مجالس الرويضة لكل العرب

مجالس الرويضة لكل العرب (http://www.rwwwr.com/vb/httb:www.rwwwr.com.php)
-   روحانيات (http://www.rwwwr.com/vb/f5.html)
-   -   خطب الشيخ عبدالله البصري (http://www.rwwwr.com/vb/t31002.html)

ناصرعبدالرحمن 16-03-2012 07:04 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

درة الأيام 23 / 4 / 1433


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ هَذَا الدِّينَ العَظِيمَ ، بِكِتَابِهِ الكَرِيمِ وَنَبِيِّهِ الرَّحِيمِ ، إِنَّهُ لأَكبَرُ مِنَّةٍ جَاءَت مِن عِندِ اللهِ لِتَزكِيَةِ النُّفُوسِ وَتَطهِيرِهَا ، وَتَنظِيمِ الحَيَاةِ وَتَرتِيبِهَا ، وَتَقوِيمِ سُلُوكِ البَشَرِ وَتَهذِيبِ أَخلاقِهِم ، لا يَأخُذُ بِهِ مُجتَمَعٌ إِلاَّ سَعِدَ وَصَلَحَ وَتَزَكَّى ، وَلا يُفَرِّطُ فِيهِ آخَرُ إِلاَّ شَقِيَ وَفَسَدَ وَتَدَسَّى ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ "
لَقَد كَانَ العَرَبُ في جَاهِلِيَّةٍ جَهلاءَ وَضَلالٍ وَشَقَاءٍ ، فَجَاءَهُمُ اللهُ بِهَذَا الدِّينِ القَوِيمِ ، وَبَعَثَ فِيهِم نَبِيَّهُ سَيِّدَ المُرسَلِينَ ، فَأَخرَجَهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَهَدَاهُمُ الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، وَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِهِم وَأَصلَحَ ذَاتَ بَينِهِم ، فَعَاشُوا مَعَ قِلَّةِ مَا في أَيدِيهِم مِنَ الدُّنيَا حَيَاةً إِيمَانِيَّةً كَرِيمَةً ، وَتَمَتَّعُوا عَلَى فَقرِهِم بِعِيشَةٍ هَنِيَّةٍ رَضِيَّةٍ ، تَحُفُّهَا السَّعَادَةُ وَيُحِيطُ بها السُّرُورُ ، وَتُرَفرِفُ عَلَيهَا الهَنَاءَةُ وَيَلُفُّهَا الحُبُورُ ، وَمَا زَالُوا بِقُوَّةِ إِيمَانِهِم هُم قَادَةَ العَالَمِ وَسَادَتَهُ ، هَمُّهُم اللهُ وَالدَّارُ الآخِرَةُ ، وَرَائِدُهُمُ اتِّبَاعُ الحَقِّ وَإِظهَارُ الدِّينِ الحَقِّ ، حَتى بَلَغُوا هَذَا العَصرَ الَّذِي كَثُرَت فِيهِ الأَموَالُ وَتَوسَّعَتِ الأَرزَاقُ ، فَجَعَلَ الشَّقَاءُ فِيهِم يَزدَادُ يَومًا بَعدَ آخَرَ ، وَجَعَلَت حَيَاتُهُم تَزِيدُ تَعقُّدًا وَتَنَغُّصًا ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لأَنَّهُمُ انجَرَفُوا مَعَ العَالَمَ في تَرقِيعِ الدُّنيَا بِتَمزِيقِ الدِّينِ ، وَاعتَنَوا بِالأَجسَادِ على حَسَابِ الأَروَاحِ ، وَعَمَرُوا الظَّوَاهِرَ بِإِفسَادِ البَوَاطِنِ ، وَعَادُوا لا يَهتَمُّونَ بِالقُلُوبِ ، وَلا يَشتَغِلُونَ بِتَقوِيَةِ العِلاقَةِ بِرَبِّ القُلُوبِ .

عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ ممَّا جَاءَ بِهِ الإِسلامُ لإِصلاحِ القُلُوبِ وَتَزكِيَةِ النُّفُوسِ ، وَرَبطِ النَّاسِ بَعضِهِم بِبَعضٍ في عِلاقَاتٍ مُحكَمَةٍ وَلِقَاءَاتٍ مُنتَظِمَةٍ ، صَلاةَ الجَمَاعَةِ في بُيُوتِ اللهِ ، تِلكَ الفَرِيضَةُ الجَلِيلَةُ ، الَّتي مِن أَجلِهَا عُمِرَتِ المَسَاجِدُ وَأُمِرَ بِرَفعِهَا ، وَنُدِبَ إِلى تَنظِيفِهَا وَتَطيِيبِهَا ، وَإِلَيهَا دُعِيَ الرِّجَالُ في الغُدُوِّ وَالآصَالِ لإِقَامَةِ ذِكرِ اللهِ ، وَنُهُوا أَن تُلهِيَهُم عَن ذَلِكَ المَربَحِ الأُخرَوِيِّ العَظِيمِ تِجَارَةٌ دُنيَوِيَّةٌ قَلِيلَةٌ ، أَو يَشتَغِلُوا عَنهُ بِبَيعٍ أَو يَعكُفُوا عَلَى مَتَاعٍ حَقِيرٍ . وَكَمَا رُبِطَ المُسلِمُونَ بِبَعضِهِم في الصَّلَوَاتِ الخَمسِ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ صَلاةً أُخرَى فُرِضَت عَلَيهِم كُلَّ أُسبُوعٍ ، لِتَكُونَ لأَبدَانِهِمُ اجتِمَاعًا وَلِقُلُوبِهِم التِئَامًا ، وَأُمِرُوا بِإِتيَانِهَا وَالسَّعيِ إِلَيهَا في أَحسَنِ حَالٍ ، مِن جَمَالِ مَلبَسٍ وَنَظَافَةِ بَدَنٍ وَطَهَارَةٍ وَنَقَاءٍ ، إِنَّهَا صَلاةُ الجُمُعَةِ ، ذَلِكُمُ المُؤتَمَرُ الإِيمَانيُّ الاجتِمَاعِيُّ ، وَالمَحضِنُ التَّربَوِيُّ التَّعلِيمِيُّ ، الَّذِي يَستَمِعُونَ فِيهِ إِلى تَوجِيهَاتٍ تُرشِدُهُم إِلى الخَيرِ ، وَيَتَلَقَّونَ مَوَاعِظَ تُقَوِّمُ سُلُوكَهُم ، وَتُلقَى عَلَيهِم أَحَادِيثُ تُعَالِجُ مُشكِلاتِهِم ، في خُطبَتَينِ عَظِيمَتَينِ جَلِيلَتَينِ ، حَلَّتَا مَحَلَّ رَكعَتَينِ مِن صَلاةِ الظُّهرِ ، ممَّا يُؤَكِّدُ أَهمِيَّةَ الحُضُورِ المُبَكِّرِ وَالاستِمَاعِ إِلى تَينِكُمُ الخُطبَتَينِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا إِلى ذِكرِ اللهِ وَذَرُوا البَيعَ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُون "
وَفي التَّعبِيرِ بِالسَّعيِ إِلى ذِكرِ اللهِ دُونَ المَشيِ وَنَحوِهِ مِنَ الأَلفَاظِ ، حَثٌّ عَلَى المُسَارَعَةِ وَتَرغِيبٌ في المُسَابَقَةِ ، وَحَضٌّ عَلَى التَّنَافُسِ بَينَ المُسلِمِينَ في التَّقَدُّمِ وَالتَّبكِيرِ ، وَهُوَ مَا دَلَّت عَلَيهِ الأَدِلَّةُ الأُخرَى وَرَغَّبَت فِيهِ وَمَدَحَت أَهلَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن تَوَضَّأَ فَأَحسَنَ الوُضُوءَ ثم أَتَى الجُمُعَةَ فَاستَمَعَ وَأَنصَتَ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ الجُمُعَةِ الأُخرَى وَزِيَادَةِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، وَمَن مَسَّ الحَصَا فَقَد لَغَا " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الصَّلَوَاتُ الخَمسُ ، وَالجُمُعَةُ إِلى الجُمُعَةِ ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ ، مُكَفِّرَاتُ مَا بَينَهُنَّ إِذَا اجتُنِبَتِ الكَبَائِرُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا يَغتَسِلُ رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا استَطَاعَ مِنَ الطُّهُورِ ، وَيَدَّهِنُ مِن دُهنِهِ وَيَمَسُّ مِن طِيبِ بَيتِهِ ، ثم يَخرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَينَ اثنَينِ ، ثم يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ، ثم يُنصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَينَهُ وَبَينَ الجُمُعَةِ الأُخرَى " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن غَسَّلَ يَومَ الجُمُعَةِ وَاغتَسَلَ ، وَبَكَّرَ وَابتَكَرَ ، وَمَشَى وَلم يَركَبْ ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاستَمَعَ وَلم يَلغُ ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خَطوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا " رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَصحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
لَقَد تَشَرَّبَ المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم هَذِهِ الفَضَائِلَ وَاحتَسَبُوهَا ، فَكَانُوا يَحسِبُونَ لِهَذَا اليَومِ حِسَابًا ، فَلا يَنشَغِلُونَ فِيهِ بِغَيرِ ذِكرٍ وَصَلاةٍ وَدُعَاءٍ وَرَجَاءٍ ، حَتى جَاءَ عَصرُنَا هَذَا ، وَخَلَفَت فِيهِ خُلُوفٌ كَأَنَّمَا طَالَ عَلَيهَا الأَمَدُ ، فَقَسَت القُلُوبُ وَزُهِدَ في الأُجُورِ ، وَعَادَت هَذِهِ الفَرِيضَةُ الجَلِيلَةُ تَشهَدُ تَبَاطُؤًا مِن كَثِيرٍ مِنَ المُسلِمِينَ وَتَكَاسُلاً ، فَخَلَتِ الصُّفُوفُ مِنَ المُصَلِّينَ حَتى قُربِ إِقَامَةِ الصَّلاةِ ، بَل وَوُجِدَ مَن يَترُكُونَهَا أَو لا يَحضُرُونَ إِلاَّ في التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ مِن رَكعَتَيهَا ، فَيَحرِمُونَ أَنفُسَهُم مِنَ الاستِمَاعِ إِلى الذِّكرِ في الخُطبَتَينِ ؟ وَكَأَنَّهُم لم يَسمَعُوا إِلى مَا صَحَّ عَنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ عِندَ مُسلِمٍ وَغَيرِهِ حَيثُ قَالَ : " لَيَنتَهِيَنَّ أَقوَامٌ عَن وَدعِهِمُ الجُمُعَاتِ ، أَو لَيَختِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم ثم لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ "
وَفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِذَا كَانَ يَومُ الجُمُعَةِ ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِن أَبوَابِ المَسجِدِ مَلائِكَةٌ يَكتُبُونَ النَّاسَ عَلَى قَدرِ مَنَازِلِهِم الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاؤُوا يَستَمِعُونَ الذِّكرَ ، وَمَثَلُ المُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهدِي بَدَنَةً ، ثم كَالَّذِي يُهدِي بَقَرَةً ، ثم كَالَّذِي يُهدِي الكَبشَ ، ثم كَالَّذِي يُهدِي الدَّجَاجَةَ ، ثم كَالَّذِي يُهدِي البَيضَةَ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اُحضُرُوا الجُمُعَةَ وَادنُوا مِنَ الإِمَامِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ مِن أَهلِ الجَنَّةِ فَيَتَأَخَّرُ عَنِ الجُمُعَةِ فَيُؤَخَّرُ عَنِ الجَنَّةِ وَإِنَّهُ لَمِن أَهلِهَا " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَغَيرُهُ وَقَالَ الأَلبَانيُّ : حَسَنٌ لِغَيرِهِ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ يَا مَنِ اعتَدتُمُ التَّأخُّرَ ، وَحَذَارِ مِنَ التَّهَاوُنِ وَالتَّبَاطُؤِ فَتُفَوِّتُوا الأَجرَ وَتَحرِمُوا أَنفُسَكُمُ الخَيرَ ؛ فَإِنَّهُ لا يَزَالُ قَومٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ ...
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ في قُلُوبِنَا ، وَكَرِّهْ إِلَينَا الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ ، وَاجعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ .



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الجُمُعَةَ مَشهَدٌ أُسبُوعِيٌّ عَظِيمٌ ، وَعِيدٌ إِسلامِيٌّ كَرِيمٌ ، يَتَكَرَّرُ عَلَيكُم كُلَّ أُسبُوعٍ ، فَتَتَكَرَّرُ عَلَيكُم بِهِ نِعمَةُ رَبِّكُم ، فَاعرِفُوا لِهَذَا اليَومِ قَدرَهُ ، وَاحفَظُوا لَهُ مَكَانَتَهُ ، وَاحمَدُوا اللهَ إِذْ هَدَى هَذِهِ الأُمَّةَ إِلَيهِ ثم جَعَلَكُم مِنهَا ، في حِينِ أَضَلَّ عَنهُ مَن كَانَ قَبلَكُم ، فَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " نَحنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيَامَةِ ، بَيدَ أَنَّهُم أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِن بَعدِهِم ، ثُمَّ هَذَا يَومُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيهِم ـ يَعني يَومَ الجُمُعَةِ ـ فَاختَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللهُ لَهُ ، وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ ، اليَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعدَ غَدٍ "
إِنَّهَا لَنِعمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى المُسلِمِ أَن جَعَلَ اللهُ لَهُ هَذِهِ المُنَاسَبَةَ الكَرِيمَةَ ، تُعِيدُهُ مِن خِضَمِّ الحَيَاةِ المُتَلاطِمِ بِأَنوَاعِ الفِتَنِ وَالمِحَنِ ، وَتُخرِجُهُ مِن بَحرِهَا الهَائِجِ بِأَشكَالِ المُلهِيَاتِ وَالمُشغِلاتِ ، لِتُؤوِيهِ إِلى رَبِّهِ في بَيتٍ مِن بُيُوتِهِ ، مُتَجَمِّلاً مُتَطَهِّرًا مُتَطَيِّبًا ، حَاضِرًا قَلبُهُ طَيِّبَةً نَفسُهُ ، فَيُغفَرَ ذَنبُهُ وَتُكَفَّرَ سَيِّئَاتُهُ ، فَاجتَهِدُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ في نَيلِ هَذِهِ الأُجُورِ ، وَلا تَحرِمُوا أَنفُسَكُم فَضلَ رَبِّكُم ، فَإِنَّ مَا عِندَهُ خَيرٌ لَكُم وَأَبقَى " فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا في الأَرضِ وَابتَغُوا مِن فَضلِ اللهِ وَاذكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

ناصرعبدالرحمن 23-03-2012 12:38 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

