مجالس الرويضة لكل العرب

مجالس الرويضة لكل العرب (http://www.rwwwr.com/vb/httb:www.rwwwr.com.php)
-   روحانيات (http://www.rwwwr.com/vb/f5.html)
-   -   خطب الشيخ عبدالله البصري (http://www.rwwwr.com/vb/t31002.html)

ناصرعبدالرحمن 01-01-2010 08:35 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، فَضلُ العِلمِ مَعرُوفٌ وَقَدرُ العُلَمَاءِ ظَاهِرٌ ، لا يَجحَدُهُ إِلاَّ جَاهِلٌ أَو مُكَابِرٌ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " قَلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ " وَهَذَا الفَضلُ وَإِن كَانَ مَقصُودًا بِهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ في المَقَامِ الأَوَّلِ وَالمَدحُ فِيهِ يَتَنَاوَلُهُم بِالدَّرَجَةِ الأُولى ، فَإِنَّ لأَصحَابِ العِلمِ عَامَّةً مِنَ ذَلِكُمُ الفَضلِ وَالمَدحِ نَصِيبًا ، وَلا سِيَّمَا مَن قَادَهُ عِلمُهُ مِنهُم لِخَشيَةِ رَبِّهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ " فَالعُلَمَاءُ هُم أَخشَى النَّاسِ للهِ وَأَتقَاهُم لَهُ ، وَأَهلُ الخَشيَةِ هُمُ العُلَمَاءُ عَلَى الحَقِيقَةِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ العُلَمَاءَ يَطَّلِعُونَ مِن بَدِيعِ صُنعِ اللهِ في الكُونِ عَلَى مَا لا يَطَّلِعُ عَلَيهِ غَيرُهُم ، وَيَرَونَ مِن سُنَنِهِ المُحكَمَةِ وَآيَاتِهِ البَاهِرَةِ في الحَيَاةِ مَا لا يَرَاهُ سِوَاهُم ، سَوَاءٌ مِن ذَلِكَ مَا كَانَ في الأَنفُسِ أَو في الآفَاقِ ، ممَّا هُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ مِن عِندِ اللهِ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ، وَأَنَّ وَرَاءَ هَذَا الكُونِ خَالِقًا عَظِيمًا أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ ، خَلَقَ فَسَوَّى وَقَدَّرَ فَهَدَى ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " سَنُرِيهِم آيَاتِنَا في الآفَاقِ وَفي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ " قَالَ الشَّيخُ ابنُ سَعدِيٍّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَقَد فَعَلَ ـ تَعَالى ـ فَإِنَّهُ أَرَى عِبَادَهُ مِنَ الآيَاتِ مَا بِهِ تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ ، وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ المُوَفِّقُ لِلإِيمَانِ مَن شَاءَ وَالخَاذِلُ لِمَن يَشَاءُ . وَصَدَقَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الآيَاتِ قَدِ اتَّضَحَت في عَصرِنَا هَذَا بِمَا أُوتِيَ النَّاسُ مِن أَجهِزَةٍ وتِقنِيَاتٍ بِمَا لم تَتَّضِحْ بِمِثلِهِ مِن قَبلُ ، لَكِنَّ أَفرَادًا مِمَّن يُسَمَّونَ بِالعُلَمَاءِ ، مِمَّن دَرَسُوا العُلُومَ العَصرِيَّةَ وَتَبَحَّرُوا فِيهَا بِمَعزِلٍ عَن تَفَهُّمِ كِتَابِ اللهِ وَبعِيدًا عَنِ التَّفَقُّهِ في سُنَّةِ رَسُولِهِ ، خُذِلُوا وَلم يُوَفَّقُوا ، وَأَخفَقُوا في الاختِبَارِ وَلم يَنجَحُوا ، إِذْ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ الدُّنيَوِيِّ القَلِيلِ ، وَاستَكثَرُوا مَا أُوتُوا مِنهُ مِن قَدرٍ ضَّئِيلٍ ، وَحَسِبُوا لِضِيقِ أُفُقِهِم أَنَّهُم عَلَى شَيءٍ ، فَجَعَلُوا يَتَبَجَّحُونَ وَيَتَفَيهَقُون َ ، وَيَتَجَاهَلُون َ الحَقَائِقَ الوَاضِحَاتِ وَيُحَاوِلُونَ طَمسَ الحِجَجِ البَيِّنَاتِ ، بَلْ وَيُعَارِضُونَ مَا جَاءَ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مِن تَفسِيرٍ لِلظَّوَاهِرِ الكَونِيَّةِ ، وَيَعُدُّونَهُ لِجَهلِهِم بِاللهِ مِنِ اعتِقَادَاتِ المَاضِي البَائِدَةِ ، فَكَانُوا بِذَلِكَ حَرِيِّينَ أَن يُلقَمُوا حَجَرًا وَأَن تُكَمَّمَ أَفوَاهُهُم ، وَأَن يُضرَبَ بِكَلامِهِم عُرضَ الحَائِطِ وَتُسَفَّهَ آراؤُهُم ، لا أَن يُفسَحَ لَهُمُ المَجَالُ في صُحُفِ المُسلِمِينَ النَّاطِقَةِ بِأَلسِنَتِهِم ، وَتُسَوَّدَ بِهُرَائِهِمُ وَمُغَالَطَاتِه ِمُ الصَّفَحَاتُ ، وَلَكِنَّهَا السَّنَوَاتُ الخَدَّاعَةُ الَّتي أَخبَرَ بِهَا مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ، حَيثُ قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيمَا صَحَّ عَنهُ : " إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً ، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُؤتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ " قِيلَ : وَمَا الرُّوَيبِضَةُ . قَالَ : المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ " وَفي يَومِ الخَمِيسِ نَشَرَت إِحدَى جَرَائِدِنَا المَحَلِّيَّةِ وَعَلَى لِسَانِ أَحَدِ المَنسُوبِينَ إِلى عِلمِ الفَلَكِ في بِلادِنَا كَلامًا مَفَادُهُ التَّقلِيلُ مِن شَأنِ ظَاهِرَةِ الخُسُوفِ وَالكُسُوفِ ، حَيثُ وَصَفَ خُسُوفَ لَيلَةِ البَارِحَةِ بِالمُتَوَاضِعِ وَأَنَّهُ لا يَلفِتُ الأَنظَارَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الخُسُوفَ وَالكُسُوفَ حَدَثَانِ سَمَاوِيَّانِ مَعرُوفَانِ مُنذُ القَدَمِ ... وَكَانَ النَّاسُ في المَاضِي يَعتَقِدُونَ أَشيَاءَ لا أَسَاسَ لها مِنَ الصِّحَّةِ ، فَكَانُوا يَنسِبُونَ هَذِهِ الظَّوَاهِرَ لِغَضَبِ الرَّبِّ ... إِلى آخِرِ مَا جَاءَ في تَصرِيحِهِ الهَزِيلِ مِن بَعضِ الحَقَائِقِ العِلمِيَّةِ الصَّادِقَةِ ، مَمزُوجَةً بِمُغَالَطَاتٍ شَرعِيَّةٍ فَادِحَةٍ . فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ مَا أَحلَمَهُ عَلَى خَلقِهِ وَمَا أَرحَمَهُ بِهِم وَمَا أَكرَمَهُ !! وَمَا أَجرَأَهُم عَلَى القَولِ عَلَيهِ بِلا عِلمٍ وَأَسرَعَهُم إِلى تَكذِيبِ رُسُلِهِ !! رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : إِنَّ الشَّمسَ خَسَفَت عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَبَعَثَ مُنَادِيًا : الصَّلاةُ جَامِعَةٌ ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَربَعَ رَكَعَاتٍ في رَكعَتَينِ وَأَربَعِ سَجَدَاتٍ . قَالَت عَائِشَةُ : مَا رَكَعتُ رُكُوعًا قَطُّ وَلا سَجَدتُ سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطوَلَ مِنهُ . وَفِيهِمَا عَن أَبي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : خَسَفَتِ الشَّمسُ فَقَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَزِعًا يَخشَى أَن تَكُونَ السَّاعَةُ ، فَأَتَى المَسجِدَ فَصَلَّى بِأَطوَلِ قِيَامٍ وَرَكُوعٍ وَسَجُودٍ ، مَا رَأَيتُهُ قَطُّ يَفعَلُهُ ، وَقَالَ : " هَذِهِ الآيَاتُ الَّتي يُرسِلُ اللهُ لا تَكُونُ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بها عِبَادَهُ ، فَإِذَا رَأَيتُم شَيئًا مِن ذَلِكَ فَافزَعُوا إِلى ذِكرِهِ وَدُعَائِهِ وَاستِغفَارِهِ " وَعَن أَسمَاءَ بِنتِ أَبي بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ قَالَت : لَقَد أَمَرَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِالعِتَاقَةِ في كُسُوفِ الشَّمسِ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَفي بَعضِ رِوَايَاتِ الكُسُوفِ في المُتَّفَقِ عَلَيهِ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَت : ثُمَّ انصَرَفَ وَقَدِ انجَلَتِ الشَّمسُ ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنى عَلَيهِ ثُمَّ قَالَ : " إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمرَ آيَتَانِ مِن آيَاتِ اللهِ ، لا يَخسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، فَإِذَا رَأَيتُم ذَلِكَ فَادعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا " ثُمَّ قَالَ : " يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاللهِ مَا مِن أَحَدٍ أَغيَرُ مِنَ اللهِ أَن يَزنِيَ عَبدُهُ أَو تَزنِيَ أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاللهِ لَو تَعلَمُونَ مَا أَعلَمُ لَضَحِكتُم قَلِيلاً وَلَبَكَيتُم كَثِيرًا " وَفي البُخَارِيِّ عَن أَبي بَكرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كُنَّا عِندَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَانكَسَفَتِ الشَّمسُ فَقَامَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ المَسجِدَ ، فَدَخَلنَا فَصَلَّى بِنَا رَكعَتَينِ حَتَّى انجَلَتِ الشَّمسُ ، فَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ الشَّمسَ وَالقَمَرَ لا يَنكَسِفَانِ لِمَوتِ أَحَدٍ ، فَإِذَا رَأَيتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادعُوا حَتَّى يُكشَفَ مَا بِكُم . وَعِندَ مُسلِمٍ عَن أَسمَاءَ بِنتِ أَبي بَكرٍ قَالَت : كَسَفَتِ الشَّمسُ عَلَى عَهدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَفَزِعَ فَأَخطَأَ بِدِرعٍ حَتَّى أُدرِكَ بِرِدَائِهِ بَعدَ ذَلِكَ . قَالَت : فَقَضَيتُ حَاجَتي ثُمَّ جِئتُ وَدَخَلتُ المَسجِدَ فَرَأَيتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَائِمًا فَقُمتُ مَعَه ... الحَدِيثَ . فَانظُرُوا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِلى حَالِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِاللهِ ، أَعلَمِ الخَلقِ بِاللهِ وَأَخشَاهُم لَهُ وَأَتقَاهُم لِمَولاهُ ، كَيفَ فَزِعَ وَخَافَ وَخَشِيَ أَن تَكُونَ السَّاعَةُ ؟ وَكَيفَ مَشَى غَيرَ مُصلِحٍ ثَوبَهُ ولا مُهتَمٍّ بِشَأنِهِ ؟ ثُمَّ كَيفَ بَادَرَ إِلى الصَّلاةِ مُسرِعًا حَتى إِنَّهُ لِشِدَّةِ سُرعَتِهِ وَاهتِمَامِهِ بِذَلِكَ أَرَادَ أَن يَأخُذَ رِدَاءَهُ فَأَخَذَ دِرعَ بَعضِ أَهلِ البَيتِ سَهوًا وَذُهُولاً ، وَلم يَعلَمْ بِذَلِكَ لاشتِغَالِ قَلبِهِ بِأَمرِ الكُسُوفِ ، فَلَمَّا عَلِمَ أَهلُ البَيتِ أَنَّهُ تَرَكَ رِدَاءَهُ لَحِقُوهُ بِهِ ، ثُمَّ تَأَمَّلُوا بِأَيِّ شَيءٍ أَمَرَ وَإِلى أَيِّ تَصَرُّفٍ وَجَّهَ ؟ لَقَد أَمَرَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِالصَّلاةِ وَالدُّعَاءِ ، وَوَجَّهَ إِلى الصَّدَقَةِ وَالعِتَاقَةِ ، فَمَا مَعنى كُلِّ ذَلِكَ وَمَا مُؤَدَّاهُ ؟! أَلا يَعني خَوفَهُ مِنَ العَذَابِ وَخشيَتَهُ غَضَبَ اللهِ ؟! أَلا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمرَ مُحتَاجٌ مِنَ العِبَادِ إِلى التَّضَرُّعِ وَالتَّقَرُّبِ إِلى اللهِ ؟! أَلا فَمَا أَجهَلَ هَؤُلاءِ المُنتَسِبِينَ إِلى العِلمِ وَمَا أضحَلَ تَفكِيرَهُم ! لَقَدِ انتَكَسَت عُقُولُهُم الصَّغِيرَةُ وَزَلَّت بِهِمُ الأَفهَامُ القَاصِرَةُ ! فَتَهَاوَنُوا بِمَا اهتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ ، وَتَعَامَلُوا بِبُرُودَةِ قُلُوبٍ مَعَ مَا فَزِعَ لَهُ نَبيُّ اللهِ ، فَصَدَقَ فِيهِم قَولُ الحَقِّ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ . يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ هُم غَافِلُونَ " إِنَّ هَؤُلاءِ المُتَحَذلِقِين َ وَلَو بَدَا في الظَّاهِرِ أَنَّهُم عُلَمَاءُ وَأَنَّهُم يَعرِفُونَ الكَثِيرَ ، فَإِنَّهُم مَعَ ذَلِكَ لا يَعلَمُونَ ، ذَلِكَ أَنَّ عِلمَهُم سَطحِيٌّ ، يَتَعَلَّقُ بِظَوَاهِرِ الحَيَاةِ المَشهُودَةِ بِالأَعيُنِ ، وَلَكِنَّهُم لا يَتَعَمَّقُونَ في سُنَنِهَا الثَّابِتَةِ وَقَوَانِينِهَا الأَصِيلَةِ ، وَلا يُدرِكُونَ نَوَامِيسَهَا الكُبرَى وَارتِبَاطَاتِه َا الوَثِيقَةَ " يَعلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنيَا " ثُمَّ لا يَتجَاوَزُونَ هَذَا الظَّاهِرَ وَلا يَرَونَ بِبَصِيرَتِهِم مَا وَرَاءَهُ مِنَ الحِكَمِ البَالِغَةِ ، وَلا يَنفُذُونَ بِعُقُولِهِم إِلى مَا خَلفَهُ مِنَ الأَسرَارِ البَاهِرَةِ . وَظَاهِرُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَإِنْ بَدَا لِلنَّاسِ وَاسِعًا شَاِملاً ، فَإِنَّهُ مَحدُودٌ صَغِيرٌ حَقِيرٌ ، وَالحَيَاةُ المُشَاهَدَةُ كُلُّهَا بِنَاطِقِهَا وَسَاكِتِهَا وَصَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا وَقَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا ممَّا يَرَى النَّاسُ ، إِنَّمَا هِيَ طَرَفٌ صَغِيرٌ مِن ذَلِكُمُ الوُجُودِ الهَائِلِ وَالكُونِ الوَاسِعِ ، وَالَّذِي لا يَتَّصِلُ قَلبُهُ بِضَمِيرِ ذَلِكَ الوُجُودِ ، وَلا يَتَّصِلُ حِسُّهُ بِالنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ الَّتي تُصَرِّفُهُ بِأَمرِ اللهِ وَحِكمَتِهِ ، يَظَلُّ يَنظُرُ وَكَأَنَّهُ لا يَرَى ، وَيَبقَى مُبصِرًا الشَّكلَ الظَّاهِرَ مَشغُولاً بِالحَرَكَةِ الدَّائِرَةِ ، وَلَكِنَّهُ لا يُدرِكُ الحِكَمَ اللَّطِيفَةَ وَلا يَعِيشُ بِهَا وَلا مَعَهَا . وَهَكَذَا فَإِنَّ مَن أَعرَضَ عَنِ القُرآنِ وَتَجَاهَلَ آيَاتِهِ ، لم يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِن أَن يَتَّخِذَهُ الشَّيطَانُ مَطِيَّةً لِضَلالاتِهِ " وَاتْلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ . وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بها وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِن تَحمِلْ عَلَيهِ يَلهَثْ أَو تَترُكْهُ يَلهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ . سَاءَ مَثَلاً القَومُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُم كَانُوا يَظلِمُونَ . مَن يَهدِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِي وَمَن يُضلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ . وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ . وَللهِ الأَسمَاءُ الحُسنَى فَادعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ في أَسمَائِهِ سَيُجزَونَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ " أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، يَنسَى النَّاسُ لِطُولِ مَا اعتَادُوا مِن مُرُورِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ جِدَّتَهُمَا المُتَكَرِّرَةَ ، وَلا يَرُوعُهُم مَطلَعُ الشَّمسُ وَلا مَغِيبُهَا إِلاَّ قَلِيلاً ، وَلا يَهُزُّهُم طُلُوعُ النَّهَارِ وَإِقبَاُل اللَّيلِ إِلاَّ نَادِرًا ، وَلا يَتَدَبَّرُونَ مَا في تَوَالِيهِمَا مِن رَحمَةٍ بهم وَإِنقَاذٍ لهم مِنَ البِلَى وَالدَّمَارِ أَوِ التَّعَطُّلِ وَالبَوَارِ ، وَمعَ هَذَا تَرَاهُم يَشتَاقُونَ إِلى الصُّبحِ حِينَ يَطُولُ بهمُ اللَّيلُ قَلِيلاً في أَيَّامِ الشِّتَاءِ ، فَكَيفَ لَو فَقَدُوا الضِّيَاءَ بِشَكلٍ دَائِمٍ . ثُمَّ هُم يَحُنُّونَ إِلى اللَّيلِ حِينَ يَطُولُ النَّهَارُ عَلَيهِم بِضعَ سَاعَاتٍ في الصَّيفِ ، وَيَجِدُونَ في ظَلامِ اللَّيلِ وَسُكُونِهِ المَلجَأَ وَالقَرَارَ بَعدَ تَعَبِ العَمَلِ في النَّهَارِ ، فَكَيفَ بِهِم لَو ظَلَّ النَّهَارُ عَلَيهِم سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ ؟! أَلا إِنَّ كُلَّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ بِقَدَرٍ ، وَكُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ في هَذِهِ الحَيَاةِ بِتَدبِيرٍ مُحكَمٍ ، وَكُلَّ شَيءٍ عِندَهُ ـ تَعَالى ـ بِمَقدَارٍ ، وَمِن ثَمَّ تَأتي آيَاتُ القُرآنِ الكَرِيمِ لِتَوقِظَ القُلُوبَ مِن رَقدَةِ الإِلفِ وَالعَادَةِ ، وَتُنقِذَ الأَنظَارَ مِنَ السَّهوِ وَالغَفلَةِ عَمَّا في الكَونِ مِن مَشَاهِدَ عَظِيمَةٍ ، لِيَتَفَكَّرَ الإِنسَانُ الضَّعِيفُ فِيمَا سَخَّرَهُ اللهُ لَهُ بِقُدرَتِهِ وَقُوَّتِهِ ، وَيُقِرَّ بِعَجزِهِ عَن إِعَادَتِهِ لِطَبِيعَتِهِ فِيمَا لَوِ اختَلَّ أَوِ اختَلَفَ ، فَيَرجِعَ بِذَلِكَ إِلى رَبِّهِ كُلَّمَا ابتَعَدَ عَنهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ " قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسمَعُونَ . قُلْ أَرَأَيتُم إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ النَّهَارَ سَرمَدًا إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَن إِلَهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبصِرُونَ . وَمِن رَحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ " إِنَّهَا آيَاتٌ مُدَبَّرَةٌ وَمَخلُوقَاتٌ مُسخَّرَةٌ بِأَمرِ اللهِ " إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهَارَ يَطلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمرِهِ أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِين " " الشَّمسُ وَالقَمَرُ بِحُسبَانٍ " " وَالشَّمسُ تَجرِى لِمُستَقَرّ لَهَا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ وَالقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ . لاَ الشَّمسُ يَنبَغي لَهَا أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحُونَ " وَإِنَّ هَذِهِ الآيَاتِ المُسَخَّرَةَ وَتِلكَ المَخلُوقَاتِ المُسَيَّرَةَ ، لَتَتَغَيَّرُ عَن نِظَامِهَا وَتَخرَجُ عَمَّا أَلِفَهَا النَّاسُ عَلَيهِ إِذَا انتَهَكُوا مَحَارِمَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ وَتَجَرَّؤُوا عَلَى مَعصِيَتِهِ ، كُلَّ ذَلِكَ بِأَمرِ الجَبَّارِ ـ سُبحَانَهُ ـ وَتَقدِيرِهِ ، إِنذَارًا لِلعِبَادِ وَتَخوِيفًا لَهُم كَمَا قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَمَا نُرسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخوِيفًا " أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْنُرِ اللهَ مِن أَنفُسِنَا خَيرًا ، فَإِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ ، وَمَعَ هَذَا فَرَحمَتُهُ وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ " يَبسُطُ يَدَهُ بِاللَّيلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ ، وَيَبسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ حَتى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِهَا " فَـ" تُوبُوا إِلى اللهِ تَوبَةً نَصُوحًا " " وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ " مُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ ، وَاعبَدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ .

محمد 08-01-2010 07:33 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
ناصر

جزاك الله خير ويعطيك العافيه

والله لا يحرمك اجر من انتفع بها ان شاء الله

ناصرعبدالرحمن 15-01-2010 08:39 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ كَمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ " " وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَمَّا كَانَ العِلمُ هُوَ أَكمَلَ مَطلُوبٍ في الدُّنيَا وَأَشرَفَ مَرغُوبٍ ، وَطَرِيقَ الخَوفِ مِنَ اللهِ وَخَشيَتِهِ وَسَبِيلَ الوُصُولِ إِلى مَرضَاتِهِ وَجَنَّتِهِ ، أَمَرَ اللهُ ـ تَعَالى ـ نَبِيَّهُ بِالاستِزَادَةِ مِنهُ فَقَالَ ـ : " وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلمًا " وَقَد جَعَلَ ـ تَعَالى ـ العِلمَ سَبَبًا لِلرِّفعَةِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَرفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ " وَنَفَى ـ سُبحَانَهُ ـ استِوَاءَ أَهلِ العِلمِ بِغَيرِهِم ممَّن لا حَظَّ لَهُ فِيهِ فَقَالَ : " قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ " وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ العُلَمَاءَ هُم أَهلُ الصَّبرِ وَاليَقِينِ ، وَهُم أَعرَفُ النَّاسِ بِاللهِ وَأَتقَاهُم لَهُ وَأَخشَاهُم مِنهُ وَأَخوَفُهُم مِن عَذَابِهِ ، وَلأَنَّهُمُ الهُدَاةُ إِلى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ وَالمُرشِدُونَ إِلى الطَّرِيقِ القَوِيمِ ، وَالحَامِلُونَ لِلثَّقَلَينِ وَالحَافِظُونَ لِلوَحيَينِ ، المُتَدَبِّرُون َ لما فِيهِمَا مِنَ الأَمثَالِ ، العَاقِلُونَ لما يَنطَوِيَانِ عَلَيهِ مِنَ الحِكَمِ وَالأَسرَارِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ " وَقَالَ ـ صَلََّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَحمِلُ هَذَا العِلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ ، يَنفُونَ عَنهُ تَحرِيفَ الغَالِينَ وَانتِحَالَ المُبطِلِينَ وَتَأوِيلَ الجَاهِلِينَ " رَوَاهُ البَيهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَلَقَدِ استَشهَدَ اللهُ بِالعُلَمَاءِ في أَجَلِّ مَشهُودٍ عَلَيهِ وَهُوَ تَوحِيدُهُ ، فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِمًا بِالقِسطٍ " قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضلِ العِلمِ وَأَهلِهِ مِن وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : استِشهَادُهُم دُونَ غَيرِهِم مِنَ البَشَرِ .
وَالثَّاني : اقتِرَانُ شَهَادَتِهِم بِشَهَادَتِهِ .
