فَاعلَمْ أَنَّهُ " لا يُحِبُّ اللهُ الجَهرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَولِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ " فَارفَعْ شِكَاتَكَ إِلى الوُلاةِ أَو تَقَدَّمْ بها إِلى القُضَاةِ ، وَإِنْ صَبَرتَ فَأَبشِرْ بِالأَجرِ وَالعِزِّ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " ثَلاثٌ أُقسِمُ عَلَيهِنَّ وَأُحَدِّثُكُم حَدِيثًا فَاحفَظُوهُ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبدٍ مِن صَدَقَةٍ ، وَلا ظُلِمَ عَبدٌ مَظلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا ، وَلا فَتَحَ عَبدٌ بَابَ مَسأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيهِ بَابَ فَقرٍ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَلا تَحسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّالمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فِيهِ الأَبصَارُ . مُهطِعِينَ مُقنِعِي رُؤُوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَوَاءٌ . وَأَنذِرِ النَّاسَ يَومَ يَأتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلم تَكُونُوا أَقسَمتُم مِن قَبلُ مَا لَكُم مِن زَوَالٍ . وَسَكَنتُم في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلنَا بهِم وَضَرَبنَا لَكُمُ الأَمثَالَ . وَقَد مَكَرُوا مَكرَهُم وَعِندَ اللهِ مَكرُهُم وَإِنْ كَانَ مَكرُهُم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبَالُ . فَلا تَحسَبَنَّ اللهَ مُخلِفَ وَعدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ "



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم ـ جَلَّ وَعَلا ـ فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى .
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَلهِر الحَمدُ .


عِبَادَ اللهِ ، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَجَانِبُوا الشَّهَوَاتِ ، وَأَدُّوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا الشَّهرَ ، وَاقضُوا مَا أَوجَبَ رَبُّكُم عَلَيكُم مِن حَجٍّ وَعُمرَةٍ ، ثُمَّ مُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلا تَأخُذَنَّكُم في اللهِ لَومَةُ لائِمٍ ، وَانصَحُوا لهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ وَعَامَّتِهِم ، كُونُوا إِخوَةً مُتَحَابِّينَ ، عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى مُتَعَاوِنِينَ ، وَإِيَّاكُم وَعَزَاءَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخرَهَا بِالأَحسَابِ وَطَعنَهَا في الأَنسَابِ ، فَإِنَّمَا هُوَ مُؤمِنٌ تَقِيٌّ أَو فَاجِرٌ شَقِيٌّ ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِن تُرَابٍ .
إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ فَخُذُوهُ ، وَالحَرَامَ بَيِّنٌ فَاجتَنِبُوهُ ، وَالشُّبُهَاتُ في هَذَا الزَّمَانِ كَثِيرَةٌ ومُنتَشِرَةٌ ، فَاتَّقُوهَا وَاحذَرُوهَا ، وَلا تَنخَدِعُوا بِلمَعَانِهَا وبَرِيقِهَا ، فَوَاللهِ مَا أَذهَبَ دِينَ الكَثِيرِينَ اليَومَ وَأَحَلَّ أَعرَاضَهُم وَأَفسَدَ قُلُوبَهُم ، وَذَهَبَ بِبَرَكَةِ أَموَالِهِم وَمَنَعَ إِجَابَةَ دُعَائِهِم ، إِلاَّ وُلُوغُهُم في الشُّبُهَاتِ ، وَتَسَاهُلُهُم بِالمُختَلِطَات ِ ، وَوُقُوعُهُم في حِمَى المُحَرَّمَاتِ .
إِنَّ لَكُم دِينًا عَظِيمًا ، مَا تَرَكَ خَيرًا إِلاَّ دَلَّ عَلَيهِ ، وَلا شَرًّا إِلاَّ حَذَّرَ مِنهُ ، فَلِمَ التَّفَلُّتُ مِنهُ وَالنُّزُوعُ إِلى مَذَاهِبَ غَربِيَّةٍ أَو شَرقِيَّةٍ ؟
لِمَ الاغتِرَارُ بِالفَسَقَةِ وَدُعَاةِ الشَّرِّ ؟
إِنَّ في أَغلَبِ القَنَوَاتِ وَفي كَثِيرٍ مِن مَوَاقِعِ الشَّبَكَةِ ، وَفي أَروِقَةِ مُؤَسَّسَاتِ الصَّحَافَةِ وَدَهَالِيزِ مُؤَسَّسَاتِ العَفَنِ المُسَمَّى بِالفَنِّ ، إِنَّ فِيهَا لَدُعَاةً عَلَى أَبوَابِ جَهَنَّمَ ، مَن أَجَابَهُم إِلَيهَا قَذَفُوهُ فِيهَا ، فَلا يَغُرَّنَّكُم أَنَّهُم مِن جِلدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُون َ بِأَلسِنَتِنَا ، أَوِ ادِّعَاؤُهُم أَنَّهُم يُرِيدُونَ نَقدًا أَو إِصلاحًا ، فَمَا هُم وَاللهِ بِمُصلِحِينَ وَلَكِنَّهُم مُفسِدُونَ قَد زُيِّنَ لَهُم سُوءُ عَمَلِهِم فَرَأَوهُ حَسَنًا ، وَالمَوعِدُ اللهُ وَالدَّارُ الآخِرَةُ ، فَالْزَمُوا جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ وَإِمَامَهُم وَخُذُوا عَن عُلَمَائِهِم " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ . إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعِيرِ . الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَغفِرَةٌ وَأَجرٌ كَبِيرٌ . أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذهَبْ نَفسُكَ عَلَيهِم حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بما يَصنَعُونَ "
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَلهِ" الحَمدُ .