ومن يتولهم منكم فإنه منهم 30 / 4 / 1433





الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، رَوَى الإِمَامُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لا يَسمَعُ بي أَحَدٌ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصرَانيٌّ ، ثم يَمُوتُ وَلم يُؤمِنْ بِالَّذِي أُرسِلتُ بِهِ ، إِلاَّ كَانَ مِن أَصحَابِ النَّارِ "
هَذَا الحَدِيثُ العَظِيمُ ، حَدِيثُ صِدقٍ لا شَكَّ فِيهِ ، وَحُكمُ حَقٍّ لا مِريَةَ فِيهِ ، إِنَّهُ لَيَقطَعُ شَكَّ النُّفُوسِ المَرِيضَةِ ، وَيَمحُو ظَنَّ القُلُوبِ المُتَرَدِّدَةِ ، وَالَّتي كُلَّمَا مَاتَ يَهُودِيٌّ أَو نَصرَانيٌّ في شَرقِ العَالمِ أَو غَربِهِ ، رَئِيسًا أَو زَعِيمًا أَو صَاحِبَ مَالٍ أَو صَنعَةٍ ، أَفَاضُوا في مَدحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ وَتَكَلَّفُوا ذِكرَ مَحَاسِنِهِ ، مُحَاوِلِينَ إِقنَاعَ السُّذَّجِ وَضِعَافِ الإِيمَانِ ، أَنَّهُ رُبَّمَا شَفَعَت لِهَذَا المَيِّتِ أَعمَالُهُ الَّتي قَدَّمَهَا خِدمَةً لِلبَشَرِ في صِنَاعَةٍ أَو طِبٍّ أَوِ اقتِصَادٍ ، أَو نَفَعَتهُ جُهُودُهُ الَّتي بَذَلَهَا في نَشرِ السَّلامِ بَينَ شُعُوبِ الأَرضِ ، وَأَنَّهُ قَد يَدخُلُ بِذَلِكَ الجَنَّةَ وَينجُو مِنَ النَّارِ ، نَاسِينَ أَو مُتَنَاسِينَ أَنَّهُ مَهمَا عَمِلَ عَامِلٌ مَا يَظُنُّهُ خَيرًا أَو بِرًّا أَو إِحسَانًا ، أَوِ اجتَهَدَ مُجتَهِدٌ وَقَلبُهُ لِغَيرِ رَبِّهِ ، فَمَا سَعيُهُ إِلاَّ في ضَلالٍ وَوَبَالٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ في حَقِّ الكَافِرِينَ : " وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلنَاهُ هَبَاءً مَنثُورًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَبلَ عِدَّةِ أَشهُرٍ ، هَلَكَ أَحَدُ صَانِعِي أَجهِزَةِ الحَاسِبِ وَالجَوَّالاتِ ، وَإِذْ ذَاكَ جَعَلَتِ الأَقلامُ تَتَبَارَى في مَدحِهِ آسِفَةً عَلَى مَوتِهِ ، بَل رَفَعَهُ بَعضُهُم وَلَمَّعَهُ ، حَتى لَكَأَنَّمَا هُوَ الفَاتِحُ المُغَيِّرُ شَأنَ العَالمِ ، ثم لَمَّا مَاتَ قَبلَ أَيَّامٍ كَبِيرُ النَّصَارَى في مِصرَ ، ممَّن لم يُعرَفْ عَنهُ إِلاَّ العِدَاءُ لِلمُسلِمِينَ وَتَحرِيضُ دُوَلِ الغَربِ عَلَيهِم ، وَإِيذَاءُ الفَتَيَاتِ ممَّن يَدخُلْنَ في الإِسلامِ بِسَجنِهِنَّ أَو قَتلِهِنَّ ، وَرَفعُ صَوتِهِ بِأَنَّ مِصرَ هِيَ أَرضُ الأَقبَاطِ ، وَأَنَّ المُسلِمِينَ فِيهَا إِنَّمَا هُم مُحتَلُّونَ وَمُغتَصِبُونَ ، أَقُولُ لَمَّا نَفَقَ هَذَا الهَالِكُ نُفُوقَ البَهَائِمِ ، خَرَجَ كُتَّابٌ في بَعضِ بَرَامِجِ التَّوَاصُلِ الاجتِمَاعِيِّ في الشَّبَكَةِ العَالَمِيَّةِ ، لِيَتَرَحَّمُوا عَلَيهِ وَيَدعُوا لَهُ ، ثم فُوجِئَ المُسلِمُونَ في مِصرَ بِمُفتِيهِم وَهُوَ يَعُدُّ مَوتَهُ فَاجِعَةً لِمِصرَ وَأَهلِهَا ، وَآخَرَ مِن عُلَمَائِهِم يُعَزِّيهِم فِيهِ ، وَثَالِثَ يُشَبِّهُ جِنَازَتَهُ بِجِنَازَةِ الإِمَامِ أَحمَدَ ، ثم يُعلَنُ الحِدَادُ رَسمِيًّا عَلَى ذَلِكَ الهَالِكِ ، وَتَبُثُّ بَعضُ القَنَوَاتِ آيَاتٍ مِن كِتَابِ اللهِ عَلَى رُوحِهِ .
فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ! وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ ! وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ !
المُسلِمُونَ يُقَتَّلُونَ وَتُنتَهَكُ أَعرَاضُهُم ، وَنِسَاؤُهُم تُرَمَّلُ وَأَطفَالُهُم يُيَتَّمُونَ ، وَحُقُوقُهُم تُسلَبُ وَمُقَدَّرَاتُه ُم تُنهَبُ ، وَدِيَارُهُم تُحتَلُّ وَمَسَاجِدُهُم تُهَدَّمُ ، فَلا يَتَحَرَّكُ مِن هَؤُلاءِ سَاكِنٌ ، بَل وَلا تَنتَفِضُ لهم شَعَرَاتٌ وَلا يَنصُرُونَ إِخوَانَهُم وَلَو بِكُلَيمَاتٍ ، ثم يَمُوتُ عَدُوٌّ نَصرَانيٌّ كَافِرٌ ، فَيَنطَلِقُونَ لِيُعَظِّمُوا أَمرَ مَوتِهِ ، مُتَجَاهِلِينَ مَا عَلَيهِ النَّصَارَى وَاليَهُودُ مِن كُفرٍ وَشِركٍ ، وَأَنَّ اللهَ لا يَغفِرُ لِمُشرِكٍ وَلا كَافِرٍ وَلا يُدخِلُهُمَا جَنَّتَهُ ، إِذْ لا ذَنبَ عِندَهُ ـ تَعَالى ـ أَعظَمُ وَلا ظُلمَ أَكبَرُ مِنَ الشِّركِ ، فَكَيفَ إِذَا كَانَ هَؤُلاءِ يَجمَعُونَ إِلى كُفرِهِم بِرَبِّهِم عَدَاوَةَ أَولِيَائِهِ ، وَلا يَألُونَ جُهدًا في إِيقَادِ الحُرُوبِ ضِدَّ عِبَادِهِ ، وَلا يَنَامُونَ عَنِ التَّخطِيطِ لِصَدِّهِم عَن دِينِهِم وَإِفسَادِ عَقَائِدِهِم ، وَصَرفِهِم عَن كُلِّ خُلُقٍ حَمِيدٍ وَفَضِيلَةٍ ، وَإِيقَاعِهِم في كُلِّ شَرٍّ وَرَذِيلَةٍ ؟
لَكَأَنَّ هَؤُلاءِ القَومَ لم يَقرَؤُوا قَولَ الحَقِّ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ : " إِنَّ اللهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افتَرَى إِثمًا عَظِيمًا "
وَقَولَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ عَلَى لِسَانِ لُقمَانَ : " يَا بُنيَّ لا تُشرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ " وَقَولَهُ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن يَرتَدِدْ مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ "
وَقَولَهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُم كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيهِم لَعنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ . خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنهُمُ العَذَابُ وَلا هُم يُنظَرُون "
وَقَولَهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابنُ مَريَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَني إِسرَائِيلَ اعبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُم إِنَّهُ مَن يُشرِكْ بِاللهِ فَقَد حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالمِينَ مِن أَنصَارٍ . لَقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِن إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لم يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ "
وَقَولَهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " مَا كَانَ لِلنَّبيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَستَغفِرُوا لِلمُشرِكِينَ وَلَو كَانُوا أُولي قُربى مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحَابُ الجَحِيمِ . وَمَا كَانَ استِغفَارُ إِبرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَوعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنهُ إِنَّ إِبرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ "
لَقَد كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ في عَهدِ رَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَقَبلَهُ مَن كَانُوا يُطعِمُونَ الطَّعَامَ وَيَبذُلُونَ ، وَيَسقُونَ الحُجَّاجَ وَيُحسِنُونَ ، وَأَمَّا عَمُّهُ أَبُوطَالِبٍ فَقَد رَبَّاهُ مُنذُ صِغَرِهِ ، وَكَانَ مُحِبًّا لَهُ وَمَدَحَهُ في شِعرِهِ ، وَنَافَحَ عَنهُ وَلم يَألُ جُهدًا في الذَّبِّ عَنهُ وَنَصرِهِ ، بَل وَتَحَمَّلَ الحِصَارَ مَعَهُ في الشِّعبِ ، وَمَعَ هَذَا لم يُنجِهِ وَلا الكُفَّارَ الآخَرِينَ مِنَ الخُلُودِ في النَّارِ مَا عَمِلُوهُ مِن خَيرٍ وَلا مَا قَدَّمُوهُ مِن بِرٍّ إِذْ مَاتُوا وَهُم كُفَّارٌ وَلم يَكُونُوا مُسلِمِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَجَعَلتُم سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسجِدِ الحَرَامِ كَمَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَجَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ لا يَستَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم أَعظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعدَ إِيمَانِهِم ثُمَّ ازدَادُوا كُفرًا لَن تُقبَلَ تَوبَتُهُم وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُم كُفَّارٌ فَلَن يُقبَلَ مِن أَحَدِهِم مِلءُ الأَرضِ ذَهَبًا وَلَوِ افتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِن نَاصِرِينَ "
وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَنِ العَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هَل نَفَعتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيءٍ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغضَبُ لَكَ ؟ قَالَ : " نَعَم ، هُوَ في ضَحضَاحٍ مِن نَارٍ ، وَلَولا أَنَا لَكَانَ في الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ "
وَفِيهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " أَهوَنُ أَهلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ ، وَهُوَ مُنتَعِلٌ بِنَعلَينِ يَغلِي مِنهُمَا دِمَاغُهُ "
وَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، ابنُ جُدعَانَ كَانَ في الجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطعِمُ المِسكِينَ ، فَهَل ذَاكَ نَافِعُهُ ؟ قَالَ : " لا يَنفَعُهُ ، إِنَّهُ لم يَقُلْ يَومًا رَبِّ اغفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَرَوَى مُسلِمٌ عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَينَ أَبي ؟ قَالَ : " في النَّارِ " فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ : " إِنَّ أَبي وَأَبَاكَ في النَّارِ "
وَعَن أبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : زَارَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَبرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبكَى مَن حَولَهُ فَقَالَ : " اِستَأذَنتُ رَبِّي في أَن أَستَغفِرَ لها فَلَم يُؤذَنْ لي ، وَاستَأذَنتُهُ في أَن أَزُورَ قَبرَهَا فَأَذِنَ لي ، فَزُورُوا القُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ المَوتَ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .

فَصَلَّى عَلَيهِ اللهُ وَسَلَّمَ مَا كَانَ أَصدَقَهُ وَأَفصَحَهُ !
لم يُجَامِلْ وَلم يُلَمِّحْ ، بَل بَيَّنَ وَصَرَّحَ وَوَضَّحَ ، فَمَاذَا بَعدَ هَذَا ؟!
إِذَا كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَعَمُّهُ لم يَنتَفِعُوا بِقُربِهِم مِنهُ لَمَّا مَاتُوا عَلَى الشِّركِ ، وَلم يُؤذَنْ لَهُ في التَّرَحُّمِ عَلَيهِم ، فَكَيفَ يَنتَفِعُ غَيرُهُم بما قَدَّمَ مِن دُنيَا مَعَ شِركِهِ وَكُفرِهِ ، وَهَل يُتَرَحَّمُ عَلَى مَن يُعِدُّ العُدَّةَ لِحَربِ المُسلِمِينَ وَصَدِّهِم عَن دِينِهِم ؟!
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّهُ لا نَجَاةَ إِلاَّ لأَهلِ الإِسلامِ وَالإِيمَانِ " وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاحذَرُوا مَا يُسخِطُ رَبَّكُم ـ جَلَّ وَعَلا ـ فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الوَلاءَ لِلمُؤمِنِينَ وَمُوَدَّةَ المُسلِمِينَ ، وَالبَرَاءَ مِنَ الكَافِرِينَ وَبُغضَ المُشرِكِينَ ، إِنَّهَا لَعَقِيدَةٌ دَلَّ عَلَيهَا الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، فَآمَنَ بها الحُنَفَاءُ وَمَضَى عَلَيهَا المُوَحَّدُونَ ، وَتَلَقَّتهَا الأُمَّةُ خَلَفًا عَن سَلَفٍ ، إِنَّهُ مَبدَأٌ رَاسِخٌ لا تُغَيِّرُهُ الآرَاءُ وَلا تُبطِلُهُ الأَهوَاءُ ، وَلا تَنتَزِعُهُ مِنَ القُلُوبِ مَحَبَّةُ الدُّنيَا ، وَلا يُخمِدُ جَذوَتَهُ وَلا يُضعِفُ تَوَقُّدَهُ رُكُونٌ إِلى شَهَوَاتِهَا أَوِ انجِرَافٌ مَعَ مُغرِيَاتِهَا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَن حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ المُفلِحُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُم وَإِخوَانَكُم أَولِيَاءَ إِنِ استَحَبُّوا الكُفرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ . قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَاؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأتيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنفُسِهِم نَادِمِينَ . وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقسَمُوا بِاللهِ جَهدَ أَيمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبِطَت أَعمَالُهُم فَأَصبَحُوا خَاسِرِينَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَومَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ . وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَالكُفَّارَ أَولِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ "
أَلا فَلْيَخشَ اللهَ مَن يُحِبُّ أَعدَاءَهُ أَو يَمدَحُهُم وَهُوَ ـ تَعَالى ـ يَقُولُ : " فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلكَافِرِينَ "
وَيَقُولُ : " وَلا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفرُهُم عِندَ رَبِّهِم إِلا مَقتًا " إِنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ لا بُدَّ أَن يَكُونَ في نَفسِهِ عَدَاوَةٌ لِكُلِّ عَدُوٍّ لِخَالِقِهِ وَمَولاهُ ، فَإِن لم يَجِدْ في قَلبِهِ عَدَاوَةً لأَعدَاءِ رَبِّهِ فَلْيَبكِ عَلَى إِيمَانِهِ ، فَقَد قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن أَحَبَّ للهِ وَأَبغَضَ للهِ ، وَأَعطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ فَقَدِ استَكمَلَ الإِيمَانَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

ام رسن 23-03-2012 03:14 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
جزاك الله خير

ناصرعبدالرحمن 29-03-2012 09:21 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

أمة قائمة لخيرية دائمة 7 / 5 / 1433




الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ، فَاتَّقُوهُ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ " وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَنَحنُ في زَمَنٍ كَثُرَ فِيهِ الفَسَادُ وَظَهَرَت مَنَاهِجُ لِلإِفسَادِ ، عَقَدِيًّا وَفِكرِيًَّا وَخُلُقِيًّا ، وَإِدَارِيًّا وَمَالِيًّا وَاجتِمَاعِيًّا ، يَتَرَدَّدُ الكَلامُ عَن وُجُوبِ المُحَاسَبَةِ مِن أَصحَابِ الوِلايَةِ وَالمَسؤُولِيَّ ةِ ، وَأَهَمِيَّةِ الرَّقَابَةِ فَردِيَةً وجَمَاعِيَّةً ، وَلُزُومِ تَعرِيَةِ الفَسَادِ وَفَضحِ المُفسِدِينَ ، وَكَفِّ أَيدِي العَابِثِينَ وَقَمعِ المُجرِمِينَ ، وَلأَنَّ لَنَا دِينًا كَامِلاً وَمَنهَجًا رَبَّانِيًّا شَامِلاً ، جَاءَ بما يُصلِحُ شُؤُونَ النَّاسِ وَيُقِيمُ أُمُورَهُم في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم ، وَاجتَمَعَ فِيهِ مَا يَحفَظُ أَجسَادَهُم وَيُنَمِّي عُقُولَهُم ، مَعَ مَا يُعَالِجُ قُلُوبَهُم وَيُزَكِّي نُفُوسَهُم ، فَإِنَّنَا لَسنَا إِلى شَيءٍ أَحوَجَ مِنَّا إِلى التَّمَسُّكِ بِدِينِنَا وَاتِّبَاعِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، وَعَدَمِ البَحثِ يَمنَةً وَيَسرَةً في مَنَاهِجَ بَشرِيَّةٍ قَاصِرَةٍ حَاسِرَةٍ ، لم يَزدَدِ العَالَمُ بها إِلاَّ شَقَاءً وَعَنَاءً .
أَلا وَإِنَّ دِينَنَا قَد جَاءَ بما فِيهِ إِرشَادُ النَّاسِ وَهِدَايَتُهُم ، وَتَوجِيهُهُم إِلى مَا فِيهِ خَيرٌ لهم وَنَفعٌ ، وَمَنعُهُم ممَّا فِيهِ شَرٌّ وَضَرَرٌ ، وَذَلِكَ بِتَشرِيعِ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكَرِ ، وَأَمرِهِم بِالتَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَنَهيِهِم عَنِ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ ، قَالَ ـ جَلَّ شَأنُهُ : " وَلْتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ "
الأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ سَبَبٌ لِلتَّمكِينِ في الأَرضِ وَنَصرِ اللهِ لِعِبَادِهِ " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ "
بِالتَّوَاصِي بِالحَقِّ وَالصَّبرِ عَلَيهِ تَكُونُ النَّجَاةُ مِنَ الخُسرَانِ " وَالعَصرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ " بِالاحتِسَابِ تَظهَرُ الشَّعَائِرُ وَتَنتَشِرُ الطَّاعَاتُ ، وَتَندَحِرُ المَعَاصِي وَتَقِلُّ المُنكَرَاتُ ، وَتُشَدُّ ظُهُورُ المُؤمِنِينَ وَتُرغَمُ أُنُوفُ المُنَافِقِينَ ، وَيُقمَعُ الفَسَادُ وَالمُفسِدُونَ ، وَيَرتَدِعُ السُّفَهَاءُ وَالظَّالِمُونَ ، فيَبقَى المَعرُوفُ مَعرُوفًا وَالمُنكَرُ مُنكَرًا ، وَتُحَصَّلُ المَصَالِحُ وَتُكَمَّلُ ، وَتُعَطَّلُ المَفَاسِدُ وَتُقَلَّلُ ، وَأَمَّا إِذَا تُرِكَ الاحتِسَابُ بِالكُلِّيَّةِ أَو تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهِ ، فَلا تَسَلْ عَنِ انقِلابِ المَوَازِينِ حِينَئِذٍ وَانتِكَاسِ المَفَاهِيمِ ، إِذْ يَفشُو الجَهلُ وَيَضمَحِلُّ الدِّينُ ، وَتَنطَفِئُ جَذوَةُ الإِيمَانِ في القُلُوبِ ، فَتَحكُمُ النَّاسَ الأَهوَاءُ ، وَتَغلِبُهُمُ الشَّيَاطِينُ وَتُسَيطِرُ عَلَيهِمُ الشَّهَوَاتُ ، وَيَتَجَرَّاُ العُصَاةُ وَالفُسَّاقُ عَلَى أَهلِ الحَقِّ وَالخَيرِ ، فَيَنَالُونَ مِنهُم وَيَتَطَاوَلُون َ عَلَيهِم ، وَيُظهِرُونَ مُنكَرَاتِهِم وَيُجَاهِرُونَ بِمَعَاصِيهِم ، ممَّا يُؤذِنُ بِنَزعِ العَافِيَةِ وَحُلُولِ الهَلاكِ وَالعَذَابِ ، وَهُوَ مَا ظَهَرَت نُذُرُهُ في الأَرضِ وَالسَّمَاءِ ، إِمَّا في فَيَضَانَاتٍ غَامِرَةٍ وَأَعَاصِيرَ ثَائِرَةٍ وَزَلازِلَ مُدَمِّرَةٍ ، وَإِمَّا في قِلَّةِ أَمطَارٍ وَغَورِ آبَارٍ وَجَفَافٍ وَغُبَارٍ ، وَإِمَّا في قِلَّةِ أَرزَاقٍ وَغَلاءٍ وَنَزعِ خَيرَاتٍ وَمَحقِ بَرَكَاتٍ .
وَمِن ثَمَّ ـ إِخوةَ الإِيمانِ ـ فَإِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَبقَى في الأُمَّةِ مَن يَصدَعُ بِالحَقِّ وَيَأمُرُ وَيَنهَى ؛ لِئَلاَّ تُسلَبَ مِنهَا الخَيرِيَّةُ ، وَلِيَكُونَ أُولَئِكَ الآمِرُونَ النَّاهُونَ سَبَبًا لِحِفظِ البِلادِ وَالعِبَادِ مِن حُلولِ الهَلاكِ وَوُجُوبِ العَذَابِ وَرَدِّ الدُّعَاءِ وَعَدَمِ الاستِجَابَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ ، لَتَأمُرُنَّ بِالمَعرُوفِ وَلَتَنهَوُنَّ عَنِ المُنكَرِ ، أَو لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عِقَابًا مِن عِندِهِ ، ثُمَّ لَتَدعُنَّهُ فَلا يَستَجِيبَ لَكُم " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبانيُّ .


وَإِنَّ فِيمَا قَصَّهُ اللهُ ـ تَعَالى ـ عَلَينَا مِن أَخبَارِ بني إِسرَائِيلَ أَنْ لَعَنَهُم ـ سُبحَانَهُ ـ عَلَى أَلسُنِ رُسُلِهِم ، بِسَبَبِ عِصيَانِهِم وَتَعطِيلِهِم شَعِيرَةَ الحِسبَةِ فِيمَا بَينَهُم ، وَسُكُوتِ عُلَمَائِهِم وَأَحبَارِهِم عَن سُفَهَائِهِم وَأَشرَارِهِم ؛ إِمَّا رَغبَةً فِيمَا عِندَهُم أَو رَهبَةً مِنهُم ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَتَرَى كَثِيرًا مِنهُم يُسَارِعُونَ في الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَأَكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ . لَولا يَنهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالأَحبَارُ عَن قَولِهِمُ الإِثمَ وَأَكلِهِمُ السُّحتَ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَصنَعُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَني إِسرَائِيلَ عَلى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ . كَانُوا لا يَتَنَاهَونَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ "
وَإِنَّمَا قَصَّ ـ تَعَالى ـ خَبَرَهُم وَبَيَّنَ أَمرَهُم ، لِيَكُونَ عِبرَةً لِمَن بَعدَهُم حَتَّى لا يَفعَلُوا فِعلَهُم فَيَكُونُوا مِثلَهُم ، وَيَحِلَّ بِهِم مِن لَعنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ المَغضُوبِ عَلَيهِم .


أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَلْنَحذَرْ مِن تَعطِيلِ شَعِيرَةِ الاحتِسَابِ ، ظَنًّا مِنَّا أَنَّ تَركَ النَّاسِ بِلا حَسِيبٍ وَلا رَقِيبٍ سَبَبٌ لأُلفَةِ القُلُوبِ وَاجتِمَاعِهَا ، فَإِنَّمَا هَذَا غُرُورٌ وَبَاطِلٌ ، وَلْنَكُنْ كَمَا أَرَادَ اللهُ لَنَا حَيثُ قَالَ : " وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ "
وَلْنَحذَرْ مِمَّا وَصَفَ بِهِ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ حَيثُ قَالَ ـ تَعَالى ـ : " المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَات ُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعرُوفِ وَيَقبِضُونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
وَقَالَ ـ تعالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاء وَالمُنكَرِ وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "





الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ سَدٌّ مَنِيعٌ في طَرِيقِ أَصحَابِ الشُّبُهَاتِ وَصَرعَى الشَّهَوَاتِ ، وَحِصنٌ حَصِينٌ يَمنَعُ تَجَاوُزَهُمُ الحُدُودَ وَوُقُوعَهُم فِيمَا لا يَحِلُّ لهم ، وَلا وَاللهِ يَكرَهُ الاحتِسَابَ عَلَى أَهلِ المُنكَرِ إِلاَّ مَخذُولٌ ، وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدَّنيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمُونَ "
وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَشَدَّ مَا يَجِدُهُ الضَّالُّونَ المُضِلُّونَ أَن تَبلُغَ الحَمِيَّةُ الدِّينِيَّةُ وَالغَيرَةُ الإِيمَانِيَّةُ بِالمُجتَمَعِ المُسلِمِ حَدَّ اليَقَظَةِ التَّامَّةِ لِمَا إِلَيهِ يَهدِفُونَ وَلَهُ يُخَطِّطُونَ ، فَيَهُبَّ جَمِيعُهُ لِجِهَادِهِم وَيَقِفَ صَفًّا وَاحِدًا لِرَدعِهِم ، وَيَعمَلَ عَلَى فَضحِ مُخَطَّطَاتِ الفَسَادِ وَبَيَانِ سَبِيلِ المُجرِمِينَ ، وَقَدِ اعتَدنَا مُنذُ سِنِينَ وَلا عَجَبَ ، عَلَى مُجَازَفَاتٍ وَتَجَاوُزَاتٍ ، نَرَى فِيهَا الفَسَقَةَ يَتَنَاوَلُونَ الحِسبَةَ وَرِجَالَهَا في صُحُفِهِم وَجَرَائِدِهِم ، وَيَسخَرُونَ مِنهُم في مَقَالاتِهِم وَأُطرُوحَاتِهِ م ، وَيَتَّهِمُونَه ُم بِأَنَّهُم يُدخِلُونَ أَنفُسَهُم فِيمَا لا شَأنَ لهم بِهِ .
وَأَمَّا الأَمرُ الَّذِي لم نَتَعَوَّدْهُ وَلم نَسمَعْ بِهِ مِن قَبلُ ، فَهُوَ أَن يَأتيَ مَن يُنسَبُ لأَهلِ العِلمِ فَيَركَبَ هَذِهِ المَوجَةَ التَّغرِيبِيَّة َ الخَطِيرَةَ ، وَيَنسَاقَ مَعَ هَذَا التَّيَّارِ الشَّهوَانيِّ الحَقِيرِ ، فَيَزعُمَ أَنَّ الحِسبَةَ مَقصُورَةٌ عَلَى مُوَظَّفِيهَا الرَّسمِيِّينَ ، وَأَنَّ مَن أَمَرَ مِن سَائِرِ المُجتَمَعِ بِمَعرُوفٍ أَو نَهَى عَن مُنكَرٍ ، أَو رَدَّ شَرًّا وَفَضَحَ مَكرًا ، فَهُوَ مُثِيرٌ لِلفِتنَةِ مُفتَاتٌ عَلَى وَليِّ الأَمرِ ، مُخَالِفٌ لأَوَامِرِهِ مُتَجَاوِزٌ لِمَا سَنَّهُ مِن أَنظِمَةٍ .
وَإِنَّهُ لَقُولٌ عَجِيبٌ وَرَأيٌ مُرِيبٌ ، بَل مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لأَمرِ مَن لا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى حَيثُ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ ، وَذَلِكَ أَضعَفُ الإِيمَانِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .


فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاحذَرُوا ، فَإِنَّ خَيرِيَّتَكُم مَشرُوطَةٌ بِبَقَاءِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِيكُم ، فَإِذَا مَا عُطِّلَت أَو أُهمِلَت فَلا خَيرِيَّةَ حِينَئِذٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ " فَمُرُوا بِالمَعرُوفِ بِالمَعرُوفِ ، وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ بِلا مُنكَرٍ ، وَتَدَرَّجُوا في الأَمرِ وَالنَّهيِ عَلَى حَسَبِ الاستِطَاعَةِ وَالقُدرَةِ ، وَاصبِرُوا عَلَى مَا أَصَابَكُم ، وَ" اجتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعضَ الظَّنِّ إِثمٌ " وَاحذَرُوا تَتَبُّعَ العَورَاتِ " وَلا تَجَسَّسُوا " وَأَخلِصُوا للهِ في النُّصحِ وَتَلَطَّفُوا بِالمُخطِئِينَ " مَعذِرَةً إِلى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ "

ناصرعبدالرحمن 05-04-2012 11:29 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

نعمة المطر بين الشكر والبطر 14 / 5 / 1433






الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في هَذِهِ الأَيَّامِ الرَّبِيعِيَّةِ الجَمِيلَةِ ، تَتَقَلَّبُ الأَبصَارُ يَمِينًا وَشِمَالاً ، وَتُرفَعُ الرُّؤُوسُ إِلى السَّمَاءِ ، وَتَتَّجِهُ العُيُونُ إِلى الآفَاقِ ، نَاظِرَةً إِلى البَرقِ ، رَاجِيَةً الغَيثَ ، مُتَوَقِّعَةً الخَيرَ ، وَلَرُبَّمَا حَرِصَ بَعضُ النَّاسِ عَلَى مُتَابَعَةِ مَوَاقِعَ إِخَبَارِيَّةٍ تَصِفُ حَالَةَ الجَوِّ وَتَهتَمُّ بِهِ ، عَلَّهَا تُبَشِّرُ بِفُرَصٍ لِنُزُولِ الغَيثِ هُنَا أَو هُنَاكَ ، وَتَرَى النَّاسَ في مَجَالِسِهِم وَأَسوَاقِهِم يَتَسَاءَلُونَ ، وَبِأَخبَارِ الغَيثِ يَتَبَاشَرُونَ ، وَحُقَّ لِخَلقِ اللهِ أَن يَفرَحُوا بِفَضلِ خَالِقِهِم وَيَستَبشِرُوا بِعَطَائِهِ مِن سَمَائِهِ ؛ لِمَا في ذَلِكَ العَطَاءِ المُبَارَكِ مِن حَيَاةِ أَرضِهِم وَنَمَاءِ زُرُوعِهِم ، وَشِبَعِ أَنعَامِهِم وَأَنفُسِهِم ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " اللهُ الَّذِي يُرسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبسُطُهُ في السَّمَاءِ كَيفَ يَشَاءُ وَيَجعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدقَ يَخرُجُ مِن خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ إِذَا هُم يَستَبشِرُونَ . وَإِن كَانُوا مِن قَبلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيهِم مِن قَبلِهِ لَمُبلِسِينَ . فَانظُرْ إِلى آثَارِ رَحمَةِ اللهِ كَيفَ يُحيِي الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحيِي المَوتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " أَوَلم يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلى الأَرضِ الجُرُزِ فَنُخرِجُ بِهِ زَرعًا تَأكُلُ مِنهُ أَنعَامُهُم وَأَنفُسُهُم أَفَلا يُبصِرُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ القَحطَ الَّذِي تُصَابُ بِهِ الدِّيَارُ ، وَغَورَ المِيَاهِ في الآبَارِ ، وَتَبَدُّلَ الصَّفَاءِ بِالكَدَرِ وَالغُبَارِ ، إِنَّهُ لأَثَرٌ مِن آثَارِ البُعدِ عَنِ اللهِ ، وَنَتِيجَةٌ حَتمِيَّةٌ مِن نَتَائِجِ الاعوِجَاجِ عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، وَإِنَّ اللهَ الَّذِي لا يُنَزِّلُ الغَيثَ إِلاَّ هُوَ ، وَلا يَعلَمُ وَقتَ نُزُولِهِ غَيرُهُ ، وَلا يَقدِرُ عَلَى المَجِيءِ بِالماءِ بَعدَ ذَهَابِهِ سِوَاهُ ، هُوَ الَّذِي قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَلَّوِ استَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسقَينَاهُم مَاءً غَدَقًا لِنَفتِنَهُم فِيهِ . وَمَن يُعرِضْ عَن ذِكرِ رَبِّهِ يَسلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا "
إِنَّهَا حَقِيقَةٌ أَزَلِيَّةٌ بَاقِيَةٌ ، تَختَصِرُ عَلَى الإِنسَانِ طُرُقَ التَّفكِيرِ في أَسبَابِ نَزعِ الخَيرَاتِ ، وَتُرِيحُهُ مِن عَنَاءِ البَحثِ في أُصُولِ قِلَّةِ البَرَكَاتِ ، وَتُبَيِّنُ لَهُ سُبُلَ تَحصِيلِ مَا عِندَ اللهِ مِنَ الرِّزقِ وَالعَطَاءِ ، فَالإِنسَانُ جُزءٌ مِن هَذَا الكَونِ ، وَالكَونُ كُلُّهُ بما فِيهِ تَحتَ قَبضَةِ الخَالِقِ ـ سُبحَانَهُ ـ مَا شَاءَ مِن شَيءٍ كَانَ ، وَمَا لم يَشَأْهُ لم يَكُنْ ، وَهُوَ ـ تَعَالى ـ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ، لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ ، وَلا مَانِعَ لِمَا أَعطَى وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعَ ، وَلا يَنفَعُ أَحَدًا عَطَاءٌ دُونَ عَطَائِهِ .
إِنَّ هَذَا التَّصَوُّرَ بَل هَذِهِ العَقِيدَةَ ، يَجِبُ أَن تَكُونَ هِيَ المُسَيِّرَةَ لِحَيَاةِ المُؤمِنِ ، المُحَدِّدَةَ لِسُلُوكِهِ وَمَا يَجِبُ عَلَيهِ أَن يَفعَلَهُ ، إِذَا هُوَ أَرَادَ أَن يُغدِقَ رَبُّهُ عَلَيهِ مِن فَضلِهِ وَيُوَسِّعَ لَهُ العَطَاءَ مِن عِندِهِ ، فَلا طَرِيقَ لِلرَّخَاءِ إِلاَّ الاستِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقَةِ الوَاحِدَةِ ، إِنَّهَا طَرِيقَةُ الإِسلامِ وَمَنهَجُ الإِيمَانِ ، الَّتي لا صِلَةَ بِاللهِ إِلاَّ لِمَن سَلَكَهَا ، وَلا رَخَاءَ إِلاَّ لِمَنِ استَقَامَ عَلَيهَا ، وَلا سَعَادَةَ وَلا هُدَى إِلاَّ لِمَنِ اتَّبَعَهَا ، وَأَمَّا مَن أَعرَضَ عَنهَا أَو تَجَاهَلَهَا " فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا " وَمَا سَعيُهُ إِلاَّ في ضَلالٍ وَشَقَاءٍ .
وَهَكَذَا يَعِيشُ الإِنسَانُ في شَظَفٍ وَضِيقٍ وَيَأسٍ وَقُنُوطٍ ، حَتى يَستَقِيمَ عَلَى الطَّرِيقَةِ المُثلَى وَيَلزَمَ المَنهَجَ الرَّبَّانيَّ العَظِيمَ ، فَتُفتَحَ لَهُ إِذْ ذَاكَ أَبوَابُ السَّمَاءِ ، وَتَتَدَفَّقَ مِنهَا الأَرزَاقُ إِلى الأَرضِ ، وَيَنشُرَ الوَليُّ رَحمَتَهُ ، فَإِذَا زَاغَ ذَلِكَ الإِنسَانُ عَنِ الطَّرِيقَةِ وَرَاغَ عَنِ المَنهَجِ ، استُلِبَتِ الخَيرَاتُ مِنهُ استِلابًا ، وَعَادَ في النَّكَدِ وَالشَّظَفِ وَفَسَادِ المَعَايِشِ ، حَتى يَفِيءَ إِلى الطَّرِيقَةِ مَرَّةً أُخرَى ، فَيَتَحَقَّقَ فِيهِ وَعدُ اللهِ .


وَإِذَا كَانَت هُنَالِكَ أُمَمٌ لا تَستَقِيمُ عَلَى طَرِيقَةِ اللهِ وَلا تَسِيرُ عَلَى مَنهَج ِاللهِ ، وَمَعَ هَذَا تَنَالُ الوَفرَ وَتُحَصِّلُ الغِنى ، فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ لِمُسلِمٍ جَاءَهُ خَبرُ رَبِّهِ أَن يَتَجَاهَلَهُ وَيُصَدِّقَ مَا تَرَى عَينُهُ ، ظَانًّا أَنَّهُ بَلَغَ بِعَقلِهِ الصَّغِيرِ المَحدُودِ مُنتَهَى الحَقِيقَةِ ، لا وَاللهِ ، بَل يَجِبُ عَلَيهِ أَن يَعلَمَ أَنَّ تِلكَ الأُمَمَ الَّتي عَصَتِ اللهَ وَخَرَجَت عَنِ المَنهَجِ وَخَالَفَتِ الطَّرِيقَةَ ، لا يَنفَعُهَا أَن تُغدَقَ عَلَيهَا الأَرزَاقُ في الظَّاهِرِ المُشَاهَدِ ، إِذْ هِيَ في الحَقِيقَةِ تُبتَلَى بما تُعطَى وَهِيَ غَافِلَةٌ ، وَتُفتَنُ بما يُفتَحُ عَلَيهَا وَهِيَ عَاصِيَةٌ ، وَتُستَدرَجُ مِن حَيثُ لا تَعلَمُ وَيُملَى لها ، وَكَمَا قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَذَرْهُم في غَمرَتِهِم حَتَّى حِينٍ . أَيَحسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُم في الخَيرَاتِ بَل لا يَشعُرُونَ "
وَمَن تَفَكَّرَ في حَالِ تِلكَ الأُمَمِ وَتَأَمَّلَ وَاقِعَهَا ، وَجَدَ أَنَّهَا مَعَ مَا تَنعَمُ فِيهِ مِن مِيَاهٍ جَارِيَةٍ وَخُضرَةٍ نَضِرَةٍ ، إِلاَّ أَنَّهَا تَتَقَلَّبُ في آفَاتٍ وَمَصَائِبَ وَشُرُورٍ ، في مَنَاهِجِهَا وَتَنَاوُلِهَا لِلأُمُورِ وَفَهمِهَا لِلحَيَاةِ ، وَفي أَخذِهَا مَعَ الآخَرِينَ وَعَطَائِهَا ، فَلا قِيمَةَ لِلإِنسَانِ لَدَيهَا وَلا كَرَامَةَ لَهُ فِيهَا ، وَلا دِينَ لَدَى أَفرَادِهَا يَردَعُ ، وَلا أَخلاقَ في جَمَاعَتِهَا تَمنَعُ ، وَلا أَمنَ في رُبُوعِهَا وَإِن عَظُمَت جُيُوشُهَا ، وَلا استِقرَارَ وَإِن تَنَوَّعَت آلاتُهَا ، وَلا طُمَأنِينَةَ وَإِن هِيَ تَقَلَّبَت في حَضَارَةٍ بَاهِرَةٍ ، بَل هُوَ البَطَرُ وَالأَشَرُ وَقِلَّةُ الشُّكرِ ، وَالكُفرُ وَالطُّغيَانُ وَالجَورُ ، وَالتَّطَاوُلُ بِالقُوَّةِ عَلَى الضُّعَفَاءِ ، وَالتَّهَجُّمُ عَلَى حُرُمَاتِ اللهِ .
وَدُونَكُم مَا تَعِيشُهُ هَذِهِ الدُّوَلُ المُسَمَّاةُ بِالعُظمَى ـ لا عَظَّمَهَا اللهُ ـ مِن خُيَلاءَ وَتِيهٍ وَتَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ ، وَمَا تَتَرَدَّى فِيهِ مِن دَرَكَاتِ الظُّلمِ وَالإِثمِ وَالغِوَايَةِ وَالغُرُورِ ، وَالاستِخفَافِ بِالمُستَضعَفِي نَ وَنَسفِ القِيَمِ وَاختِلالِ المَوَازِينِ ، وَجَعلِ العَالَمِ مَرتَعًا لِلإِفسَادِ وَالقَتلِ وَالتَّعذِيبِ وَالتَّشرِيدِ ، وَإِيذَاءِ عِبَادِ اللهِ في أَرضِ اللهِ ، فَأَينَ هُوَ الخِصبُ وَالرَّخَاءُ ؟ وَمَا قِيمَةُ الغَدَقِ وَالغِنى ؟ وَأَيَّ شَيءٍ يُغني نَعِيمُ الدُّنيَا عَمَّن مَآلُهُ إِلى عَذَابِ الآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى مَا أَسَاءَ وَظَلَمَ ؟!
وَصَدَقَ اللهُ القَائِلُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَفَرَأَيتَ إِن مَتَّعنَاهُم سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُم مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغنَى عَنهُم مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ "
وَالقَائِلُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَو كَانُوا مُسلِمِينَ . ذَرْهُم يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوفَ يَعلَمُونَ "
وَمَن كَانَتِ النَّارُ مَآلَهُ ، فَمَا أَغنى عَنهُ غِنَاهُ وَلا مَالُهُ ، وَمَن فَازَ بِالجَنَّةِ وَالفِردَوسِ ، فَلا عَلَيهِ مَا مَرَّ بِهِ مِن عَنَاءٍ وَبُؤسٍ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يُؤتَى بِأَنعَمِ أَهلِ الدُّنيَا مِن أَهلِ النَّارِ فَيُصبَغُ في النَّارِ صَبغَةً ثم يُقَالُ لَهُ : يَا بنَ آدَمَ ، هَل رَأَيتَ خَيرًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبَّ . وَيُؤتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤسًا في الدُّنيَا مِن أَهلِ الجَنَّةِ فَيُصبَغُ صَبغَةً في الجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ : يَا بنَ آدَمَ ، هَل رَأَيتَ بُؤسًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ مِن شِدَّةٍ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بي بُؤسٌ قَطَّ وَلا رَأَيتُ شِدَّةً قَطُّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .


أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلا تَنظُرُوا نَظَرَ المُبلِسِينَ إِلى الآفَاقِ ، وَتَعَلَّقُوا بِاللهِ الخَلاَّقِ الرَّزَّاقِ ، فَإِنَّ لَهُ في بَسطِ الرِّزقِ وَتَضيِيقِهِ حِكَمًا " وَلَو بَسَطَ اللهُ الرِّزقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا في الأَرضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ . وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحمَتَهُ وَهُوَ الوَليُّ الحَمِيدُ "






الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لا سَبِيلَ لِزِيَادَةِ الرِّزقِ وَتَنَزُّلِ البَرَكَةِ غَيرُ الشُّكرِ وَتَقوَى اللهِ وَالاستِقَامَةِ ، وَلا مَحقَ لِلبَرَكَةِ وَلا فَسَادَ لِلمَعِيشَةِ إِلاَّ بِالكُفرِ وَالعِصيَانِ وَالطُّغيَانِ ، وَاللهُ ـ تَعَالى ـ يَقُولُ وَهُوَ الصَّادِقُ في قَولِهِ : " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم "
وَيَقُولُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ "
وَيَقُولُ ـ تَعَالى ـ : " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ "
وَيَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَو أَنَّ أَهلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوا لَكَفَّرنَا عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلأَدخَلنَاهُم جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَو أَنَّهُم أَقَامُوا التَّورَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِن رَبِّهِم لأَكَلُوا مِن فَوقِهِم وَمِن تَحتِ أَرجُلِهِم مِنهُم أُمَّةٌ مُقتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنهُم سَاءَ مَا يَعمَلُونَ " وَيَقُولُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بما كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ "
وَيَقُولُ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ "


وَأَمَّا تَصرِيفُ المَطَرِ وَتَفَاوُتُ نَصِيبِ الأَرضِ مِنهُ مِن مَكَانٍ لآخَرَ ، وَإِعطَاءُ اللهِ لأُنَاسٍ وَحِرمَانُ آخَرِينَ ، فَإِنَّمَا هُوَ بِأَمرِهِ وَحِكمَتِهِ ، وَكُلٌّ مُبتَلَى ، وَوَاجِبُ المُؤمِنِ أَن يَكُونَ مِنَ القَلِيلِ الشَّاكِرِينَ المُتَذَكِّرِين َ ، لا أَن يَغتَرَّ وَيَسلُكَ سَبِيلَ الكَافِرِينَ المُغتَرِّينَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَهُوَ الَّذِي أَرسَلَ الرِّيَاحَ بُشرًى بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا . لِنُحيِيَ بِهِ بَلدَةً مَيتًا وَنُسقِيَهُ مِمَّا خَلَقنَا أَنعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا . وَلَقَد صَرَّفنَاهُ بَينَهُم لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا "

ناصرعبدالرحمن 12-04-2012 08:31 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
على ضفاف العفاف 21 / 5 / 1433


الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " إِنَّ لِلمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتِ النَّعِيمِ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، نَستَأذِنُكُمُ اليَومَ لِنُوَجِّهَ الحَدِيثَ
لِقُلُوبٍ تَمَلَّكَهَا الحُبُّ وَالهَوَى ، وَاستَولى عَلَيهَا الوِدُّ وَالجَوَى، فَرَفرَفَت بِهِ أَجنِحَتُهَا ، وَتَرَدَّدَ صَوتُهُ في جَوَانِحِهَا ، إِنَّهَا قُلُوبٌ تُحِبُّ وَتُحَبُّ ، وَقَد تَعشِقُ وَتُعشَقُ ، فَتَهِيمُ وَتُتَيَّمُ وَيَصعُبُ رَدُّهَا لِعَافِيَتِهَا ، إِنَّهُم شَبَابٌ عُزَّابٌ ، قُدِّرَ لهمُ العَيشُ في زَمَنٍ خَلَت فِيهِ الأَيدِي مِن ثَقِيلِ الأَعمَالِ وَشَاقِّ الأَشغَالِ ، فَتَفَرَّغَتِ القُلُوبُ وَالعُقُولُ لِلتَّفكِيرِ فِيمَا تُحَصَّلُ بِهِ الشَّهَوَاتُ ، وَالبَحثِ عَمَّا تُنَالُ بِهِ الأَوطَارُ وَالرَّغَبَاتُ ، وَمَالها لا تَفعَلُ وَقَدِ انفَتَحَت عَلَيهَا الأَبوَابُ وَحَاصَرَتهَا جُيُوشُ الخَرَابِ ، وَصَارَت تَرَى مَشَاهِدَ الرَّذِيلَةِ وَصُوَرَ العُهرِ في قَنَوَاتٍ وَجَوَّالاتٍ وَشَبَكَاتٍ ، لا يَحُولُ بَينَهَا وَبَينَ ذَلِكَ حَائِلٌ ، وَلا يَردَعُهَا عَنهُ رَادِعٌ . فَرُحمَاكَ اللَّهُمَّ رُحمَاكَ .

أَيُّهَا الشَّبَابُ الحَالِمُونَ ، إِنَّ الحَقِيقَةَ أَكبَرُ ممَّا بِهِ
تَحلُمُونَ ، وَالأَمرَ أَعظَمُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ ، وَالدُّنيَا بِشَهَوَاتِهَا وَملَذَّاتِهَا ، لَيسَت هِيَ الغَايَةَ وَلا مُنتَهَى الآمَالِ ، وَلَكِنَّهَا قَصِيرَةٌ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةٌ ، لا تُسَاوِي عِندَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، وَأَنتُم عَنهَا رَاحِلُونَ ، وَإِلى رَبِّكُم رَاجِعُونَ ، وَبِأَعمَالِكُم مَجزِيُّونَ ، وَعَلَى مَا قَدَّمتُم مُحَاسَبُونَ ، وَالمَصِيرُ إِمَّا إِلى جَنَّةِ المَأوَى وَإِمَّا إِلى نَارٍ تَلَظَّى " فَأَمَّا مَن طَغَى . وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنيَا . فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَى . وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى . فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى "

أَيُّهَا الشَّبَابُ ، مَهمَا تَلَفَّتَ أَصحَابُكُم يَمِينًا وَشِمَالاً ،
وَأَغرَتهُم فُتُوَّتُهُم أَو غَرَّهُم رَونَقُ الشَّبَابِ ، فَتَمَرَّدُوا وَتَهَوَّرُوا ، وَلَعِبُوا وَطَرِبُوا ، فَإِنَّ صِفَةَ العَفَافِ هِيَ خَيرُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الشَّابُّ المُسلِمُ في حَيَاتِهِ ، لِيَفُوزَ بِرِضَا رَبِّهِ بَعدَ مَمَاتِهِ ، وَمِنَ السَّبعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " شَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللهِ " وَ" رَجُلٌ دَعَتهُ امرَأَةٌ ذَاتُ مَنصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِني أَخَافُ اللهَ "
العَفَافُ
أَوِ العِفَّةُ ـ مَعشَرَ الشَّبَابِ ـ سِيمَا الأَنبِيَاءِ وَحِليَةُ العُلَمَاءِ، وَتَاجُ العُبَّادِ وَالأَولِيَاءِ ، العَفَافُ سُلطَانٌ مِن غَيرِ تَاجٍ ، وَغِنىً مِن غَيرِ مَالٍ ، وَقُوَّةٌ مِن غَيرِ بَطشٍ ، العَفَافُ خُلُقٌ كَرِيمٌ وَوَصفٌ زَكِيٌّ ، يَنبُتُ في رَوضِ الإِيمَانِ وَيُسقَى بِمَاءِ الحَيَاءِ ، جُذُورُهُ الإِيمَانُ وَالتَّقوَى ، وَثَمَرَتُهُ نُورٌ في الوُجُوهِ وَصَفَاءٌ لِلقُلُوبِ ، وَانشِرَاحٌ في الصُّدُورِ وَطُمَأنِينَةٌ لِلنُّفُوسِ ، هُوَ عُنوَانُ الأُسَرِ الكَرِيمَةِ ، وَرَمزُ المُجتَمَعَاتِ الطَّاهِرَةِ ، إِنَّهُ سُمُوُّ النَّفسِ عَلَى الشَّهَوَاتِ الدَّنِيئَةِ ، وَتَرَفُّعُ الهِمَّةِ عَمَّا لا يَلِيقُ ، صَاحِبُهُ لَيسَ بِالهَلُوعِ وَلا بِالجَزُوعِ ، وَلَكِنَّهُ مُؤمِنٌ شُجَاعٌ مُفلِحٌ ، دَاخِلٌ فِيمَن وَصَفَهُمُ اللهُ فَقَالَ : " وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ " ثم وَعَدَهُم بِأَغلَى مَا يُنَالُ فَقَالَ : " أُولَئِكَ في جَنَّاتٍ مُكرَمُونَ " " أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَالِدُونَ " وَلَولا أَنَّهُم دَخَلُوا جَنَّةَ العَفَافِ في الدُّنيَا وَأَكرَمُوا أَنفُسَهُم عَنِ الدَّنَايَا ، لما أَكرَمَهُمُ اللهُ في الآخِرَةِ بِأَعلَى الدَّرَجَاتِ وَلما وَهَبَهُم أَحسَنَ العَطَايَا ، وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ لَمَّا ذَكَرَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَهلَ الجَنَّةِ قَالَ : " وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ " وَعِندَ البُخَارِيِّ وَغَيرِهِ : " مَن يَضمَنْ لي مَا بَينَ لَحيَيهِ وَمَا بَينَ رِجلَيهِ أَضمَنْ لَهُ الجَنَّةَ " وَعِندَ الإِمَامِ أَحمَدَ وَغَيرِهِ : " اِضمَنُوا لي سِتًّا أَضمَنْ لَكُمُ الجَنَّةَ : اُصدُقُوا إِذَا حَدَّثتُم ، وَأَوفُوا إِذَا وَعَدتُم ، وَأدُّوا إِذَا ائتُمِنتُم ، وَاحفَظُوا فُرُوجَكُم ، وغُضُّوا أَبصَارَكُم ، وكُفُّوا أَيدِيَكُم " حَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا الشَّبَابُ ، إِنَّهُ وَإِنْ
تَهَيَّأَت في زَمَانِنَا فُرَصٌ أَو تَيَسَّرَت أَسبَابٌ لِمُمَارَسَةِ الرَّذِيلَةِ ، فَإِنَّهَا لَيسَت لَكُم وَحدَكُم ، وَلم تَكُنْ وَلِيدَةَ هَذَا الزَّمَانِ فَحَسبُ ، فَقَد تَهَيَّأَت لِغَيرِكُم ممَّن كَانَ قَبلَكُم ، وَفُتِحَت الأَبوَابُ عَلَى مَصَارِيعِهَا لِبَعضِ سَلَفِكُم ، فَتَرَكُوا مُوَاقَعَةَ الشَّهَوَاتِ للهِ ، إِيمَانًا بِوَعدِهِ وَخَوفًا مِن وَعِيدِهِ ، فَأَعلَى اللهُ ذِكرَهُم وَرَفَعَهُم دَرَجَاتٍ وَأَكرَمَهُم ، أَلم تَقرَؤُوا مَوقِفَ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمِ ، يُوسُفُ بنُ يَعقُوبَ بنِ إِبرَاهِيمَ ـ عَلَيهِمُ السَّلامُ ـ ذَلِكُمُ النَّبيُّ الَّذِي أُوتي مِنَ الحُسنِ وَالجَمَالِ مَا يَزِنُ نِصفَ جَمَالِ العَالَمِينَ ، وَحِينَ ابتُلِيَ بما ابتُلِيَ بِهِ وَهُوَ فَتىً قَد نَأَت بِهِ الدَّارُ وَفَارَقَ الأَهلَ وَالوَطَنَ، وَكَانَ عِندَ امرَأَةِ العَزِيزِ ، فَرَاوَدَتهُ عَن نَفسِهِ " وَغَلَّقَتِ الأَبوَابَ وَقَالَت هَيتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحسَنَ مَثوَايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظَّالِمُونَ " مَعَاذَ اللهِ ، مَا أَعظَمَهَا مِن كَلِمَةٍ في مَوقِفٍ عَصِيبٍ ، لم يَكُنْ ثَمَنُهَا أَنْ فَاتَتهُ شَهوَةٌ فَحَسبُ، وَلَكِنَّ ثَمَنَهَا كَانَ غَالِيًا ، وَعِيدٌ وَتَهدِيدٌ ، وَسَجنٌ وَتَقيِيدٌ ، وَلَكِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ ، إِذْ تَجَاوَزَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ المِحنَةَ ، ثم آتَاهُ اللهُ المُلكَ وَعَلَّمَهُ مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ ، وَجَعَلَهُ مِن عِبَادِهِ المُخلَصِينَ ، في قِصَّةٍ عَظِيمَةٍ لِفَتىً كَرِيمٍ تَرَكَ شَهوَتَهُ خَوفًا مِن رَبِّهِ وَاتِّقَاءً لِغَضَبِهِ ، فَكَانَتِ العَاقِبَةُ أَن أَغنَاهُ اللهُ وَأَنَارَ قَلبَهُ وَأَضَاءَ بَصِيرَتَهُ ، وَعَوَّضَهُ العِلمَ وَالفِرَاسَةَ وَالتَّوفِيقَ .
وَمَا يَزَالُ الفَضلُ مِنَ اللهِ ـ
سُبحَانَهُ ـ عَلَى أَهلِ العَفَافِ مُستَمِرًّا " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُم خَيرُ البَرِيَّةِ . جَزَاؤُهُم عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتُ عَدنٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ " نَعَم " ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلِمَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ " نَعَم "جَنَّتَانِ " وَفي هَاتَينِ الجَنَّتَينِ " قَاصِرَاتُ الطَّرفِ " ممَّن " كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ وَالمَرجَانُ " وَفِيهِنَّ " خَيرَاتٌ حِسَانٌ " وُصِفنَ بِأَنَّهُنَّ " حُورٌ مَقصُورَاتٌ في الخِيَامِ " " لم يَطمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبلَهُم وَلا جَانٌّ " هَذَا جَزَاءُ اللهِ لأَهلِ الإِيمَانِ، عَفُّوا في الدُّنيَا عَنِ النِّسَاءِ الفَاتِنَاتِ وَالغَانِيَاتِ ، فَجُزُوا في الآخِرَةِ بِنِسَاءٍ عَفِيفَاتٍ طَاهِرَاتٍ مُطَهَّرَاتٍ جَمِيلاتٍ ، وَهَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانُ ؟!