وَالثَّالِثُ : اقتِرَانُ شَهَادَتِهِم بِشَهَادَةِ مَلائِكَتِهِ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّ في ضِمنِ هَذَا تَزكِيَتَهُم وَتَعدِيلَهُم ؛ فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ لا يَستَشهِدُ مِن خَلقِهِ إِلاَّ العُدُولَ .
وَقَد عَرَفَ المُسلِمُونَ لِلعُلَمَاءِ قَدرَهُم وَحَفِظُوا لهم مَكَانَتَهُم ، وَأَنزَلُوهُم مَنزِلَتَهُم اللاَّئِقَةَ بهم ، فَكَانُوا مِنَ الخُلَفَاءِ وَالوُلاةِ مَحَلَّ الثِّقَةِ وَفي غَايَةِ التَّقرِيبِ ، وَمِنَ العَامَّةِ في عَينِ الإِعزَازِ وَمَركَزِ التَّقدِيرِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ المُسلِمُونَ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَتَقَرُّبًا إِلى اللهِ ، لِمَا يَحمِلُهُ العُلَمَاءُ مِن مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ الَّذِي هُوَ أَثمَنُ مِيرَاثٍ وَأَغلاهُ ، وَلِمَا تَختَزِنُهُ صُدُورُهُم مِن عِلمِ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ ، اللَّذَينِ هُمَا أَشرَفُ العُلُومِ وَأَجَلُّ المَعَارِفِ ، وَلأَنَّ ذَلِكَ هُوَ فِعلُ نَبِيِّهِم ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ القَائِلِ : " وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ ، وإنَّ الأَنبِيَاءَ لم يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلمَ فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وافَرَ " وَلَمَّا جَاءَهُ صَفوَانُ بنُ عَسَّالٍ المُرَادِيُّ طَالِبًا لِلعِلمِ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِني جِئتُ أَطلُبُ العِلمَ . قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَرحَبًا بِطَالِبِ العِلمِ ، إنَّ طَالِبَ العِلمِ تَحُفُّهُ المَلائِكَةُ بِأَجنِحَتِهَا ثُمَّ يَركَبُ بَعضُهُم بَعضًا حَتَّى يَبلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنيَا مِن مَحَبَّتِهِم لما يَطلُبُ " وَقَال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " فَضلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضلِي عَلَى أَدنَاكُم " وَلِمَ لا يُقَدِّرُ المُسلِمُونَ بَعدَ ذَلِكَ عُلَمَاءَهُم وَيُجَلِّونَهُم ؟ بَل وَمَا لهم لا يَحمِلُونَ لهم خَالِصَ المَحَبَّةِ وَاللهُ يُصَلِّي عَلَيهِم فَوقَ سَمَاوَاتِهِ وَمَلائِكَتُهُ وَأَصغَرُ مَخلُوقَاتِهِ ؟ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهلَ الأَرضِ حَتَّى النَّملَةَ في جُحرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ في المَاءِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيرَ " إِنَّ العُلَمَاءَ لَحَرِيُّونَ بِكُلِّ تَقدِيرٍ وَتَكرِيمٍ ، جَدِيرُونَ بِكُلِّ إِجلالٍ وَإِعزَازٍ ، حَقِيقُونَ بِأَن تَنصَحَ لَهُمُ القُلُوبُ وَتُحِبَّهُمُ النُّفُوسُ ، ذَلِكَ هُوَ سَبِيلُ عِبَادِ اللهِ المُؤمِنِينَ ، وَتِلكَ عَقِيدَتُهُم الَّتي يَحمِلُونَهَا في قُلُوبِهِم ، عَمَلاً بقَولِ إِمَامِهِم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيهِنَّ قَلبُ مُسلِمٍ : إِخلاصُ العَمَلِ للهِ ، وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأَمرِ ، وَلُزُومُ الجَمَاعَةِ ؛ فَإِنَّ دَعوَتَهُم تُحيَطُ مِن وَرَائِهِم " وَخَوفًا مِنَ الدُّخُولِ في حَربِ رَبِّهِم وَحَذَرًا مِنَ الخُرُوجِ مِن دَائِرَةِ المُؤمِنِينَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " مَن عَادَى لي وَلِيًّا فَقَد آذَنتُهُ بِالحَربِ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لَيسَ مِنَّا مَن لم يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ " قَالَ الإِمَامُ أَبُو بَكرٍ الآجُرِّيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنِ العُلَمَاءِ وَمَكَانَتِهِم : فَضَّلَهُم عَلَى سَائِرِ المُؤمِنِينَ وَذَلِكَ في كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ ، رَفَعَهُم بِالعِلمِ ، وَزَيَّنَهُم بِالحِلمِ ، بهم يُعرَفُ الحَلالُ مِنَ الحَرَامِ ، وَالحَقُّ مِنَ البَاطِلِ ، وَالضَّارُّ مِنَ النَّافِعِ ، وَالحَسَنُ مِنَ القَبِيحِ ، فَضلُهُم عَظِيمٌ ، وَخَطَرُهُم جَزِيلٌ ، وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ ، وَقُرَّةُ عَينِ الأَولِيَاءِ ، الحِيتَانُ في البَحرِ لهم تَستَغفِرُ ، وَالمَلائِكَةُ بِأَجنِحَتِهَا لهم تَخضَعُ ، وَالعُلَمَاءُ في القِيَامَةِ بَعدَ الأَنبِيَاءِ تَشفَعُ ، مَجَالِسُهُم تُفِيدُ الحِكمَةَ ، وَبِأَعمَالِهِم يَنزَجِرُ أَهلُ الغَفلَةِ ، هُم أَفضَلُ مِنَ العُبَّادِ ، وَأَعلَى دَرَجَةً مِنَ الزُّهَّادِ ، حَيَاتُهُم غَنِيمَةٌ ، وَمَوتُهُم مُصِيبَةٌ ، يُذَكِّرُونَ الغَافِلَ ، وَيُعَلِّمُونَ الجَاهِلَ ، لا يُتَوَقَّعُ لهم بَائِقَةٌ ، وَلا يُخَافُ مِنهُم غَائِلَةٌ ... إِلى أَن قَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ : فَهُم سِرَاجُ العِبَادِ وَمَنَارُ البِلادِ ، وَقِوَامُ الأُمَّةِ وَيَنَابِيعُ الحِكمَةِ ، هُم غَيضُ الشَّيطَانِ ، بهم تَحيَا قُلُوبُ أَهلِ الحَقِّ وَتَمُوتُ قُلُوبُ أَهلِ الزَّيغِ ، مَثَلُهُم في الأَرضِ كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ يُهتَدَى بها في ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ ، إِذَا انطَمَسَتِ النُّجُومُ تَحَيَّرُوا ، وَإِذَا أَسفَرَ عَنهُمُ الظَّلامُ أَبصَرُوا . وَقَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ في عَقِيدَتِهِ : وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ السَّابِقِينَ وَمَن بَعدَهُم مِنَ التَّابِعِينَ أَهلِ الخَيرِ وَالأَثَرِ وَأَهلِ الفِقهِ وَالنَّظَرِ لا يُذكَرُونَ إِلاَّ بِالجَمِيلِ ، وَمَن ذَكَرَهُم بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيرِ السَّبِيلِ . وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهبيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في سِيَرِ أَعلامِ النُّبَلاءِ : ثُمَّ إِنَّ الكَبِيرَ مِنَ العُلَمَاءِ إِذَا كَثُرَ صَوَابُهُ وَعُلِمَ تَحَرِّيهِ لِلحَقِّ وَاتَّسَعَ عِلمُهُ وَظَهَرَ ذَكَاؤُهُ وَعُرِفَ صَلاحُهُ وَوَرَعُهُ وَاتِّبَاعُهُ يُغفَرُ لَهُ زَلَلُهُ وَلا نُضَلِّلُهُ وَلا نَطَّرِحُهُ وَنَنسَى مَحَاسِنَهُ . اِنتَهَى كَلامُهُ ... هَذِهِ مَكَانَةُ العُلَمَاءِ عِندَ رَبِّهِم وَنَبِيِّهِم وَالمُؤمِنِينَ ، وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ مِن أَقوَامٍ في عَصرِنَا ، ممَّن قَلَّ بِاللهِ عِلمُهُم وَضَعُفَ في الدِّينِ فِقهُهُم ، أُترِعَت قُلُوبُهُم عَلَى العُلَمَاءِ حِقدًا وَحَسَدًا ، وَامتَلأَت صُدُورُهُم عَلَى الدُّعَاةِ غَيظًا وَغِلاًّ ، لم يُقَدِّرُوا عَالِمًا لِعلِمِهِ ، وَلم يُجِلُّوا دَاعِيَةً لِفَضلِهِ ، وَلم يَحفَظُوا لِمُصلِحٍ سَابِقَتَهُ ، وَلم يُقِيلُوا لِذِي هَيئَةٍ عَثرَتَهُ ، سَلِمَ مِنهُم أَعدَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَلم يَسلَمْ مِنهُم عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ وَدُعَاةُ الحَقِّ العَامِلِينَ المُخلِصِينَ ، وَبَدَلاً مِن أَن يَبدَؤُوا عُلَمَاءَهُم بِالتَّحِيَّةِ وَالتَّرحِيبِ ، وَيَلقَوا دُعَاتَهُم بِالبِشرِ وَالسُّرُورِ وَالتَّكرِيمِ ، تَلَقَّوهُم بِالسُّخرِيَةِ وَالتَّهَكُّمِ ، وَرَمَوهُم بِالغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ ، وَاتَّهَمُوهُم بِإِثَارَةِ الفِتَنِ وَالتَّحرِيضِ عَلَى الوُلاةِ ، وَوَصَمُوهُم بِأَنَّهُم بَعِيدُونَ عَنِ الوَاقِعِ ، وَوَصَفُوهُم بِأَنَّهُم يَعِيشُونَ في المَاضِي ، وَإِنَّكَ لَتَعجَبُ أَن يَكُونَ ذَلِكَ في بَعضِ صُحُفِ بِلادِنَا وَجَرَائِدِهَا وَمَوَاقِعِ الشَّبَكَةِ فِيهَا ، وَأَن يَتَوَلاَّهُ أُنَاسٌ ممَّن يُنسَبُونَ إِلى أَهلِ السُّنَّةِ ، لا هَمَّ لهم إِلاَّ السُّخرِيَةُ وَالاستِهزَاءُ وَالشَّمَاتَةُ ، وَلا وَظِيفَةَ لهم إِلاَّ تَصَيَّدُ الزَّلاَّتِ وَتكبِيرُ السَّقطَاتِ ، يَبحَثُونَ عَنِ الكَلِمَاتِ المُوهِمَةِ ، وَيُنَقِّبُونَ عَنِ الأَلفَاظِ المُحتَمِلَةِ ، وَيَضَعُونَ الأَقوَالَ في غَيرِ سِيَاقِهَا ، وَيَبتُرُونَ النُّصُوصَ عَمَّا قَبلَهَا وَبَعدَهَا . إِنَّ عُلَمَاءَ السُّنَّةِ اليَومَ يُوَاجِهُونَ هَجَمَاتٍ شَدِيدَةً ، وَيَلقَونَ تَضيِيقًا وَأَذًى كَثِيرًا ، يَتَوَلاَّهُ أَعدَاءُ الدِّينِ المُنَاوِئِينَ لأَهلِ السُّنَّةِ كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ ، وَيَنفُخُ فِيهِ مُنَافِقُو الصَّحَافَةِ وَيَنشُرُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّ عُلَمَاءَ الأُمَّةِ هُم قَادَتُهَا لِلحَقِّ وَأَمَلُهَا في العَودَةِ إِلى سَابِقِ عَهدِهَا مِنَ العِزَّةِ وَالمَنَعَةِ وَالرِّفعَةِ ، وَلأَنَّهُم هُدَاتُهَا إِلى طَرِيقِ الأَمنِ وَمُبَلِّغِيهَا سَاحِلَ الأَمَانِ ، وَلا سِيَّمَا في أَزمِنَةِ الفِتَنِ وَأَوقَاتِ المِحَنِ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَانتَبِهُوا لما يُحَاكُ لَكُم ، فَإِنَّ العُلَمَاءَ هُم أَعلامُ الهُدَى وَنُجُومُ الدُّجَى ، وَهُم دُعَاةُ الخَيرِ وَحُمَاةُ الفَضِيلَةِ ، وُجُودُهُم مِن عَلامَاتِ الخَيرِ وَالبَرَكَةِ ، وَكَثرَتُهُم مِن أَمَارَاتِ التَّوفِيقِ وَالعِصمَةِ ، لا يُحِبُّهُم إِلاَّ مُؤمِنٌ ، وَلا يُبغِضُهُم إِلاَّ مُنَافِقٌ ، وَلا تَزَالُ الأُمَّةُ بِخَيرٍ مَا عَظَّمَتهُم وَوَقَّرَتهُم ، وَعَرَفَت لهم قَدرَهُم وَحَفِظَت لهم مَكَانَتَهُم ، لأَنَّ في ذَلِكَ تَعظِيمًا لِلشَّرِيعَةِ وَحِفظًا لِلدِّينِ ، وَأَمَّا إِذَا أَذَلَّت أُمَّةٌ عُلَمَاءَهَا ، أَو سَمَحَت بِأَن يَنَالَ مِنهُم سُفَهَاؤُهَا ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ نَذِيرٌ شُؤمٍ عَلَيهَا وَمِفتَاحُ شَرٍّ ، وَمُؤذِنٌ لها بِخَيبَةٍ وَخَسَارَةٍ . إِنَّ شَرَفَ العُلَمَاءِ لَيسَ مَربُوطًا بما لهم مِن مَنصِبٍ أَو وَظِيفَةٍ ، وَمَصدَرُ جَاهِهِم لَيسَ مَا هُم عَلَيهِ مِن حَسَبٍ أَو نَسَبٍ أَو مَالٍ ، وَمُوالاتُهُم لَيسَت حَسَبَ بُلدَانِهِم وَجِنسِيَّاتِهِ م وَأَعرَاقِهِم وَانتِمَائِهِم ، بَل شَرَفُهُم بِمَا يَحمِلُونَهُ مِن عِلمِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَجَاهُهُم بِالتِزَامِهِم بِمَنهَجِ الأَنبِيَاءِ في العِلمِ وَالتَّعلِيمِ وَالجِهَادِ وَالدَّعوَةِ ، وَالمَنَاصِبُ هِيَ الَّتي تَشرُفُ بِالعُلَمَاءِ ، وَالبِلادُ هِيَ الَّتي تَفخَرُ بِهِم ، وَهُمُ المِيزَانُ في مَعرِفَةِ مَا عَلَيهِ العَامَّةِ مِنَ الأَحوَالِ ، وَأَهلُ الرَّأيِ في مُدلَهِمَّاتِ الأُمُورِ ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَعرِفُ لهم قَدرَهُم وَمَنزِلَتَهُم ، وَلا بَرَكَةَ في لِسَانٍ يَطعَنُ في أَمَانَتِهِم وَدِيَانَتِهِم ، ولا عِزَّ لمن يَسعَى جَاهِدًا في تَشوِيهِ صُورَتِهِم ، أَلا فَأَخرَسَ اللهُ أَلسِنَةً تَتَقَوَّلُ عَلَيهِم مَا لم يَفعَلُوا ، وَفَضَّ أَفوَاهًا تَتشدق ِبنَقدِهِم عَلَى غَيرِ بُرهَانٍ ، وَأَعمَى أَعيُنًا لا تَنظُرُ لهم بِنَظرَةِ التَّقدِيرِ وَالتَّكرِيمِ . اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في عُلَمَائِنَا وَدُعَاتِنَا ، وَوَفِّقْنَا لِلاستِفَادَةِ مِنهُم وَسُلُوكِ طَرِيقِهِم عَلَى الحَقِّ ، وَاهدِنَا سَوَاءَ السَّبِيلِ وَتَبْ عَلَينَا ، وَاعفُ عنَّا واغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا ، أَنتَ مَولانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ .
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَلا تَعصُوهُ . وَاعلَمُوا أَنَّ لِلوَقِيعَةِ في العُلَمَاءِ وَانتِهَاكِ أَعرَاضِهِم عَوَاقِبَ وَخِيمَةً وَنَتَائِجَ خَطِيرَةً وَآثَارًا سَلبِيَّةً ، يُدرِكُهَا مَن تَأَمَّلَ الوَاقِعَ وَاتَّسَعَ أُفُقُهُ وَبَعُدَ نَظَرُهُ . مِن ذَلِكَ أَنَّ جَرحَ العَالِمِ سَبَبٌ في امتِهَانِ مَا يَحمِلُهُ مِنَ العِلمِ وَرَدِّ مَا يَقُولُهُ مِنَ الحَقِّ ، بَلْ إِنَّ جَرحَ العَالِمِ مَا هُوَ إِلاَّ جَرحٌ لِلعِلمِ الَّذِي مَعَهُ وَتَنَقُّصٌ لِلمِيرَاثِ الَّذِي بَينَ جَنبَيهِ ، وَكَفَى بِذَلِكَ جَرحًا لِلنَّبيِّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَإِيذَاءً لَهُ وَانتِقَاصًا ، وَكَفَى بِهِ إِيذَاءً لِلرَّبِّ ـ جَلَّ وَعَلا ـ وَإِغضَابًا لَهُ ، وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ " إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُم عَذَابًا مُهِينًا . وَالَّذِينَ يُؤذُونَ المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ بِغَيرِ مَا اكتَسَبُوا فَقَدِ احتَمَلُوا بُهتَانًا وَإِثمًا مُبِينًا " وَمِنَ الآثَارِ أَنَّ جَرحَ العُلَمَاءَ إِسقَاطٌ لِلقُدُوَاتِ الصَّالِحَةِ لِلأُمَّةِ ، وَرَفعٌ لِلقُدُوَاتِ الزَّائِفَةِ السَّيِّئَةِ ، ممَّا يُبعِدُ طُلاَّبَ العِلمِ عَنِ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّي نَ ، وَيُعَلِّقُهُم بِالجَاهِلِينَ وَالمُفسِدِينَ ، وَحِينَئِذٍ يَسِيرُ الشَّبَابُ عَلَى غَيرِ هُدًى ؛ فَيَتَعَرَّضُون َ لِلأَخطَارِ وَيَقَعُونَ في الأَخطَاءِ ، وَلا يَسلَمُونَ مِنَ الشَّطَطِ وَالزَّلَلِ ، وَمِن ثَمَّ يَكُونُونَ مَعَاوِلَ هَدمٍ وَعَوَامِلَ إِفسَادٍ . وَمِن آثَارِ تَجرِيحِ العُلَمَاءِ وَتَقلِيلِ شَأنِهِم في نَظَرِ العَامَّةِ ، وَإِذهَابِ هَيبَتِهِم وَإِنقَاصِ قِيمَتِهِم في صُّدُورِ الخَاصَّةِ ، أَنَّ هَذَا أكبرُ خِدمَةٍ وَمُسَاعَدَةٍ يُمكِنُ أَن تُقَدَّمَ لأَعدَاءِ اللهِ ، لِيُنَفِّذُوا مُخَطَّطَاتِهِم في تَغرِيبِ الأُمَّةِ وَإِبعَادِهَا عَن دِينِهَا ، وَلِيَسهُلَ عَلَيهِم تَخرِيبُ البِلادِ وَإِفسَادُ العِبَادِ ، وَلِيَتَمَكَّنُ وا مِن غَزوِ الأَوطَانِ فِكرِيًّا وَتَدمِيرِهَا خُلُقِيًّا . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَاعرِفُوا لِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ قَدرَهُم ، وَعَظِّمُوا شَعَائِرَ رَبِّكُم " ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ "

ناصرعبدالرحمن 18-02-2010 08:27 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " فَاتَّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُم وَاسمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيرًا لأَنفُسِكُم وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، جُبِلَ النَّاسُ عَلَى مَحَبَّةِ ذَوَاتِهِم وَالانتِصَارِ لأَنفُسِهِم ، وَاعتَادُوا الضَّنَّ بما في أَيدِيهِم وَالشُّحَّ بما يَملِكُونَ " وَأُحضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ " وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهَا لا بُدَّ أَن تَنشَأَ بَينَهُم بَعضُ الخِلافَاتِ وَإِن صَغُرَت ، وَتَتَعَدَّدَ مِنهُم وِجهَاتُ الأَنظَارِ وَإِنِ اقتَرَبَت ، وَقَد تَتَطَوَّرُ الخِلافَاتُ وَتَبتَعِدُ الوِجهَاتُ حَتى تَكُونَ لِجَاجًا وَخِصَامًا ، وَيَتَوَلَّدَ مِنهَا نِزَاعٌ وَشِقَاقٌ ، يَحصُلُ بَعدَهُ تَبَاعُدٌ وَتَنَافُرٌ ، تَتَعَقَّدُ بِسَبَبِهِ الحَيَاةُ وَيَفسُدُ العَيشُ ، وَتُشحَنُ القُلُوبُ وَتَضِيقُ الصُّدُورُ ، وَيُصبِحُ المُسلِمُ لا يُطِيقُ أَن يَملأَ عَينَيهِ بِرُؤيَةِ أَخِيهِ ، فَإِذَا لَمَحَهُ في طَرِيقٍ سَلَكَ غَيرَهُ ، وَإِن جَمَعَهُ بِهِ مَجلِسٌ خَرَجَ مُسرِعًا وَفَارَقَهُ ، بَل قَد يَكُونَانِ مِن جماعَةِ مَسجِدٍ وَاحِدٍ فَيَترُكَانِهِ أَو يَترُكُهُ أَحَدُهُمَا ، وَيَطُولُ الهَجرُ وَتَمتَدُّ القَطِيعَةُ ، وَتَذهَبُ الأَيَّامُ وَالأَعمَالُ لا تُرفَعُ ، وَتَمضِي السَّنَوَاتُ وَمَا في الاجتِمَاعِ مَطمَعٌ ، وَقَد تَتَعَدَّدُ المُحَاوَلاتُ مِن أَهلِ الخَيرِ لإِصلاحِ مَا فَسَدَ وَوَصلِ مَا انقَطَعَ ، وَمَعَ هَذَا يَظَلُّ في النُّفُوسِ شَيءٌ مِنَ الغَيظِ وَالمَوجِدَةِ ، وَيَبقَى التَّعَامُلُ مِن الجَانِبَينِ مَشُوبًا بِالحَذَرِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا أَسرَعَ في إِطفَاءِ نَارِ الخِلافَاتِ وَإِخمَادِ لَهِيبِهَا ، وَلا أَنجَعَ في تَخفِيفِ سَعِيرِ العَدَاوَاتِ وَإِمَاتَةِ شُعَلِهَا ، مِن إِلقَاءِ بَردِ العَفوِ عَلَيهَا وَمُعَاجَلَتِهَ ا بِغَيثِ الصَّفحِ ، وَصَبِّ مَاءِ التَّسَامُحِ عَلَى القُلُوبِ ؛ لِيُطَهِّرَهَا مِن دَنَسِهَا وَيُنَقِّيَهَا مِن وَضَرِهَا ، وَيَسقِيَ جُذُورَ الحُبِّ وَيَروِيَ غِرَاسَ المَوَدَّةِ ، وَيُعِيدَ لأَغصَانِ الأُنسِ وَالأُلفَةِ رُوَاءَهَا ، فَتَرجِعَ لِلصَّفِّ وِحدَتُهُ ، وَيَعُودَ لِلكَلِمَةِ اجتِمَاعُهَا ، وَمِن ثَمَّ تَعِيشُ الأُمَّةُ أَفرَادًا وَجَمَاعَاتٍ في أَمنٍ وَاطمِئنَانٍ وَتَآلُفٍ ، فَتَتَفَرَّغُ لِمَا فِيهِ صَلاحُهَا وَفَلاحُهَا ، وَتَتَعَاوَنُ عَلَى مَا بِهِ فَوزُهَا وَنَجَاحُهَا .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد جَاءَ الإِسلامُ في هَذَا الشَّأنِ بما يَردَعُ بَوَادِرَ الظُّلمِ وَيَكُفُّ نَزَوَاتِ الانتِقَامِ ، وَتَكَاثَرَت نُصُوصُهُ لَقَطعِ رَغَبَاتِ الإِسَاءَةِ وَمَنعِ شَهَوَاتِ الانتِصَارِ ، بَل جَاءَت نُصُوصُهُ لِلارتِفَاعِ بِالمُسلِمِ عَنِ المُعَامَلَةِ بِالمِثلِ وَمُقَابَلَةِ الإِسَاءَةِ بِالإِسَاءَةِ ، وَحَثِّهِ على الدَّفعِ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ ، وَتَرغِيبِهِ في الصَّفحِ عَنِ الأَذَى وَالعَفوِ عَنِ الإِسَاءَةِ ، وَالاتِّصَافِ بِالحِلمِ وَتَركِ الغَضَبِ ، وَالتَّرَفُّعِ عَنِ الانتِصَارِ لِلنَّفسِ . قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثلُهَا فَمَن عَفَا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالمِينَ " وَبِالعَفوِ وَالصَّفحِ أَمَرَ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ نَبِيَّهُ فَقَالَ : " خُذِ العَفوَ وَأْمُرْ بِالعُرفِ وَأَعرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ " وَبِالعَفوِ وَالصَّفحِ أَمَرَ اللهُ المُؤمِنِينَ ، وَجَعَلَ نَتِيجَتَهُ مَغفِرَتَهُ ذُنُوبَهُم وَرَحمَتَهُ إِيَّاهُم ، فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلْيَعفُوا وَلْيَصفَحُوا " وقال : " وَإِن تَعفُوا وَتَصفَحُوا وَتَغفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " وقال : " إِن تُبدُوا خَيرًا أَو تُخفُوهُ أَو تَعفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا " بَل لَقَد جَعَلَ الصَّبرَ عَلَى الأَذَى وَغُفرَانَ الزَّلاتِ في بَعضِ الفَتَرَاتِ ممَّا يَجِبُ فَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمُورِ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ في وَصفِ المُهَيَّئِينَ لِجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ : " وَالكَاظِمِينَ الغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ " وَقَد