![]() |
![]() ![]() |
![]() |
![]() |
| | LinkBack | أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
| |||||||||||
| المهادنة: لملك من ملوك الأرض تغدو الهدنة فرصة للراحة والاسترخاء، أو فسحة للاستمتاع بطيب العيش وملذات الحكم، أما لنبىٍّ عظيم كمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن الهدنة تصبح فرصة؛ لمحاربة ذيول الكفر بعد سكون رأسه، وفسحة لتدعيم أركان الإسلام بدولة المدينة، ودعوةً فى أرجاء الأرض. وهكذا ما إن عقدت الهدنة حتى أخذ النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- فى مكاتبة الملوك والأمراء فى سائر أنحاء الدنيا، وظل الجهاد فى تلك الفترة متصلاً، فقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغزوة الغابة أو غزوة "ذى قرد" ثم تلاها بغزوة خيبر، وبفتحها استراح المسلمون من جناحى البغى والكفر: قريش واليهود، ولم يبق أمامهم سوى الجناح الثالث: جناح الأعراب الذين هم أشد كفرًا ونفاقـًا، فبدأ -صلى الله عليه وسلم- فى ربيع الأول سنة سبع من الهجرة بغزوة ذات الرقاع، ثم تلاها بسرايا عديدة طيلة السنة السابعة، حتى كان "ذو القعدة" فاعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه عمرة القضاء، وما إن عاد إلى المدينة حتى أرسل عدة سرايا إلى أن كانت معركة مؤتة أعظمُ حرب دامية خاضها المسلمون فى حياة النبى -صلى الله عليه وسلم-، وكانت تمهيدًا لفتوح بلدان النصارى، وقد بعث بعدها النبى -صلى الله عليه وسلم- بسرية ذات السلاسل ثم سرية أبى قتادة إلى خضرة. وما إن جاء شهر شعبان سنة ثمان من الهجرة حتى نقضت قريش الهدنة؛ فكان ذلك إيذانًا بفتح الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-ونصره له بعد سنين طوال، أبت فيها قريش أن تذعن لدين الله، إلى أن طويت هذه الصفحة الأليمة بلا رجعة بفتح مكة المكرمة على يدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه، وقبل أن يغادر النبى -صلى الله عليه وسلم- مكة قام بإرسال بضع سرايا، ثم قفل راجعًا إلى مدينته المحبوبة. مكاتبة الملوك والأمراء: ما إن أمن المسلمون حرب قريش، حتى دبت أقدامهم فى أنحاء الأرض، تحمل رسالة رب العالمين إلى العالمين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن رسائله ستصل إلى قوم، الشكل عندهم يسبق المضمون؛ ولذا فقد اتخذ لنفسه خاتمًا من فضة، جعل نقشه "محمد رسول الله"، وانتقى صلى الله عليه وسلم- من صحابته أهل المعرفة والخبرة؛ ليرسلهم إلى ملوك العالم فسعوا بكتبه إلى النجاشى، والمقوقس، وإلى كسرى، وقيصر، وإلى المنذر بن ساوى، وهوذة بن على، والحارث بن أبى شمر، وكذلك إلى ملك عمان، فأصاب كل من خير الإسلام ما يحسب ما هو أهل له. غزوة الغابة: ركب رباح -غلام رسول الله- فرسًا وأسرع راكضًا إلى المدينة، يسابق الريح، وفوجئ النبى -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون به يخبرهم لاهثًا بأن عبد الرحمن الفزارى قد أغار على أنعام الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاستاقها جمـيعًا، بعد أن قتل راعيه، وأن سلمة بن الأكوع يسعى الآن خلفهم وحده. من ناحية أخرى أخذ سلمة يرميهم بنبله فيصيبهم، ويصيب ركائبهم، فإذا رجع إليه فارس منهم، جلس فى أصل شجرة ثم رماه بنبله ليقضى عليه أو يفر. وما زال سلمة يتبعهم بسهامه حتى أجبرهم على ترك كل ما استاقوه من أنعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم استمر فى ملاحقتهم، فأخذوا يتخلصون مما معهم من الرماح وغيرها؛ حتى تخف أحمالهم فيسرعون المسير، وهنا أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع صحابته، فقتلوا عبد الرحمن الفزارى، وفر من معه مدبرين، ثم رجع الجميع إلى المدينة، وقد غنموا ما ألقى القوم، واستشهد منهم أخرم، قتله عبدالرحمن قبل أن يقتله. غزوة ذات الرقاع: قاد غباء أنمار، أو بنى ثعلبة وبنى محارب من غطفان إلى نهاية سيئة، فقد انتقـوا الوقت المناسب الذى فرغ فيه المسلمون من حرب قريش بصلح الحديبية، ومن حرب اليهود بفتح خيبر؛ ليتجمعوا ويتظاهروا على حرب المسلمين ومحمد!. وعلى العكس من ذلك فإن هذا الوقت -ربيعًا الأول لسنة سبع من الهجرة- كان أنسب الأوقات للمسلمين؛ لتأديب الأعراب قساة القلوب، وكبح جماحهم. فقد أسرع محمد -صلى الله عليه وسلم- فى أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه بالخروج إليهم. والأعراب على عكس قريش التى تجمعها مكة، واليهود الذين يلوذون بحصونهم- على عكسهما ليست لهم مقار ثابتة أو منازل مقيمة؛ ولذا فلا يصلح لحربهم إلا حملات الإرهاب والتهديد، ولقد وصل -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع يقال