يَا نِسَاءَ المُسلِمِينَ ، لَقَد مَنَحَكُنَّ اللهُ الأُنُوثَةَ بِنُعُومَتِهَا وَرِقَّتِهَا ، وَأَكرَمَكُنَّ بِفَيضِ المَشَاعِرِ وَمَلاحَةِ الدَّلالِ وَحُسنِ التَّبَعُّلِ ، وَجَمَّلَكُنَّ بِالحَيَاءِ وَالعَفَافِ وَحَفِظَكُنَّ بِالتَّسَتُّرِ . رِسَالَتُكُنَّ عِمَارَةُ البُيُوتِ ، ومُهِمَّتُكُنَّ حِفظُ الأَزوَاجِ ، وَوَظِيفَتُكُنّ َ تَربِيَةُ الأَولادِ ، وَقَد قَضَى ـ سُبحَانَهُ ـ بِأَنَّهُ " وَلَيسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى " وَمِن ثَمَّ فَقَد أَمرَكُنَّ بِالقَرَارِ في البُيُوتِ ، وَنَهَاكُنَّ عَن تَبَرُّجِ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى ، وَحَذَّرَكُنَّ مِنَ الخُضُوعِ بِالقَولِ لِئَلاَّ يَطمَعَ فِيكُنَّ أَصحَابُ الشَّهَوَاتِ وَمَرضَى القُلُوبِ ، فَكَيفَ تُحَارِبُ إِحدَاكُنَّ مَا وَهَبَهَا اللهُ مِن نِعَمٍ ، أَو تُخَالِفُ مَا فَطَرَهَا عَلَيهِ مِن فِطرَةٍ ؟!
كَيفَ تَخلَعُ رِدَاءَ الأُنُوثَةِ الَّذِي هُوَ جَمَالُهَا وَكَمَالُهَا ، فَتَستَرجِلَ وَتَلبَسَ ثَوبًا غَيرَ ثَوبِهَا ؟! أَلا تَرَينَ دُوَلَ الكُفرِ وَالعُهرِ وَقَد خَرَجَت نِسَاؤُهَا عَنِ الفِطرَةِ كَيفَ اضطَرَبَت لَدَيهِم بِذَلِكَ المَوَازِينُ وَاختَلَفَتِ المَفَاهِيمُ ، وَخَرِبَت بُيُوتُهُم وَاختَلَطَت أَنسَابُهُم ، وَكَثُرَ فِيهِمُ اللُّقَطَاءُ وَمَجهُولُو الأُمَّهَاتِ وَالآبَاءِ ، وَصَارُوا عِبئًا على مُجتَمَعَاتِهِم ، وَغَدَوا فِيهَا لُصُوصًا مُفسِدِينَ وَمُجرِمِينَ عَابِثِينَ ؟!
فَالحَذَرَ الحَذَرَ يَا أَمَةَ اللهِ مِمَّن يَخدَعُونَكِ بِشِعَارَاتِهِم ُ البَرَّاقَةِ ، زَاعِمِينَ أَنَّهُم يُرِيدُونَ مَنحَكِ حُرِّيَّتَكِ وَتَخلِيصَكِ مِن سِجنِ الزَّوجِيَّةِ وَأَغلالِ المَحْرَمِ ، وَمُرَادُهُم بِذَلِكَ مَعرُوفٌ وَقَصدُهُم غَيرُ مَجهُولٍ .
حَبَّذَا وَاللهِ ـ يَا أَمَةَ اللهِ ـ أَن تَكُوني عَطُوفًا وَدُودًا مُبَارَكَةً وَلُودًا ، مَحبُوبَةً مِنَ الجِيرَانِ مَحمُودَةً في السِّرِّ والإعلانِ ، كَرِيمَةَ التَّبَعُّلِ كَثِيرَةَ التَّفَضُّلِ ، خَافِضَةً صَوتًا نَظِيفَةً بَيتًا ! وَلا حَبَّذَا ـ وَرَبِّ الكَعبةِ ـ أَن تَكُوني ممَّن لا يَشكُرْنَ عَلَى جَمِيلٍ وَلا يَرضَينَ بِقَلِيلٍ ، أو ممَّن هِيَ خَرَّاجَةٌ وَلاَّجَةٌ ، تَهُبُّ مَعَ الرِّيَاحِ وَتَطِيرُ مَعَ كُلِّ ذِي جَنَاحٍ ، أَو كَتِلكَ المَاضِغَةِ لِلِسَانِهَا الآخِذَةِ في غَيرِ شَأنِهَا ، أَلا فَاتَّقِي اللهَ وَخُذِي مِنهَاجَ حَيَاتِكَ الَّذِي بِهِ فَلاحُكِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، خُذِيهِ مِن فَمِ مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى حَيثُ قَالَ : " إِذَا صَلَّتِ المَرأَةُ خَمسَهَا ، وَصَامَت شَهرَهَا ، وَحَصَّنَت فَرجَهَا ، وَأَطَاعَت زَوجَهَا ، قِيَلَ لها : ادخُلِي الجَنَّةَ مِن أَيِّ أَبوَابِ الجَنَّةِ شِئتِ " رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَلهِا الحَمدُ .


عِبَادَ اللهِ ، أَدِيمُوا الطَّاعَةَ بَعدَ رَمَضَانَ ، وَأَتبِعُوا الإِحسَانَ بِالإِحسانِ ، صُومُوا سِتَّ شَوَّالٍ تَنَالُوا أَجرًا عَظِيمًا ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
تَصَافَحُوا وَتَصَالَحُوا ، وَتَعَانَقُوا وَابتَسِمُوا في وُجُوهِ بَعضِكُم ، وَأَفشُوا السَّلامَ وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصِلُوا الأَرحَامَ وَأَكرِمُوا الجِيرَانَ ، وَوَسِّعُوا عَلَى أَهلِيكُم وَمَن تَحتَ أَيدِيكُم ، وَلا تَنسَوا إِخوَانَكُم في مَشَارِقِ الأَرضِ وَمَغَارِبِهَا ، فَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِهِم ، وَادعُوا لِلمُضطَهَدِينَ مِنهُم ، عَسَى اللهُ أَن يُغنِيَهُم مِن فَضلِهِ وَيُعَجِّلَ فَرَجَهُم وَيَنصُرَهُم عَلَى القَومِ الظَّالمِينَ
.

ناصرعبدالرحمن 02-09-2011 07:16 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أدومه وإن قل 4 / 10 / 1432


الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَأَرضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفىَّ الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كُنَّا في شَهرِ رَمَضَانَ ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَّا عَلَى مُستَوًى عَالٍ مِنَ الإِيمَانِ ، وَكَانَت النُّفُوسُ قَرِيبَةً مِمَّا يُرضِي الرَّحمنَ ، بَعِيدَةً عَمَّا يُسخِطُ رَبَّهَا وَخَالِقَهَا ، تَطلُبُ الخَيرَ جُهدَهَا ، وَتَبحَثُ عَن أَسبَابِهِ مَا أَمكَنَهَا ، وَتَهَشُّ إِلَيهِ وَتَرتَادُ أَمَاكِنَهُ ، وَتَتَبَاعَدُ عَنِ الشَّرِّ وَتَتَّقِي بَوَاعِثَهُ ، وتَتَحَاشَاهُ وَتُجَانِبُ أَهلَهُ ، وَكُنَّا نَرَى الحِرصَ عَلَى فِعلِ كُلِّ مَا يُدني إِلى الجَنَّةِ وَيُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ ، مِن طَاعَةٍ للهِ وَحِفظِ أَلسِنَةٍ وَجَوَارِحَ ، وَفِعلٍ لِلحَسَنَاتِ وَحُسنِ خُلُقٍ مَعَ النَّاسِ وَطِيبِ تَعَامُلٍ .
وَتِلكَ حَالٌ لَلمُؤمِنِينَ مُبَارَكَةٌ ، وَبُستَانٌ وَارِفُ الظِّلِّ وَافِرُ الثَّمَرَاتِ ، يَتَمَنَّى كُلُّ عَارِفٍ بِرَبِّهِ لَو دَامَ طُوَالَ أَيَّامِ العَامِ ، غَيرَ أَنَّ ممَّا يُلحَظُ في كُلِّ سَنَةٍ وَيَعرِفُهُ كَثِيرُونَ مِنَّا عَن أَنفُسِهِم ، وَلا يَخفَى عَلَى مَن نَصَحَ لِذَاتِهِ مِنهُم ، أَنَّهُ مَا يَخرُجُ رَمَضَانُ في كُلِّ عَامٍ ، حَتَّى تَعُودَ تِلكَ القُوَّةُ في الحَقِّ خَوَرًا وَضَعفًا غَيرَ مَقبُولٍ ، وَحَتَّى يَغدُوَ ذَلِكَ الحِرصُ عَلَى الخَيرِ عَجزًا وَتَرَاجُعًا . بَل قَد يَصِيرُ التَّجوِيدُ وَالإِتقَانُ إِلى تَقصِيرٍ وَرَوَغَانٍ ، فَتَرَى الَّذِي حَافَظَ عَلَى الصَّلَواتِ يَعُودُ لِخَرمَ ذَلِكَ العَهدِ العَظِيمِ ، وَيَنقُضُ غَزلَهُ بَعدَ قُوَّةٍ ، وَتَرَى صَاحِبَ الخُلُقِ الحَسَنِ مَعَ النَّاس قَد رَجَعَ إِلى سَابِقِ عَهدِهِ بِسُوءِ التَّعَامُلِ ، وَعَادَ إِلى مَا كَانَ عَلَيهِ مِن فَاحِشِ القَولِ وَحِدَّةِ الغَضَبِ ، وَتَجِدُ مِن بَسَطَ يَدَهُ في إِنفَاقٍ وَعَطَاءٍ قَد تَرَاجَعَ وَعَزَمَ عَلَى أَن يَقبِضَهَا طُوَالَ سَنَتِهِ .
وَالحَقُّ أَنَّ هَذَا مِمَّا لا يُحِبُّهُ اللهُ مِن عَبدِهِ ، كَيفَ وَقَد أَمَرَ ـ سُبحَانَهُ ـ مَن أَمَرَ مِن أَنبِيَائِهِ بِاستِدَامَةِ العِبَادَةِ حَتَّى يَأتِيَهُ المَوتُ فَيُفَارِقَ هَذِهِ الدُّنيَا ، وَأَوصَى مَن أَوصَى بِالمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ مَا دَامَتِ الرُّوحُ في الجَسَدِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ "
وَقَالَ عَن عِيسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " وَأَوصَاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمتُ حَيًّا "
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِن عَبدِهِ المُدَاوَمَةَ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلاً ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَحَبُّ الأَعمَالُ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ ، وَعِندَ مُسلِمٍ : " أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيهِ صَاحِبُهُ وَإِن قَلَّ "
وَلَقَدِ امتَثَلَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَمرَ رَبِّهِ لَهُ بِاستِدَامَةِ العِبَادَةِ ، وَأَتَى بما يَرضَاهُ ـ تَعَالى ـ وَيُحِبُّهُ مِنَ المُدَاوَمَةِ عَلَى صَالِحِ العَمَلِ ، فَكَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثبَتَهُ ، وَحِينَ سُئِلَت عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ عَن عَمَلِهِ قَالَت : كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً . رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَقَد أَمَرَ بِذَلِكَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بَعضَ صَحَابَتِهِ الكِرَامِ لِيَكُونَ لَهُم وَلِمَن بَعدَهُم مَنهَجًا ، ثَبَتَ في الصَّحِيحَينِ عَن عَبدِاللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَ : قَالَ لي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَا عَبدَاللهِ ، لا تَكُن مِثلَ فُلانٍ ، كَانَ يَقُومُ اللَّيلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيلِ "

وَقَد أَخَذَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهَذَا المَنهَجِ النَّبَوِيِّ الكَرِيمِ وَالتَّوجِيهِ المُحَمَّدِيِّ العَظِيمِ ، وَسَارُوا عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ المُستَقِيمِ ، فَكَانَ أَحَدُهُم يُعرَفُ بِالعَمَلِ الوَاحِدِ مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ مَدَى عُمرِهِ كُلِّهِ لا يَترُكُهُ وَلا يُفرِّطُ فِيهِ ، فَكَانَ مِنهُم مَن لم تَفُتْهُ تَكبِيرَةُ الإِحرَامِ مَعَ الجَمَاعَةِ في المَسجِدِ أَربَعِينَ سَنَةً ، وَكَانَ مِنهُم مَن خَتَمَ القُرآنَ في بَيتِهِ آلافَ المَرَّاتِ ، وَمِنهُم مَن كَانَ يَحُجُّ كُلَّ عَامٍ وَمِنهُم مَن أَدَامَ الصِّيَامَ ، وَمِنهُم مَن ظَلَّ غَازِيًا طُولَ عُمرِهِ مُجَاهِدًا في سَبِيلِ رَبِّهِ ، وَمِنهُم مَن لم يُرَ إِلاَّ وَهُوَ عَاكِفٌ عَلَى كُتُبِهِ وَبَينَ مُجَلَّدَاتِهِ ، يَبحَثُ مَسَائِلَ العِلمِ وَيُحَرِّرُهَا لِلمُسلِمِينَ ، وَمِنهُم مَن عَاشَ وَاهِبًا نَفسَهُ لِتَعلِيمِ العِلمِ وَنَشرِهِ وَالدَّعوَةِ إِلى سَبِيلِ رَبِّهِ ، أَو تَربِيَةِ طُلاَّبِهِ في حِلٍّ وَتَرحَالِ ، يَستَمِعُ لِمَحفُوظِهِم وَيَشرَحُ لَهُم مَا غَمُضَ عَلَيهِم ، وَمَا زِلنَا نَرَى تِلكَ السِّمَةَ في قَلِيلٍ مِن عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ حَتَّى زَمَانِنَا هَذَا ، فَتَجِدُ أَحَدَهُمُ عَلَى جَادَّةِ الحَقِّ مُستَقِيمًا عُقُودًا مِنَ الزَّمَانِ ، مُوَلِّيًا وَجهَهُ صَوبَ آخِرَتِهِ مَعرُوفًا بِذَلِكَ مُنذُ عَشَرَاتِ السِّنِينَ ، صَامِدًا ثَابِتًا لا يَروَغُ رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ ، لا يَتَرَدَّدُ في الازدِيَادِ مِن تَقوَى اللهِ بالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَلا يَتَغَيَّرُ خُلُقُهُ الحَسَنُ عَامًا بَعدَ عَامٍ ، وَلا تَسُوءُ عِلاقَتُهُ مَعَ الآخَرِينَ يَومًا وَرَاءَ آخَرَ ، أَمَّا الكَثِيرُ مِنَّا حَتَّى مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَن سِيمَاهُم الاستِقَامَةُ ، فَقَد عَادُوا يَشعُرُونَ بِالتَّقصِيرِ وَتَأنِيبِ الضَّمِيرِ ؛ لِكَثرَةِ مَا يَرَونَ مِن أَنفُسِهِم وممَّن حَولَهُم مِن تَرَاجُعٍ بَعدَ تَقَدُّمٍ ، وَضَعفِ هِمَّةٍ بَعدَِ قُوَّةِ حَمَاسَةٍ ، وَطُولِ تَكَاسُلٍ بَعدَ صَادِقِ عَزِيمَةٍ , إِنَّهَا آفَةٌ قَبِيحَةٌ قَد تَعتَرِي بَعضَنَا وَخَاصَّةً بَعدَ مُرُورِ مَوَاسِمِ الخَيرِ وَانقِضَائِهَا , فَيَذهَبُ فَجأَةً مَا جَاءَ فَجأَةً ، وَيَزُولُ سَرِيعًا مَا أَتَى سَرِيعًا ، وَمِن هُنَا كَانَ ممَّا لا بُدَّ مِنهُ أَن يُحَاسِبَ كُلٌّ مِنَّا نَفسَهُ وَيُجَاهِدَهَا وَيُؤَدِّبَهَا ، فَلا يَترُكَ عَمَلاً صَالِحًا فَعَلَهُ ، وَلا يَقطَعَ خَيرًا بَدَأَ بِهِ ؛ بَل عَلَيهِ أَن يُدَاوِمَ وَلَو عَلَى القَلِيلِ , مَاشِيًا عَلَى تِلكَ القَاعِدَةِ النَّبَوِيَّةِ الذَّهَبِيَّةِ : " أَحَبُّ العَمَلِ إِلى اللهِ أَدوَمُهُ وَإِن قَلَّ "
نَعَم ، إِنَّ هَذِهِ القَاعِدَةَ يَجِبُ أَن تَكُونَ لَنَا نِبرَاسًا وَمَنهَجَ حَيَاةٍ , سَوَاءٌ في أَدَاءِ الوَاجِبَاتِ وَهُوَ مَا لا يَحتَمِلُ مِنَّا التَّركَ وَلا التَّأجِيلَ وَلَو مَرَّةً وَاحِدَةً ، أَو في التَّزَوُّدِ مِنَ السُّنَنِ وَالمَندُوبَاتِ ، وَهُوَ الزَّادِ الَّذِي لا يَحسُنُ بِمُؤمِنٍ عَلِمَ قِصَرَ الحَيَاةِ وَقُربَ المَمَاتِ أَلاَّ يَأخُذَ مِنهُ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَنَصِيبٌ كَبِيرٌ .
أَلا فَلْنُحَاسِبْ أَنفُسَنَا دَائِمًا ، وَلا نَتَسَاهَلْ في ذَلِكَ أَبَدًا ، فَإِنَّ القَلِيلَ الدَّائِمَ خَيرٌ مِنَ الكَثِيرِ المُنقَطِعُ ، ثُمَّ إِنَّ استِدَامَةَ العَمَلِ الصَّالِحِ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَفِعلَ العِبَادَةِ بَعدَ العِبَادَةِ ، وَالمُحَافَظَةَ عَلَى الطَّاعَةِ بَعدَ الطَّاعَةِ ، إِنَّ ذَلِكَ لَعَلامَةٌ عَلَى تَقَبُّلِ اللهِ مِنَ العَبدِ مَا قَدَّمَ ، وَقَد ذَكَرَ العُلَمَاءُ أَنَّ مِن عَلامَةِ قَبُولِ الحَسَنَةِ فِعلَ الحَسَنَةِ بَعدَهَا , وَأَنَّ اللهَ إِذَا رَضِيَ عَنِ العَبدِ وَفَّقَهُ إِلى عَمَلِ الطَّاعَةِ بَعدَ الطَّاعَةِ وَسَهَّلَ عَلَيهِ فِعلَهَا ، وَعَصَمَهُ عَنِ المَعصِيَةِ وَهَوَّنَ عَلَيهِ تَركَهَا .