كَانَ العَفوُ خُلُقَ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَم يَكُنْ لِيَنتَقِمَ لِنَفسِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بَل كَانَ يَعفُو وَيَصفَحُ ، بَل وَيَفعَلُ الخَيرَ وَيُحسِنُ إِلى مَن أَسَاءَ إِلَيهِ ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ شَيئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امرَأَةً وَلا خَادِمًا ، إِلاَّ أَن يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَمَا نِيلَ مِنهُ شَيءٌ قَطُّ فَيَنتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ إِلاَّ أَن يُنتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ ـ تَعَالى ـ فَيَنتَقِمَ للهِ ـ تَعَالى ـ رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَعَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كُنتُ أَمشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيهِ بُردٌ نَجرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ ، فَأَدرَكَهُ أَعرَابيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبذَةً شَدِيدَةً ، فَنَظَرتُ إِلى صَفحَةِ عَاتِقِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَقَد أَثَّرَت بها حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَبذَتِهِ ، ثم قَالَ : يَا محمدُ ، مُرْ لي مِن مَالِ اللهِ الَّذِي عِندَكَ ، فَالتَفَتَ إِلَيهِ فَضَحِكَ ، ثم أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ كُلَّ عَبدٍ لا بُدَّ أَن يُذنِبَ وَيُخطِئَ ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يُحِبُّ أَن يَغفِرَ لَهُ رَبُّهُ وَيَعفُوَ عَنهُ سَيِّدُهُ ، وَإِنَّ العَفوَ عَنِ النَّاسِ لَمِن أَسبَابِ عَفوِ اللهِ عَنِ العَبدِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ :"وَلْيَعفُوا وَلْيَصفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ اللهُ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " قَالَ ابنُ كَثِيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَت في الصِّدِّيقِ حِينَ حَلَفَ أَلاَّ يَنفَعَ مِسطَحَ بنَ أُثَاثَةَ بِنَافِعَةٍ بَعدَ مَا قَالَ في عَائِشَةَ مَا قَالَ ... فَلَمَّا أَنزَلَ اللهُ بَرَاءَةَ أُمِّ المُؤمِنِينَ عَائِشَةَ وَطَابَتِ النُّفُوسُ المُؤمِنَةُ وَاستَقَرَّت ، وَتَابَ اللهُ عَلَى مَن كَانَ تَكَلَّمَ مِنَ المُؤمِنِينَ في ذَلِكَ ، وَأُقِيمَ الحَدُّ عَلَى مَن أُقِيمَ عَلَيهِ ، شَرَعَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى وَلَهُ الفَضلُ وَالمِنَّةُ ـ يُعَطِّفُ الصِّدِّيقَ عَلَى قَرِيبِهِ وَنَسِيبِهِ وَهُوَ مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ ، فَإِنَّهُ كَانَ ابنَ خَالَةِ الصِّدِّيقِ ، وَكَانَ مِسكِينًا لا مَالَ لَهُ إِلاَّ مَا يُنفِقُ عَلَيهِ أَبُو بَكرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ وَكَانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ ، وَقَد وَلَقَ وَلْقَةً تَابَ اللهُ عَلَيهِ مِنهَا ، وَضُرِبَ الحَدَّ عَلَيهَا ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ مَعرُوفًا بِالمَعرُوفِ ، لَهُ الفَضلُ وَالأَيَادِي عَلَى الأَقَارِبِ وَالأَجَانِبِ ، فَلَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ إِلى قَولِهِ : " أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ اللهُ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " أَي : فَإِنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ ، فَكَمَا تَغفِرُ عَنِ المُذنِبِ إِلَيكَ نَغفِرُ لَكَ ، وَكَمَا تَصفَحُ نَصفَحُ عَنكَ ، فَعِندَ ذَلِكَ قَالَ الصِّدِّيقُ : بَلَى ، وَاللهِ إِنَّا نُحِبُّ يَا رَبَّنَا أَن تَغفِرَ لَنَا . ثم رَجَعَ إِلى مِسطَحٍ مَا كَانَ يَصِلُهُ مِنَ النَّفَقَةِ ، وَقَالَ : وَاللهِ لا أَنزَعُهَا مِنهُ أَبَدًا . اِنتَهَى كَلامُهُ . إِنَّهَا النُّفُوسُ المُؤمِنَةُ الطَّاهِرَةُ الَّتي استَنَارَت بِنُورِ الصِّدقِ وَالتَّصدِيقِ ، وَوَجَدَت مِن بَردِ اليَقِينِ بِالأَجرِ مَا أَطفَأَ لَهِيبَ غَضَبِهَا ، إِنَّهُم كِرَامُ النَّاسِ ، يَقبَلُونَ العُذرَ وَيُقِيلُونَ العَثرَةَ ، وَيَتَجَاوَزُون َ عَنِ الخَطَأِ وَيَدفِنُونَ الزَّلَّةَ ، وَيَطوُون المَاضِيَ طَيَّ الكَرِيمِ المُسَامِحِ ، يُنَزِّهُونَ أَنفُسَهُم عَنِ تَوبِيخِ مَنِ اعتَذَرَ أَوِ الإِثقَالِ عَلَيهِ ، بل وَلا يَلُومُونَهُ وَلا يُعَاتِبُونَهُ ، يَفعَلُونَ ذَلِكَ ابتِغَاءً لِلأَجرِ وَطَلَبًا لِلثَّوَابِ وَطَمَعًا في الرَّحمَةِ ، فَيَا مَن يُرِيدُ أَن يُقِيلَ اللهُ عَثرَتَهُ وَيَتَجَاوَزَ عَن زَلَّتِهِ ، أَقِلْ عَثَرَاتِ إِخوَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَن زَلاَّتِهِم ، وَاعلَمْ أَنَّهُ ـ سُبحَانَهُ ـ رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الكُرَمَاءَ ؛ فَلا تَكُنْ قَاسِيَ القَلبِ غَلِيظَ الطَّبعِ مُتَّبِعًا لِهَوَاكَ ، اُطلُبِ الأَجرَ مِن رَبِّكَ ، وَاسأَلْهُ أَن يَشرَحَ صَدرَكَ ، وَاحذَرْ قَسوَةَ القَلبِ بَعدَ أَن عَلِمتَ وَالتَّمَادِيَ في الضَّلالِ بَعدَ الذِّكرَى ، فَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدرَهُ للإِسلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِن رَبِّهِ فَوَيلٌ لِلقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكرِ اللهِ أُولَئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَبُّوا نُفُوسَكُم عَلَى العَفوِ وَالصَّفحِ ، وَرَوِّضُوهَا عَلَى التَّسَامُحِ وَالرِّقَّةِ ، وَعَوِّدُوهَا عَلَى الرَّحمَةِ وَالرَّأفَةِ ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ هَذِهِ مِن صِفَاتِ أَهلِ الجَنَّةِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ " وَأَهلُ الجَنَّةِ ثَلاثَةٌ : ذُو سُلطَانٍ مُقسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ لِكُلِّ ذِي قُربى وَمُسلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ " إِنَّ دِينَنَا لَيسَ أَقوَالاً نُرَدِّدُهَا أَو شِعَارَاتٍ نُعلِنُهَا ، ثم لا نُطَبِّقَ مِنهَا في الوَاقِعِ إِلاَّ مَا تُملِيهِ عَلَينَا أَهوَاؤُنَا وَتَشتَهِيهِ أَنفُسُنَا ، لا وَأَلفُ لا ، إِنَّ دِينَنَا قِيَمٌ نَعتَنِقُهَا قَولاً وَعَمَلاً ، وَمَبَادِئُ نَتَمَسَّكُ بها سِرًّا وَعَلَنًا ، وَأُصُولٌ نَنطَلِقُ مِنهَا لإِصلاحِ أَنفُسِنَا ، وَمَنهَجٌ مُتَكَامِلٌ نُعَامِلُ بِهِ مَن حَولَنَا ، وَمَا شُرِعَتِ الشَّرَائِعُ إِلاَّ لِتُطَبَّقَ وَيُلتَزَمَ بها ، وَلا أُنزِلَ الدِّينُ إِلاَّ لِتَطهِيرِ البَاطِنِ وَتَغيِيرِ الظَّاهِرِ ، وَفي الحَدِيثِ : " إِنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إِلى صُوَرِكُم وَلا أَموَالِكُم ، وَلَكِنْ يَنظُرُ إِلى قُلُوبِكُم وَأَعمَالِكُم " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
اللَّهُمَّ أَصلِحْ قُلُوبَنَا ، وَاغفِرْ ذُنُوبَنَا ، وَاستُرْ عُيُوبَنَا ، وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ ، الأَحيَاءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ ، إِنَّكَ أَنتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .




أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، أَتَدرُونَ مَا أَكبَرُ عَائِقٍ لِلعَفوِ في دُنيَانَا ؟ أَتَعلَمُونَ مَا العَقَبَةُ الكَؤُودُ الَّتي لَو تَجَاوَزنَاهَا لَعَفَونَا عَن كُلِّ مَن أَسَاءَ إِلَينَا ؟ إِنَّهُ اعتِقَادُ كَثِيرٍ مِنَّا أَنَّ العَفوَ مُرَادِفٌ لِلضَّعفِ ، وَأَنَّهُ لا يَتَنَازَلُ عَن حَقِّهِ إِلاَّ العَاجِزُ الضَّعِيفُ . لَقَد تَرَسَّبَ في أَذهَانِنَا مِن أَخلاقِ الجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ لم تَكُنْ ذِئبًا أَكَلَتكَ الذِّئَابُ ، وَمِن ثَمَّ فَنَحنُ نَعتَقِدُ أَنَّ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مِن أُسِيءَ إِلَيهِ أَن يَرُدَّ الصَّاعَ بِصَاعَينِ ، وَأَن يُضَاعِفَ الكَيلَ لِمَن أَخطَأَ عَلَيهِ لِيَردَعَهُ بِذَلِكَ وَيَمنَعَهُ . وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ المَنهَجُ الجَاهِلِيُّ مُؤَثِّرًا في بَعضِ النُّفُوسِ الجَاهِلِيَّةِ الخَبِيثَةِ ، ولا خُرُوجَ مِن بَعضِ المَوَاقِفِ مَعَهَا إِلاَّ بِهِ ، إِلاَّ أَنَّهُ يَبقَى مَنهَجًا شَاذًّا ، أَمَّا الرِّفعَةُ الحَقِيقِيَّةُ وَالقُوَّةُ الفِعلِيَّةُ ، فَإِنَّمَا هِيَ لِمَن عَفَا وَتَجَاوَزَ طلبًا لِمَا عِندَ اللهِ ، وَتَرَكَ الانتِقَامَ وَالانتِصَارَ لِوَجهِ اللهِ ، يَشهَدُ لِهَذَا كَلامُ أَصدَقِ البَشَرِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " مَا نَقَصَت صَدَقَةٌ مِن مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبدًا بِعَفوٍ إِلاَّ عِزًّا , وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَملِكُ نَفسَهُ عِندَ الغَضَبِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . إِنَّ الإِسلامَ يُرِيدُ أَن يَكُونَ مُجتَمَعُ المُسلِمِينَ مُجتَمَعًا رَاقِيًا فَاضِلاً ، يَجمَعُ مَن فِيهِ الحُبُّ وَالوُدُّ وَالإِخَاءُ ، وَتَسُودُ فِيهِ المُرُوءَةُ وَالفَضلُ وَالصَّفَاءُ ، وَيَكثُرُ فِيهِ الخَيرُ وَالإِحسَانُ وَالعَطَاءُ ، يُرِيدُ لَهُ أَن يَكُونَ مُجتَمَعًا قَوِيَّ الأَركَانِ مُتَمَاسِكَ البُنيَانِ ، مُتَوَحِّدَ الصُّفُوفِ مُتَّفِقَةً أَهدَافُهُ ، مُتَّحِدَةً غَايَاتُهُ غَيرَ مُختَلِفَةٍ رُؤَاهُ . وَإِنَّ قِلَّةَ الحِلمِ وَكثَرَةَ الغَضَبِ وَإِرَادَةَ الانتِقَامِ ، إِنَّهَا لأَخلاقُ دَنِيئَةٌ وَصِفَاتٌ مَمقُوتَةٌ ، بل آفَاتٌ سَيِّئَةٌ وَأَمرَاضٌ مُعضِلَةٌ ، إِذَا استَشرَت في مُجتَمَعٍ قَوَّضَت بُنيَانَهُ وَهَدَمَت أَركَانَهُ ، وَقَادَتهُ إِلى هُوَّةٍ عَمِيقَةٍ وَحُفرَةٍ سَحِيقَةٍ ، وَقَطَعَت أَوَاصِرَ المَحَبَّةِ الَّتي بَينَ أَفرَادِهِ ، وَاجتَثَّت جُذُورَ الأُلفَةِ مِن قُلُوبِهِم ، وَمِن ثَمَّ فَقَد أَوصَى ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ بِتَركِ الغَضَبِ ، فَفِي البُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : أَوصِني . قَالَ : " لا تَغضَبْ " فَرَدَّ ذَلِكَ مِرَارًا ، قَالَ : " لا تَغضَبْ " وَإِنَّ في ضِمنِ هَذَا النَّهيِ المُتَكَرِّرِ عَنِ الغَضَبِ لأَمرًا بِالحِلمِ وَالأَنَاةِ وَمَدحًا لهما ، وَقَد جَاءَ ذَلِكَ عِندَ مُسلِمٍ مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِلأَشَجِّ : " إِنَّ فِيكَ لَخَصلَتَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ : الحِلمُ وَالأَنَاةُ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَو ذَهَبَ المَرءُ لِيَنتَقِمَ مِن كُلِّ مَن أَخطَأَ في حَقِّهِ ، لَتَكَدَّرَت حَيَاتُهُ وَلَتَنَغَّصَ عَيشُهُ ، وَلَمَا سَلِمَ لَهُ قَرِيبٌ وَلا بَعِيدٌ ، وَلا يَهنَأُ في هَذِهِ الدُّنيَا وَيَستَمتِعُ بها إِلاَّ المُسَامِحُ ، وَصَدَقَ القَائِلُ :
إِذَا ضَاقَ صَدرُ المَرءِ لم يَصفُ عَيشُهُ
وَمَا يَستَطِيبُ العَيشَ إلاّ المُسامِحُ



سمو الاحساس 18-02-2010 09:58 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
جزاك الله خير

ابو عبدالرحمن


الساعة الآن 06:41 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
- arab-line : Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.3.0 TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010

... جميع الحقوق محفوظه لمجالس رويضة العرض لكل العرب ...

.. جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ...ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر المنتدى..

a.d - i.s.s.w