مجالس الرويضة لكل العرب

مجالس الرويضة لكل العرب (http://www.rwwwr.com/vb/httb:www.rwwwr.com.php)
-   روحانيات (http://www.rwwwr.com/vb/f5.html)
-   -   خطب الشيخ عبدالله البصري (http://www.rwwwr.com/vb/t31002.html)

ناصرعبدالرحمن 22-02-2010 07:37 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَإِنَّ بها النَّجَاةَ وَالفَوزَ في الآخِرَةِ ، وَلأَهلِهَا السَّلامَةُ وَالسُّرُورُ يَومَ القِيَامَةِ " وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِم لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُم يَحزَنُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَلبُ المَرءِ هُوَ مُنطَلَقُ أَعمَالِهِ ، بِصَلاحِهِ تَصلُحُ عِندَ اللهِ وَتَزكُو ، وَبِفَسَادِهِ تَفسُدُ وَلا يُنتَفَعُ بها ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ القَلبُ " وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِن فِقهِ المَرءِ وَرَجَاحَةِ عَقلِهِ أَن يَحرِصَ عَلَى إِصلاحِ قَلبِهِ وَيَحذَرَ مِن فَسَادِهِ ، وإِنَّهُ لا صَلاحَ لِلقَلبِ بِمِثلِ دَوَامِ الطَّاعَةِ وَالاستِكثَارِ مِنهَا ، فَإِنَّهَا تُزَكِّيهِ وَتُطَهِّرُهُ وَتُرَقِّقُهُ ، وَلا فَسَادَ لَهُ بِمِثلِ كَثرَةِ وُرُودِ المَعَاصِي عَلَيهِ وَاعتِيَادِهِ لها ، إِذْ بها يُظلِمُ وَيَقسُو وَيَنتَكِسُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَالحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ سَودَاءُ ، وَأَيُّ قَلبٍ أَنكَرَهَا نُكِتَت فِيهِ نُكتَةٌ بَيضَاءُ ، حَتى تَصِيرَ عَلَى قَلبَينِ : عَلَى أَبيَضَ مِثلِ الصَّفَا ؛ فَلا تَضُرُّهُ فِتنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَالآخَرُ أَسوَدَ مُربَادًّا كَالكُوزِ مُجَخِّيًا ، لا يَعرِفُ مَعرُوفًا وَلا يُنكِرُ مُنكَرًا إِلاَّ مَا أُشرِبَ مِن هَوَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَمَعنَى الحَدِيثِ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ أَنَّ العَبدَ إِذَا أَرخَى لِنَفسِهِ العِنَانَ وتَوَسَّعَ في ارتِكَابِ المَعَاصِي ، دَخَلَ قَلبَهُ بِكُلِّ مَعصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلمَةٌ ، وَأَصَابَتهُ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ وَحشَةٌ وَقَسوَةٌ ، وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افتُتِنَ وَاحتَرَقَ ، وَزَالَ عَنهُ نُورُ الإِسلامِ وَفَارَقَهُ ضِيَاءُ الإِيمَانِ ، وَعَلَتهُ ظُلمَةُ النِّفَاقِ وَتَغَشَّاهُ سَوَادُ الكُفرِ ، وَأَلِفَ الشَّرَّ وَاطمَأَنَّ إِلَيهِ ، وَاستَنكَرَ الخَيرَ وَنَفَرَ مِنهُ ، وَيَدُلُّ هَذَا الحَدِيثُ أَيضًا عَلَى أَنَّ القَلبَ مِثلُ الكُوزِ ، فَإِذَا انكَبَّ وَانتَكَسَ انصَبَّ مَا فِيهِ وَلم يَدخُلْهُ شَيءٌ بَعدَ ذَلِكَ ، وَكَفَى بِهَذَا المَثَلِ النَّبَوِيِّ البَلِيغِ تَقبِيحًا لِلمَعَاصِي وَبَيَانًا لِخَطَرِ عَاقِبَتِهَا وَسُوءِ مَغَبَّتِهَا ، وَكَفَى بِهِ تَحذِيرًا مِنَ التَّهَاوُنِ بها وَاستِصغَارِ شَأنِهَا !! وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ المُؤمِنَ وَإِن غَلَبَتهُ نَفسُهُ مَرَّةً أَو زَلَّت بِهِ قَدَمُهُ يَومًا ، فَإِنَّ لَهُ عِندَ كُلِّ ذَنبٍ تَوبَةً وَرُجُوعًا ، وَلَهُ مَعَ كُلِّ خَطِيئَةٍ استِغفَارٌ وَإِنَابَةٌ ، يَفعَلُ ذَلِكَ وَيَتَعَاهَدُ نَفسَهُ ؛ لِيَبقَى قَلبُهُ نَظِيفًا نَقِيًّا سَلِيمًا ، فَيَنجُوَ بِذَلِكَ مِنَ الخِزيِ " يَومَ يُبعَثُونَ . يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلاَّ مَن أَتَى اللهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ " هَذِهِ هِيَ حَالُ المُؤمِنِ ، لا يَبتَعِدُ عَن رَبِّهِ مَهمَا حَاوَلَ عَدُوُّهُ أَن يَصُدَّهُ وَيُبعِدَهُ ، وَلا يَتَمَادَى في الغَيِّ وَإِن زَيَّنَ لَهُ الشَّيطَانُ أَو حَاوَلَ إِضلالَهُ ، بَل هُوَ تَوَّابٌ مُستَغفِرٌ مُنِيبٌ ، مُسلِمٌ لِرَبِّهِ مُنطَرِحٌ بَينَ يَدَيهِ ، مُتَعَرِّضٌ لِرَحمَتِهِ طَالِبٌ لِعَفوِهِ ، يَحذَرُ الآخِرَةَ وَيَرجُو رَحمَةَ رَبِّهِ ، أَمَّا ضَعِيفُ الإِيمَانِ وَقَلِيلُ التَّقوَى ، فَإِنَّهُ يَظَلُّ يَقتَرِفُ الذَّنبَ مُستَصغِرًا لَهُ ، غَيرَ نَاظِرٍ إِلى عَظَمَةِ مَن عَصَاهُ ، فَمَا تَزَالُ بِهِ الذُّنُوبُ وَإِنْ صَغُرَت حَتى يَقَعَ فِيمَا حَذَّرَ مِنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " إِيَّاكُم وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَومٍ نَزَلَوا بَطنَ وَادٍ ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتى حَمَلُوا مَا أَنضَجُوا بِهِ خُبزَهُم ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتى يُؤخَذْ بها صَاحِبُهَا تُهلِكْهُ " وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ شَأنَ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ وَصَغَائِرِ السَّيِّئَاتِ إِذَا اجتَمَعَت ، فَكَيفَ بِإِتيَانِ الكَبَائِرِ وَالمُوبِقَاتِ وَانتِهَاكِ الحُرُمَاتِ ؟ كَيفَ بِبَواقِعَ تُرتَكَبُ لَيلاً وَنَهَارًا وَتُؤتَى سِرًّا وَجَهَارًا ، يَأتِيهَا أَصحَابُهَا مَرَّةً بَعدَ أُخرَى ، وَيَفعَلُونَهَا حِينًا بَعدَ حِينٍ ، وَيَسمَحُونَ لها بِطَعنِ قُلُوبِهِم طَعنَةً بَعدَ طَعنَةٍ ؟ وَتَمُرُّ الأَيَّامُ وَالطَّعَنَاتُ تَزدَادُ وَالقُلُوبُ تُنهَكُ ، وَتَذهَبُ اللَّيالي وَنُورُ الإِيمَانِ يَخبُو وَوَهَجُهُ يَضعُفُ ! فَتَثقُلُ عَلَى المَرءِ العِبَادَاتُ وَتَصعُبُ عَلَيهِ الطَّاعَاتُ ، وَلا يَجِدُ قُوَّةً لِلاستِكثَارِ مِنَ الخَيرَاتِ وَالازدِيَادِ مِنَ الحَسَنَاتِ ، ثُمَّ لا يَدرِي إِلاَّ وَقَد أَخَذَهُ المَوتُ وَهُوَ عَلَى غَيرِ أُهبَةٍ ، فَوَا حَسرَةَ المُفَرِّطِ وَيَا لَنَدَمِ مَن لم يَستَعِدَّ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الرَّقِيبَ لَيَرَى في المُجتَمَعِ اليَومَ مُنكَرَاتٍ مُنتَشِرَةً مُتَكَرِّرَةً ، زَادَت في المُجتَمَعِ وَاستَفحَلَت ، وَقَلَّ مُستَنكِرُوهَا وَضَعُفَ مُنكِرُوهَا ، وَصَارَت لِكَثرَةِ مَن يَفعَلُهَا كَالمُبَاحِ الجَائِزِ ، غَيرَ أَنَّ أَعظَمَ تِلكَ المُنكَرَاتِ وَأَقوَاهَا أَثَرًا في إِمَاتَةِ القُلُوبِ وَجَعلِهَا تَستَمرِئُ مَا دُونَهَا ، تَركُ الصَّلاةِ وَالتَّهَاوُنُ بها ، وَالتَّكَاسُلُ عَن أَدَائِهَا مَعَ الجَمَاعَةِ ، وَهُمَا المُنكَرَانِ اللَّذَانِ حُرِمَ الوَاقِعُونَ فِيهِمَا خَيرًا كَثِيرًا وَابتُلُوا بِشُرُورٍ عَظِيمَةٍ ، إِذْ مِنَ المُتَقَرِّرِ في نُفُوسِ المُؤمِنِينَ بِدِلالَةِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، أَنَّ الصَّلاةَ هِيَ عَمُودُ الدِّينِ ، وَالنَّاهِيَةُ عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ ، وَالَّتي مَن حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيهَا حَفِظَ دِينَهُ ، وَمَن ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضيَعُ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مِن آثَارِ تَركِهَا بِالكُلِّيَّةِ أَو عَدَمِ أَدَائِهَا مَعَ الجَمَاعَةِ ، أَن تَجَرَّأَ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى اجتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ بِأَنوَاعِهَا ، وَسَهُلَ عَلَيهِمُ الوُقُوعُ في المُخَالَفَاتِ بِأَلوَانِهَا ، فَأَكَلُوا الحَرَامَ وَتَغَذَّوا بِهِ ، وَتَنَاوَلُوا السُّحتَ وَنَبَتَت مِنهُ أَجسَادُهُم ، وَتَهَاوَنُوا بِأَكلِ الرِّشوَةِ وَاستَكثَرُوا مِنَ الرِّبَا ، وَعَمَّ فِيهِم إِطلاقُ النَّظَرِ في المَشَاهِدِ الَّتي تَسُمُّ القُلُوبَ وَتُمِيتُ الغَيرَةَ ، سَوَاءً بِمُعَاكَسَةِ النِّسَاءِ في الأَسوَاقِ وَالشَّوَارِعِ ، أَو بِمُضَايَقَتِهِ نَّ عِندَ أَبوَابِ الجَامِعَاتِ وَالمَدَارِسِ ، أَو بِالتَّلَذُّذِ بِالجُلُوسِ أَمَامَ القَنَوَاتِ وَالدُّخُولِ في الشَّبَكَاتِ ، الَّتي تَنقُلُ مَشَاهِدَ اللِّوَاطِ وَالزِّنَا ، وَتَعرِضُ صُوَرَ الفُجُورِ وَالخَنَا ، هَذَا مَعَ إِسبَالِ الثِّيَابِ وَالتَّهَاوُنِ بِحَلقِ اللِّحَى ، وَاستِسهَالِ التَّصوِيرِ وَاعتِيَادِ الاستِمَاعِ لِلغِنَاءِ ، وَاستِمرَاءِ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالاستِهزَاءِ وَالسُّخرِيَةِ ، وَالاستِخفَافِ بِالكَذِبِ وَعَدَمِ التَّثَبُّتِ في نَقلِ الأَخبَارِ ، وَأَخذِ النَّاسِ بِالظَّنِّ وَالتُّهمَةِ ، وَعَدَمِ التَّبَيُّنِ وَالتَّأَكُّدِ ، وَقَطعِ الأَرحَامِ لأَتفَهِ الأَسبَابِ ، كُلُّ تِلكَ المُنكَرَاتِ ممَّا انتَشَرَ وَفَشَا وَعَمَّ وَطَمَّ ، وَلَو أَنَّنَا حَافَظنَا عَلَى الصَّلاةِ بِشُرُوطِهَا وَأَركَانِهَا وَسُنَنِهَا ، وَتَقَرَّبنَا إِلى اللهِ بِفِعلِ الرَّوَاتِبِ وَبَكَّرنَا إِلى المَسَاجِدِ ، لَنَهَتنَا صَلاتُنَا عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ ، وَلَكِنَّا لَمَّا تَسَاهَلنَا في عَمُودِ دِينِنَا بَلْ وَكَسَرَهُ بَعضُنَا ، استَمرَأنَا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ ، وَلم تَتَمَعَّرْ لِمُنكَرٍ وُجُوهُنَا ، وَلا وَجِلَت لِمَعصِيَةٍ قُلُوبُنَا . نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ مَن يَقُومُ بَينَ يَدَيِ اللهِ في كُلِّ يَومٍ خَمسَ مَرَّاتٍ مُخلِصًا ، بَينَ تَكبِيرٍ وَتَسبِيحٍ وَتَحمِيدٍ ، وَقِرَاءَةٍ وَقُنُوتٍ وَدُعَاءٍ ، وَرُكُوعٍ بِتَعظِيمٍ وَسُجُودٍ بِخُضُوعٍ ، إِنَّهُ لَيَستَحيِي أَن يَتَسَمَّرَ أَمَامَ قَنَاةٍ أو شَبَكَةٍ ؛ لِيَنظُرَ إِلى مُغَنِّيَةٍ فَاسِقَةٍ أَو يَتَأَمَّلَ دَاعِرَةً فَاجِرَةً ، وَإِنَّ مَن يَقِفُ في المَسَاجِدِ مَعَ المُؤمِنِينَ وَيَركَعُ مَعَ الرَّاكِعِينَ ، لَن يَهنَأَ بِصُحبَةِ أَهلِ الزِّنَا وَالخَنَا ، أَو يَمِيلَ إِلى أَهلِ المُسكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَات ِ ، أَو تَشُدَّهُ قَنَوَاتُ العَصَبِيَّةِ وَالنَّعَرَاتِ الجَاهِلِيَّةِ ، وَإِنَّ مَن يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ في أَوقَاتِهَا ، وَيَسأَلُ اللهَ أَن يَهدِيَهُ صِرَاطَ المُنعَمِ عَلَيهِم وَيُجَنِّبَهُ طَرِيقَ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَالضَّالِّينَ ، إِنَّهُ لَيَضِنُّ بِوَقتِهِ عَن أَن يُضِيعَهُ مَعَ البَطَّالِينَ ، وَيَحرِصُ عَلَى بَذلِ أَسبَابِ الاستِقَامَةِ والهِدَايَةِ ، وَيَعمَلُ عَلَى اجتِنَابِ أَسبَابِ الضَّلالِ وَالغِوَايَةِ ، وَإِنَّ مَن يَستَعِيذُ بِصدقٍ في آخِرِ صَلاتِهِ مِن عَذَابِ النَّارِ وَعَذَابِ القَبرِ ، لَيَحذَرُ أَشَدَّ الحَذَرِ مِن أَسبَابِ العَذَابِ فِيهِمَا ، مِن لِوَاطٍ وَزِنًا وَأَكلِ رِبًا ، وَكَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ ، وَسَرِقَةٍ وَغُلُولٍ وَخِيَانَةٍ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَعُودُوا إِلى رَبِّكُم وَتُوبُوا مِن ذُنُوبِكُم ، وَحَافِظُوا عَلَى صَلاتِكُم وزَكُّوا أَنفُسَكُم وَأَصلِحُوا قُلُوبَكُم ، فَـ" قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنَا ، وَكَرِّهْ إِلَينَا الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ ، وَاجعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ .
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَعَظِّمُوا شَعَائِرَهُ وَلا تَعصُوهُ " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ " " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ . إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعِيرِ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ . فَإِنْ زَلَلتُم مِن بَعدِ مَا جَاءَتكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَدَارَكُوا أَنفُسَكُم بِطَاعَةِ رَبِّكُم ، وَاحذَرُوا الشَّيطَانَ فَإِنَّهُ عَدُوُّكُم ، وَإِيَّاكُم وَالتَّهَاوُنَ بِالذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ مَعصِيَةً وَاحِدَةً قَد تُخرِجُ مِن رَحمَةِ اللهِ . قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : يَا مَغرُورًا بِالأَمَانيِّ ، لُعِنَ إِبلِيسُ وَأُهبِطَ مِن مَنزِلِ العِزِّ بِتَركِ سَجدَةٍ وَاحِدَةٍ أُمِرَ بها ، وَأُخرِجَ آدَمُ مِنَ الجَنَّةِ بِلُقمَةٍ تَنَاوَلَهَا ، وَحُجِبَ القَاتِلُ عَنهَا بَعدَ أَن رَآهَا عِيَانًا بِمَلءِ كَفٍّ مِن دَمٍ ، وَأُمِرَ بِقَتلِ الزَّاني أَشنَعَ القِتلاتِ بِإِيلاجِ قَدرَ الأَنمُلَةِ فِيمَا لا يَحِلُّ ، وَأُمِرَ بِإِيسَاعِ الظَّهرِ سِيَاطًا بِكَلِمَةِ قَذفٍ أَو بِقَطرَةٍ مِن مُسكِرٍ ، وَأَبَانَ عُضوًا مِن أَعضَائِكَ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ ، فَلا تَأمَنْهُ أَن يَحبِسَكَ في النَّارِ بِمَعصِيَةٍ وَاحِدَةٍ مِن مَعَاصِيهِ " وَلا يَخَافُ عُقبَاهَا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لا أَضعَفَ عَقلاً وَلا أَقَلَّ تَوفِيقًا ممَّن وَعَدَهُ رَبُّهُ وَعدَ الحَقِّ فَأَعرَضَ عَن وَعدِهِ وَعَصَاهُ ، ثُمَّ هُوَ بَعدَ ذَلِكَ يَتَّبِعُ شَيطَانَهُ وَيُطِيعُهُ مَعَ عِلمِهِ بِعَدَاوَتِهِ وَتَبَرُّئِهِ مِنهُ في يَومٍ لا يُغني مَولىً عَن مَولىً شَيئًا وَلا هُم يُنصَرُونَ ، وَاسمَعُوا إِلى كَلامِ رَبِّكُم في ذَلِكَ وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : "وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ استَكبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُم تَبَعًا فَهَل أَنتُم مُغنُونَ عَنَّا مِن عَذَابِ اللهِ مِن شَيءٍ قَالُوا لَو هَدَانَا اللهُ لَهَدَينَاكُم سَوَاءٌ عَلَينَا أَجَزِعنَا أَم صَبَرنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ . وَقَالَ الشَّيطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَمَا كَانَ ليَ عَلَيكُم مِن سُلطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلا تَلُومُوني وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَا أَنَا بِمُصرِخِكُم وَمَا أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنِّي كَفَرتُ بِمَا أَشرَكتُمُونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظَّالمِينَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ " اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن مُنكَرَاتِ الأَخلاقِ وَالأَعمَالِ وَالأَهوَاءِ وَالأَدوَاءِ ، رَبِّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَينا ، وَانصُرْنَا وَلا تَنصُرْ عَلَينَا ، وَامكُرْ لَنَا وَلا تَمكُرْ عَلَينَا ، وَاهدِنَا وَيَسَّرِ الهُدَى لَنَا ، وَانصُرْنَا عَلَى مَن بَغَى عَلَينَا ، رَبِّ اجعَلنَا لَكَ شَكَّارِينَ لَكَ ذَكَّارِينَ ، لَكَ رَهَّابِينَ لَكَ مِطوَاعِينَ ، لَكَ مُخبِتِينَ أَوَّاهِينَ إِلَيكَ مُنِيبِينَ ، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوبَاِنَا ، وَاغسِلْ حَوبَاتِنَا ، وَأَجِبْ دَعَوَاتِنَا ، وَثَبَّتْ حِجَجَنَا ، وَسَدِّدْ أَلسِنَتَنَا وَاهدِ قُلُوبَنَا ، وَاسلُلْ سَخَائِمَ صُدُورِنَا . اللَّهُمَّ اقسِمْ لَنَا مِن خَشيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَينَنَا وَبَينَ مَعصِيَتِكَ ، وَمِن طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَينَا مَصَائِبَ الدُّنيَا ، وَمَتِّعْنَا بِأَسمَاعِنَا وَأَبصَارِنَا وَقُوَّتَنَا مَا أَحيَيتَنَا ، وَاجعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا ، وَاجعَلْ ثَأرَنَا عَلَى مَن ظَلَمَنَا ، وَانصُرْنَا عَلَى مَن عَادَانَا ، ولا تَجعَلْ مُصِيبَتَنَا في دِينِنَا ، وَلا تَجعَلِ الدُّنيَا أَكبَرَ هَمِّنَا ، وَلا مَبلَغَ عِلمِنَا ، وَلا تُسَلِّطْ عَلَينَا مَن لا يَرحَمُنَا .