وَمَزِيَّةٌ أُخرَى لِلمُدَاوَمَةِ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ وَجَائِزَةٌ رَبَّانَيَّةٌ كُبرَى ، تُضَافُ إِلى كَونِهِ أَحَبَّ العَمَلِ إِلَيهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ وَأنَّهُ مِن هَديِ نَبِيهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ ، ذَلِكُم هُوَ مَا أَخبَرَ بِهِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِقَولِهِ : " إِذَا مَرِضَ العَبدُ أَو سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثلَ مَا كَانَ يَعمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
إِنَّهَا جَائِزَةٌ لا يُحَصِّلُهَا إِلاَّ مَن كَانَ لَهُ عَمَلٌ يُدَاوِمُ عَلَيهِ وَيُوَاظِبُ عَلَى الإِتيَانِ بِهِ في يَومِهِ وَلَيلَتِهِ .
فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاحرِصُوا عَلَى التَّزَوُّدِ مِمَّا يُقَرِّبُكُم إِلى رَبِّكُم ، وَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ "


الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ فَإِنَّ تَقوَاهُ خَيرُ زَادٍ ، وَاستَعِدُّوا بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَومِ المَعَادِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ العِبرَةَ في حَيَاةِ المُؤمِنِ إِنَّمَا هِيَ بِحُسنِ العَمَلِ لا بِكَثرَتِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ المَوتَ وَالحَيَاةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ " وَإِنَّ مِن حُسنِ العَمَلِ وَبَرَكَتِهِ أَن يَكُونَ دَائِمًا مُستَمِرًّا ، لا أَن يَكُونَ مُتَقَطِّعًا أَو مَتبُوعًا صَالِحُهُ بِسَيِّئٍ مِنهُ ، وَقَد ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلعَمَلِ الصَّالِحِ المَتبُوعِ بِالعَمَلِ السَّيِّئِ فَقَالَ : " أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وَأَعنَابٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحتَرَقَت كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ " أَلا فَلا يَكُنْ مِنكُم ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِتبَاعٌ لِصَالِحِ الأَعمَالِ في رَمَضَانَ بِأَعمَالٍ سَيِّئَةٍ ، فَيَحتَرِقَ بُستَانُ الحَسَنَاتِ وَتَذهَبَ نُضرَتُهُ وَبَهَاؤُهُ ، اِتَّقُوا اللهَ وَدَاوِمُوا عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ ، وَاسأَلُوهُ الإِعَانَةَ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَكثِرُوا مِن ذَلِكُمُ الدُّعَاءِ العَظِيمِ الَّذِي أَوصَى بِهِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مُعَاذًا حَيثُ قَالَ : " يَا مُعَاذُ ، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ ، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَن تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيرِهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ

ناصرعبدالرحمن 15-09-2011 10:10 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