له نخل على بعد يومين من المدينة، فلقى جمعًا من غطفان، إلا أنه لم يكن بينهما قتال، والحق أن هدوء معسكرى قريش واليهود لا يعنى أن المسلمين غدوا فى حال يسر ووفرة، بل على العكس من ذلك، فقد روى أبو موسى الأشعرى، أنهم خرجوا لا يجد الستة منهم إلا بعيرًا واحدًا، يتعاقبون عليه، حتى أصيبت أقدامهم، وسقطت أظفارهم، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق، فسميت الغزوة لأجل ذلك بذات الرقاع، ولا شك أن ما قام به المسلمون من الخروج إلى هذه الغزوة لإرهاب عرب غطفان، كان له أبلغ الأثر، فإن غطفان لم ترفع بعد رأسًا، بل استسلمت ثم أسلمت، وشاركت بعض قبائلها فى فتح مكة، ودفعت الصدقة إلى جامعى الصدقات الخارجين من المدينة. معركة مؤتة: مضى الحارث بن عمير الأزدى فى طريقه إلى بصرى، حاملاً كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عظيمها، لكن شرحبيل بن عمرو الغسانى، عامل قيصر على البلقاء من أرض الشام لم يرضه ذلك! فأسر الرسول المسالم وأوثقه، ثم ضرب عنقه بالسيف!! ووصل هذا الخبر إلى المسلمين ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- فاشتد ذلك عليهم، إذ أكثر الشعوب همجية تعلم أن الرسل لا تقتل، ولم يعد أمام المسلمين إلا أن ينهضوا فى طلب ثأرهم، وسرعان ما تم تجهيز الجيش، الذى حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يوصيه قبل خروجه، ثم ودع المسلمون جيشهم الذى بدأ تحركه. على الجانب الآخر، قررت الروم أن تجهز جيشًا يناصر شرحبيل فى حرب محمد -صلى الله عليه وسلم-وانضمت قبائل عدة إلى جيشهم ذاك، حتى صار تعداده أضعاف أضعاف تعداد جيش المسلمين. الفتح ودخول الناس أفواجًا: أبت بعض القلوب المظلمة أن تفتح أبوابها لنور الحق، الذى سطع فى مكة، وغرها شيطانها؛ فوحدت صفوفها؛ لمقاتلة نبى عز عليها أن ترى انتصاره، وعلو دعوته، فخرج النبى -صلى الله عليه وسلم- لمقاتلتهم فى غزوة حنين، وكما يقولون: فعلى نفسها جنت براقش، ومحارب الله ورسوله، ترى إن لم يرجع بالخيبة، ويبؤ بالخزى والفشل، فبم يرجع، وبم يبوء؟!. وعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الغزوة إلى المدينة منتصرًا؛ ليرسل جامعى الصدقات لمن أسلم من القبائل، و السرايا لمن اعتدى منهم. لكن "أسد الرومان" لم يعجبه استتباب الأمر فى الجزيرة للنبى الجديد ودعوته، وهو يعلم خطره، ونهشة مؤتة لا زالت توجعه، وتنبهه؛ ليترك عرينه، وينقض على غريمه الذى عظم شأنه فى الجوار. أما النبى العظيم -صلى الله عليه وسلم- فهو أشد حرصًا على دعوته من أن يؤتى على غرة؛ لذا فقد بادر بالسعى إليه فى بلده فى غزوة تبوك الشهيرة، والتى ابتليت فيها العزائم، وامتحنت فيها النفوس. ولم تنته السنة التاسعة للهجرة إلا عن بعض الوقائع المهمة، والتى كان آخرها إرسال أبى بكر أميرًا على الحج. ولا شك أن الدعوة بعد فتح مكة قد استقرت أركانها، ورسخت أقدامها؛ ولذا فقد تقاطرت الوفود على النبى -صلى الله عليه وسلم- تدخل فى دين الله أفواجًا، وبقدوم "ذى الحجة" من العام العاشر للهجرة، خرج النبى -صلى الله عليه وسلم- حاجًا حجة الوداع، ثم عاد إلى المدينة ليرسل آخرالبعوث: بعثة أسامة بن زيد إلى أرض الروم، وهى البعثة التى أجل خروجها حتى وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم-، وصعود روحه إلى بارئها -عز وجل-، مخلفًا وراءه دولة وأمة، نموذجًا ونبراسًا لمن خلفه، وأمانة وتبعة فى عنق أتباعه، والسائرين على دربه إلى يوم الدين. اللهم صلِّ وسلم على النبى محمد ما بقيت سماء وأرض، حتى تجمعنا معه وتدخلنا مدخله يوم العرض.. آمين. غزوة حنين: لئن كانت القبائل المجاورة لمكة قد خضعت لحكم الله تعالى، فإن غيرها ممن نأت ديارهم، غرهم عقلهم العليل، فقد اجتمعت هوازن، وثقيف، ونصر، وجشم، وسعد بن بكر، وأناس من بنى هلال، واتخذوا من مالك بن عوف السعدى قائدًا عامًا لهم، وأجمعوا رأيهم على قتال محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين، فبدأوا مسيرهم إليه، تحت إمرة مالك الذى أطاعوه رغم اختلافه مع كبيرهم دريد بن الصمة، وعلى الفور بدأ نشاط الاستخبارات من الجهتين، ثم غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة إلى حنين، وتلاقى الجيشان، فكانت الهزيمة الأولى للمسلمين،وكادت أن تذهب ريحهم لولا ثبات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذى أدى إلى رجوع المسلمين واحتدام المعركة، وما مرت سوى سويعات حتى لحقت الهزيمة الساحقة بجيش العدو، وبدأت المطاردة، لكن الأعراب فروا إلى الطائف فاحتموا بها، فجمع المسلمون الغنائم، ثم ساروا إلى الطائف، حيث بدأ الحصار والقتال حولها، لكنها عصيت عليهم، فقرروا الرحيل