ناصرعبدالرحمن 26-02-2010 07:09 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في مِثلِ هَذَا اليَومِ ، في الثَّانيَ عَشَرَ مِن شَهرِ رَبِيعِ الأَوَّلِ ، مِنَ السَّنَةِ الحَادِيَةَ عَشرَةَ لِلهِجرَةِ ، وَبَعدَ أَن بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ وَكَشَفَ اللهُ بِهِ الغُمَّةَ ، بَعدَ أَن قَضَى ثَلاثًا وَعِشرِينَ سَنَةً في تَبلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ وَالجِهَادِ في سَبِيلِهِ وَهِدَايَةِ الخَلقِ لأَقوَمِ السُّبُلِ ، إِذْ ذَاكَ نَزَلَت بِالمُسلِمِينَ أَعظَمُ مُصِيبَةٍ وَحَلَّت بِهِم أَكبَرُ فَاجِعَةٍ ، إِذْ قُبِضَ مِن بَينِهِم خَيرُ البَشَرِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَارتَفَعَت رُوحُهُ الطَّاهِرَةُ إِلى بَارِئِهَا ، لَقَد مَاتَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، مَاتَ أَمِينُ الوَحيِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَوَدَّعَ الدُّنيَا حِينَ استَكمَلَ أَجلَهُ وَأَكمَلَ مُهِمَّتَهُ ، وَكَانَ رَبُّهُ ـ تَعَالى ـ قَد أَنزَلَ عَلَيهِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ قَولَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِينًا " وَحِينَ سَمِعَهَا عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ بَكَى وَقَالَ : لَيسَ بَعدَ الكَمَالِ إِلاَّ النَّقصُ ، وَنَزَلَت سُورَةُ النَّصرِ تُشعِرُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِأَنَّهُ قَد فَرَغَ مِن مُهَمَّتِهِ في الدُّنيَا ، وَأَنَّهُ لاحِقٌ بِالرَّفِيقِ الأَعلَى لِيَجزِيَهُ رَبُّهُ الجَزَاءَ الأَوفى ، وَكَانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَد أَشَارَ إِلى اقتِرَابِ أَجَلِهِ بما أعلَمَهُ اللهُ ، فَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَانَ يَقُولُ في حَجَّةِ الوَدَاعِ : " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم ؛ لَعَلِّي لا أَلقَاكُم بَعدَ عَامِي هَذَا " وَفي لَفظٍ : " فَإِني لا أَدرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعدَ حَجَّتي هَذِهِ " وَفي آخِرِ شَهرِ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الحَادِيَةَ عَشرَةَ لِلهِجرَةِ ، خَرَجَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلى البَقِيعِ مِن جَوفِ اللَّيلِ ، فَدَعَا لأَهلِ البَقِيعِ وَاستَغفَرَ لهم ، كَمَا دَعَا لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ كَالمُوَدِّعِ لهم . ثم أَخَذَتْهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حُمًّى شَدِيدَةٌ وَصُدَاعٌ شَدِيدٌ ، وَكَانَ يَطُوفُ عَلَى نَسَائِهِ وَقَد ثَقِلَ وَاشتَدَّ بِهِ المَرَضُ ، فَدَعَاهُنَّ وَاستَأذَنَهُنّ َ أَن يُمَرَّضَ في بَيتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ . وَمَعَ مَا كَانَ بِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِن شِدَّةِ المَرَضِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَلَمَّا عَجزَ يَومًا عَنِ الخُرُوجِ قَالَ : " أَصَلَّى النَّاسُ ؟ " قِيلَ : لا ؛ هُم يَنتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " ضَعُوا لي مَاءً في المِخضَبِ " فَفَعَلُوا فَاغتَسَلَ ، ثم ذَهَبَ لِيَنُوءَ ـ أَي : لِيَنهَضَ ـ فَأُغمِيَ عَلَيهِ ، ثم أَفَاقَ فَقَالَ : " أَصَلَّى النَّاسُ ؟ " قِيلَ : لا ؛ هُم يَنتَظِرُونَكَ ، فَاغتَسَلَ ثَانِيَةً ثم أُغمِيَ عَلَيهِ ، وَثَالِثَةً كَذَلِكَ ، وَفي كُلِّ مَرَّةٍ يَسأَلُ عَنِ الصَّلاةِ ، فَأَرسَلَ إِلى أَبي بَكرٍ أَن يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، فَصَلَّى بهم ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَيَّامًا ، ثم إِنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَجَدَ في نَفسِهِ خِفَّةً ، فَخَرَجَ يُهَادَى بَينَ رَجُلَينِ ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ ، فَأَومَأَ إِلَيهِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِأَلاَّ يَتَأَخَّرَ ، وَأُجلِسَ إِلى جَنبِهِ وَأُتِمَّتِ الصَّلاةُ . وَفي الصَّحِيحَينِ عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : خَرَجَ عَلَينَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَنحنُ في المَسجِدِ عَاصِبًا رَأسَهُ بِخِرقَةٍ ، فَقَعَدَ عَلَى المِنبرِ ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنى عَلَيهِ وَقَالَ : " إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبدًا بَينَ الدُّنيَا وَبَينَ مَا عِندَهُ ، فَاختَارَ مَا عِندَ اللهِ " فَبَكَى أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ وَقَالَ : فَدَينَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ النَّبيُّ : " يَا أَبَا بَكرٍ ، لا تَبكِ ؛ إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكرٍ ، وَلَو كُنتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِن أُمَّتي لاتَّخَذتُ أَبَا بَكرٍ ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسلامِ وَمَوَدَّتُهُ ، لا يَبقَى في المَسجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابَ أَبي بَكرٍ " وَفي الصَّحِيحَينِ عَنِ أَنسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ أَبَا بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ كَان يُصَلِّي لهم في وَجَعِ النَّبيِّ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ، حَتى إِذَا كَانَ يَومُ الاثنَينِ وَهُم صُفُوفٌ في الصَّلاةِ فَكَشَفَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ سِترَ الحُجرَةِ يَنظُرُ إِلَينَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجهَهُ وَرَقَةُ مُصحَف ، ثم تَبَسَّمَ يَضحَكُ ، فَهَمَمنَا أَن نَفتَتِنَ مِنَ الفَرَحِ بِرُؤيَةِ النَّبيِّ ، فَنَكَصَ أَبُو بَكرٍ عَلَى عَقِبَيهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ خَارِجٌ إِلى الصَّلاةِ ، فَأَشَارَ إِلَينَا النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَن أَتِمُّوا صَلاتَكُم ، وَأَرخَى السِّترَ ، فَتُوُفِّيَ مِن يَومِهِ . وَقَد كَانَ فَرَحُهُم ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُم ـ ظَنًّا أَنَّهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ شُفِيَ ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّهَا نَظرَةُ الوَدَاعِ الأَخِيرَةُ . وَكَانَ يَقُولُ في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : " يَا عَائِشَةُ ، مَا أَزَالُ أَجِِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلتُ بِخَيبَرَ ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدتُ انقِطَاعَ أَبهُرِي مِن ذَلِكَ السُّمِّ " وَهَكَذَا رُزِقَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ الشَّهَادَةَ بِسَبَبِ سُمِّ اليَهُودِ الخَوَنَةِ نَقَضَةِ العُهُودِ وَقَتَلَةِ الأَنبِيَاءِ عَلَيهِم مِنَ اللهِ مَا يَستَحِقُّونَ ، وَقَدِ اشتَدَّ الوَجَعُ عَلَيهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في مَرَضِهِ ذَلِكَ ، فَفِي الصَّحِيحَينِ عَن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : دَخَلتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يُوعَكُ ، فَحَسَستُهُ بِيَدِي فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعكًا شَدِيدًا ! فَقَالَ : " أَجَلْ ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُم " قَالَ : فَقُلتُ : ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجرَينِ ؟ قَالَ : " أَجَلْ ، ذَلِكَ كَذَلِكَ ، مَا مِن مُسلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوكَةٌ فَمَا فَوقَهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بها سَيِّئَاتِهِ وَحُطَّت عَنهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا " وَمَعَ مَا قَاسَاهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مِنَ الشَّدَائِدِ وَمَا عَانَاهُ مِن آلامِ المَوتِ ، فَإِنَّهُ لم يَغفَلْ عَنِ التَّأكِيدِ عَلَى قَضِيَّةِ التَّوحِيدِ وَسَدِّ أَبوَابِ الشِّركِ ، فَعَن عَائِشَةَ وَابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالا : لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ طَفِقَ يَطرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجهِهِ ، فَإِذَا اغتَمَّ كَشَفَهَا عَن وَجهِهِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ يَقُولُ : " لَعنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيَائِهِم مَسَاجِدَ " يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَكَانَ آخِرَ مَا أَوصَى بِهِ وَكَرَّرَهُ مِرَارًا الصَّلاةُ ، فَفِي حَدِيثِ أَنسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كَانَت عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ حَضَرَهُ المَوتُ : " الصَّلاةَ الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَت أَيمَانُكُم ، الصَّلاةَ الصَّلاةَ وَمَا مَلَكَت أَيمَانُكُم " حَتى جَعَلَ يُغَرغِرُ بها صَدرُهُ ، وَمَا يَكَادُ يَفِيضُ بها لِسَانُهُ . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابنُ مَاجَه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ . وَصَدَقَ اللهُ : " لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ " وَفي الصَّحِيحَينِ أَيضًا أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ رَأَى السِّوَاكَ وَأَخَذَهُ وَاستَنَّ بِهِ أَحسَنَ مَا يَكُونُ استِنَانًا ، وَبَينَ يَدَيهِ رَكوَةٌ فِيهَا مَاءٌ ، فَجَعَلَ يُدخِلُ يَدَيهِ في المَاءِ ، فَيَمسَحُ بهما وَجهَهُ وَيَقُولُ : " لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، إِنَّ لِلمَوتِ سَكَرَاتٍ " ثم نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ في الرَّفِيقِ الأَعلَى " يُرَدِّدُهَا حَتى قُبِضَ وَمَالَت يَدُهُ . وَتَسَرَّبَ الخَبَرُ بَينَ الصَّحَابَةِ في لَحَظَاتٍ ، فَضَجُّوا بِالبُكَاءِ وَأَظلَمَت عَلَيهِمُ الدُّنيَا ، وَاشتَدَّتِ بِهِمُ الرَّزِيَّةُ وَعَظُمَ فِيهِمُ الخَطْبُ ، وَأَخَذُوا يَبكُونَ لا يَدرُونَ مَا يَصنَعُونَ ، وَحُقَّ لهم ذَلِكَ ؛ لَقَد غَابَ الرَّسُولُ المُصطَفَى وَمَاتَ الحَبِيبُ المُجتَبَى ، لَقَد افتَقَدُوا مُهجَةَ قُلُوبِهِم وَمَن كَانَ مِلءَ أَسمَاعِهِم وَأَبصَارِهِم ، وَلم يَكَادُوا يُصَدِّقُون خَبَرَ الوَفَاةِ وَلم يَستَوعِبْهُ بَعضُهُم لِعِظَمِ المُصِيبَةِ وَهَولِ الصَّدمَةِ ، حَتى كَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ يُهَدِّدُ مَن يَقُولُ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَد مَاتَ . وَكَانَ أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَد خَرَجَ في الصَّبَاحِ إِلى مَنزِلِهِ بِالسُّنحِ في طَرَفِ المَدِينَةِ ، فَأَقبَلَ بِفَرَسِهِ سَرِيعًا حِينَ سَمِعَ الخَبَرَ ، فَنَزَلَ وَدَخَلَ المَسجِدَ ، وَلم يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتى دَخَلَ الحُجرَةَ الشَّرِيفَةَ ، فَقَصَدَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مُسَجًّى بِبُردَةٍ حَبِرَةٍ ، ثم أَكَبَّ عَلَيهِ وَقَبَّلَهُ وَبَكَى ، ثم قَالَ : بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي ، طِبتَ حَيًّا وَمَيِّتًا . ثم خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ ، فَقَالَ : اُسكُتْ يَا عُمَرُ ، فَأَبى إِلاَّ أَن يَتَكَلَّمَ ، فَأَقبَلَ النَّاسُ إِلى أَبي بَكرٍ وَتَرَكُوا عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُم أَجمَعِينَ ـ فَحَمِدَ اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَثنى عَلَيهِ وَقَالَ : أَمَّا بَعدُ : فَمَن كَانَ مِنكُم يَعبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَد مَاتَ ، وَمَن كَانَ يَعبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ . وَتَلا قَولَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيئًا وَسَيَجزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ " قَالَ ابنُ عَبَّاسٍِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ : وَاللهِ ، لَكَأَنَّ النَّاسَ لم يَعلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنزَلَ هَذِهِ الآيَةَ حَتى تَلاهَا أَبُو بَكرٍ ، فَتَلَقَّاهَا مِنهُ النَّاسُ ، فَمَا أَسمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلاَّ يَتلُوهَا ، قَالَ عُمَرُ : وَاللهِ ، مَا هُوَ إِلاَّ أَن سَمِعتُ أَبَا بَكرٍ تَلاهَا فَعُقِرتُ حَتى مَا تُقِلُّني رِجلايَ ، وَحَتى أَهوَيتُ إِلى الأَرضِ ، حِينَ سَمِعتُهُ تَلاهَا عَلِمتُ أَنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَد مَاتَ . وَصَدَقَ اللهُ : " إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ " وَكَانَت وَفَاتُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في يَومِ الاثنَينِ الثَّانيَ عَشَرَ مِن رَبِيعِ الأَوَّلِ في السَّنَةِ الحَادِيَةَ عَشرَةَ مِنَ الهِجرَةِ ، وَقَد غُسِّلَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيهِ ثِيَابُهُ وَلم يُجَرَّدْ كَرَامَةً لَهُ ، ثم دَخَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيهِ أَفرَادًا ، ثم دُفِنَ في مَوضِعِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ لَيلَةَ الأَربِعَاءِ . عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : لَمَّا كَانَ اليَومُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ النَّبيُّ المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنهَا كُلُّ شَيءٍ ، فَلَمَّا كَانَ اليَومُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظلَمَ مِنهَا كُلُّ شَيءٍ ، وَمَا نَفَضنَا أَيدِيَنَا مِنَ التُّرَابِ وَإِنَّا لَفِي دَفنِهِ حَتى أَنكَرنَا قُلُوبَنَا . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَسَلِّمْ . اللُّهَمَّ ارزُقْنَا اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ وَاحشُرْنَا في زُمرَتِهِ ، وَاسقِنَا مِن حَوضِهِ شَربَةً هَنِيئَةً لا نَظمَأُ بَعدَهَا أَبَدًا .



أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَاتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَمَا سَمِعتُم في الثَّانيَ عَشَرَ مِن رَبِيعِ الأَوَّلِ ، وَهُوَ اليَومُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ كَثِيرٌ مِنَ الجَهَلَةِ عِيدًا لِمَولِدِهِ ، غَافِلِينَ عَن أَنَّهُ لم يَثبُتْ مَولِدُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في هَذَا اليَومِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ هُوَ وَفَاتُهُ ، فَكَأَنَّهُم بِهَذَا يَحتَفِلُونَ بِيَومِ وَفَاتِهِ ، وَايمُ اللهِ لَقَد فَعَلُوا ذَلِكَ وَإِنْ لم يَشعُرُوا ، فَقَد أَمَاتُوا سُنَّتَهُ بِإِحيَاءِ هَذِهِ البِدعَةِ المُنكَرَةِ وَأَمثَالِهَا ، وَابتَعَدُوا عَن طَرِيقَتِهِ وَمَا عَرَفُوا مَحَبَّتَهُ ، وَإِلاَّ لَو أَحَبُّوهُ حَقَّ المَحَبَّةِ لاتَّبعُوا سُنَّتَهُ وَلاهتَدُوا بِهَديِهِ ، وَلَتَأَسَّوا بِهِ مُمتَثِلِينَ قَولَ رَبِّهِم ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا " وَقَولَهُ : " قُلْ إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحبِبْكُم اللهُ وَيَغفِرْ لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " فَالمَحَبَّةُ تَقتَضِي الاتِّبَاعَ وَلَيسَ الإِحدَاثَ وَالابتِدَاعَ ، وَاتِّبَاعُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في أَقوَالِهِ وَأَفعَالِهِ أَحَدُ رَكَائِزِ دِينِ الإِسلامِ وَأَسَاسِيَّاتِ هِ ، بَلْ هُوَ مِن أَعظَمِ مُسَلَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ وَالأُمُورِ المَعلُومَةِ مِنهَا بِالضَّرُورَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا " وَأَمَّا إِقَامَةُ الحَفَلاتِ الإِنشَادِيَّةِ المُختَلَطَةِ ، وَإِطرَابُ المَسَامِعِ بِالمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ الشِّركِيَّةِ ، فَإِنَّمَا هُوَ نَوعٌ مِنَ الغُلُوِّ المَنهِيِّ عَنهُ ، فَقَد صَحَّ عَنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ : " إِيَّاكُم وَالغُلُوَّ في الدِّينِ ، فَإِنَّمَا أَهلَكَ مَن كَانَ قَبلَكُمُ الغُلُوُّ في الدِّينِ " وَقَالَ : " لا تُطرُوني كَمَا أَطرَتِ النَّصَارَى ابنَ مَريَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبدٌ ، فَقُولُوا : عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ " أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ . وَإِنَّ فِيمَا شَرَعَهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ مِن تَعظِيمِ رَسُولِهِ وَوَسَائِلِ مَحَبَّتِهِ الشَّرعِيَّةِ ، إِنَّ فِيهَا مَا يُغني عَن كُلِّ وَسِيلَةٍ تُبتَدَعُ وَتُحدَثُ ، وَإِنَّنَا حِينَ نَتَكَلَّمُ عَن هَذِهِ البِدعَةِ مَعَ عَدَمِ حُدُوثِهَا في أَوسَاطِنَا وَللهِ الحَمدُ ، فَإِنَّمَا نَفعَلُ ذَلِكَ لِنُبَيِّنَ خَطَرَهَا وَنُحَذِّرَ مِنهَا فِئَامًا مِنَ المُسلِمِينَ تُقَامُ تِلكَ البِدعَةُ في بُلدَانِهِم ، وَخَوفًا مِن أَن يَغتَرَّ بها بَعضُ مَن لا عِلمَ عِندَهُ ، وَلا سِيَّمَا مَعَ هَذَا الانفِتَاحِ الإِعلامِيِّ عَبرَ القَنَوَاتِ وَالإِذَاعَاتِ وَالشَّبَكَاتِ ، وَالَّذِي أَصبَحَ الشِّركُ وَالبِدعَةُ يُعرَضُ مِن خِلالِهِ عَلَى المُسلِمِينَ صَبَاحَ مَسَاءَ ، لِذَلِكَ وَجَبَ التَّنَبُّهُ وَعَدَمُ الاغتِرَارِ بِانتِشَارِ البِدَعِ وَعَرضِهَا وَتَسوِيقِهَا مِن قِبَلِ بَعضِ المُغَرَّرِ بِهِم ، فَالحَقُّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ، كَمَا أَنَّ عَلَينَا جَمِيعًا أَن نُحَصِّنَ أَنفُسَنَا وَبُيُوتَنَا وَمُجتَمَعَنَا مِن مِثلِ هَذِهِ البِدَعِ وَالمُحدَثَاتِ ، وَهُوَ مَا لا يَتِمُّ إِلاَّ بِتَعلِيمِهِم أُصُولَ الدِّينِ الحَنِيفِ ، وَالأَخذِ بِهِم في طَرِيقِ الهِدَايَةِ وَصَدِّهِم عَن سُبُلِ الغِوَايَةِ ، وَجَلبِ وَسَائِلِ الإِصلاحِ الَّتي تُفِيدُهُم في بُيُوتِهِم ، وَالحَذَرِ مِن وَسَائِلِ الفِتنَةِ وَالفَسَادِ .

ناصرعبدالرحمن 05-03-2010 09:59 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الخَطأُ في حَيَاةِ النَّاسِ أَمرٌ وَارِدٌ وَطَبِيعَةٌ غَيرُ مُستَنكَرَةٍ ، فَلَيسُوا بِمَلائِكَةٍ مُقَرَّبِينَ لا يَعصُونَ وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ ، وَمَا هُم بِأَنبِيَاءَ مُنَزَّهِينَ وَلا مُرسَلِينَ مَعصُومِينَ ، وَلا يَستَطِيعُ أَيُّ إِنسَانٍ مَهمَا عَلا شَأنُهُ أَن يَدَّعِيَ العِصمَةَ لِنَفسِهِ ، وَلا يَقدِرُ امرُؤٌ مَهمَا بَلَغَ مِنَ العِلمِ وَالتَّقوَى وَحُسنِ الخُلُقِ أَن يُزَكِّيَ نَفسَهُ وَيَتَبَرَّأَ مِن خَطَئِهِ ، وَصَدَقَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ قَالَ : " كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " فَالخَطَأُ ـ إِذًا ـ وَاقِعٌ لا مَحَالَةَ ، وَالزَّلَلُ حَاصِلٌ وَلا بُدَّ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ الخَطَأَ الحَقِيقِيَّ إِنَّمَا هُوَ التَّمَادِي في الخَطَأِ وَالإِصرَارِ عَلَى الزَّلَلِ وَعَدَمُ الاعتِرَافِ بِالتَّقصِيرِ ، وَالجِدَالُ عَنِ النَّفسِ بِالبَاطِلِ وَتَمَحُّلُ المَعَاذِيرِ وَلَو بِالزُّورِ ، وَاعتِبَارُ الرُّجُوعِ إِلى الصَّوَابِ نَقِيصَةً لِلذَّاتِ أَو حَطًّا مِنَ القَدرِ ، تِلكُم هِيَ قَاصِمَةُ الظُّهُورِ وَبَلِيَّةُ البَلايَا ، وَالَّتي رُفِعَت بِسَبَبِهَا خَيرَاتٌ وَنُزِعَت بَرَكَاتٌ ، وَنَزَلَت جَرَّاءَهَا ابتِلاءَاتٌ وَحَلَّت نَكَبَاتٌ ، وَفَسَدَت بِشُؤمِهَا وَشَائِجُ وَقُطِعَت عَلائِقُ . وَلِنَعلَمَ خَطَرَ هَذَا الأَمرِ وَسَيِّئَ أَثَرِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَيَكفِينَا أَن نَسمَعَ مَا صَحَّ عَنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " إِنَّ اللهَ حَجَبَ التَّوبَةَ عَن كُلِّ صَاحِبِ بِدعَةٍ حَتى يَدَعَ بِدعَتَهُ " فَرَبُّنَا ـ جَلَّ وَعَلا ـ وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الغَفُورُ الوَدُودُ ، الَّذِي يَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ ، قَد حَجَبَ التَّوبَةَ عَن صَاحِبِ البِدعَةِ وَلم يَقبَلْهَا مِنهُ ، لِمَاذَا ؟! لأَنَّهُ مَفتُونٌ بها مُصِرٌّ عَلَيهَا مُعجَبٌ بها ، لا يُقِرُّ بِخَطَئِهِ وَلا يَعتَرِفُ بِزَلَلِهِ ، بَلْ يَرَى نَفسَهُ عَلَى صَوَابٍ وَيَعتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ . فَلِمَاذَا لا نَعتَرِفُ بِأَخطَائِنَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ مِن حِينِ أَن نَقَعَ فِيهَا لِنَعُودَ ؟ لِمَاذَا لا نُفَكِّرُ في التَّرَاجُعِ عَنهَا مُبَاشَرَةً لِنَغسِلَ دَرَنَهَا وَنَمحُوَ أَثَرَهَا ؟ لِمَاذَا تَذهَبُ عُقُولُنَا بَعدَ الخَطَأِ إِلى تَلَمُّسِ المَعَاذِيرِ وَتَمَحُّلِهَا ؟ لِمَاذَا يَنصَبُّ تَفكِيرُنَا عَلَى البَحثِ عَنِ الحِجَجِ وَإِن كَانَت وَاهِيَةً لِنُسَوِّغَ لأَنفُسِنَا الاستِمرَارَ وَالتَّمَادِي ؟ أَكُلَّ هَذَا تَكَبُّرًا وَغَرُورًا وَعُلوًّا وَإِصرَارًا ؟! أَلَمْ نَعلَمْ أَنَّ الأَبوَينِ ـ عَلَيهِمَا السَّلامُ ـ أَخطَآ فَأَقَرَّا بِالزَّلَّةِ وَاعتَرَفَا بِالتَّقصِيرِ فَغَفَرَ اللهُ لهُمَا وَتَابَ عَلَيهِمَا ؟ وَأَنَّ إِبلِيسَ عَصَى وَاستَكبَرَ وَأَبى فَأَحَلَّ اللهُ عَلَيهِ لَعنَتَهُ إِلى يَومِ الدِّينِ وَجَعَلَهُ إِمَامًا لأَهلِ النَّارِ وَقَائِدًا لِحَصَبِ جَهَنَّمَ ؟! إِنَّهُ لَمِن أَخطَرِ الأَمرَاضِ الَّتي ابتُلِيَ بها المُجتَمَعُ في السَّنَوَاتِ المُتَأَخِّرَةِ بِصُورَةٍ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ ، أَن يُخطِئَ المَرءُ إِمَّا عَن غَفلَةٍ وَنِسيَانٍ أَو عَن ضَعفٍ وَجِبِلَّةٍ ، أَو حَتى عَن تَعَمُّدٍ وَإِصرَارٍ ، ثُمَّ لا يُفكِرَ في الرُّجُوعِ وَالأَوبَةِ ، بَل يُسَارِعُ إِلى تَسوِيغِ خَطَئِهِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ ، وَلا يَهتَمُّ بِأَنَّهُ قَدِ انحَرَفَ عَنِ الطَّرِيقِ المُستَقِيمِ وَجَانَبَهُ ، وَأَنَّ وَاجِبَهُ الَّذِي لا خِيَارَ لَهُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ إِلى جَادَّةِ الصَّوَابِ وَالعَودَةُ لِلحَقِّ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ . وَلَو ذَهَبنَا نَبحَثُ عَن أَسبَابِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ السَّيِّئَةِ وَنَضَعُ العِلاجَ لِهَذَا المَرَضِ الخَطِيرِ ، لَوَجَدنَا أَسبَابًا مُتَعَدِّدَةً ، وَلأَلفَينَا في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الحَلَّ الأَمثَلَ لِمَن وَفَّقَهُ اللهُ وَسَدَّدَهُ . فَمِن تِلكَ الأَسبَابِ ضَعفُ الإِيمَانِ وَخَلَلُ التَّصَوُّرِ ، وَالزُّهدُ في الأَجرِ وَقِلَّةُ التَّفكِيرِ في العَوَاقِبِ ، أَمَّا المُؤمِنُ الَّذِي عَرَفَ نَفسَهُ حَقَّ مَعرِفَتِهَا وَأَقَرَّ بِضَعفِهَا وَاعتَرَفَ بِعَجزِهَا ، فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ إِمَّا أَن يَتُوبَ وَيَنزِعَ عَن خَطَئِهِ وَيَعتَذِرَ عَمَّا بَدَرَ مِنهُ ، فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيهِ وَيَعذُرَهُ الآخَرُونَ وَتَطهُرَ قُلُوبُهُم عَلَيهِ ، وَيَمحُوَ اعتِذَارُهُ مَا قَد يَكُونُ حَاكَ في الصُّدُورِ ضِدَّهُ ، وَإِمَّا أَن يَتَمَادَى في غَيِّهِ وَيُصِرَّ عَلَى إِسَاءَتِهِ ، فَتَتَكَاثَرَ بِذَلِكَ سَيِّئَاتُهُ وَتَعظُمَ ، وَيُظلِمَ فُؤَادُهُ وَيَقسُوَ قَلبُهُ ، وَمِن ثَمَّ تَتَّسِعُ الفَجوَةُ بَينَهُ وَبَينَ الآخَرِينَ ، فَلا يَنتُجُ عَن ذَلِكَ إِلاَّ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ وَالنُّفرَةُ وَالشَّحنَاءُ ، مَعَ مَا يَتبَعُهَا مِن تَكَدُّر وَهَمٍّ وَغَمٍّ ، وَأَمرَاضٍ نَفسِيَّةٍ وَقَلَقٍ دَائِمٍ ، وَضِيقٍ في الحَيَاةِ وَضَنكٍ في المَعِيشَةِ . وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ إِيمَانَ العَبدِ بِأَنَّهُ إِذَا تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيهِ ، وَأَنَّ اللهَ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِ المُسِيءِ إِذَا تَابَ حَسَنَاتٍ وَيَرفَعُهُ بِذَلِكَ دَرَجَاتٍ ، وَأَنَّهُ إِذَا تَرَاجَعَ صُقِلَ قَلبُهُ ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ اللهُ عَبدًا بِعَفوٍ إِلاَّ عِزًّا ، وَلا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلا رَفَعَهُ ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَمِمَّا يَحدُو نُفُوسَ العَارِفِينَ إِلى المُسَارَعَةِ بِالتَّوبَةِ وَالبِدَارِ بِالاعتِذَارِ ، وَالحَذَرِ مِنَ التَّمَادِي وَالإِصرَارِ .
وَمِن أَسبَابِ التَّمَادِي في الخَطَأِ مَا أُوتِيَهُ بَعضُ النَّاسِ مِن قُوَّةٍ في الجَدَلِ وَشِدَّةٍ في الخُصُومَةِ ، وَطُولِ عِنَادٍ وَدَوَامِ لَجَاجَةِ ، وَلَحنٍ في القَولِ وَقُدرَةٍ عَلَى الإِقنَاعِ وَلَو بِالبَاطِلِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَكَانَ الإِنسَانُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلاً " وَإِنَّ لِلمُجتَمَعِ دَورًا كَبِيرًا في تَشجِيعِ مِثلِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، حَيثُ يُعجَبُونَ بِكُلِّ ذِي حُجَّةٍ وَيَمدَحُونَ الشَّدِيدَ في الخُصُومَةِ ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ مِثلَ هَذَا قَد أَسَاءَ إِلى نَفسِهِ قَبلَ أَن يُسِيءَ إِلى غَيرِهِ ، وَأَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ قَد مَقَتَهُ وَالنَّبيَّ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ قَد ذَمَّهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا ضَلَّ قَومٌ بَعدَ هُدًى كَانُوا عَلَيهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ " ثُمَّ قَرَأَ " مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ أَبغَضَ الرِّجَالِ إِلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ " كَم مِن مُشكِلاتٍ تَحدُثُ بَينَ اثنَينِ فَتَتَضَاعَفُ نَتَائِجُهَا وَتَسُوءُ الأَحوَالُ فِيهَا وَتَتَعَقَّدُ الأُمُورُ ، وَقَد كَانَ أَيسَرُ عِلاجٍ لها وَأَقرَبُ طَرِيقٍ لِحَلِّهَا هُوَ الاعتِرَافَ بِالخَطَأِ وَالمُبَادَرَةَ بِالاعتِذَارِ ، وَالشَّهَادَةَ بِالحَقِّ وَلَو عَلَى النَّفسِ بَدَلاً مِنَ الخِصَامِ وَاللَّجَاجَةِ وَالمِرَاءِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الََّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنََّ اللهَ كَانَ بما تَعمَلُونَ خَبِيرًا " وَمِن أَسبَابِ التَّمَادِي في الخَطَأِ وَرَدِّ الحَقِّ الكِبرُ وَالتَّعَالِي ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كَانَ في قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ " فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَن يَكُونَ ثَوبُهُ حَسَنًا وَنَعلُهُ حَسَنًا . قَالَ : " إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمطُ النَّاسِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَمَعنى بَطَرُ الحَقِّ : دَفعُهُ وَرَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَعَدَمُ الاعتِرَافِ بِهِ ، وَمَعنى غَمطُ النَّاسِ : احتِقَارُهُم . وَلا تَرَى المُتَكَبِّرَ إِلاَّ مُعتَدًّا بِرَأيِهِ مُتَعَصِّبًا لَهُ ، لا يَقبَلُ بِغَيرِهِ وَإِن كَانَ أَصَحَّ وَأَصوَبَ ، أَمَّا المُتَواضِعُ فَإِنَّ تَوَاضُعَهُ يَحمِلُهُ عَلَى قَبُولِ الرَّأيِ الآخَرِ وَتَقدِيرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ مَتى كَانَ صَوَابًا ، ذَلِكَ أَنَّهُ لا يُقَدِّسُ نَفسَهُ فَيَدَّعِي لها العِصمَةَ مِنَ الخَطَأِ ، وَلا يَستَخِفُّ بِآرَاءِ الآخَرِينَ أَو يُسَفِّهُهَا لِيُخفِيَ أَخطَاءَهُ وَيُعمِيَ الأَعيُنَ عَن مُشَاهَدَتِهَا ، بَلْ إِنَّ لَهُ في حَيَاتِهِ مَحَطَّاتٍ يُرَاجِعُ فِيهَا نَفسَهُ ، وَوَقَفَاتٍ يُصَحِّحُ فِيهَا مَسَارَهُ ، حَتى لا يَستَرسِلَ في خَطَأٍ وَقَعَ فِيهِ أَو يَستَمِرَّ في هَوًى انسَاقَ إِلَيهِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاحذَرُوا التَّمَادِيَ في الخَطَأِ وَالبَاطِلِ ، وَكُونُوا رَجَّاعِينَ لِلحَقِّ مُؤثِرِينَ لَهُ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِن أَسبَابِ استِفحَالِ الخَطَأِ وَالتَّمَادِي فِيهِ ، التَّصَرُّفَ في حَالِ الغَضَبِ دُونَ تَعَقُّلٍ وَتَفَكُّرٍ ، وَالاستِرسَالَ مَعَ شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنسِ فِيمَا يُملُونَهُ ، وَتَركَ المَجَالِ لِلِّسَانِ لِيَنطَلِقَ في تِلكَ الحَالِ بِالسَّبِّ أَو يَنفَلِتَ بِالتَّعيِيرِ ، أَو يَكِيلَ مِنَ الكَلامِ أَسوَأَهُ وَأَفحَشَهُ ، وَقَد تَبلُغُ قُوَّةُ الغَضَبِ بِبَعضِ النَّاسِ إِلى أَن يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَاتٍ يَندَمُ عَلَيهَا بَعدَ هُدُوئِهِ ، لَكِنَّهُ لا يَقدِرُ أَن يُعَالِجَ نَتَائِجَهَا بِتِلكَ السُّهُولَةِ ، لأَنَّهَا تَكُونُ قَد طَعَنَت قُلُوبًا كَثِيرَةً فَغَضِبَت هِيَ الأُخرَى ، فَيُكَابِرُ كُلٌّ مِن جَانِبِهِ ، وَتَتَعَقَّدُ الأُمُورُ وَيَتَمَادَى السَّفَهُ بِأَهلِهِ ، ثم لَعَلَّهَا لا تَعُودُ الأُمُورُ بَعدَ ذَلِكَ إِلى مَجَارِيهَا إِلاَّ بَعدَ وَقتٍ طَوِيلٍ ، أَو بَعدَمَا يُرِيقُ الطَّرَفَانِ مَاءَ الوُجُوهِ وَيُبذَلُ مِنَ المَالِ وَالجَاهِ مَا يُبذَلُ ، وَهُنَا تَأتي بَعضُ الأَعرَافِ الاجتِمَاعِيَّة ِ أَوِ العَادَاتِ القَبَلِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ ، فَتَزِيدُ الأُمُورُ سُوءًا وَتَعقِيدًا ، وَتُدخِلُ في المُشكِلاتِ مَعَ أَصحَابِهَا أَقَارِبَهُم وَجِيرَانَهُم وَمَن حَولَهُم ، وَيَطُولُ بها مَا كَانَ قَصِيرًا وَيَكبُرُ مَا كَانَ صَغِيرًا ، وَلَو أَنَّ المُخطِئَ استَعَاذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ حِينَ أَخطَأَ وَبَادَرَ إِلى الاعتِذَارِ ، لَذَهَبَ الشَّيطَانُ بَعِيدًا وَلَزَالَ مَا في النُّفُوسِ ، فَعَن سُلَيمَانَ بنِ صُرَدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : استَبَّ رَجُلانِ عِندَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَغضَبُ وَيَحمَرُّ وَجهُهُ وَتَنتَفِخُ أَودَاجُهُ ، فَنَظَرَ إِلَيهِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " إِنِّي لأَعلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنهُ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " الحَدِيثَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَاحذَرُوا الغَضَبَ وَالكِبرَ ، وَتَوَاضَعُوا وَلِينُوا لِلحَقِّ ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ لِلصَّوَابِ وَالحَقِّ خَيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الخَطَأِ وَالبَاطِلِ .