الفساد الإداري والمالي 18 / 10 / 1432


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَوَى الإِمَامُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَالَ : " أَربَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الْدُّنيَا : صِدقُ الحَدِيثِ ، وَحِفظُ الأَمَانَةِ ، وَحُسنُ الخُلُقِ ، وَعِفَّةُ مَطعَمٍ "
وَمَعنى هَذَا الحَدِيثِ العَظِيمِ بِإِيجَازٍ ، أَنَّهُ لَو وُضِعَت هَذِهِ الصِّفَاتُ الأَربَعُ في كِفَّةٍ وَالدُّنيَا بما فِيهَا في كِفَّةٍ ، لَرَجَحَت هَذِهِ الصِّفَاتُ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لَو نَالَ أَحَدٌ مِنَ الدُّنيَا مَا نَالَهُ الأَغنِيَاءُ ، أَوِ اتَّصَفَ بما يَتَّصِفُ بِهِ الكُبَرَاءُ ، ثُمَّ لم يَكُنْ لَهُ مِن هَذِهِ الصِّفَاتِ نَصِيبٌ فَلا خَيرَ فِيهِ ، بَل هُوَ الخَاسِرُ المَغبُونُ ، لأَنَّهُ في مِيزَانِ الحَقِّ لم يُحَصِّلْ شَيئًا لآخِرَتِهِ .
أَلا وَإِنَّ الرَّقِيبَ لِحَيَاةِ النَّاسِ اليَومَ في تَعَامُلِهِم وَأَخلاقِهِم ، وَخَاصَّةً في أَمَاكِنِ العَمَلِ وَمَرَاكِزِ المَسؤُولِيَّةِ ، وَفي مَكَاتِبِ المُؤَسَّسَاتِ وَأَروِقَةِ الوِزَارَاتِ ، لَيَأسَى وَيَأسَفُ عَلَى ضَيَاعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مِن دُنيَاهُم وَاتِّصَافِهِم بِأَضدَادِهَا إِلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ ، فَلا الصِّدقُ عَادَ كَمَا يَنبَغِي ، وَلا حِفظُ الأَمَانَةِ ظَلَّ كَمَا يَجِبُ ، بَل صَارَ الدَّاخِلُ في هَذِهِ الأَمَاكِنِ لا يَكَادُ يَجِدُ مَعَ سُوءِ الخُلُقِ إِلاَّ لَهَثًا وَرَاءَ الدُّنيَا وَعَدَمَ تَوَرُّعٍ عَنِ الحَرَامِ وَالمُشتَبِهِ ، في فَسَادٍ إِدَارِيٍّ وَمَاليٍّ مُستَشرٍ مُنتِشَرٍ ، أَغرَى أَصحَابَهُ الطَّمَعُ وَالجَشَعُ ، فَأَدخَلَهُم مِن أَبوَابِهِ إِلى الكَذِبِ وَتَضيِيعِ الأَمَانَةِ وَسُوءِ الخُلُقِ وَالخِيَانَةِ ، فَقَذَفُوا بِالمَبَادِئِ وَالأَخلاقِ وَالقِيَمِ مِن ثَغَرَاتٍ وَنَوَافِذَ وَجَدُوهَا فِيمَا لَدَيهِم مِن أَنظِمَةٍ ، وَتَجَرَّؤُوا عَلَى أَكلِ الحَرَامِ وَالزُّهدِ في المُبَاحِ ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّهُ وَإِنْ سَمَحَتِ الأَنظِمَةُ الأَرضِيَّةُ بِتَجَاوُزِهَا وَالمُرُورِ مِن فَوقِهَا أَو مِن تَحتِهَا ، أَوِ التَّلاعُبِ بها لأَنَّهَا مِن صُنعِ البَشَرِ وَتَحتَ رَقَابَةِ البَشَرِ ، إِلاَّ أَنَّ ثَمَّةَ رَقَابَةً سَمَاوِيَّةً دَقِيقَةً ، وَرَبًّا شَهِيدًا لا تَخفَى عَلَيهِ مِن عِبَادِهِ خَافِيَةٌ ، وَلا تَغِيبُ عَن نَظَرِهِ مِنهُم شَارِدَةٌ وَلا وَارِدَةٌ . وَإِنَّ مِنِ ابتِلاءِ اللهِ لِكَثِيرٍ مِنَ الشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ ، أَنَّ تَضيِيعَ الأَمَانَةِ والاتِّصَافَ بِالخِيَانَةِ ، أَو مَا اصطُلِحَ عَلَى تَسمِيَتِهِ بِالفَسَادِ الإِدارِيِّ وَالمَاليِّ ، لم يَترُكْ دَولَةً إِلاَّ أَصَابَهَا ، وَلا مُجتَمَعًا إِلاَّ خَالَطَهُ ، وَلا مُؤَسَّسَةً حُكُومِيَّةً وَلا أَهلِيَّةً إِلاَّ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنهَا ، حَتى صَارَ مَرَضًا مُستَفحِلاً تَأَخَّرَت بِسَبَبِهِ دُوَلٌ وَتَخَلَّفَت عَنِ الحَضَارَةِ ، وَأَصبَحَ عَقبَةً تَحُولُ بَينَ أُنَاسٍ مِن أَصحَابِ الحُقُوقِ وَحُقُوقِهِم ، وَمَركَبًا تُمنَحُ عَلَى ظَهرِهِ بَعضُ المِيزَاتِ وَالأَموَالِ لِمَن لا يَستَحِقُّونَهَ ا ، وَقَنَاةً تَسمَحُ بِتَعيِينِ مُوَظَّفِينَ وَتَأخِيرِ آخَرِينَ ، وَوَرَقَةً رَابِحَةً في أَيدِي مَجمُوعَاتٍ مِنَ المُقَرَّبِينَ أَوِ الأَصدِقَاءِ ، تُرسَى عَلَيهِم بها المَشرُوعَاتُ ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى غَيرِهِم بِفَضلِهَا في المُنَاقَصَاتِ ، عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الحَمِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ أَوِ اقتِسَامِ المَصَالِحِ المَادِّيَّةِ .