عنها إلى حين، وانتظر النبى -صلى الله عليه وسلم- بعض الوقت، ثم قسم الغنائم والتى لم ينل منها الأنصار -على كثرتها ووفرتها -شيئًا، فأحزنهم ذلك، حتى حدثهم النبى -صلى الله عليه وسلم- فرضوا بمقامه بينهم بديلاً، وما كادت قسمة الغنائم تتم حتى قدم وفد هوازن يعلن الاستسلام ويطلب الصلح، فأجابه النبى -صلى الله عليه وسلم- إليه، وأنهى غزوته بأداء العمرة ثم الانصراف إلى المدينة. غزوة تبوك: قيصر الروم الذى بدأ المسلمين بالعداوة، منذ مؤتة، والمسلمون لايقلقونه فحسب، بل يقضون عليه مضجعه، ويثيرون خوفه أيضًا- لقد اكتسحت جموعه قبائل العرب، فوجدوها تحت أمرهم، ودانت لهم الجزيرة العربية بأسرها. ولن تلبث صخرة الروم أن يجرفها سيل المسلمين العظيم، لن ينتظر قيصر إذن حتى تخلع العرب أبوابه، وتحرق عالى أسواره، لقد بدأهم بالمعاداة، وليس له الآن أن يتنكب الطريق!! على الجانب الآخر لم يكن المسلمون ليغفلوا عمن أصبح جارهم، بعد اتساع رقعتهم. كما لم يكن لهم أن ينسوا ثأرهم بمؤتة، فكانوا دومًا فى ترقب وحذر، هو حذر لا يشغلهم عن عدوهم الذى بين أظهرهم، فما زال للمنافقين بالمدينة دور يؤدونه، بل ومسجد على غير تقوى الله يقيمونه، وفى هذا الجو الملبد، وصلت الأخبار باستعداد الروم للحرب، وكره الناس الغزو لاجتماع ظروف عديدة، لكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ما كان يوقفه عن عزمه شىء، فأعلن التهيؤ لغزو الروم، وتم تجهيزالجيش، الذى بدأ مسيره إلى تبوك، ثم وصل إليها وعسكر بها دون حرب أو قتال، لأن عدو المسلمين لم يبق فى أرض المعركة بعد سماعه بخروج النبى -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، وصالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبائل الشام العربية الموالية للروم على الجزية، ثم رجع إلى المدينة، وهناك كان لقاؤه مع المخلفين الذين تكاسلوا عن الخروج، فذمهم الله تعالى سوى ثلاثة منهم. وقائع مهمة فى السنة التاسعة للهجرة: لم تمض السنة التاسعة الهجرية حتى أظهرت صفحاتها للمسلمين العديد من الحوادث الجسام، فقد توفى النجاشى أصحمة: ملك الحبشة، وصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الغائب، وتوفيت كذلك أم كلثوم بنت النبى -صلى الله عليه وسلم- فحزن عليها حزنًا شديدًا، وقال لعثمان : لو كانت عندى ثالثة لزوجتكها. وتوفى أيضًا عبدالله بن أبى رأس المنافقين، وقد استغفر له النبى -صلى الله عليه وسلم- وصلى عليه رغم محاولة عمر منعه، ثم نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر، وفى هذه السنة أيضًا تلاعن عويمر العجلانى وامرأته، كما رجمت الغامدية، التى جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، وقد رجمت بعدما فطمت ابنها. الوفود: قد يعشق أصحاب العقل الحق لمنطقه، ويهفو إليه آخرون لما تحسه قلوبهم الصافية من جمال، قد لا يدركه عقل أو منطق، أما غالب الناس فإنهم يظلون يرقبون الحق وهو يقاتل، حتى إذا انتصر وعمّ نوره الآفاق، رأوا ما به من جمال، فأسرعوا يتبعونه على عجل!، وقبائل العرب المختلفة، كانت تتابع ما بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وقريش من حرب دائرة، ويحدثون أنفسهم قائلين: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبىّ صادق. فلما رأوا بأعينهم ما منّ الله به عليه يوم الفتح، تتابعت وفودهم المتلاحقة تقف بين يديه، وتعلن أن هدى الله قد دخل قلوبها، واستيقنته سويداؤها! ونذكر من بين ما يزيد على السبعين وفدًا هذه الوفود فحسب: 1- وفد بنى تميم. 2- وفد بنى سعد. 3- وفد بنى زبيد. 4- وفد كندة . 5- وفد أزد. 6- وفد بنى الحارث. 7- وفد جذامة. 8- وفد عبد القيس. 9- وفد دوس. 10- وفد طىء. 11- وفد صداء. 12- قدوم كعب بن زهير. 13- وفد عذرة. 14- وفد بلى. 15- وفد ثقيف. 16- وفد اليمن. 17- وفد همدان. 18- وفد بنى فزارة. 19- وفد نجران. 20- وفد بنى حنيفة. 21- وفد بنى عامر بن صعصعة. 22-وفد تجيب. والحق أن هذه الوفود لم تأت كلها بعد الفتح، بل بعضها قبله قطعًا. يتــبع.~~
|
| |||||||||||
| آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم: حجة الوداع: ماذا بقى من رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تمت للإسلام أركانه، وشيد بناؤه، وأقيمت حدوده؟، ماذا بقى بعد أن أصبح للإسلام أمة تجسد بسلوكها مبادئه وتفترش جزيرة العرب بأسرها؟، ماذا بقى سوى أن يلتقى النبى بأتباعه فيأخذ منهم الشهادة على أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ثم يودعهم بنظرة أخيرة؟ ثم أين يكون مكان اللقاء إن لم يكن بمكة بلد الله الحرام؟ وأى مناسبة إذًا أفضل من حج بيت الله حيث اجتماع المسلمين وإقامة الشعيرة التى هفا لها فؤاد المصطفى -صلى الله عليه وسلم؟. إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الذى ودع معاذًا حين أرسله إلى اليمن قائلاً: يا معاذ، إنك عسى ألا تلقانى بعد عامى هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبرى- إن محمدًا خاتم النبيين والمرسلين قد شعر أن رسالته شارفت على نهايتها، وأن خاتمتها صارت قريبة؛ فأعلن للناس بحجة، وتهيأ لها، ثم ارتحل قاصدًا مكة، وبعد أن أقام جزءًا من شعيرته توجه إلى منى، وفوق جبل النور كانت خطبته الخالدة التى حفظتها الصدور، ووعتها العقول، وانطلق -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إلى المزدلفة، ثم عاد إلى مكة؛ ليتم حجه، ويرجع إلى مدينته المنورة فى ختام رحلته الأخيرة -صلى الله عليه وسلم-. خطبة الحج: يا له من مشهد مهيب! نبى الله الخاتم، يقف خطيبًا فى الناس، وآذان مائة ألف وأربعة وعشرين أوأربعة وأربعين ألفًا من المسلمين ترهف سمعها لكلماته، وعيونهم معلقة به أو متجهة نحوه، وإنه لمشهد عجيب لحجيج العرب، الذين ألفوا التصفيق والضجيج فى عبادتهم لا يسمع بينهم إلا صوت النبى -صلى الله عليه وسلم- أو صوت المبلغ عنه ربيعة -ربيعة بن أمية بن خلف الذى كان أبوه يعذب بلالا-، وتتالت كلمات محمد -صلى الله عليه وسلم- تخرج من فمه الشريف فتطهر القلوب وتغسل عنها أدرانها، وتجلو الأبصار وتنير لها طريقها: أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، أيها الناس، إنه لا نبى بعدى، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟ فارتجت جنبات الوادى بقول المسلمين: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبابته إلى السماء قائلاً: اللهم فاشهد، يرددها ثلاث مرات. ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نزل عليه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام دينًا). وهكذا تمت الرسالة التى أداها محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين كاملة تامة، وآن للأمة بأسرها، ولكل مسلم بها أن يحملها كاملة غير منقوصة، وانهمرت الدموع من عينى عمر بن الخطاب فقيل له: ما يبكيك؟ فأجاب: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان! فرحم الله عمر، ما أثقب فهمه، وأبعد نظره!. آخر البعوث: عاد خاتم أولى العزم من الرسل إلى المدينة؛ ليواجه مشكلة جديدة، فالروم وكنيستها لا يعجبها دخول العرب المتاخمين لحدودها فى دين الله الحنيف، وقد قرروا قتل كل عربى يدخل فى الإسلام، وما كان للنبى -صلى الله عليه وسلم- أن يدع الناس تظن أن الإسلام يجر عليهم الحتوف، وأن الحق صار لا قوة له، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- يجهز جيشًا كبيرًا فى صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدارون من أرض فلسطين لإرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى العرب الضاربين على الحدود، ولكن أزمة عارضة بدأ النبى -صلى الله عليه وسلم- يسمع خطوات مقدمها، ولم تكن هذه المرة من خارج الحدود بل من داخل المدينة، فقد ظهرت فى الأفق بوادر معارضة من المسلمين لإمارة أسامة، واحتوى النبى -صلى الله عليه وسلم- هذه الأزمة فانتظم الجيش، ونزل بالجرف على فرسخ من المدينة، إلا أن أخبار مرض النبى -صلى الله عليه وسلم- قد جعلتهم يتمهلون فى الخروج، فمكثوا حتى وفاته -صلى الله عليه وسلم- وكان خروجه فى أول خلافة أبى بكر الصديق. وفاته -صلى الله عليه وسلم- ما أعجب هذا القلم، حين يتردد الآن عن كتابة وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم-. ألم يكن يعلم منذ اللحظة الأولى، التى بدأ فيها سرد حياته أنه مات؟! أم غاضب هو من هذا الموت الذى ظل وسيلتنا الوحيدة للقيا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ؟! لكن لعلها الذكرى تتجدد، فتهيج بريحها العاصف أشواق اللقاء، وهو أمر لا حيلة لنا معه! إلا أن نذكر أن كلماته باقية حولنا، وسننه ووصاياه وهديه بين أيدينا، ثم وعده بوصال لا ينقطع، فى جنة عرضها السماوات والأرض، بادٍ أمام أعيننا. شعر محمد -صلى الله عليه وسلم- بدنو أجله، ولم يمض إلا قليل حتى داهمه المرض. فانتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى دار عائشة، ولم يشغله مرضه عن المسلمين، فأخذ يمهد لهم الأمر، حتى يتهيئوا لوفاته، ولا ينزعجوا لفراقه. وفى هذه الساعات العصيبة، لم ينس أيضًا -صلى الله عليه وسلم -أن يودع عقول المسلمين وأفئدتهم وصاياه الأخيرة. واشتد المرض عليه -صلى الله عليه وسلم- حتى أقعده، فأمر أبا بكر أن يصلى بالناس، وتخلص من آخر متاعه بالدنيا قبل يومه الأخير بليلة واحدة، وهو اليوم الذى لم