ناصرعبدالرحمن 05-03-2010 09:59 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الخَطأُ في حَيَاةِ النَّاسِ أَمرٌ وَارِدٌ وَطَبِيعَةٌ غَيرُ مُستَنكَرَةٍ ، فَلَيسُوا بِمَلائِكَةٍ مُقَرَّبِينَ لا يَعصُونَ وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ ، وَمَا هُم بِأَنبِيَاءَ مُنَزَّهِينَ وَلا مُرسَلِينَ مَعصُومِينَ ، وَلا يَستَطِيعُ أَيُّ إِنسَانٍ مَهمَا عَلا شَأنُهُ أَن يَدَّعِيَ العِصمَةَ لِنَفسِهِ ، وَلا يَقدِرُ امرُؤٌ مَهمَا بَلَغَ مِنَ العِلمِ وَالتَّقوَى وَحُسنِ الخُلُقِ أَن يُزَكِّيَ نَفسَهُ وَيَتَبَرَّأَ مِن خَطَئِهِ ، وَصَدَقَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ قَالَ : " كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ " فَالخَطَأُ ـ إِذًا ـ وَاقِعٌ لا مَحَالَةَ ، وَالزَّلَلُ حَاصِلٌ وَلا بُدَّ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ الخَطَأَ الحَقِيقِيَّ إِنَّمَا هُوَ التَّمَادِي في الخَطَأِ وَالإِصرَارِ عَلَى الزَّلَلِ وَعَدَمُ الاعتِرَافِ بِالتَّقصِيرِ ، وَالجِدَالُ عَنِ النَّفسِ بِالبَاطِلِ وَتَمَحُّلُ المَعَاذِيرِ وَلَو بِالزُّورِ ، وَاعتِبَارُ الرُّجُوعِ إِلى الصَّوَابِ نَقِيصَةً لِلذَّاتِ أَو حَطًّا مِنَ القَدرِ ، تِلكُم هِيَ قَاصِمَةُ الظُّهُورِ وَبَلِيَّةُ البَلايَا ، وَالَّتي رُفِعَت بِسَبَبِهَا خَيرَاتٌ وَنُزِعَت بَرَكَاتٌ ، وَنَزَلَت جَرَّاءَهَا ابتِلاءَاتٌ وَحَلَّت نَكَبَاتٌ ، وَفَسَدَت بِشُؤمِهَا وَشَائِجُ وَقُطِعَت عَلائِقُ . وَلِنَعلَمَ خَطَرَ هَذَا الأَمرِ وَسَيِّئَ أَثَرِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَيَكفِينَا أَن نَسمَعَ مَا صَحَّ عَنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " إِنَّ اللهَ حَجَبَ التَّوبَةَ عَن كُلِّ صَاحِبِ بِدعَةٍ حَتى يَدَعَ بِدعَتَهُ " فَرَبُّنَا ـ جَلَّ وَعَلا ـ وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الغَفُورُ الوَدُودُ ، الَّذِي يَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ ، قَد حَجَبَ التَّوبَةَ عَن صَاحِبِ البِدعَةِ وَلم يَقبَلْهَا مِنهُ ، لِمَاذَا ؟! لأَنَّهُ مَفتُونٌ بها مُصِرٌّ عَلَيهَا مُعجَبٌ بها ، لا يُقِرُّ بِخَطَئِهِ وَلا يَعتَرِفُ بِزَلَلِهِ ، بَلْ يَرَى نَفسَهُ عَلَى صَوَابٍ وَيَعتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ . فَلِمَاذَا لا نَعتَرِفُ بِأَخطَائِنَا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ مِن حِينِ أَن نَقَعَ فِيهَا لِنَعُودَ ؟ لِمَاذَا لا نُفَكِّرُ في التَّرَاجُعِ عَنهَا مُبَاشَرَةً لِنَغسِلَ دَرَنَهَا وَنَمحُوَ أَثَرَهَا ؟ لِمَاذَا تَذهَبُ عُقُولُنَا بَعدَ الخَطَأِ إِلى تَلَمُّسِ المَعَاذِيرِ وَتَمَحُّلِهَا ؟ لِمَاذَا يَنصَبُّ تَفكِيرُنَا عَلَى البَحثِ عَنِ الحِجَجِ وَإِن كَانَت وَاهِيَةً لِنُسَوِّغَ لأَنفُسِنَا الاستِمرَارَ وَالتَّمَادِي ؟ أَكُلَّ هَذَا تَكَبُّرًا وَغَرُورًا وَعُلوًّا وَإِصرَارًا ؟! أَلَمْ نَعلَمْ أَنَّ الأَبوَينِ ـ عَلَيهِمَا السَّلامُ ـ أَخطَآ فَأَقَرَّا بِالزَّلَّةِ وَاعتَرَفَا بِالتَّقصِيرِ فَغَفَرَ اللهُ لهُمَا وَتَابَ عَلَيهِمَا ؟ وَأَنَّ إِبلِيسَ عَصَى وَاستَكبَرَ وَأَبى فَأَحَلَّ اللهُ عَلَيهِ لَعنَتَهُ إِلى يَومِ الدِّينِ وَجَعَلَهُ إِمَامًا لأَهلِ النَّارِ وَقَائِدًا لِحَصَبِ جَهَنَّمَ ؟! إِنَّهُ لَمِن أَخطَرِ الأَمرَاضِ الَّتي ابتُلِيَ بها المُجتَمَعُ في السَّنَوَاتِ المُتَأَخِّرَةِ بِصُورَةٍ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ ، أَن يُخطِئَ المَرءُ إِمَّا عَن غَفلَةٍ وَنِسيَانٍ أَو عَن ضَعفٍ وَجِبِلَّةٍ ، أَو حَتى عَن تَعَمُّدٍ وَإِصرَارٍ ، ثُمَّ لا يُفكِرَ في الرُّجُوعِ وَالأَوبَةِ ، بَل يُسَارِعُ إِلى تَسوِيغِ خَطَئِهِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ ، وَلا يَهتَمُّ بِأَنَّهُ قَدِ انحَرَفَ عَنِ الطَّرِيقِ المُستَقِيمِ وَجَانَبَهُ ، وَأَنَّ وَاجِبَهُ الَّذِي لا خِيَارَ لَهُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ إِلى جَادَّةِ الصَّوَابِ وَالعَودَةُ لِلحَقِّ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ . وَلَو ذَهَبنَا نَبحَثُ عَن أَسبَابِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ السَّيِّئَةِ وَنَضَعُ العِلاجَ لِهَذَا المَرَضِ الخَطِيرِ ، لَوَجَدنَا أَسبَابًا مُتَعَدِّدَةً ، وَلأَلفَينَا في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الحَلَّ الأَمثَلَ لِمَن وَفَّقَهُ اللهُ وَسَدَّدَهُ . فَمِن تِلكَ الأَسبَابِ ضَعفُ الإِيمَانِ وَخَلَلُ التَّصَوُّرِ ، وَالزُّهدُ في الأَجرِ وَقِلَّةُ التَّفكِيرِ في العَوَاقِبِ ، أَمَّا المُؤمِنُ الَّذِي عَرَفَ نَفسَهُ حَقَّ مَعرِفَتِهَا وَأَقَرَّ بِضَعفِهَا وَاعتَرَفَ بِعَجزِهَا ، فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ إِمَّا أَن يَتُوبَ وَيَنزِعَ عَن خَطَئِهِ وَيَعتَذِرَ عَمَّا بَدَرَ مِنهُ ، فَيَتُوبَ اللهُ عَلَيهِ وَيَعذُرَهُ الآخَرُونَ وَتَطهُرَ قُلُوبُهُم عَلَيهِ ، وَيَمحُوَ اعتِذَارُهُ مَا قَد يَكُونُ حَاكَ في الصُّدُورِ ضِدَّهُ ، وَإِمَّا أَن يَتَمَادَى في غَيِّهِ وَيُصِرَّ عَلَى إِسَاءَتِهِ ، فَتَتَكَاثَرَ بِذَلِكَ سَيِّئَاتُهُ وَتَعظُمَ ، وَيُظلِمَ فُؤَادُهُ وَيَقسُوَ قَلبُهُ ، وَمِن ثَمَّ تَتَّسِعُ الفَجوَةُ بَينَهُ وَبَينَ الآخَرِينَ ، فَلا يَنتُجُ عَن ذَلِكَ إِلاَّ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ وَالنُّفرَةُ وَالشَّحنَاءُ ، مَعَ مَا يَتبَعُهَا مِن تَكَدُّر وَهَمٍّ وَغَمٍّ ، وَأَمرَاضٍ نَفسِيَّةٍ وَقَلَقٍ دَائِمٍ ، وَضِيقٍ في الحَيَاةِ وَضَنكٍ في المَعِيشَةِ . وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ إِيمَانَ العَبدِ بِأَنَّهُ إِذَا تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيهِ ، وَأَنَّ اللهَ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِ المُسِيءِ إِذَا تَابَ حَسَنَاتٍ وَيَرفَعُهُ بِذَلِكَ دَرَجَاتٍ ، وَأَنَّهُ إِذَا تَرَاجَعَ صُقِلَ قَلبُهُ ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ اللهُ عَبدًا بِعَفوٍ إِلاَّ عِزًّا ، وَلا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلا رَفَعَهُ ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَمِمَّا يَحدُو نُفُوسَ العَارِفِينَ إِلى المُسَارَعَةِ بِالتَّوبَةِ وَالبِدَارِ بِالاعتِذَارِ ، وَالحَذَرِ مِنَ التَّمَادِي وَالإِصرَارِ .