وَقَد يَتَسَاءَلُ مُتَسَائِلٌ وَيَقُولُ : وَمَا هَذَا الفَسَادُ الَّذِي عَنهُ تَتَحَدَّثُونَ وَمِنهُ تُحَذِّرُونَ ؟ وَمَا أَسبَابُهُ وَمَا العَوَامِلُ الَّتي أَظهَرَتهُ ؟
وَهَل لَهُ عِلاجٌ شَافٍ أَو دَوَاءٌ نَاجِعٌ ؟
فَنَقُولُ وَبَعِيدًا عَن بَعضِ مَا يُعَرَّفُ بِهِ ذَلِكَ الفَسَادُ مِن تَعرِيفَاتٍ أَو يُحَدُّ بِهِ مِن مُصطَلَحَاتٍ ، فَإِنَّ لَهُ أَنمَاطًا وَأَشكَالاً شَاعَت وَذَاعَت ، وَانتَشَرَت وَتَمَدَّدَت ، وَباضَت في كُلِّ مَكَانٍ وَفَرَّخَت ، وَغَدَت مِمَّا يُمدَحُ بِهِ بَعضُ النَّاسِ وَيُكرَمُونَ لأَجلِهِ وَيُحتَفَى بِهِم بِسَبَبِهِ ، وَبَعدَ أَن كَانَت بَعضُ صُوَرِه لَدَى العُقَلاءِ عَيبًا يُقدَحُ بِهِ في عَدَالَةِ المَرءِ وَقَد تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، إِذَا بها تُجعَلُ دَلِيلاً عَلَى ذَكَاءِ بَعضِ القَومِ وَمُؤَشِّرًا على نَبَاهَتِهِم وَحُسنِ تَصَرُّفِهِم ، وَمِن تِلكَ الأَنماطِ الكَرِيهَةِ وَالأَشكَالِ البَغِيضَةِ : الوَسَاطَاتُ في كَثِيرٍ مِن أَحوَالِهَا ، وَالَّتي خَرَجَت عَن كَونِهَا نَوعًا مِنَ الشَّفَاعَةِ الحَسَنَةِ الَّتي يُؤجَرُ عَلَيهَا صَاحِبُهَا وَيُثَابُ ، فَأَصبَحَت ظُلمًا لِلمُستَحِقِّين َ وَهَضمًا لِلمُستَضعَفِين َ ، وَإِبعَادًا لِذَوِي الكِفَايَاتِ مِن المَوَاقِعِ الَّتي تَحتَاجُهُم ، وَرَدًّا لأَصحَابِ الجَدَارَةِ وَتَهمِيشًا لِدَورِهِم ، مَعَ غَضِّ نَظَرٍ عَنِ المَقَايِيسِ المَطلُوبَةِ فِيمَن يُرَادُ تَوظِيفُهُ مِن قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ ، وَجَعلِ مَقَايِيسَ أُخرَى هَشَّةٍ مَكَانَهَا .
وَمِن أَنماطِ الفَسَادِ هَدرُ الوَقتِ العَامِّ وَضَعفُ الالتِزَامِ بِسَاعَاتِ الدَّوَامِ ، وَكَثرَةُ التَغَيُّبِ وَالتَّأَخُّرِ عَنِ العَمَلِ لأَعذَارٍ وَاهِيَةٍ ، وَاختِلاقُ أَسبَابٍ غَيرِ مُقنِعَةٍ لِلتَّهَرُّبِ مِنَ المُحَاسَبَةٍ وَالمُعَاقَبَةِ .
وَإِنَّ مِمَّا يُنَبَّهُ عَلَيهِ في هَذَا الجَانِبِ ، وَهُوَ مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَى الخِيَانَةِ وَتَضيِيعِ الأَمَانَةِ وَبِهِ يَستَشرِي الفَسَادُ وَيَزدَادُ ، مَا تَفعَلُهُ بَعضُ المُستَشفَيَاتِ وَالمَراكِزِ الصِّحِّيَّةِ حُكُومِيَّةً وَأَهلِيَّةً ، مِن إِعطَاءِ المُوَظَّفِ المُتَغَيِّبِ عَن عَمَلِهِ إِجَازَةً مَرَضِيَّةً ، وَهُوَ في الحَقِيقَةِ لا يُعَاني مِن أَيِّ مَرَضٍ ، وَإِنَّمَا المَرِيضُ الحَقِيقِيُّ هُوَ مَن زَوَّرَ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِن أَورَاقِ إِجَازَةٍ أَو شَهَادَةِ مُرَافَقَةٍ ، طَلَبًا لِمَدحِهِ أَو خَشيَةَ ذَمِّهِ ، أَو لِغَيرِ ذَلِكَ مِن الأَسبَابِ ، وَوَاللهِ لَو عَلِمَ الأَطِبَّاءُ وَمُدِيرُو المُستَشفَيَاتِ وَالمَراكِزِ كَم يُسرَقُ بِسَبَبِ تَسَاهُلِهِم في مَنحِ التَّقَارِيرِ لِمَن لا يَستَحِقُّهَا مِن أَوقَاتٍ هِيَ مُلكٌ لِلمُسلِمِينَ ! وَكَم يُضَاعُ بِهَا مِن مَصَالِحَ وَيُؤَخَّرُ لِلمُرَاجِعِينَ مِن مُعَامَلاتٍ ، بَل وَكَم يُظلَمُ بها في المَدَارِسِ مِن طُلاَّبٍ وَطَالِبَاتٍ ، لَو عَلِمُوا بِذَلِكَ حَقَّ العِلمِ لَمَا تَجَرَّؤُوا أَن يَكُونُوا أَعوَانًا لِلظَّالمِينَ عَلَى ظُلمِهِم ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ طُولِ الغَفلَةِ وَضَعفِ المُرَاقَبَةِ .
وَمِن أَنمَاطِ الفَسَادِ احتِجَابُ بَعضِ المُدِيرِينَ أَوِ المُوَظَّفِينَ عَنِ المُرَاجِعِينَ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً ، وَإِغلاقُ الأَبوَابِ في وُجُوهِهِم ، بِحُجَّةِ الانشِغَالِ بِاجتِمَاعٍ خَاصٍّ مَعَ مَسؤُولٍ أَكبَرَ ، أَو لِقَاءٍ عَاجِلٍ لِبَحثِ مَوضُوعٍ مُهِمٍّ ، وَيَحصُلُ بهذا أَن يَطُولَ انتِظَارُ النَّاسِ وَتُؤَخَّرَ مُعَامَلاتُهُم أَسَابِيعَ كَثِيرَةً وَأَشهُرًا مَعدُودَةً ، دُونَ بَتٍّ فِيهَا أَو تَسيِيرٍ لها ، أَو إِخبَارٍ لهم بما لهم فِيهَا أَو عَلَيهِم ، وَقَد يَكُونُ السَّبَبُ الحَقِيقِيُّ لهذا التَّأخِيرِ وَالمُمَاطَلَةِ مُسَاوَمَةَ النَّاسِ وَإِلجَاءَهُم لِدَفعِ الرَّشَاوَى لِلإِفرَاجِ عَن مُعَامَلاتِهِم .
وَمِن أَنماطِ الفَسَادِ استِخدَامُ أَجهِزَةِ الإِدَارَةِ أَوِ المُؤَسَّسَةِ الَّتي يَعمَلُ فِيهَا الشَّخصُ لإِنجَازِ مَصَالِحِهِ الشَّخصِيَّةِ ، أَو لإِنجَازِ مَصَالِحِ المُقَرَّبِينَ مِنهُ ، أَو خِدمَةً لِمَن يَرجُو مِنهُم نَفعَهُ يَومًا مَا ، في حِينِ يُمنَعُ سَائِرُ النَّاسِ مِنَ الانتِفَاعِ بِتِلكَ الأَجهِزَةِ ، وَيُحرَمُونَ مِنِ استِثمَارِهَا في تَنفِيذِ مَشرُوعٍ صَغِيرٍ يَنفَعُهُم ، وَتَظَلُّ تِلكَ الوَسَائِلُ رَهنًا لِلزَّمَانِ الَّذِي يُذهِبُ جِدَّتَهَا وَيُفسِدُهَا وَهِيَ لم يُستَفَدْ مِنهَا .
وَمِن أَنمَاطِ الفَسَادِ تَوَاطُؤُ بَعضِ رِجَالِ الأَمنِ أَو تَسَاهُلُهُم مَعَ المُتَّهَمِينَ أَوِ المُجرِمِينَ أَوِ المُخَالِفِينَ ، وَتَسَاهُلُهُم في التَّحقِيقِ بما يُظهِرُ المُجرِمَ وَيُثبِتُ الجَرِيمَةَ في أَيِّ قَضِيَّةٍ تُوكَلُ إِلَيهِم ، أَو إِفشَاؤُهُم لِبَعضِ المَعلُومَاتِ الَّتي لا يَحسُنُ إفشَاؤُهَا ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ قَرِيبٌ لهم أَو صَدِيقٌ في المُلاحَقَةِ وَتُطَبَّقَ عَلَيهِ الأَنظِمَةُ .
وَمِن أَنماطِ الفَسَادِ الَّتي قَد تَحدُثُ في أَيَّامِنَا هَذِهِ شِرَاءُ الأَصوَاتِ في الانتِخَابَاتِ ، وَقَد حَدَثَ في الأَيَّامِ الأُولى لِلانتِخَابَاتِ شَيءٌ مِن هَذَا بِاستِغلالِ جَاهِ بَعضِ الكُبَرَاءِ ، وَرَفَعِ عَزَاءِ الجَاهِلِيَّةِ وَبَعثِ رُوحِ العَصَبِيَّةِ القَبَلِيَّةِ ، وَاللهُ المُستَعَانُ .
وَمِن صُوَرِ الفَسَادِ ضَعفُ الاحتِسَابِ عَلَى البَاعَةِ في الأَسوَاقِ ، وَإِهمَالُ المُرَاقِبِينَ الَّذِينَ نُصِّبُوا لهذا الشَّأنِ لأَصحَابِ المَحَلاَّتِ ، وَتَركُهُم يَبِيعُونَ في أَسوَاقِ المُسلِمِينَ مَا يَضُرُّ أَبدَانَهُم وَعُقُولَهُم مِن رَدِيءٍ وَمَمنُوعٍ وَمُحَرَّمٍ ، وَالسَّمَاحُ لِلتُّجَّارِ وَغَضُّ الطَّرفِ عَنهُم لِيَرفَعُوا الأَسعَارَ أَو يَحتَكِرُوا السِّلَعَ كَمَا يَشَاؤُونَ .
فَهَذِهِ وَغَيرُهَا أَنوَاعٌ مِنَ الفَسَادِ الإِدَارِيِّ وَالمَاليِّ المُنتَشِرِ ، وَالَّذِي هُوَ وَإِنْ كَانَ ثَمَرَةَ مَجمُوعَةٍ مِنَ العَوَامِلِ المُختَلِفَةِ ، وَنَتِيجَةً لأَسبَابٍ مُتَدَاخِلَةٍ ، إِلاَّ أَنَّ مَحَبَّةَ المَالِ وَالطَّمَعَ في زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالتَّوَسُّعَ في الشَّهَوَاتِ ، وَجَعلَهَا مِقيَاسًا لِلنَّاسِ ، يُعَدُّ مِن أَكثرِ العَوَامِلِ المُسَبِّبَةِ لِلفَسَادِ ، يَلِي ذَلِكَ أَسبَابٌ اجتِمَاعِيَّةٌ ، تَتَقَدَّمُهَا العَصَبِيَّةُ القَبَلِيَّةُ ، ثُمَّ العَصَبِيَّةُ مِن أَهلِ كُلِّ مِنطَقَةٍ أَو مَدِينَةٍ لأَهلِ مِنطَقَتِهِم أَو مَدِينَتِهِم ، يُضَافُ لِذَلِكَ غِيَابُ القُدوَةِ الحَسَنَةِ حَتَّى مِمَّن يُشَارُ إِلَيهِم بِالبَنَانِ مِن بَعضِ الصَّالِحِينَ وَذَوِي الجَاهِ وَالمَنصَبِ وَكِبَارِ المَسؤُولِينَ .
وَأَمَّا رَفعُ تَكَالِيفِ المَعِيشَةِ ، وَتَدَنِّي أُجُورِ المُوَظَّفِينَ وَالعَامِلِينَ ، وَعَدَمُ تَحقِيقِ العَدَالَةِ لِلنَّاسِ في مَصَالِحِهِم ، وَعَدَمُ تَطبِيقِ مَبدَأِ الجَدَارَةِ في التَّعيِينِ ، فَإِنَّ كُلَّ هَذِهِ الأُمُورِ مِمَّا يُوجِدُ لِلفَسَادِ في المُجتَمَعِ سُوقًا رَائِجَةً ، بَل وَيُلجِئُ إِلَيهِ بَعضَ مَن لا يُرِيدُونَهُ ، وَلَكِنَّهُم يَركَبُونَ إِلَيهِ مَرَاكِبَ الاضطِرَارِ وَالحَاجَةِ .

وَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ القَضَاءُ عَلَى مَا يُوجَدُ مِن فَسَادٍ قَبلَ اتِّسَاعِ الخَرقِ عَلَى الرَّاقِعِ ، فَإِنَّ عَلَى المَسؤُولِينَ تَشدِيدَ المُرَاقَبَةِ عَلَى كُلِّ الجِهَاتِ ، وَمُتَابَعَةَ جَمِيعِ الأَجهِزَةِ وَالمُؤَسَّسَات ِ ، وَتَطبِيقَ نِظَامِ المُسَاءَلَةِ بِشَكلٍ دَقِيقٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَمُحَاسَبَتَهُ مَهمَا كَانَ مَوقِعُهُ ، وَأَلاَّ يُحَابُوا وَجِيهًا لِمَكَانَتِهِ أَو يُجَامِلُوا غَنِيًّا لِتِجَارَتِهِ ، وَألاَّ تَأخُذَهُم في إِحقَاقِ الحَقِّ وَإِبطَالِ البَاطِلِ لَومَةُ لائِمٍ كَبِيرًا كَانَ أَو صَغِيرًا ، وَعَلَى وَسَائِلِ الإِعلامِ أَنَّ تَتَوَلىَّ تَوعِيَةَ النَّاسِ بِأَضرَارِ الفَسَادِ وَتُوَضِّحَ لَهُم أَشكَالَهُ ، بَدَلاً مِن إِفسَادِهِم بِالبَرَامَجِ التَّافِهَةِ وَشَغَلِهِم بِسَاقِطِ الأَخبَارِ وَالتُّرَّهَاتِ . وَمَعَ هَذَا فَلا بُدَّ مِن تَقوِيَةِ الوَازِعِ الدِّينيِّ لَدَى النَّاسِ ، وَبَعثِ رُوحِ المُرَاقَبَةِ لِرَبِّهِم في نُفُوسِهِم ، وَتَربِيَةِ النَّشءِ عَلَى الأَخلاقِ الإِسلامِيَّةِ السَّامِيَةِ ، وَزَرعِ القِيَمِ العُليَا في نُفُوسِهِم ، وَإِحيَاءِ شَعِيرَةِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ في كُلِّ مَكَانٍ ، مَعَ مَعرِفَةِ الجَمِيعِ بِالقِيمَةِ الحَقِيقِيَّةِ لِلحَيَاةِ الدُّنيَا ، وَتَيَقُّنِهِم بِأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ وَلَيسَت بِدَارِ مَقَرٍّ ، وَأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا مِن بُرُوقِ الطَّمَعِ فَإِنَّمَا هِيَ مِن مَتَاعِ الغُرُورِ ، وَأَنَّهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِن أَموَالٍ وَعَقَارَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَتِجَارَاتٍ لا تُسَاوِي عِندَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، فَلِمَاذَا تَضيِعُ الأَمَانَةُ لأَجلِهَا ؟ وَلماذَا تُرتَكَبُ الخِيَانَةُ بِسَبَبِهَا ؟ وَلِمَ بَيعُ الآخِرَةِ بِحَفنَةٍ مِنهَا قَلِيلَةٍ ؟

إِنَّ تَيَقُّنَ المَرءِ بِأَنَّهُ حِينَ يَتَوَلىَّ أَيَّ مَنصِبٍ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لَهُ تَكلِيفٌ وَلَيسَ بِتَشرِيفٍ ، وَتَذَكُّرَهُ أَنَّ اللهَ رَقِيبٌ عَلَى عِبَادِهِ يَعلَمُ مِنهُم خَائِنَةَ الأَعيُنِ وَمَا تُخفِي الصُّدُورُ ، وَأَنَّهُ مَحشُورٌ إِلى رَبِّهِ " يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ " " يَومَ لا يُغنى مَولىً عَن مَولىً شَيئًا وَلا هُم يُنصَرُونَ " وَأَنَّ حِبَالَ الكَذِبِ قَصِيرَةٌ وَإِنْ مَدَّهَا طُولُ الأَمَلِ ، وَدَوَائِرَ الغِشِّ ضَيِّقَةٌ وَإِنْ وَسَّعَهَا الغُرُورُ ، وَأَنَّ اللهَ يُملِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لم يُفلِتْهُ ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَيَجعَلُ المَرءَ يُطِيلُ التَّفكِيرَ قَبلَ أَن يُقَصِّرَ في عَمَلٍ قَدِ اؤتُمِنَ عَلَيهِ ، أَو يُبَدِّدَ مَالاً لِلأُمَّةِ تَحتَ يَدِهِ ، أَو يُحَابيَ أَحَدًا لِمَتَاعٍ مِنَ الدُّنيَا قَلِيلٍ ، كَيفَ وَقَد قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " مَن وَلِيَ مِن أُمُورِ المُسلِمِينَ شَيئًا فَاحتَجَبَ دُونَ خَلَّتِهِم وَحَاجَتِهِم وَفَقرِهِم وَفَاقَتِهِم ، اِحتَجَبَ اللهُ عَنهُ يَومَ القِيَامَةِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَاقَتِهِ وَفَقرِهِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَشَقَّ عَلَيهِم فَاشقُقْ عَلَيهِ ، وَمَن وَلِيَ مِن أَمرِ أُمَّتي شَيئًا فَرَفَقَ بهم فَارفُقْ بِهِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ ، فَإِنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ اليَومَ إِلاَّ وَهُوَ عَلَى ثَغرٍ مِن ثُغُورِ أُمَّتِهِ ، أَو عَلَى طَرِيقٍ لِخِدمَةِ مُجتَمَعِهِ وَنَفعِهِ ، أَو بِيَدِهِ شَيءٌ مِن مَصَالِحِ النَّاسِ العَامَّةِ أَوِ الخَاصَّةِ ، فَإِذَا جَارَ القَاضِي وَمَالَ مَعَ خَصمٍ دُونَ خَصمِهِ ، أَو حَالَ وَالٍ دُونَ صَاحِبِ حَقٍّ وَحَقِّهِ ، أَو مَنَعَ رَئِيسُ دَائِرَةٍ مُوَظَّفًا مِن مَرتَبَةٍ يَستَحِقُّهَا مُحَابَاةً لِمَن لَهُ عِندَهُ مَصلَحَةٌ ، أَو تَقَاعَسَ رَئِيسُ قِسمٍ أَو مُوَظَّفٌ فَأَخَّرَ مُعَامَلَةَ مُسلِمٍ لأَنَّهُ لا مَصلَحَةَ لَهُ عِندَهُ ، وَسُلِّمَتِ المَشرُوعَاتُ لِمَن لا خِبرَةَ لَدَيهِم لأَنَّهُم يَدفَعُونَ رِشوَةً أَكثَرَ ، أَو تَغاضَى رَجُلُ الأَمنِ عَن مُجرِمٍ أَو مُفسِدٍ لِصَلَةِ قَرَابَةٍ بِهِ ، أَو قُدِّمَ أَحَدٌ عَلَى آخَرَ في وَظِيفَةٍ لِحَمِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ أَو عَصَبِيَّةٍ قَبَلِيَّةٍ ، فَكَبِّرْ إِذْ ذَاكَ عَلَى المُجتَمَعِ أَربَعًا وَقُلْ عَلَيهِ السَّلامُ ، بَلِ ادفَنْهُ وَلا تَتَرَحَّمْ عَلَيهِ ... اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ فَإِنَّهُ بِئسَ الضَّجِيعُ ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئسَتِ البِطَانَةُ ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ .



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفىَّ كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ لِلفَسَادِ الإِدَارِيِّ وَالمَاليِّ في المُجتَمَعَاتِ آثَارًا بَالِغَةً وَأَضرَارًا فَادِحَةً ، وَعَوَاقِبَ وَخِيمَةً وَنِهَايَاتٍ سَيِّئَةً ، فَهُوَ مَرَضٌ خَبِيثٌ يُضعِفُ قُوَّةَ المُجتَمَعِ وَيُذهِبُ مَنَاعَتَهُ ، وَيَجعَلُهُ عُرضَةً لأَمرَاضٍ أُخرَى مُستَعصِيَةٍ ، فَحِينَ يُصبِحُ ابنُ الوَطَنِ عَلَى استِعدَادٍ لِبَيعِ ذِمَّتِهِ مِن أَجلِ حَفنَةٍ مِنَ المَالِ أَو مُجَامَلَةً لِقَرِيبٍ أَو مُحَابَاةً لِصَدِيقٍ ، أَو طَلَبًا لِمَدحٍ أَو خَوفًا مِن ذَمٍّ ، ضَارِبًا بِمَصَالِحِ آلافِ البَشَرِ عُرضَ الحَائِطِ ، فَإِنَّكَ لَن تَجِدَ حِينَئِذٍ إِلاَّ قَومًا يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم ، وَيَفَقَؤُونَ أَعيُنَهُم بِأَصَابِعِهِم ، وَيَقضُونَ بِقُوَّةٍ عَلَى آمالِ أُمَّتِهِم في النُّهُوضِ مِن كَبوَتِهَا وَالسَّيرِ في رَكبِ الحَضَارَةِ ، وَيَجعَلُونَهَا تَعِيشُ في كُرهٍ لِوُلاتِهَا وَبُغضٍ لِمُدِيرِي دَوَائِرِهَا وَرُؤسَاءِ مُؤَسَّسَاتِهَا ، بَل وَلِكُلِّ مُوَظَّفٍ فِيهَا وَعَامِلٍ .
وَإِنَّ التَّأرِيخَ لا يُجَامِلُ أَحَدًا وَلا يَرحَمُ مُفسِدًا ، وَمَهمَا سَكَتَ أَو تَوَقَّفَ عَنِ كِتَابَةِ الحَقِيقَةِ لاستِيلاءِ الظَّلَمَةِ عَلَى سُدَّةِ الأُمُورِ في حِقبَةٍ مَا ، فَإِنَّهُ سَيَنطِقُ يَوَمًا مَا بِلَهجَةٍ فَصِيحَةٍ ، وَسَيُسمَعُ لأَقلامِهِ صَرِيرٌ وَهِيَ تُحَدِّثُ عَن مُفسِدِي كُلِّ عَصرٍ وَتَعِظُ النَّاسَ بِمَصَارِعِهِم ، حَيثُ لم تَنفَعْهُم سُلطَةٌ وَلا كَثرَةُ مَالٍ ، وَلا أَغنى عَنهُم جَاهٌ وَلا شُهرَةٌ .
وَحَتَّى وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ سَارِقًا ذَهَبَت بِهِ خِفَّةُ يَدِهِ عَنِ النَّاسِ ، أَو مُرَاوِغًا حَالَت حِيلَتُهُ بَينَهُ وَبَينَ أَعيُنِ الرَّقَابَةِ ، فَسَتَظَلُّ هُنَالِكَ عَينٌ لا تَخفَى عَلَيهَا خَافِيَةٌ ، إِنَّهَا عَينُ اللهِ الَّذِي " يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ مَا يَكُونُ مِن نَجوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلا خَمسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلا أَدنى مِن ذَلِكَ وَلا أَكثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُم أَينَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بما عَمِلُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ "
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْيَكُنْ لَنَا فِيمَن مَضَى مُعتَبَرٌ .
اِقرَؤُوا التَّأرِيخَ إِذْ فِيهِ العِبَرْ *** ضَلَّ قَومٌ لَيسَ يَدرُونَ الخَبَرْ

إِنَّ مَا حَدَثَ في عَامِنَا هَذَا مِن ثَوَرَانِ شُعُوبٍ عَلَى وُلاتِهَا ، وسُقُوطِ رُؤَسَاءَ وَنَزعِ مُلكِهِم وَانتِهَاءِ سُلطَتِهِم ، وَذَهَابِ هَيبَةِ آخَرِينَ مِمَّن يُوشِكُونَ أَن يَسقُطُوا ، إِنَّ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ هَذَا كُلِّهِ تَفَشِّي الظُّلمِ وَانتِشَارُ الفَسَادِ وَظُهُورُ الرَشَاوَى ، وَغِيَابُ العَدلِ وَالاستِئثَارُ بِالأَموَالِ العَامَّةِ دُونَ النَّاسِ ، وَعَدَمُ تَولِيَةِ ذَوِي الكِفَايَةِ في الوَظَائِفِ الَّتي يَستَحِقُّونَ . فَالحَذَرَ الحَذَرَ ، نَسأَلُ اللهَ أَن يُدِيمَ عَلَينَا وَعَلَى بِلادِنَا الأَمنَ وَالإِيمَانَ وَالاطمِئنَانَ ، وَأَن يَجمَعَ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِهِ ، وَيُؤَلِّفَ بَينَنَا عَلَى مَا يُرضِيهِ ، وَيُجَنِّبَنَا الفَسَادَ وَالمُفسِدِينَ .


الساعة الآن 08:26 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
- arab-line : Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.3.0 TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010

... جميع الحقوق محفوظه لمجالس رويضة العرض لكل العرب ...

.. جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ...ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر المنتدى..

a.d - i.s.s.w