يرتفع فيه أذان الظهر، إلا والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- مُسَجَّىً فى فراشه قد أصابه الاحتضار. وتسرب النبأ الأليم، فجزع الصحابة، وحزنوا حزنًا أضاق عليهم أفق المدينة، وأظلم عليهم نورها، وهم ما بين مسلم بالخبر ومحتسب، ومنزعج للحدث غير مصدق، كان موقف أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما-، والذى تجاوزاه لينشغلا، بما يعتقدانه مراد محمد -صلى الله عليه وسلم- فى اجتماع كلمة المسلمين وأمرهم، فكان اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين، وهو العمل الذى سبق تجهيز النبى -صلى الله عليه وسلم- وتوديع جسده الشريف. وبموته -صلى الله عليه وسلم- انقطع الوحى والنبوة عن الأرض، لكن بقى سراجهما منيرًا للعالمين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. بداية المرض: بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائدًا فى طريقه من جنازة شهدها بالبقيع، فى اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إذ بصداع أليم يأخذ رأسه، وقد اتقدت حرارته، حتى إنها كانت تحس من فوق العصابة، التى تعصب بها رأسه. لكنه -صلى الله عليه وسلم- تحامل على نفسه وصلى بالناس مريضًا أحد عشر يومًا، حتى أقعده المرض عن ذلك. فى دار عائشة: جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟، ففهمن مراده، وعلمن أنه -وهو النبى العظيم- يستأذنهن، فأذنَّ له أن يكون حيث يشاء فالمرض قد ثقل به، ولن يستطيع أن ينتقل وهو بحاله تلك بين دور نسائه، وإلى دار عائشة بنت أبى بكر الحبيبة بنت الحبيب كان المسير. يمشى -صلى الله عليه وسلم- بين الفضل بن عباس وعلى بن أبى طالب، عاصبًا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتها، فقضى به أسبوعه الأخير، وهى -رضى الله عنها- تقرأ بالمعوذات والأدعية التى حفظتها عنه، ثم تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة. تمهيده الأمر للمسلمين: بعد أن قال النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع: إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا؟، وبعد أن أعاد قوله عليهم عند جمرة العقبة حين قال: خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا أحج بعد عامى هذا. خرج -صلى الله عليه وسلم- فى أوائل صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إلى أحد، حيث مثوى شهداء المسلمين، الذين قدموا كل شىء، ثم ماتوا دون أن تنعم أعينهم بفرحة الفتح أو لمحة النصر، وقف -صلى الله عليه وسلم- أمامهم مصليًا، ثم انصرف إلى منبره فقال: إنى فرطكم، وإنى شهيد عليكم، وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن، وإنى أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى والله ما أخاف أن تشركوا بعدى، ولكنى أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- فى إحدى ليالى صفر إلى البقيع، مخاطبًا أهله بقوله: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم بشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون. أما قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، فإنه قد صعد المنبر، وخطب فى المسلمين يوصيهم، ثم أردف قائلاً: إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده. وهنا لم يتمالك أبو بكر نفسه، فانفجر باكيًا، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، وتعجب الناس من بكاء الصديق، الذى أدرك ببصيرته، أنه -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وأنه اختار اللحوق بالرفيق الأعلى. وصاياه الأخيرة: قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، اتقدت حرارة العلة ببدنه، واشتد به الوجع حتى غمى، فقال: هريقوا علىّ سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم. فأقعدوه فى مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: حسبكم، حسبكم. وشعر بخفة، فخرج إلى الناس، معصوب الرأس وجلس على المنبر، وعيون المسلمين معلقة به، وأجسادهم كأنما تسمرت فى أماكنها، ينصتون إلى ما يقوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فى آخر وصاياه، وتتابعت تلك الوصايا وتلاحقت: لا تتخذوا قبرى بعدى وثنًا يعبد، من كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهرى فليستقد منه. أهذا ما تخشاه يا محمد -صلى الله عليك- قبل أن ترحل عن الدنيا؟ أن تكون ظلمت أحدًاً من الناس، وأنت من حمل إليهم الخير كله، وتحمل فى سبيل ذلك من العذاب ألوانًا!. ونزل صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر، ثم رجع إلى منبره، وطالعت عيناه وجوه الأنصار، الذين ابتاعوا بدنياهم رجلاً فقيرا مطرودًا من بلده، يسعى فى إثره أشاوس قومه وطغاتهم لثقتهم أنه نبى الله، فقال: إن الناس يكثرون وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح فى الطعام، فمن ولى منكم أمرًا، يضر فيه أحدا أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأعلمهم أنه اختار ما عند الله على زهرة الدنيا، ثم أوصى بالصديق فقال: إن آمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لايبقين فى المسجد باب إلا سد، إلا باب أبى بكر، وفى اليوم التالى أوصى-صلى الله عليه وسلم- بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، وأراد أن يكتب للمسلمين كتابًا لا يضلوا بعده، لكن عمر قال: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فلما أكثروا اللغط قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: قوموا عنى. التخلص من آخر المتاع: بقى من الزمن يوم واحد، ويغادر محمد -صلى الله عليه وسلم- دنيا الناس إلى جنات ربه، وأدارالرسول -صلى الله عليه وسلم- بصره فى حجرته البسيطة، فوقعت عيناه على متاعه من الدنيا، ممتلكات نبى آخر الزمان، من بلغت حدود دولته بلاد الفرس والروم، ودانت له جزيرة العرب بأطرافها، فماذا وجد؟، غلمانًا كان أحن عليهم من والد، وسبعة دنانير، وعدة حربه من السلاح، فأعتق الغلمان، وتصدق بالدنانير، ووهب سلاحه للمسلمين. وفى الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعًا من الشعير. اليوم الأخير: بينا المسلمون صفوف خلف أبى بكر، يصلون فجر الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، إذ بستر حجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع، وإذ بوجهه المنير ينظر إليهم متبسمًا، وفرح المسلمون بما رأوا، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر على حجرته، ولم يدروا حينئذ أنها المرة الأخيرة، التى يرون فيها وجهه الكريم -صلى الله عليه وسلم-. فحين ارتفع الضحى، دعا محمد -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ابنته، ثم سارّها بشىء فبكت، فدعاها وسارّها بشىء آخر فضحكت!، أما ما بكت لأجله، فكان إخباره إياها أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه، وأما ما ضحكت منه، فكان بشارته لها أنها أول من يتبعه من أهله، وغشيه -صلى الله عليه وسلم- كرب شديد مما يجد، فقالت فاطمة متأوهة: واكرب أباه، فأجابها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ثم دعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وأخذ الوجع يشتد ويزيد عليه فقال لعائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم، وكانت آخر وصاياه، التى أخذ يرددها مرارًا الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم. يتبع.~,’ |
| |||||||||||
| الاحتضار: حين اشتد الضحى من يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كان عبدالرحمن بن أبى بكر، يدلف إلى حجرة عائشة وفى يده سواك له، فنظر إلى سواكه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذى كانت رأسه الشريفة مستندة إلى صدر عائشة، وعرفت أنه يريده فأخذته ولينته واستاك به -صلى الله عليه وسلم-، ثم صار يضع يده فى إناء به ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، ثم شخص بصره نحو السقف، ورفع إصبعه، وتمتم قائلاً: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، ثم مالت يده، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل. حزن الصحابة: يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. خرجت هذه الكلمات الحارة من صدر فاطمة بنت محمد، لتتسلل إلى أسماع صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتعتصر قلوبهم ألمًا، مات الحبيب، الذى عرفوا الحق على يديه، ألفوا سماع حديثه، ورؤياه ماشيًا تارة ومتبسمًا أخرى، ومفكرًا أو مجاهدًا مرات سواها، تعودوا رؤية سيد الخلق، مثال السمو البشرى، من وسع صدره همومهم، وقلبه حبهم، من ملأ دنياهم، وأنار آخرتهم، حين ترك فيهم ما لا يضلوا بعده أبدًا كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-، حزن الصحابة حزنًا، أظلم على المدينة دروبها التى شهدت مسيره، ولعلها الآن حين تحتضن جثمانه فى صعيدها الطيب الطاهر، تجد العزاء. أما صحابته -صلى الله عليه وسلم- فإن عزاءهم وعزاء أتباعه -صلى الله عليه وسلم- فى متابعة طريق شقه فى الدنيا، جزاء السائر فيه، لقيا حبيبه فى الجنة. موقفا أبى بكر وعمر من الوفاة: خفق قلب أبى بكر حين وصله النبأ الحزين، وساءل نفسه: هل انتهت رحلتى الطويلة مع نبيى محمد؟، وخرج أبو بكر من بيته، ثم وضع جسده المتعب فوق ظهر فرسه، وغدا إلى المسجد لا يدرى، أينهز فرسه فيفجع برؤيا حبيبه وقد فارقته الحياة؟