وَمِن أَسبَابِ التَّمَادِي في الخَطَأِ مَا أُوتِيَهُ بَعضُ النَّاسِ مِن قُوَّةٍ في الجَدَلِ وَشِدَّةٍ في الخُصُومَةِ ، وَطُولِ عِنَادٍ وَدَوَامِ لَجَاجَةِ ، وَلَحنٍ في القَولِ وَقُدرَةٍ عَلَى الإِقنَاعِ وَلَو بِالبَاطِلِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَكَانَ الإِنسَانُ أَكثَرَ شَيءٍ جَدَلاً " وَإِنَّ لِلمُجتَمَعِ دَورًا كَبِيرًا في تَشجِيعِ مِثلِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، حَيثُ يُعجَبُونَ بِكُلِّ ذِي حُجَّةٍ وَيَمدَحُونَ الشَّدِيدَ في الخُصُومَةِ ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ مِثلَ هَذَا قَد أَسَاءَ إِلى نَفسِهِ قَبلَ أَن يُسِيءَ إِلى غَيرِهِ ، وَأَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ قَد مَقَتَهُ وَالنَّبيَّ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ قَد ذَمَّهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا ضَلَّ قَومٌ بَعدَ هُدًى كَانُوا عَلَيهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ " ثُمَّ قَرَأَ " مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ أَبغَضَ الرِّجَالِ إِلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ " كَم مِن مُشكِلاتٍ تَحدُثُ بَينَ اثنَينِ فَتَتَضَاعَفُ نَتَائِجُهَا وَتَسُوءُ الأَحوَالُ فِيهَا وَتَتَعَقَّدُ الأُمُورُ ، وَقَد كَانَ أَيسَرُ عِلاجٍ لها وَأَقرَبُ طَرِيقٍ لِحَلِّهَا هُوَ الاعتِرَافَ بِالخَطَأِ وَالمُبَادَرَةَ بِالاعتِذَارِ ، وَالشَّهَادَةَ بِالحَقِّ وَلَو عَلَى النَّفسِ بَدَلاً مِنَ الخِصَامِ وَاللَّجَاجَةِ وَالمِرَاءِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الََّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللهُ أَولى بهمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنََّ اللهَ كَانَ بما تَعمَلُونَ خَبِيرًا " وَمِن أَسبَابِ التَّمَادِي في الخَطَأِ وَرَدِّ الحَقِّ الكِبرُ وَالتَّعَالِي ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كَانَ في قَلبِهِ مِثقَالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ " فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَن يَكُونَ ثَوبُهُ حَسَنًا وَنَعلُهُ حَسَنًا . قَالَ : " إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمطُ النَّاسِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ ، وَمَعنى بَطَرُ الحَقِّ : دَفعُهُ وَرَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَعَدَمُ الاعتِرَافِ بِهِ ، وَمَعنى غَمطُ النَّاسِ : احتِقَارُهُم . وَلا تَرَى المُتَكَبِّرَ إِلاَّ مُعتَدًّا بِرَأيِهِ مُتَعَصِّبًا لَهُ ، لا يَقبَلُ بِغَيرِهِ وَإِن كَانَ أَصَحَّ وَأَصوَبَ ، أَمَّا المُتَواضِعُ فَإِنَّ تَوَاضُعَهُ يَحمِلُهُ عَلَى قَبُولِ الرَّأيِ الآخَرِ وَتَقدِيرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ مَتى كَانَ صَوَابًا ، ذَلِكَ أَنَّهُ لا يُقَدِّسُ نَفسَهُ فَيَدَّعِي لها العِصمَةَ مِنَ الخَطَأِ ، وَلا يَستَخِفُّ بِآرَاءِ الآخَرِينَ أَو يُسَفِّهُهَا لِيُخفِيَ أَخطَاءَهُ وَيُعمِيَ الأَعيُنَ عَن مُشَاهَدَتِهَا ، بَلْ إِنَّ لَهُ في حَيَاتِهِ مَحَطَّاتٍ يُرَاجِعُ فِيهَا نَفسَهُ ، وَوَقَفَاتٍ يُصَحِّحُ فِيهَا مَسَارَهُ ، حَتى لا يَستَرسِلَ في خَطَأٍ وَقَعَ فِيهِ أَو يَستَمِرَّ في هَوًى انسَاقَ إِلَيهِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاحذَرُوا التَّمَادِيَ في الخَطَأِ وَالبَاطِلِ ، وَكُونُوا رَجَّاعِينَ لِلحَقِّ مُؤثِرِينَ لَهُ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ "

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِن أَسبَابِ استِفحَالِ الخَطَأِ وَالتَّمَادِي فِيهِ ، التَّصَرُّفَ في حَالِ الغَضَبِ دُونَ تَعَقُّلٍ وَتَفَكُّرٍ ، وَالاستِرسَالَ مَعَ شَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنسِ فِيمَا يُملُونَهُ ، وَتَركَ المَجَالِ لِلِّسَانِ لِيَنطَلِقَ في تِلكَ الحَالِ بِالسَّبِّ أَو يَنفَلِتَ بِالتَّعيِيرِ ، أَو يَكِيلَ مِنَ الكَلامِ أَسوَأَهُ وَأَفحَشَهُ ، وَقَد تَبلُغُ قُوَّةُ الغَضَبِ بِبَعضِ النَّاسِ إِلى أَن يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَاتٍ يَندَمُ عَلَيهَا بَعدَ هُدُوئِهِ ، لَكِنَّهُ لا يَقدِرُ أَن يُعَالِجَ نَتَائِجَهَا بِتِلكَ السُّهُولَةِ ، لأَنَّهَا تَكُونُ قَد طَعَنَت قُلُوبًا كَثِيرَةً فَغَضِبَت هِيَ الأُخرَى ، فَيُكَابِرُ كُلٌّ مِن جَانِبِهِ ، وَتَتَعَقَّدُ الأُمُورُ وَيَتَمَادَى السَّفَهُ بِأَهلِهِ ، ثم لَعَلَّهَا لا تَعُودُ الأُمُورُ بَعدَ ذَلِكَ إِلى مَجَارِيهَا إِلاَّ بَعدَ وَقتٍ طَوِيلٍ ، أَو بَعدَمَا يُرِيقُ الطَّرَفَانِ مَاءَ الوُجُوهِ وَيُبذَلُ مِنَ المَالِ وَالجَاهِ مَا يُبذَلُ ، وَهُنَا تَأتي بَعضُ الأَعرَافِ الاجتِمَاعِيَّة ِ أَوِ العَادَاتِ القَبَلِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ ، فَتَزِيدُ الأُمُورُ سُوءًا وَتَعقِيدًا ، وَتُدخِلُ في المُشكِلاتِ مَعَ أَصحَابِهَا أَقَارِبَهُم وَجِيرَانَهُم وَمَن حَولَهُم ، وَيَطُولُ بها مَا كَانَ قَصِيرًا وَيَكبُرُ مَا كَانَ صَغِيرًا ، وَلَو أَنَّ المُخطِئَ استَعَاذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ حِينَ أَخطَأَ وَبَادَرَ إِلى الاعتِذَارِ ، لَذَهَبَ الشَّيطَانُ بَعِيدًا وَلَزَالَ مَا في النُّفُوسِ ، فَعَن سُلَيمَانَ بنِ صُرَدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : استَبَّ رَجُلانِ عِندَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَغضَبُ وَيَحمَرُّ وَجهُهُ وَتَنتَفِخُ أَودَاجُهُ ، فَنَظَرَ إِلَيهِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " إِنِّي لأَعلَمُ كَلِمَةً لَو قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنهُ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " الحَدِيثَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَاحذَرُوا الغَضَبَ وَالكِبرَ ، وَتَوَاضَعُوا وَلِينُوا لِلحَقِّ ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ لِلصَّوَابِ وَالحَقِّ خَيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الخَطَأِ وَالبَاطِلِ .

محمد 06-03-2010 03:01 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أخي جزاك الله خير


الساعة الآن 06:42 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
- arab-line : Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.3.0 TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010

... جميع الحقوق محفوظه لمجالس رويضة العرض لكل العرب ...

.. جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ...ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر المنتدى..

a.d - i.s.s.w