، أم يكفها فيبقى بعيدًا عن روح قلبه ومفتداه؟! واستسلم أبو بكر لمسير فرسه، تحمله إلى حيث يلقاه، فلما انتهت إلى المسجد، نزل عنها ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة ابنته، فقصد بخطوات لا تقوى على حمله إلى فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونظر إليه بعينين حانيتين وهو يراه مسجىً لأول مرة، وامتدت يداه لأطراف الثوب، فالتقطها بأنامله، وكشف عن أحب الوجوه إليه، فلما رآه، لم يتمالك نفسه، فأكب عليه، يقبله ويبكى بكاءً حارًا متصلاً، لعله ينفث عن جمرات اتقدت فى صدره الحزين، وتمتم يقول ودموعه قد غطت وجهه: بأبى أنت وأمى، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها.، إنها الحقيقة التى علمه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يواجهها ويعاملها، وإنه القدر الذى تعلم من نبيه كيف يستسلم له، وخرج أبو بكر من بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نفض عن وجهه ملامح الجزع، وأبرقت عيناه ثقة وحزمًا. وها هو عمر بن الخطاب، يرفض قلبه الدافق بحب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستسلم لهذا الخبر، فوقف صائحًا: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفى، وإن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله، ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وأراد أبو بكر أن يجلس عمر فأبى، لكن الناس أقبلوا على الصديق يستمعون، فقال لهم: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزى الله الشاكرين). وهنا استقر أمر المسلمين، لكنْ هوى عمر إلى الأرض، وعلم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد مات. اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين: اجتمع كثير من المسلمين فى سقيفة بنى ساعدة، وجرى بينهم خلاف فى أمر الخلافة، وتبادل القوم النقاش والجدال بين المهاجرين والأنصار، وأصبح لزامًا على الصحابيين الكبيرين، أبى بكر وعمر أن يدركا المسلمين فى سقيفتهم، ودخل أبو بكر فأبدى رأيه فى تقديم قريش على من سواها حفاظًا على وحدة العرب، ثم رفع يدى عمر وأبى عبيدة ليختار المسلمون بينهما، لكن المسلمين ظلوا يتجادلون دون حسم لأمرهم أو اختيارهم، وهنا بادر عمر القوم، فسأل أبا بكر أن يبسط يده، فبسطها، فبايعه عمر، فتزاحم المسلمون على أبى بكر يبايعونه وقد مضى فى ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل وشغل الناس عن جهاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اليوم الثانى. التجهيز وتوديع الجسد الشريف: آن للجسد الذى حرك صاحبه الدنيا بأسرها، فأسقط عروش الظلم والجاهلية بها، وأنار جوانبها، وترك فيها حركة قوية من دين متجدد إلى يوم الساعة- آن لهذا الجسد أن يسكن ويستريح، وآن له أن يعود إلى منشئه، التراب!. أقبل العباس وابناه الفضل وقثم يقلبان جسده -صلى الله عليه وسلم- ويصب الماء عليه دون أن يجرده من ثيابه أسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان الذى يغسله على بن أبى طالب. وأسنده أوس بن خولى إلى صدره، وانتهى الغسل فكفنوه -صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب بيض، ثم حفروا تحت فراشه لحدًا، ليكون له -صلى الله عليه وسلم- قبرًا، ودخل الناس أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار. وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان، ومضى فى ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، وما انتهى الصحابة من دفنه -صلى الله عليه وسلم- إلا فى جوف ليلة الأربعاء. بيت النبى -صلى الله عليه وسلم-: لا تلحظ عين السائر فى طرقات المدينة فارقـًا يميز بيت النبى صلى الله عليه وسلم- عن سواه من بيوت المسلمين، اللهم إلا كونه حجرات قد بنيت بجوار المسجد، أما عمارتها فكانت من حجر اللبن، وقد سقفت بالجريد والجذوع. دخل عمر بيته -صلى الله عليه وسلم- ذات مرة، فرفع رأسه بالبيت ثم قال: فوالله ما رأيت فيه شيئـًا يرد البصر إلا أهبة جلودًا ثلاث، ثم قال للنبى -صلى الله عليه وسلم-: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. فأجابه: أفى شك أنت يابن الخطاب؟!، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا. وتروى عائشة: كنا لننظر إلى الهلال ثلاث أهلة فى شهرين، وما أوقدت فى بيوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار، إذ كانوا يعيشون على التمر والماء. وعلى بساطة هذا البيت وشظف العيش به، إلا أن حياة محمد -صلى الله عليه وسلم-فيه بين أزواجه -رضى الله عنهن- وأبنائه، قد أشاعت به جوَّا من السرور والهناء، وكان -صلى الله عليه وسلم- فى خدمة أهل بيته، وهو القائل: خدمتك زوجتك صدقة، كما كان أرحم الناس بالأطفال، ولعل خلقه فى بيته -صلى الله عليه وسلم- يرسم بجمال صفاته صورة طيبة بما كان عليه الحال فى هذا البيت. صفاته -صلى الله عليه وسلم-: نظر جابر بن سمرة إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى ليلة مقمرة، فجعل يردد بصره بينه وبين القمر، ثم قال: فإذا هو أحسن فى عينى من القمر. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- مستدير الوجه، أبيض البشرة، له شعر أسود يبلغ شحمة أذنيه، طويل شعر الأجفان، واسع العينين أكحلهما، أقنى الأنف، واسع الجبين، سهل الخدين، بين أسنانه تباعد، وفى لحيته كثافة، ليس بطويل القامة ولا قصيرها، عريض الكتفين والصدر، طويل الزند، رحب الراحة، لين الكف، له شعر دقيق كأنه القضيب، من صدره إلى سرته، ليس بالنحيف ولا السمين، إذا التفت التفت معًا، وإذا مشى أسرع كأن الأرض تطوى له دون أن يكترث، إذا سر استنار وجهه حتى كأنه القمر، وإذا غضب احمر وجهه، ونفر فى جبينه عرق، كما تقول أم معبد: أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب. وهو مع حسن شكله قد تم له حسن الخلق أيضًا، ويكفيه فى ذلك مدح ربه تعالى له. فكان -صلى الله عليه وسلم- فصيح اللسان، بليغ القول، حليمًا كثير الاحتمال، يعفوعند المقدرة، ويصبر على المكاره، أجود الناس وأكرمهم، وأشجع الفرسان وأثبتهم، أشد حياءً من العذراء فى خدرها، خافض الطرف، نظره إلى الأرض، أطول منه إلى السماء، أعدل الخلق وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة، كثير التواضع بعيدًا عن التكبر، يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس فى أصحابه كأحدهم، ثم هو أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأكثرهم شفقة ورحمة، ليس بالفاحش ولا المتفحش ولا اللعان ولا الصخاب فى الأسواق، دائم الفكرة، طويل السكوت، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره، ولا يميز نفسه بمجلس على غيره، دائم البشر، سهل الخلق لين الجانب، ولو استفضنا فى ذكر محاسن شمائله، لذهبت دون ذلك الأعمار، ونفدت السطور والأقلام -صلى الله عليه وسلم-. معجزاته -صلى الله عليه وسلم- "والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته". كانت تلك شهادة أعدى أعداء النبى -صلى الله عليه وسلم- الوليد بن المغيرة، فى قرآن رب العالمين، الذى تحدى به البشر من العرب وغيرهم أن يأتوا بمثله، فعجزوا أن يفعلوا مع شدة رغبتهم فى دفعه وإنهائه، الكتاب الباقى الذى تدور الأيام فلا يفنى، وتمر السنون فلا يبلى هدى ونور للمؤمنين به، وشفاء ورحمة للساعين به، وسوى القرآن الكريم -المعجزة الباقية إلى قيام الساعة. أيد الله -عز وجل- نبيه بالعديد من المعجزات، منها: تفجر الماء على يديه الشريفتين، وحنين الجذع الذى كان يخطب عليه بعد أن تحول عنه إلى منبر صنع له، ونزول المطر لدعائه، وقدوم الشجرة إليه لندائه، وانشقاق القمر أمام أعين المعاندين من قريش، وما تكررعلى يديه -صلى الله عليه وسلم- من شفاء للكسور والجراح التى ألمت بصحابته، ثم معجزة الإسراء والمعراج، والتى ساق الله على لسان نبيه دلائل صدقها، وكذلك عشرات ومئات الحوادث التى تؤكد إجابة دعوته، وأخيرًا ما حدث يوم الخندق، وغيره من بركة فى الطعام اليسير، حتى إنه ليكفى الخلق الكثير. وبعد، فلقد امتاز محمد -صلى الله عليه وسلم- وامتازت رسالته بدوام المعجزة وبقائها، وذلك بحفظ الله لكتابه الكريم حتى يبقى حجة على البشر أجمعين، إلى قيام الساعة.. .~.تم بحمد الله.~. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.. |
| ||||||||||||
| |
| ||||||||||
| |
![]() |
| مواقع النشر (المفضلة) |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
| الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
| "الزعيم" و"العميد" و"فارس الدهناء" يبدأون مشوارهم الآسيوي | تركي عفيش | الرياضة والشباب | 3 | 26-01-2011 09:39 AM |
| القحطاني يرد على مصور قناة الكأس"هذه قلة أدب" والمذيع"ما عليك منه ياياسر" مرفق فيديو" | تكفيني الذكرى | الرياضة والشباب | 16 | 29-04-2010 10:26 AM |
| ""كلّهـــــا ساعتين!!"" للشاعر محمد جار الله | محمد | صهيل القصيد | 10 | 16-03-2009 03:41 PM |
| الاتصالات" و"موبايلي" أكثر من مليون رسالة لبرنامج "شاعر المليون" في أسبوعه الأخير | محمد السهلي | نشيد الروح | 5 | 25-04-2008 02:46 PM |
| شعبان عبد الرحيم "يتوسط بأغنية" للمصالحة بين "فتح" و"حماس" | محمد | افق تكنولوجي | 10 | 22-07-2007 04:57 AM |
![]() | ![]() |