أَيُّهَا الشَّبَابُ ، أَلم تَقرَؤُوا في
صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحمَنِ قَولَ الرَّحمَنِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزنُونَ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ وَيَخلُدْ فِيهِ مُهَانًا " إِنْ لم تَكُونُوا قَرَأتُم هَذِهِ الآيَةَ أَو كَانَ عَهدُكُم بها بَعِيدًا فَاسمَعُوهَا مَرَّةً أُخرَى وَعُوهَا ، يَقُولُ رَبُّكُم ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلا يَزنُونَ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ وَيَخلُدْ فِيهِ مُهَانًا " هَل تَأَمَّلتُم وَتَدَبَّرتُم ؟!
لَقَد قَرَنَ الرَّحمَنُ بَينَ الشِّركِ وَقَتلِ النَّفسِ وَالزِّنَا ،
فَنَفَاهَا جَمِيعًا عَن عِبَادِهِ ، ثم بَيَّنَ جَزَاءَ مَن فَعَلَهَا ، حَيثُ يُضَاعَفُ لَهُ العَذَابُ وَيَخلُدُ في المَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ وَالحَقَارَةِ ، وَقَد بَيَّنَ الرَّحِيمُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ طَرَفًا مِن ذَلِكَ العَذَابِ المُهِينِ لِمَن هَتَكَ سِترَ العَفَافِ وَوَقَعَ في الزِّنَا ، فَعَن سَمُرَةَ بنِ جُندُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " إِنَّهُ أَتَاني اللَّيلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا ابتَعَثَاني ، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لي انطَلِقْ ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا ..." فَذَكَرَ الحَدِيثَ إِلى أَن قَالَ : " فَانطَلَقنَا فَأَتَينَا عَلَى مِثلِ التَّنُّورِ " قَالَ : فَأَحسَبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصوَاتٌ " قَالَ : " فَاطَّلَعنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ وَإِذَا هُم يَأتِيهِم لَهَبٌ مِن أَسفَلَ مِنهُم ، فَإِذَا أَتَاهُم ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوضَوا " الحَدِيثَ ... وَفي آخِرِهِ قَالَ : " وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ العُرَاةُ الَّذِينَ في مِثلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَاني " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . فَتَبًّا لِمَن لم يَصبِرْ وَيَتَعَفَّفْ ! وَيَا لَخَسَارَةِ مَن لم يَضبِطْ نَفسَهُ وَيَلزَمِ الحُدُودَ الَّتي شَرَعَها اللهُ لَهُ ، مُتَذَرِّعًا بِغَلَبَةِ الشَّهوَةِ ، أَو مُنسَاقًا وَرَاءَ اللَّذَّةِ ، أَو مُتَأَثِّرًا بِعَالَمِ الانفِتَاحِ عَلَى الرَّذِيلَةِ وَالتَّحلُّلِ مِنَ الفَضِيلَةِ !!

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ مَعَشرَ
الشَّبَابِ ـ وَاحذَرُوا مَا يُحَارَبُ بِهِ جَانِبُ العَفَافِ وَالفَضِيلَةِ ، أَو مَا يُحَاوَلُ أَن يُكسَرَ بِهِ حَاجِزُ الحَيَاءِ وَتُنبَذَ بِهِ الحِشمَةُ ، مِن دَعَوَاتِ السُّفُورِ وَالاختِلاطِ في المَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ ، أَو تَسهِيلِ لِقَاءِ الجِنسَينِ في الأَعمَالِ وَالأَسوَاقِ وَالمُؤَتَمَرَا تِ ، أَوِ المَجَالِسِ الثَّقَافِيَّةِ المَزعُومَةِ وَالمُنَتَدَيَا تِ ، أَو مُشَارَكَةِ النِّسَاءِ في الأَلعَابِ وَالمُسَابَقَات ِ ، أَو مَا يُتَنَاقَلُ مِن مَقَاطِعِ العُرِيِّ الفَاضِحَةِ وَمَشَاهِدِ الرَّذِيلَةِ في الجَوَّالاتِ وَالشَّبَكَاتِ ، فَإِنَّ الحَيَاةَ الطَّاهِرَةَ تَحتَاجُ إِلى عَزَائِمِ الأَخيَارِ ، وَأَمَّا عِيشَةُ الرَّذِيلَةِ فَطَرِيقُهَا التَّسَاهُلُ وَالانحِدَارُ ، وَإِنَّهُ لَو لم يَكُنْ ذَلِكُمُ العَذَابُ المُضَاعَفُ هُوَ جَزَاءَ مَن خَرَجُوا مِن حِصنِ العَفَافِ وَتَجَاوَزُوا سِيَاجَ الفَضِيلَةِ ، لَكَانَتِ الأَمرَاضُ الوَبَائِيَّةُ الفَتَّاكَةُ الَّتي يُبلَى بها الزُّنَاةُ كَافِيةً لِرَدعِ نُفُوسِ العُقَلاءِ عَنِ الانسِيَاقِ وَرَاءَ الشَّهَوَاتِ النَّتِنَةِ ، وَمَنعِهِم مِن خَوضِ مُستَنقَعِ اللَّذَّاتِ الآسِنَةِ .
فَاتَّقُوا اللهَ وَاحذَرُوا " وَلا تَقرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ
فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً "

الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَيَا مَعشَرَ الشَّبَابِ اتَّقُوا اللهَ ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِن أَعظَمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ إِقَامَةَ المُجتَمَعِ الطَّاهِرِ النَّظِيفِ ، المَحُوطِ بِالخُلُقِ الرَّفِيعِ ، وَالمُبَطَّنِ بِالعِفَّةِ وَالحِشمَةِ ، إِنَّهُ المُجتَمَعُ الَّذِي تُحفَظُ فِيهِ الفُرُوجُ ، وَلا تُطلَقُ فِيهِ الأَبصَارُ ، ولا يُسمَحُ فِيهِ بِالاختِلاطِ ، وَلا يُلقَى فِيهِ الحِجَابُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " قُلْ
لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما يَصنَعُونَ . وَقُلْ لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضْنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ "

أَيُّهَا الشَّبَابُ ، إِنَّ الَّذِي
خَلَقَ الإِنسَانَ وَطَبَعَهُ عَلَى هَذِهِ الغَرِيزَةِ الجِنسِيَّةِ ، وَجَعَلَهَا تَجرِي في الدَّمِ وَيَتَحَرَّكُ بها القَلبُ ، لم يَخلُقْهَا لِيَكُونَ ذَلِكُمُ الإِنسَانُ كَالبَهِيمَةِ العَجمَاءِ ، مَشغُولاً بِقَضَاءِ وَطَرِهِ وَإِطفَاءِ لَهِيبِ شَهوَتِهِ وَإِشبَاعِ غَرِيزَتِهِ فَحَسبُ ، أَو لِتَكُونَ هِي هَمَّهُ الَّذِي عَلَيهِ يُمسِي وَيُصبِحُ ، أَو غَايَتَهُ الَّتي مِن أَجلِهَا يَعدُو وَيَلهَثُ ، أَو هَدَفَهُ الِّذِي إِلَيهِ يَسعَى وَفِيهِ يُفَكِّرُ ، وَعَنهُ يَكتُبُ وَيَتَحَدَّثُ ، لا وَاللهِ ، وَإِنَّمَا خَلَقَهَا ـ تَعَالى ـ بِأَمرِهِ وَعِلمِهِ وَحِكمَتِهِ ، اِبتِلاءً لِخَلقِهِ ، وَلِيَبقَى الجِنسُ البَشَرِيُّ يَعمُرُ الأَرضَ وَيُقِيمُ عِبَادَةَ رَبِّهِ . وَلأَنَّ الإِسلامَ هُوَ دِينُ الوَسَطِ البَعِيدُ عَنِ الغُلُوِّ وَالشَّطَطِ ، فَإِنَّهُ لم يَتَجَاهَلْ هَذِهِ الغَرِيزَةَ وَيَأمُرِ النَّاسَ بِالرَّهبَانِيّ َةِ وَالانقِطَاعِ التَّامِّ عَن تَحصِيلِ شَهَوَاتِهِم وَنَيلِ لَذَّاتِهِم ، وَلم يَفتَحِ البَابَ فِيهَا عَلَى مِصرَاعَيهِ لِتَكُونَ حَيَاةُ النَّاسِ إِبَاحِيَّةً مَرِيجَةً ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الحُمُرِ في الخَلاءِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لِذَلِكَ شَاطِئًا آمِنًا ، بَعِيدًا عَن أَموَاجِ الشَّهَوَاتِ العَارِمَةِ وَأَعَاصِيرِ الرَّغَبَاتِ الجَامِحَةِ ، إِنَّهُ الزَّوَاجُ ، شَاطِئُ الأَمَانِ لِحَيَاةِ العَفَافِ ، تِلكَ الحَيَاةُ الطَّاهِرَةُ النَّقِيَّةُ ، الَّتي يَعِيشُهَا المُسلِمُ صَابِرًا مُحتَسِبًا ، غَاضًّا بَصرَهُ حَافِظًا لِفَرجِهِ ، حَتى يَأوِيَ إِلى ذَلِكَ الشَّاطِئِ النَّظِيفِ فَيَنقَى وَيَغنى ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلْيَستَعفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغنِيَهُم اللهُ مِن فَضلِهِ "
وَفي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ ،
قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " يَا مَعشَرَ الشَّبَابِ ، مَنِ استَطَاعَ مِنكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ وَأَحصَنُ لِلفَرجِ ، وَمَن لم يَستَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّومِ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ "
نَعَم ـ مَعشَرَ الشَّبَابِ ـ لَيسَت مُهِمَّةُ الشَّابِّ المُسلِمِ أَن
يَبحَثَ عَنِ الشَّهوَةِ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَيَسلُكَ لها كُلَّ سَبِيلٍ ، لا وَاللهِ، وَإِنَّمَا وَاجِبُهُ العَفَافُ وَحِفظُ نَفسِهِ ، وَلْيُبشِرْ بَعدَ ذَلِكَ بِالخَيرِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ " وَمَن يَستَعفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ "
وَقَالَ : " اِحفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ
"
نَعَم ، مَنِ استَغَفَّ أَعَفَّهُ اللهُ ،
وَمَن حَفِظَ اللهَ في أَعرَاضِ المُسلِمِينَ حَفِظَ اللهُ عِرضَهُ ، ذَلِكُم أَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ ، وَاللهُ ـ تَعَالى ـ يَغَارُ عَلَى مَحَارِمِهِ ، وَمَن جَعَلَ مَحَارِمَ النَّاسِ هَدَفًا لِنَزَوَاتِهِ وَمَرتَعًا لِشَهَوَاتِهِ ، فَلا يَأمَنَنَّ بَعدُ عَلَى أُمِّهِ أَوِ ابنَتِهِ أَو أُختِهِ أَن يَعتَدِيَ أَحَدٌ عَلَى عِرضِ أَيِّهِنَّ ، فَاحفَظُوا فُرُوجَكُم ، وَعُفُّوا تَعُفَّ نِسَاؤُكُم . وَاتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي " يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعيُنِ وَمَا تُخفِي الصُّدُورُ " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنى .

ناصرعبدالرحمن 20-04-2012 09:10 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

وشر السير الحقحقة 28 / 5 / 1433






الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " قُلْ لا يَستَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَو أَعجَبَكَ كَثرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولي الأَلبَابِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، أُمَّتُكُم هَذِهِ أُمَّةٌ وَسَطٌ ، وَصَفَهَا رَبُّهَا ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ بِقَولِهِ : " وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا "
وَالوَسَطِيَّةُ ـ كَمَا فَسَّرَهَا كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ـ تَعني العَدَالَةَ ، وَأَمَّا الوَسَطُ في كَلامِ العَرَبِ فَهُمُ الخِيَارُ ، يُقَالُ : فُلانٌ وَسَطُ الحَسَبِ في قَومِهِ ، أَيْ : رَفِيعٌ في حَسَبِهِ .
وَحَتى وَإِنْ فُهِمَ مِنَ الوَسَطِيَّةِ أَنَّهَا الجُزءُ الَّذِي بَينَ طَرَفَينِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَعني كَونَهَا وَسَطًا بَينَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ، لا وَاللهِ ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهَا حَقٌّ بَينَ بَاطِلَينِ ، بَينَ غُلُوٍّ وَجَفَاءٍ وَإِفرَاطٍ وَتَفرِيطٍ ، وَمِن ثَمَّ فَقَد وُصِفَتِ الأُمَّةُ بِأَنَّهَا وَسَطٌ لِتَوَسُّطِهِم في الدِّينِ ، فَلا هُم أَهلُ غُلُوٍّ كَغُلُوِّ النَّصَارَى وَرَهبَنَتِهِم وَقَولِهِم في عِيسَى مَا قَالُوا ، وَلا هُم أَهلُ تَقصِيرٍ كَتَقصِيرِ اليَهُودِ الَّذِينَ حَرَّفُوا الكُتُبَ وَبَدَّلُوا الأَحكَامَ وَتَحَايَلُوا عَلَيهَا ، وَقَتَلُوا أَنبِيَاءَهُم وَكَذَبُوا عَلَى رَبِّهِم وَكَفَرُوا بِهِ .


وَبِاختِصَارٍ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّ الوَسَطِيَّةَ هِيَ طَرِيقَةُ إِمَامِ أَهلِ الوَسَطِيَّةِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَسُنَّتُهُ ، وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَهَديُ صَحَابَتِهِ المَهدِيِّينَ ، عَنِ العِربَاضِ بنِ سَارِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : " وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مَوعِظَةً وَجِلَت مِنهَا القُلُوبُ وَذَرَفَت مِنهَا العُيُونُ . فَقُلنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَأَنَّهَا مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوصِنَا . قَالَ : " أُوصِيكُم بِتَقوَى اللهِ وَالسَّمعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِن تَأَمَّرَ عَلَيكُم عَبدٌ ، وَإِنَّهُ مَن يَعِشْ مِنكُم فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيكُم بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُم وَمُحدَثَاتِ الأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدعَةٍ ضَلالَةٌ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَه وَغَيرُهُم وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .


لَقَد عَاشَتِ الأُمَّةُ قُرُونًا وَهِيَ مُستَمسِكَةٌ بِوَصِيَّةِ نَبِيِّهَا ، سَائِرَةٌ عَلَى سُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ وَأَصحَابِهِ في عَامَّةِ أَمرِهَا ، حَتى جَاءَت هَذِهِ العُصُورُ المُتَأَخِّرَةُ ، الَّتي انطَبَقَ عَلَيهَا قَولُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لَيَأتِيَنَّ عَلَى أُمَّتي مَا أَتَى عَلَى بَني إِسرَائِيلَ حَذوَ النَّعلِ بِالنَّعلِ ، حَتى إِنْ كَانَ مِنهُم مَن أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً لَكَانَ في أُمَّتي مَن يَصنَعُ ذَلِكَ . وَإِنَّ بَني إِسرَائِيلَ تَفََرَّقَت عَلَى ثِنتَينِ وَسَبعِينَ مِلَّةً ، وَتَفتَرِقُ أُمَّتي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبعِينَ مِلَّةً ، كُلُّهُم في النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً ، مَا أَنَا عَلَيهِ وَأَصحَابي " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَلَقَد عِشنَا حَتى أَدرَكنَا تَعَدُّدَ المِلَلِ وَرَأَينَا اختِلافًا كَثِيرًا ، وَسَمِعنَا بِمُحدَثَاتٍ مَا أَنزَلَ اللهُ بها مِن سُلطَانٍ ، وَعَايَشنَا أَقوَامًا ابتُلُوا بِالزِّيَادَةِ عَلَى المَشرُوعِ فَغَلَوا وَأَفرَطُوا ، وَجَعَلُوا مِن دِينِهِم إِخرَاجَ النَّاسِ مِنَ الدِّينِ بِلا تَحَقُّقٍ وَلا تَثَبُّتٍ ، وَمُخَالَفَةَ وُلاةِ الأَمرِ وَالخُرُوجَ عَلَيهِم ، وَاختِطَافَ المَسؤُولِينَ وَالمُزَايَدَةَ بِدِمَائِهِم وَأَروَاحِهِم ، وَتَنظِيمَ المُظَاهَرَاتِ وَالاعتِصَامَات ِ ، وَرَأَينَا في المُقَابِلِ آخَرِينَ وَهُمُ الأَكثَرُ وَالأَغلَبُ ، تَرَكُوا المَشرُوعَ فَجَفَوا وَفَرَّطُوا ، وَجَعَلُوا مِن أَنفُسِهِم أَتبَاعًا لِكُلِّ عَاوٍ في الشَّرقِ أَو نَاعِقٍ في الغَربِ ، يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم ، وَيَخرُجُونَ عَن طَرِيقَةِ أَهلِ الإِسلامِ المُتَمَسِّكِين َ ، إِلى طُرُقٍ مُنفَتِحَةٍ يَزعُمُونَ أَنَّهَا أَكثَرُ تَقَدُّمًا وَأَنفَعُ لِبُلدَانِهِم ، وَالحَقُّ أَنَّ كِلا هَذَينِ المَسلَكَينِ خَطَرٌ عَلَى الأُمَّةِ ، وَأَنَّ الوَسَطِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ بَينَ هَذَينِ ، إِذْ هِيَ اعتِدَالٌ في المَنهَجِ ، وَتَوَسُّطٌ في الطَّرِيقَةِ ، وَتَثَبُّتٌ في السَّيرِ إِلى اللهِ ، تَحكُمُهَا آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ ، وَيَضبِطُهَا التِزَامُ السُّنَّةِ في الأَقوَالِ وَالأَفعَالِ ، وَيَزِنُهَا مَا كَانَ عَلَيهِ السَّلَفُ الصَّالحُ مِنَ العِلمِ وَالعَمَلِ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَدِ ادَّعَى الوَسَطِيَّةَ في زَمَانِنَا كُلُّ أَحَدٍ حَتى جَهَلَةُ الكُتَّابِ وَالصَّحَفِيِّي نَ ، فَضلاً عَنِ المُمَيِّعِينَ لِلدِّينِ مِن مُرجِئَةِ العَصرِ أَوِ مُحتَرِقِي المُنَافِقِينَ ، أَوِ الغُلاةِ وَالخَوَارِجِ المُفرِطِينَ ، وَهَكَذَا فَإِنَّ طَرَفيِ القَصدِ وَجَانِبيِ الوَسطِ ، لا يَنشَآنِ إِلاَّ في مُستَنقَعَاتِ الجَهلِ أَوِ الهَوَى . وَعِلاجُ ذَلِكَ العِلمُ ، سَوَاءً العِلمُ بِالأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ ، المُنجِي مِنَ الجَهلِ وَالتَّخَبُّطِ ، أَوِ العِلمُ بِهِ ـ تَعَالى ـ وَبِمَا لَهُ مِنَ العَظَمَةِ وَالكِبرِيَاءِ وَالجَلالِ وَالبَهَاءِ ، وَالَّذِي يَستَلزِمُ الاستِسلامَ لأَمرِهِ وَالإِذعَانَ لِحُكمِهِ ، وَالرَّغبَةَ في طَاعَتِهِ وَالرَّهبَةَ مِن مُخَالَفَتِهِ ، وَمَن فَقَدَ العِلمَ بِاللهِ وَالعِلمَ بِشَرِيعَتِهِ المُنزَلَةِ عَلَى رَسُولِهِ فَقَد ضَلَّ وَظَلَمَ ، وَالخَيرُ كُلُّ الخَيرِ في العِلمِ وَالفِقهِ في الدِّينِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَإِنْ لم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهوَاءَهُم وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " أَفَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلمٍ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَمَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .


وَإِنَّ كُلَّ الفِتَنِ الَّتي ظَهَرَت في الإِسلامِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، إِنَّمَا كَانَ مَنشَؤُهَا الجَهلَ وَمُخَالَفَةَ السُّنَّةِ ، وَالبُعدَ عَنِ الوَسَطِيَّةِ وَاتِّبَاعَ الهَوَى ، فَالخَوَارِجُ غَلَوا في الوَعِيدِ ، فَقَابَلَهُمُ المُرجِئَةُ الَّذِينَ غَلَوا في الوَعدِ ، وَالجَهمِيَّةُ غَلَوا في التَّنزِيهِ ، فَقَابَلَهُمُ المُشَبِّهَةُ الَّذِينَ غَلَوا في التَّشبِيهِ ، وَسَلَبَ الجَهمِيَّةُ الجَبرِيَّةُ عَنِ العَبدِ قُدرَتَهُ وَإِرَادَتَهُ ، فَقَابَلَهُمُ القَدَرِيَّةُ المُعتَزِلَةُ فَقَالُوا إِنَّ لِلعَبدِ قُدرَةً وَإِرَادَةً مُطلَقَتَينِ مُستَقِلَّتَينِ عَنِ اللهِ ، وَهَكَذَا مَا ظَهَرَت فِرقَةٌ تَغلُو في جَانِبٍ إِلاَّ قَابَلَتهَا أُخرَى تَغلُو في الجَانِبِ الآخَرِ ، وَإِنَّمَا الإِسلامُ وَسَطٌ بَينَ طَرَفَينِ ، وَحَقٌّ بَينَ بَاطِلَينِ ، وَهُدًى بَينَ ضَلالَتَينِ ، وَالوَسَطِيَّةُ لا تَكُونُ بِابتِدَاعِ مَنهَجٍ مُقَابِلَ آخَرَ ، أَو تَبَنِّي رَأيٍ مُحدَثٍ تِجَاهَ آخَرَ قَدِيمٍ ، أَو بِرَدَّةِ فِعلٍ طَاغِيَةٍ عَميَاءَ ، أو بِإِصلاحِ دُنيَا المُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ بِإِفسَادِ دِينِ النَّاسِ وَتَجرِيدِهِم مِن عَقَائِدِهِم وَقِيَمِهِم وَأَخلاقِهِم ، وَإِنَّمَا الوَسَطِيَّةِ مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَةُ وَدَلَّ عَلَيهِ الدَّلِيلُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " قُلْ أَرَأَيتُم مَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرضِ أَم لَهُم شِركٌ في السَّمَاوَاتِ اِئتُوني بِكِتَابٍ مِن قَبلِ هَذَا أَو أَثَارَةٍ مِن عِلمٍ إِنْ كُنتُم صَادِقِينَ "
وَلِذَا فَإِنَّنَا حِينَ نُحَذِّرُ ممَّا نَسمَعُهُ بَينَ حِينٍ وَآخَرَ مِن خُرُوجِ قَومٍ عَلَى وَليِّ الأَمرِ وَاعتِدَائِهِم عَلَى رِجَالِ الأَمنِ أَوِ المَسؤُولِينَ ، أَوِ استِهدَافِهِم مُقَدَّرَاتِ البِلادِ وَقَصدِهِم لِتَخرِيبِهَا ، وَسُلُوكِهِم مَسَالِكَ ضَالَّةً في تَكفِيرِ النَّاسِ وَاستِحلالِ دِمَائِهِم وَأَموَالِهِم ، فَإِنَّنَا لا بُدَّ أَن نُحَذِّرَ في الجَانِبِ الآخَرِ ممَّن أَجلَبُوا عَلَينَا بِخَيلِهِم وَرَجِلِهِم ، ابتِغَاءَ سَلخِ مُجتَمَعِنَا مِن قِيَمِهِ وَنَزعِ ثَوَابِتِهِ وَطَعنِهِ في أَعرَاضِهِ ، وَفَرضِ أَخلاقِ الغَربِ أَوِ الشَّرقِ عَلَيهِ ، مُتَذَرِّعِينَ بِأَنَّهُم يُرِيدُونَ التَّيسِيرَ وَالسَّمَاحَةَ وَالرِّفقَ بِالنَّاسِ ، وَإِصلاحَ مَا أَفسَدَهُ أُولَئِكَ الغُلاةُ المُتَشَدِّدُون َ ، وَهُم إِنَّمَا يَسِيرُونَ بِالمُجتَمَعِ إِلى الهَاوِيَةِ وِفقَ أَهوَائِهِم ، نَابِذِين بَعضَ مُسَلَّمَاتِ الدِّينِ وَرَاءَ ظُهُورِهِم ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ الوَصِيَّةَ لِلأُمَّةِ عَامَّةً وَلِمُجتَمَعِنَ ا خَاصَّةً ، أَن يَسلُكُوا مَسلَكَ الوَسَطِيَّةِ بِمَعنَاهَا الصَّحِيحِ ، آخِذِينَ بِوَصِيَّةِ إِمَامِهِم حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا ـ إِلى اليَمَنِ فَقَالَ : " يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلا تَختَلِفَا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .


فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَالزَمُوا صِرَاطَهُ المُستَقِيمَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ ‏:‏ "‏ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكَ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ‏ " وَقَالَ ـ تَعَالى ‏:‏ "‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ ‏.‏ وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ "





الخطبة الثانية :



أَمَّا بَعدُ ، فَاتِّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ وَإِنَ كَانَ الخَوَارِجُ في عَصرِنَا أَو فِيمَا قَبلَهُ ، قَد خَرَجُوا عَلَى الأُمَّةِ بِالسَّيفِ وَافتَاتُوا عَلَى الأَئِمَّةِ وَشَقُّوا عَصَا الطَّاعَةِ ، وَاستَحَلُّوا دِمَاءَ المَعصُومِينَ وَأَموَالَهُم بِشُبُهَاتٍ تَشَرَّبَتهَا قُلُوبُهُم عَن جَهلٍ وَقِلَّةِ فِقهٍ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ آخَرِينَ بَينَنَا وَفي مُجتَمَعِنَا ، مِنهُمُ المَسؤُولُ وَالوَزِيرُ وَالمُدِيرُ ، وَالأَدِيبُ وَالمُثَقَّفُ وَالصَّحَفِيُّ ، وَالكَاتِبُ وَالقَاصُّ وَالنَّاقِدُ ، قَد خَرَجُوا أَيضًا عَنِ الشَّرِيعَةِ اتِّبَاعًا لأَهوَائِهِم ، وَخَالَفُوا السُّنَّةَ تَمَشِّيًا مَعَ رَغَبَاتِهِم ، وَأَفسَحُوا المَجَالَ لِعُقُولِهِم لِتَأخُذَ عَن كُلِّ مَن هَبَّ وَدَبَّ ، وَلِتَلَغَ في إِنَاءِ كُلِّ ضَالٍّ وَمَغضُوبٍ عَلَيهِ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَالمُلحِدِينَ ، ثم هُم سَاعُونَ لِتَميِيعِ الدِّينِ ، مَاضُونَ في نَشرِ ضَلالاتِهِم في مُجتَمَعِنَا وَإِفسَادِهِ ، بِاسمِ الحُرِّيَّةِ الفِكرِيَّةِ وَتَعَدُّدِ الرَّأيِ ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الوِصَايَةِ عَلَى العُقُولِ ، وَالحَربِ عَلَى الرَّجعِيَّةِ وَالتَّطَرُّفِ وَالغُلُوِّ ، وَنَحوِ ذَلِكَ ممَّا ظَاهِرُهُ الرَّحمَةُ وَإِرَادَةُ الخَيرِ وَالصَّلاحِ ، وَهُوَ في حَقِيقَتِهِ عَذَابٌ وَشَقَاءٌ وَفَسَادٌ .


فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّ الحَقَّ حَسَنَةٌ بَينَ سَيِّئَتَينِ ، وَفَضِيلَةٌ بَينَ رَذِيلَتَينِ ، وخَيرَ الأُمُورِ أَوسَطُهَا ، وَشَرُّ السَّيرِ الحَقحَقَةُ .

ناصرعبدالرحمن 27-04-2012 04:56 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

أحاسنهم أخلاقًا 6 / 6 / 1433






الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الِّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَثِيرًا مَا يَرَى أَحَدُنَا الرَّجُلَ فَتُعجِبُهُ هَيئَتُهُ وَمِشيَتُهُ ، وَيَأخُذُ بِهِ سَمتُهُ حَالَ صَمتِهِ ، وَقَد يَغبِطُهُ عَلَى حُسنِ عِبَادَةٍ أَو طُولِ قُنُوتٍ وَكَثرَةِ قِرَاءَةٍ ، فَإِذَا مَا حَادَثَهُ وَأَخَذَ مَعَهُ وَأَعطَى ، أَو عَامَلَهُ وَبَاعَ إِلَيهِ وَاشتَرَى ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ في صَدرِهِ قَلبًا في جَنَاحَي طَائِرٍ ، تُغضِبُهُ كَلِمَةٌ أَو نَظرَةٌ ، وَيَضِيقُ لِبَادِرَةٍ أَو هَفوَةٍ ، وَيُكَدِّرُ صَفوَهُ خَطَأٌ أَو زَلَّةٌ ، ثم لَيتَهُ يَقِفُ عِندَ ثَورَةٍ لَحظَةٍ ثُمَّ يَنطَفِئُ غَضَبُهُ بَعدَهَا وَتَذهَبُ سَورَتُهُ ، دُونَ أَن يَطوِيَ عَلَى حِقدٍ كَشحًا ، أَو يَمتَلِئَ صَدرُهُ غَيظًا وَحَنَقًا ، فَيَتَصَرَّفَ بِنَاءً عَلَيهَا بما يُفسِدُ إِخَاءً وَيُذهِبُ وُدًّا ، أَو يَقطَعُ رَحِمًا وَيَهجُرُ قُربى . إِنَّكَ حِينَ تَرَى مِثلَ هَذَا ، تَعلَمُ أَنَّ ثَمَّةَ فَهمًا لِلإِسلامِ غَيرَ صَحِيحٍ ، وَمُجَانَبَةً حَقِيقِيَّةً لِلاستِقَامَةِ ، وَنَبذًا لِبَعضِ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرعُ الحَنِيفُ ، وَسَيرًا عَلَى مَا تُملِيهِ الأَنفُسُ وَتُوجِبُهُ الأَهوَاءُ ، وَمُتَابَعَةً لما تَقضِي بِهِ بَعضُ العَادَاتِ وَالأَعرَافِ ، دُونَ احتِسَابِ أَجرٍ أَو نَظَرٍ في عَوَاقِبَ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد جَاءَ الإِسلامُ وَأَعجَبُ أَخلاقِ العَرَبِ إِلَيهِم مَا تَغَلَّبُوا بِهِ عَلَى غَيرِهِم وَقَهَرُوا بِهِ مَن سِوَاهُم ، مِن قَتلٍ وَبَطشٍ ، وَأَخذِ مَالٍ وَنَهبٍ ، وَإِرغَامِ أُنُوفٍ وَسَفعٍ بِالنَّوَاصِي ، في جَاهِلِيَّاتٍ وَقَومِيَّاتٍ وَعَصَبِيَّاتٍ ، وَأَخلاقٍ مَرذُولَةٍ وَصِفَاتٍ قَبِيحَةٍ ، فَهَدَمَ الإِسلامُ تِلكَ الرَّذَائِلَ وَأَمَاتَهَا ، وَأَقصَى الأَخلاقَ الدَّنِيئَةَ وَحَذَّرَ مِنَ الدَّنَايَا وَنَهَى عَنِ السَّفَاسِفِ ، وَأَشَادَ بُنيَانَ الأَخلاقِ الفَاضِلَةِ وَأَرسَى دَعَائِمَهَا ، وَحَثَّ عَلَى أَشرَافِهَا وَأَتَمَّ صَالِحَهَا ، حَتى جَعَلَ أَحسَنَ النَّاسِ أَخلاقًا في الدُّنيَا هُم أَقرَبَهُم مَجلِسًا مِن نَبيِّ الرَّحمَةِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَومَ القِيَامَةِ ، وَحتى تَكَفَّلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِبَيتٍ في أَعلَى الجَنَّةِ لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَكمَلَ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحسَنُهُم خُلُقًا ، وَأَنَّ المُؤمِنَ يَألَفُ وَيُؤلَفُ ، وَلا خَيرَ فِيمَن لا يَألَفُ وَلا يُؤلَفُ ، وَأَنَّ حُسنَ الخُلُقِ هُوَ أَثقَلُ مَا يُوضَعُ في المِيزَانِ ، وَقَرَّرَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَنَّ المُؤمِنَ يَبلُغُ بِحُسنِ الخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ ، وَأَنَّ حُسنَ الخُلُقِ مَعَ التَّقوَى أَكثَرُ مَا يُدخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ ، وَأَنَّ حُسنَ الخُلُقِ هُوَ البِرُّ ...
بِكُلِّ هَذَا صَحَّتِ الأَحَادِيثُ عَنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في تَرغِيبٍ في حُسنِ الخُلُقِ لا يَعدِلُهُ تَرغِيبٌ ، وَمَدحٍ لَهُ لا يُمَاثِلُهُ مَدحٌ . وَإِنَّهُ لَيَكفِي حُسنَ الخُلُقِ مَدحًا ، وَيَكفِي المُؤمِنَ الصَّادِقَ تَشوِيقًا إِلَيهِ وَحَثًّا عَلَى الاتِّصَافِ بِهِ ، أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ قَد وَصَفَ بِهِ المُختَارَ مِن خَلقِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَقَالَ في حَقِّهِ : " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " وَصَحَّ في وَصفِ أَصحَابِهِ لَهُ أَنَّهُ كَانَ أَحسَنَ النَّاسِ خُلُقًا . وَإِنَّهُ لَو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ في العِبَادَاتِ الَّتي جَاءَ بها الإِسلامُ ، لَوَجَدَهَا كُلَّهَا تَصُبُّ في مَصَبِّ مَحَاسِنِ الأَخلاقِ وَتَربِيَةِ النُّفُوسِ عَلَى المَكَارِمِ وَتَزكِيَتِهَا ، فَالصَّلاةُ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ ، وَقِيَامُ اللَّيلِ مَنْهَاةٌ عَنِ الإِثمِ ، وَالصِّيَامُ حَبسٌ لِلنَّفسِ عَنِ المُسَابَّةِ وَالمُقَاتَلَةِ ، وَالحَجُّ تَأدِيبٌ لها عَنِ الرَّفَثِ وَالفُسُوقِ وَالجِدَالِ حَتى في أَضيَقِ الطُّرُقِ وَأَشَدِّ المَوَاقِفِ .
بَل لََقَد بَدَأَتِ الدَّعوَةُ إِلى مَكَارِمِ الأَخلاقِ وَمَحَاسِنِهَا مُنذُ بَدءِ الدَّعوَةِ إِلى الإِسلامِ ، فَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ لَمَّا بَلَغَهُ مَبعَثُ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لأَخِيهِ : اِركَبْ إِلى هَذَا الوَادِي فَاسمَعْ مِن قَولِهِ ـ يَعني النَّبيَّ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَرَجَعَ ، فَقَالَ : رَأَيتُهُ يَأمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخلاقِ .
وَفي قِصَّةِ هِرَقلَ حِينَ سَأَلَ أَبَا سُفيَانَ عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : مَاذَا يَأمُرُكُم ؟ قَالَ أَبُو سُفيَانَ : يَقُولُ : اعبُدُوا اللهَ وَحدَهُ وَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا ، وَاترُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُم ، وَيَأمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالصِّدقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ . رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَلَمَّا هَاجَرَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِلى المَدِينَةِ كَانَ مِن أَوَّلِ مَا قَالَهُ : " أَيُّهَا النَّاسُ ، أَفشُوا السَّلامَ ، وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصَلُّوا بِاللَّيلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَلَمَّا قَدِمَ وَفدُ عَبدِ القَيسِ ، وَكَانَ فِيهِمُ المُنذِرُ بنُ عَائِذٍ المَعرُوفُ بِالأَشَجِّ ، أَثنى عَلَيهِ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بِقَولِهِ : " إِنَّ فِيكَ خَصلَتَينِ يُحِبُّهُمَا اللهُ : الحِلمُ وَالأَنَاةُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَا الفَائِدَةُ مِنَ العِبَادَةِ حِينَ لا تُقَوِّمُ سُلُوكَ صَاحِبِهَا ؟
وَأَيُّ أَثَرٍ لِلصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالحَجِّ وَالصَّدَقَةِ إِذَا لم يَعقُبْهَا حِلمٌ وَصَبرٌ وَبَشَاشَةٌ وَعَفوٌ وَتَسَامُحٌ ؟
أَلَمْ يَقُلِ اللهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ " ؟
أَلَمْ يَقُلْ ـ تَعَالى ـ : " لاَ تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى " ؟
أَلَمْ يَقُلْ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " خُذْ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بها " ؟
أَلَمْ يَقُلْ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ في الحَجِّ " ؟
أَلَمْ يَقُلْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ : " مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيسَ للهِ حَاجَةٌ في أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " ؟!
نَعَم ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ العِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ ، لَتُقَوِّمُ السُّلُوكَ وَتُهَذِّبُ الأَخلاقَ , وَتَجعَلُ المُؤمِنَ في تَعَامُلِهِ مَعَ إِخوَانِهِ عَلَى أَرقَى مَا يَكُونُ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَحسِنُوا " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ " وَجَاهِدُوا أَنفُسَكُم عَلَى حُسنِ الخُلُقِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُبَارِكُ اللهُ بِسَبَبِهِ في قَلِيلِ العَمَلِ ، وَإِيَّاكُم وَسُوءَ الخُلُقِ فَإِنَّهُ مُفسِدٌ لِلعِبَادَاتِ مَاحِقٌ لِبَرَكَةِ الطَّاعَاتِ ، مُحبِطٌ لِلأَعمَالِ مُذهِبٌ لِلحَسَنَاتِ ، عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ فُلانَةَ يُذكَرُ مِن كَثرَةِ صَلاتِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصِيَامِهَا ، غَيرَ أَنَّهَا تُؤذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا . قَالَ : " هِيَ في النَّارِ " قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَلاتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤذِي جِيرَانَهَا . قَالَ : " هِيَ في الجَنَّةِ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ "





الخطبة الثانية :



أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوا أَمرَهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ حُسنَ الخُلُقِ وَإِن كَانَ يَسِيرًا عَلَى مَن يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيهِ مِمَّنَ يَطلُبُ الذِّكرَ الجَمِيلَ في الدُّنيَا وَالرِّفعَةَ وَالأَجرَ في الآخِرَةِ ، إِلاَّ أَنَّهُ يَحتَاجُ مِنَ المَرءِ إِلى أَن يَأطِرَ نَفسَهُ عَلَيهِ أَطرًا وَيَحمِلَهَا عَلَيهِ حَملاً ، وَيَأخُذَهَا بِالجِدِّ وَيُجَاهِدَهَا عَلَى قَبُولِ الحَقِّ وَلَو عَلَى نَفسِهِ ، وَيَسمُوَ بها لِلمَعَالي قَبلَ أَن تَهبِطَ بِهِ لِلحَضِيضِ ، وَفي الحَدِيثِ : " إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ يُحِبُّ مَعَاليَ الأُمُورِ وَأَشرَافَهَا وَيَكرَهُ سَفسَافَهَا " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ ، وَإِنَّمَا الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ ، وَمَن يَتَحَرَّ الخَيرَ يُعطَهُ ، وَمَن يَتَّقِّ الشَّرَّ يُوقَهُ " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ ، وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِنَّ الطَّرِيقَ لِذَلِكَ أَن يَرزُقَ اللهُ عَبدَهُ امتِثَالَ مَا في القُرآنِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الأَوَامِرِ وَالكَفِّ عَمَّا فِيهِمَا مِنَ النَّوَاهِي ، وَأَن يَمُنَّ عَلَيهِ بِحُسنِ الاقتِدَاءِ بِمَن كَانَ خُلُقُهُ القُرآنَ ، فَيَنظُرَ أَيسَرَ الأُمُورِ فَيَختَارَهَا ، وَيَترُكَ الانتِقَامَ لِنَفسِهِ ، وَيَتَعَوَّدَ كَظمَ الغَيظِ وَحَبسَ النَّفسِ وَالعَفوَ ، فَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَنَّهَا قَالَت : مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بَينَ أَمرَينِ إِلاَّ اختَارَ أَيسَرَهُمَا ، مَا لم يَكُنْ إِثمًا ، فَإِذَا كَانَ إِثماً كَانَ أَبعَدَ النَّاسِ مِنهُ ، وَمَا انتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لِنَفسِهِ إِلاَّ أَن تُنتَهَكَ حُرمَةُ اللهِ ـ تَعَالى ـ فَيَنتَقِمَ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بها . رَوَاهُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفرَدِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا تَجَرَّعَ عَبدٌ جَرعَةً أَفضَلَ عِندَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مِن جَرعَةِ غَيظٍ يَكظِمُهَا ابتِغَاءَ وَجهِ اللهِ ـ تَعَالى ـ " رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ ، وَقَالَ أَحمَدُ شَاكِر : إِسنَادُهُ صَحِيحٌ .

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ صِحَّةً في إِيمَانٍ ، وَإِيمَانًا في حُسنِ خُلُقٍ ، وَنَجَاحًا يَتبَعُهُ فَلاحٌ ، وَرَحمَةً مِنكَ وَعَافِيَةً وَمَغفِرَةً مِنكَ وَرِضوَانًا

ناصرعبدالرحمن 03-05-2012 09:49 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
والعاقبة للمتقين 13 / 6 / 1433


الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في زَمَنٍ ادلَهَمَّتِ الخُطُوبُ فِيهِ وَاحتَدَمَتِ المِحَنُ ، وَتَوَالَت عَلَى قُلُوبِ المُسلِمِينَ الشَّوَاغِلُ وَالفِتَنُ ، وَتَدَاعَى الأَعدَاءُ عَلَيهِم تَدَاعِيَ الأَكَلَةِ عَلَى قَصعَتِهَا ، في حِينِ قَلَّ النَّاصِرُ وَضَعُفَ المُعِينُ ، وَوَهَنَتِ الأَسبَابُ الأَرضِيَّةُ وَتُخُلِّيَ عَن إِعدَادِ القُوَّةِ المَادِّيَّةِ ، فَإِنَّهُ لا يَحسُنُ بِالمُسلِمِينَ وَلا يَجمُلُ بهم أَبَدًا ، أَن يَجمَعُوا إِلى ذَلِكَ ضَعفًا في عِلاقَتِهِم بِرَبِّهِمُ الَّذِي بِيَدِهِ الخَلقُ وَالأَمرُ ، ذَلِكُم أَنَّهُ ـ تَعَالى ـ وَعَدَ بِالنَّصرِ مَن يَنصُرُهُ ، وَكَتَبَ التَّمكِينَ لِمَن يَعبُدُهُ وَلا يُشرِكُ بِهِ ، وَجَعَلَ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ وَالهِدَايَةَ لِلمُجَاهِدِينَ ، وَقَضَى بِالمَعِيَّةِ لِلمُحسِنِينَ وَالثَّبَاتَ لِلذَّاكِرِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّ هُم في الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنّ َهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَني لا يُشرِكُونَ بي شَيئًا " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُوا بِاللهِ وَاصبِرُوا إِنَّ الأَرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا وَاذكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "

أَيُّهَا المُؤمِنُونَ : إِنَّ التَّفَرُّغَ لِلعِبَادَةِ وَلُزُومَ الطَّاعَةِ ، وَالاستِقَامَةَ في طَرِيقِ الهُدَى وَالإِكثَارَ من ذِكرِ اللهِ ، هِيَ زَادُ المُبتَلَى الصَّابِرِ وَحِليَةُ المَنصُورِ الظَّافِرِ ، بها يُستَجلَبُ الخَيرُ وَيُستَدفَعُ الضُّرُّ ، وَبِسَبَبِهَا تَطمَئِنُّ القُلُوبُ وَتَنشَرِحُ الصُّدُورُ ، وَمَنِ استَوعَبَ عُمُرَهُ في عِبَادَةِ رَبِّهِ وَاشتَغَلَ بِذِكرِهِ ، رَزَقَهُ اللهُ الصَّبرَ وَجَمَّلَهُ بِالرِّضَا ، وَأَعَانَهُ وَحَفِظَهُ وَيَسَّرَ أَمرَهُ ، وَمَلأَ قَلبَهُ غِنىً وَوَسَّعَ رِزقَهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ لِنَبِيِّهِ : " فَاصبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ غُرُوبِهَا وَمِن آنَاءِ اللَّيلِ فَسَبِّحْ وَأَطرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرضَى . وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى . وَأمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إذَا جَاءَ نَصرُ اللهِ وَالفَتحُ . وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " وَما تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشيءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِمَّا افتَرضتُ عَلَيهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ ، وَبَصرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بها ، وَرِجلَهُ الَّتي يَمشِي بها ، وإِنْ سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ استَعاذَني لأُعِيذَنَّهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . وَفي الحَدِيثِ الآخَرِ : " إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ يَقُولُ : " يَا بنَ آدَمَ ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي أَملأْ صَدرَكَ غِنىً وَأَسُدَّ فَقرَكَ ، وَإِن لا تَفعَلْ مَلأتُ يَدَيكَ شُغلاً وَلم أَسُدَّ فَقرَكَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه ، وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَفي وَصِيَّتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لابنِ عَبَّاسٍ : " اِحفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ ، اِحفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إِلَيهِ في الرَّخَاءِ يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ ، وَإِذَا سَأَلتَ فَاسأَلِ اللهَ ، وَإِذَا استَعَنتَ فَاستَعِنْ بِاللهِ ، قَد جَفَّ القَلَمُ بمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَو أَنَّ الخَلقَ كُلَّهُم جَمِيعًا أَرَادُوا أَن يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لم يَكتُبْهُ اللهُ عَلَيكَ لم يَقدِرُوا عَلَيهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَكتُبْهُ اللهُ عَلَيكَ لم يَقدِرُوا عَلَيهِ ، وَاعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا " رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالحَقِّ وَاقتِفَاءَ السُّنَنِ وَالوُقُوفَ عِندَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَتَنوِيعَ القُرُبَاتِ وَالإِكثَارَ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَهُوَ حِليَةُ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، وَزَادُ المُصلِحِينَ المُخلِصِينَ ، وَإِنَّ أَمَامَ الأُمَّةِ غَايَاتٍ بَعِيدَةً ، وَبَينَ أَيدِيهَا مَيَادِينُ طَوِيلَةٌ ، لا يَفُوزُ فِيهَا وَلا يُهدَى إِلاَّ المُجَاهِدُونَ ، وَإِنَّ ثَمَّةَ عَقَبَاتٍ صِعَابًا وَمُهِمَّاتٍ ثِقَالاً ، وَأَزمِنَةَ فِتَنٍ وَمَلاحِمَ وَهَرجٍ وَمَرجٍ ، لا يَتَجَاوَزُهَا وَيَحمِلُهَا إِلاَّ المُستَهلِكُونَ حَيَاتَهُم في عِبَادَةٍ وَطَاعَةٍ ، وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ لِنَبِيِّهِ : " يَا أَيُّهَا المُزَمِّلُ . قُمِ اللَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً . نِصفَهُ أَوِ انقُصْ مِنهُ قَلِيلاً . أَو زِدْ عَلَيهِ وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتِيلاً . إِنَّا سَنُلقِي عَلَيكَ قَولاً ثَقِيلاً " وَقَالَ لَهُ : " إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا عَلَيكَ القُرآنَ تَنزِيلاً . فَاصبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنهُم آثِمًا أَو كَفُورًا . وَاذكُرِ اسمَ رَبِّكَ بُكرَةً وَأَصِيلاً . وَمِنَ اللَّيلِ فَاسجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيلاً طَوِيلاً . إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُم يَومًا ثَقِيلاً " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مُمتَدِحًا العِبَادَةَ وَلا سِيَّمَا في مِثلِ هَذِهِ الأَزمِنَةِ : " العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِليَّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتُوبُوا إِلى رَبِّكُم وَعُودُوا إِلى رُشدِكُم ، وَكُونُوا مَعَ اللهِ يَكُنْ مَعَكُم ، طَهِّرُوا القُلُوبَ ممَّا اعتَرَاهَا ، وَأَنقِذُوا النُّفُوسَ ممَّا اعتَلاهَا ، حَقِّقُوا العُبُودِيَّةَ للهِ مَحَبَّةً لَهُ وَخَوفًا مِنهُ وَرَجَاءً ، وَإِخلاصًا لَهُ وَتَوَكُّلاً عَلَيهِ ، وَإِيَّاكُم وَالاستِهَانَةَ بِالمَعَاصِي كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا ، وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثمِ وَبَاطِنَهُ ، وَجَانِبُوا المُجَاهَرَةَ وَالزَمُوا الحَيَاءَ ، تَنَاصَحُوا وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ ، وَحَذَارِ مِن نِسيَانِ عَهدِ اللهِ ، فَإِنَّمَا ذَلِكُم دَيدَنُ مَن طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم مِنَ المُنَافِقِينَ ، الَّذِينَ " نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم " ثم هُوَ قَاطِعٌ يَطُولُ بِهِ عَلَى الأُمَّةِ الطَّرِيقُ ، وَتُمنَعُ بِسَبَبِهِ النَّصرَ وَالتَّمكِينَ وَالتَّوفِيقَ ، فَاتَّقُوا اللهَ " وَلا تَشتَرُوا بِعَهدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيرٌ لَكُم إِنْ كُنتُم تَعلَمُونَ . مَا عِندَكُم يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ . مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّه ُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّه ُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ إِيجَادَ جِيلٍ قَادِرٍ عَلَى حَملِ لِوَاءِ الحَقِّ وَالذَّبِّ عَنِ المَعرُوفِ ، وَمُقَارَعَةِ البَاطِلِ وَمُحَارَبَةِ المُنكَرِ وَمُقَاوَمَةِ أَهلِهِ ، لا يُمكِنُ أَن يَتِمَّ إِذَا قَلَّتِ في الأُمَّةِ القُدُوَاتُ الصَّالِحَةُ ، وَرَأَى الصِّغَارُ الكِبَارَ مُتَسَاهِلِينَ في الفَرَائِضِ وَالوَاجِبَاتِ ، غَافِلِينَ عَنِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ ، زَاهِدِينَ في البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ، مُغرِقِينَ في المُبَاحَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، هَمُّهُمُ التَّنَازُعُ في حُطَامِ الدُّنيَا ، وَدَيدَنُهُمُ التَّشَاحُّ عَلَى فُضُولِهَا ، وَغَايَةُ قَصدِهِمُ التَّنَافُسُ عَلَى زَخَارِفِهَا .
إِنَّ أُمَّةً تَترُكُ الجِهَادَ وَيَقِلُّ فِيهَا العُبَّادُ ، وَيُفقَدُ مِنهَا المُتَمَسِّكُون َ وَيَكثُرُ فِيهَا المُخَالِفُونَ ، وَيَكُونُ هَمُّهَا الدُّنيَا لا تَغضَبُ إِلاَّ لِفَقدِهَا وَلا تَفرَحُ إِلاَّ بِتَحصِيلِهَا ، إِنَّهَا لأُمَّةٌ حَرِيَّةٌ بِأَن تَبقَى في المُؤَخَّرَةِ ذَلِيلَةً فَقِيرَةً ، إِنْ لم تَهلِكْ وَتَزُلْ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " بُعِثتُ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيفِ حَتى يُعبَدَ اللهُ ـ تَعَالى ـ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزقِي تَحتَ ظِلِّ رُمحِي ، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَن خَالَفَ أَمرِي " رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم ، فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخشَى أَن تُبسَطَ الدُّنيَا عَلَيكُم كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، فَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَملَهُ وَأَتَتهُ الدُّنيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَن كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقرَهُ بَينَ عَينَيهِ وَفَرَّقَ عَلَيهِ شَملَهُ وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَأَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ، وَلا يَغُرَّنَّكُم تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ ، أَو مَا يَنَالُهُ البَاطِلُ وَأَهلُهُ مِن تَمَكُّنٍ أَو عُلُوٍّ ، فَتَنجَرِفُوا لِطَلَبِ حُظُوظِكُم مِنَ الدُّنيَا وَتَنسَوُا الآخِرَةَ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ

ناصرعبدالرحمن 17-05-2012 01:05 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
ولا تلمزوا أنفسكم 20 / 6 / 1433


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، حِينَ يَتَوَاضَعُ المَرءُ وَيَعرِفُ قِيمَةَ نَفسِهِ ، يَلزَمُ حُدُودَهُ وَلا يَتَجَاوَزُ قَدرَهُ ، وَأَمَّا حِينَ يَمتَلِئُ صَدرُهُ كِبرًا وَغُرُورًا ، وَتُعجِبُهُ نَفسُهُ وَيَرتَدِي بِرِدَاءِ الخُيَلاءِ وَالغَطرَسَةِ ، فَإِنَّهُ يُجَاوِزُ المَعقُولَ وَيَتَعَامَى عَنِ المَنقُولِ ، فَيَظلِمُ النَّاسَ وَيَبغِي عَلَيهِم ، وَيَبخَسُهُم حُقُوقَهُم وَأَشيَاءَهُم ، وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ إِذْ قَالَ : " إِنَّ اللهَ أَوحَى إِليَّ : أَنَ تَوَاضَعُوا حَتى لا يَفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .

إِنَّ ثَمَّةَ تَلازُمًا عَجِيبًا بَينَ الكِبرِ وبَينَ البَغيِ وَالفَخرِ ، وَمَن تَوَاضَعَ وَتَطَامَنَ وَكَانَ سَهلاً هَينًا لَينًا ، غَضَّ عَنِ العَورَاتِ وَالهَفَوَاتِ ، وَتَغَافَلَ عَنِ السَّوءَاتِ وَالزَّلاَّتِ ، وَانشَغَلَ بِإِصلاحِ نَفسِهِ وَتَأدِيبِهَا ، وَعَمِلَ عَلَى تَقوِيمِهَا وَتَهذِيبِهَا ، وَحَرِصَ عَلَى التَّزَوُّدِ ممَّا يُنجِيهِ في مَسِيرِهِ إِلى رَبِّهِ . أَلا وَإِنَّ ممَّا نَهَى عَنهُ الشَّرعُ الحَكِيمُ مِن مَسَاوِئِ الأَخلاقِ وَمَرذُولِ الصِّفَاتِ ، ممَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ في صَدرِ صَاحِبِهِ كِبرًا مَا هُوَ بِبَالِغِهِ ، السُّخرِيَةَ مِنَ النَّاسِ وَالاستِهزَاءَ بِهِم ، وَهَمزَهُم وَلَمزَهُم ، وَجَعلَهُم هَدَفًا لِلتَّهَكُّمِ بِهِم في خَلقٍ أَو خُلُقٍ ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسخَرْ قَومٌ مِن قَومٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيرًا مِنهُم وَلا نِسَاءٌ مِن نِسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيرًا مِنهُنَّ وَلا تَلمِزُوا أَنفُسَكُم وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلقَابِ بِئسَ الاسمُ الفُسُوقُ بَعدَ الإِيمَانِ وَمَن لم يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ "

إِنَّ المُجتَمَعَ الفَاضِلَ الَّذِي يُرِيدُ الإِسلامُ بِنَاءَهُ وَتَقوِيَةَ أَركَانِهِ ، مُجتَمَعٌ لَه أَدَبٌ رَفِيعٌ ، وَلِكُلِّ فَردٍ فِيهِ كَرَامَتُهُ وَمَكَانَتُهُ ، وَالمُؤمِنُونَ فِيهِ إِخوَةٌ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ ، وَأَيُّ تَعَرُّضٍ لِعُضوٍ مِنهُ فَإِنَّمَا هُوَ إِيلامٌ لِسَائِرِ الجَسَدِ ، وَالجَمَاعَةُ كُلٌّ لا يَتَجَزَّأُ ، كَرَامَتُهَا وَاحِدَةٌ ، وَقَدرُهَا وَاحِدٌ ، وَأَيُّ مَسٍّ لِجُزءٍ مِنهَا فَهُوَ تَعَرُّضٌ لِمَجمُوعِهَا ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَيَّ لَمزٍ لأَيِّ فَردٍ ، فَكَأَنَّمَا هُوَ لَمزٌ لِلذَّاتِ وَتَعَرُّضٌ لِلنَّفسِ .
إِنَّهُ لا يَحِلُّ لِمُؤمِنٍ يُؤمِنُ بِاللهِ رَبًّا خَالِقًا ، وَيُوقِنُ بِهِ مُقَسِّمًا لِلأَرزَاقِ وَالأَخلاقِ ، أَن يَسخَرَ مِن مُؤمِنٍ لِفَقرٍ ابتُلِيَ بِهِ ، أَو لِذَنبٍ ارتَكَبَهُ ، أَو لِعَاهَةٍ لَزِمَتهُ في بَدَنِهِ ، أَو لِنَقصٍ في جَاهِهِ أَو نَسَبِهِ ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ المُستَهزَأَ بِهِ ، أَن يَكُونَ أَخلَصَ ضَمِيرًا وَأَنقَى قَلبًا وَأَتقَى للهِ ممَّنِ استَهزَأَ ، فَيَكُونَ المُستَهزِئُ بِذَلِكَ قَد ظَلَمَ نَفسَهُ وَحَقَّرَهَا وَصَغَّرَهَا ، بِتَحقِيرِهِ مَن وَقَّرَهُ اللهُ ، وَاستِصغَارِهِ مَن عَظَّمَهُ اللهُ ، وَكَيفَ تَسمَحُ نَفسٌ بِهَمزٍ أَو لَمزٍ ، لأَنَّهَا قَد أُوتِيَت مَالاً أَو نَسَبًا ، أَو فُضِّلَت بِجَاهٍ أَو حَسَبٍ ، وَاللهُ ـ تَعَالى ـ قَد تَوَعَّدَ أَهلَ الهَمزِ وَاللَّمزِ فَقَالَ : " وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ . يَحسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخلَدَهُ . كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ في الحُطَمَةِ . وَمَا أَدرَاكَ مَا الحُطَمَةُ . نَارُ اللهِ المُوقَدَةُ . الَّتي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفئِدَةِ . إِنَّهَا عَلَيهِم مُؤصَدَةٌ . في عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ "

إِنَّ مِن أَعظَمِ مَسَاوِئِ السُّخرِيَةِ وَالاستِهزَاءِ أَنَّهَا تَحُولُ بَينَ العَبدِ وَبَينَ الاشتِغَالِ بما يَنفَعُهُ ، وَتُبعِدُهُ عَنِ السَّيرِ في مَرضَاةِ رَبِّهِ ، وَتُمِيتُ قَلبَهُ وَتُورِثُهُ الغَفلَةَ وَشُرُودَ الذِّهنِ ، فَلا تَرَاهُ إِلاَّ مُتَتَبِّعًا لِعَيبِ غَيرِهِ ، ثم لا يَشعُرُ إِلاَّ وَالعَذَابُ قَد أَحَاطَ بِهِ ، فَنَدِمَ وَتَحَسَّرَ ، وَلاتَ سَاعَةَ مَندَمٌ ، وَلَكِنْ دُعَاءٌ كَدُعَاءِ الكَافِرِينَ " رَبَّنَا أَخرِجْنَا مِنهَا فَإِنْ عُدنَا فَإِنَّا ظَالمُونَ . قَالَ اخسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ . إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِن عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغفِرْ لَنَا وَارحَمْنَا وَأَنتَ خَيرُ الرَّاحِمِينَ . فَاتَّخَذتُمُوه ُم سِخرِيًّا حَتَّى أَنسَوكُم ذِكرِي وَكُنتُم مِنهُم تَضحَكُونَ . إِنِّي جَزَيتُهُمُ اليَومَ بما صَبَرُوا أَنَّهُم هُمُ الفَائِزُونَ "

إِنَّ الاستِغرَاقَ في الضَّحِكِ مِنَ النَّاسِ وَهَمزِهِم وَلَمزِهِم ، أَوِ التَّفَكُّهِ بِذِكرِ عُيُوبِهِم وَتَردَادِ مَسَاوِئِهِم ، أَو تَعيِيرِهِم وَتَنَقُّصِهِم ، إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِن صِفَاتِ الكُفَّارِ وَسِيمَا المُجرِمِينَ وَأَخلاقِ أَهلِ الجَاهِلِيَّةِ ، الَّذِينَ لم تَستَطعِمْ قُلُوبُهُمُ الإِيمَانَ " وَأَنَّ الفَضلَ بِيَدِ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ " وَأَنَّهُ " وَمَا بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللهِ " قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِم يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انقَلَبُوا إِلى أَهلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوهُم قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ . وَمَا أُرسِلُوا عَلَيهِم حَافِظِينَ . فَاليَومَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضحَكُونَ . عَلَى الأرَائِكِ يَنظُرُونَ . هَل ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ "
وَعَن أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : إِنَّهُ كَانَ بَيني وَبَينَ رَجُلٍ مِن إِخوَاني كَلامٌ ، وَكَانَت أُمُّهُ أَعجَمِيَّةً فَعَيَّرتُهُ بِأُمِّهِ ، فَشَكَاني إِلى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَقِيتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ امرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ " قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَن سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ . قَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِنَّكَ امرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ... " الحَدِيثَ رَوَاهُ مُسلِمٌ وَهُوَ في البُخَارِيِّ بِنَحوِهِ .

إِنَّ السُّخرِيَةَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ لا تَنبَعِثُ إِلاَّ مِن نَفسٍ قَد تَلَوَّثَت بِالعُجْبِ وَتَلَطَّخَت بِالكِبرِ ، وَمِن ثَمَّ فَهِيَ تُعامِلُ مَن حَولَهَا عَن شُعُورٍ بِالفَوقِيَّةِ وَالعُلُوِّ ، وَقَدِ استَهَانَ إِبلِيسُ بِآدَمَ وَسَخِرَ مِنهُ قَائِلاً : " أَنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَني مِن نَارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ " فَكَانَ جَزَاؤُهُ أَن بَاءَ بِالخَسَارَةِ وَالخِذلانِ وَالبُعدِ عَن رَحمَةِ الرَّحمَنِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَزُمُّوا أَلسِنَتَكُم عَمَّا لا يُرضِي اللهَ مِن تَنَقُّصِ خَلقِهِ وَالاستِهزَاءِ بهم ، فَإِنَّ لَدَى المُؤمِنِ الجَادِّ مَا يَجعَلُهُ يُفَكِّرُ في عُيُوبِ نَفسِهِ وَيُجَاهِدُهَا عَلَى التَّخَلُّصِ مِن كُلِّ سُوءٍ ، وَإِنَّ الرَّحِيمَ بِإِخوَانِهِ المُحِبَّ لهم مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّهَ لِنَفسِهِ لَيَعمَلُ عَلَى إِصلاحِ خَلَلِهِم ، بَدَلاً مِن تَضيِيعِ الوَقتِ في تَتَبُّعِ عُيُوبِهِم وَعَورَاتِهِم ، وَنَشرِهَا بِكَلِمَاتٍ تُفسِدُ وُدَّهُم وَتُمَزِّقُ لُحمَتَهُم ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : قُلتُ لِلنَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : حَسبُكَ مِن صَفِيَّةِ أَنَّهَا كَذَا وَكَذَا ـ تَعني قَصِيرَةٌ ـ فَقَالَ : " لَقَد قُلتِ كَلِمَةً لَو مُزِجَت بِمَاءِ البَحرِ لَمَزَجَتهُ " قَالَت : وَحَكَيتُ لَهُ إِنسَانًا فَقَالَ : " مَا أُحِبُّ أَني حَكَيتُ إِنسَانًا وَأَنَّ لي كَذَا وَكَذَا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَلا تَقفُ مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مَسؤُولاً . وَلا تَمشِ في الأَرضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخرِقَ الأَرضَ وَلَن تَبلُغَ الجِبَالَ طُولاً . كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكرُوهًا "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ فَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَإِذَا كَانَتِ السُّخرِيَةُ كَبِيرَةً مِن الكَبَائِرِ وَعَظِيمَةٌ مِنَ العَظَائِمِ ، فَإِنَّهَا حِينَ تَقَعُ عَلَى أَهلِ العِلمِ وَرِجَالِ الدَّعوَةِ ، أَوِ يُقصَدُ بها الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مُؤَشِّرٌ عَلَى أَنَّ في المُجتَمَعِ خَلَلاً ، وَعَلامَةٌ عَلَى أَنَّ في القُلُوبِ فَسَادًا وَمَرَضًا .
وَإِنَّ لِصَحَافَتِنَا مِن ذَلِكَ نَصِيبًا كَبِيرًا ، حَيثُ دَرَجَت في سَنَوَاتِهَا المُتَأَخِّرَةِ ، عَلَى تَنَقُّصِ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالصَّالِحِينَ ، وَالنَّيلِ مِنَ النَّاصِحِينَ الصَّادِقِينَ ، وَتَنَاوُلِهِم بِأَرخَصِ الكَلامِ بَل وَوَصفِهِم بِأَقذَعِ السَّبِّ وَالتَّعيِيرِ ، حَتى وَصَلَ الأَمرُ إِلى أَن يُوصَفَ بَعضُ كِبَارِ العُلَمَاءِ وَالنَّاطِقِينَ بِالحَقِّ ، بِأَنَّ لَدَيهِ مُشكِلاتٍ نَفسِيَّةً ، أَو انفِصَامًا في الشَّخصِيَّةِ ، وَأَنَّهُ مُتَقَلِّبُ المِزَاجِ مُتَذَبذِبٌ مُتَلَوِّنٌ ، أَو أَنَّهُ مُرِيدٌ لِلدُّنيَا طَالِبٌ لِمَنَاصِبِهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ بِقَصدِ الحَيلُولَةِ بَينَ النَّاسِ وَبَينَ العُلَمَاءِ وَرِجَالِ الشَّرِيعَةِ ، حَتى يَخلُوَ الجُوُّ لأُولِئَكِ المُنَافِقِينَ ، لِيُفسِدُوا في المُجتَمَعِ كَيفَ يَشَاؤُونَ ، وَلِيَصُوغُوا أَفكَارَ شَبَابِهِ عَلَى مَا يُرِيدُونَ ، وَلِيَتَلاعَبُو ا بِأَجسَادِ نِسَائِهِ كَمَا يَشتَهُونَ ، فَقَاتَلَهُمُ اللهُ أَنىَّ يُؤفَكُونَ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ، وَاعلَمُوا أَنَّ ممَّا يَجِبُ عَلَى المُجتَمَعِ المُسلِمِ أَن يُقَاطِعَ هَذِهِ الجَرَائِدَ وَتِلكَ القَنَوَاتِ ، وَأَلاَّ يَسمَحَ لِعَينِهِ أَن تَرَى وَلا لأُذُنِهِ أَن تَستَمِعَ لِمَا في تِلكَ المَصَادِرِ العَفِنَةِ النَّتِنَةِ مِنِ استِهزَاءٍ وَسُخرِيَةٍ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَتَهَكُّمٍ بِحَافِظِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَقَد نَزَّلَ عَلَيكُم في الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعتُم آيَاتِ اللهِ يُكفَرُ بها وَيُستَهزَأُ بها فَلا تَقعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيرِهِ إِنَّكُم إِذًا مِثلُهُم إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا " إِنَّ هَؤُلاءِ الصَّحَفِيِّينَ وَالكَتَبَةِ مَعَ تَنَاقُضِهِمُ الوَاضِحِ فِيمَا يَكتُبُونَ ، إِنَّهُم لَمِن أَجهَلِ النَّاسِ بما أَنعَمَ اللهُ بِهِ عَلَى هَذِهِ البِلادِ مِن نِعمَةِ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الَّتي لا تَعدِلُهَا نِعمَةٌ ، وَلَو كَانُوا يَعقِلُونَ لأَصغَوا أَسمَاعَهُم وَقُلُوبَهُم لِقَولِ رَبِّهِم ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ : " وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذكُرُوا نِعمَةَ الهِب عَلَيكُم وَمَا أَنزَلَ عَلَيكُم مِنَ الكِتَابِ وَالحِكمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ " وَأَمَّا المُستَهزَأُ بهم وَلا سِيَّمَا مِنَ العُلَمَاءِ وَطُلاَّبِ العِلمِ وَالدُّعَاةِ ، فَيَكفِيهِم أَن يَتلُوا قَولَ رَبِّهِم ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ : " فَذَرْهُم يَخُوضُوا وَيَلعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَومَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ " " وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ اعمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُم إِنَّا عَامِلُونَ . وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ . وَللهِ غَيبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ "

ناصرعبدالرحمن 17-05-2012 01:06 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

الضرورات الخمس بين حفظ الدين وتضييع المدعين 27 / 6 / 1433



الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ " وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا كَانَتِ القَوَانِينُ الوَضعِيَّةُ الأَرضِيَّةُ ، تَهتَمُّ بِإِسعَادِ المَرءِ في دُنيَاهُ فَحَسبُ ، وَقَد تَهتَمُّ بِهِ فَردًا عَلَى حِسَابِ الجَمَاعَةِ ، وَقَد تَغمِطُهُ حَقَّهُ عَلَى حِسَابِ الآخَرِينَ ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ السَّمَاوِيَّةَ المُنَزَّلَةَ مِن عِندِ رَبِّ العَالمِينَ ، جَاءَت لإِسعَادِ الإِنسَانِ في الدَّارَينِ ، وَقَصَدَت إِلى نَجَاتِهِ في دُنيَاهُ وَأُخرَاهُ ، وَاهتَمَّت بِهِ فَردًا مِن ضِمنِ جَمَاعَةٍ ، لَهُ عَلَيهَا حَقُوقٌ وَلَهَا عَلَيهِ حُقُوقٌ ، وَمِن أَجلِ هَذَا فَقَد جَاءَ الإِسلامُ بِكُلِّيَّاتٍ خَمسٍ ، أَوجَبَ حِفظَهَا وَحَمَى حِمَاهَا ، وَحَدَّ الحُدُودَ وَشَرَعَ التَّعزِيرَاتِ لِلحَيلُولَةِ دُونَ النَّيلِ مِنهَا ، إِنَّهَا الدِّينُ وَالنَّفسُ وَالمَالُ وَالعِرضُ وَالعَقلُ ، فَالإِنسَانُ مَخلُوقٌ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَخَالِقِهِ ، وَهُوَ عَائِدٌ إِلى مَولاهُ فَمُحَاسِبُهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " أَفَحَسِبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثًا وَأَنَّكُم إِلَينَا لا تُرجَعُونَ . فَتَعَالى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرشِ الكَرِيمِ . وَمَن يَدعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الكَافِرُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسلامُ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَمَن يَرتَدِدْ مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقتُلُوهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ .


وَأَمَّا النَّفسُ البَشَرِيَّةُ فَهِيَ غَالِيَةٌ غَالِيَةٌ ، وَالحِفَاظُ عَلَيهَا أَمَانَةٌ وَمَسؤُولِيَّةٌ ، وَالاعتِدَاءُ عَلَيهَا وَإِزهَاقُهَا جَرِيمَةٌ وَأَيُّ جَرِيمَةٍ ، وَأَعظَمُ النُّفُوسِ عِندَ اللهِ نَفسُ المُؤمِنِ ، ثم كُلُّ نَفسٍ مُعَاهَدَةٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَن يَقتُلْ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلِمٍ يَشهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إلاَّ بِإِحدَى ثَلاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّاني ، وَالنَّفسُ بِالنَّفسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " كُلُّ ذَنبٍ عَسَى اللهُ أَن يَغفِرَهُ إِلاَّ الرَّجُلَ يَمُوتُ مُشرِكًا أَو يَقتُلُ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن قَتَلَ مُؤمِنًا فَاغتَبَطَ بِقَتلِهِ ، لم يَقبَلِ اللهُ مِنهُ صَرفًا وَلا عَدلاً " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا لم يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا يَزَالُ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ .


وَأَمَّا المَالُ ، فَقَد كَفَلَ الإِسلامُ فِيهِ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، وَحَرَّمَ الاعتِدَاءَ عَلَيهِ وَأَخذَهُ بِغَيرِ حَقٍّ ، وَشَرَعَ حَدَّ السَّرِقَةِ لِصِيَانَتِهِ ، وقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ "
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا تَحَاسَدُوا ، وَلا تَنَاجَشُوا ، وَلا تَبَاغَضُوا ، وَلا تَدَابَرُوا ، وَلا يَبِعْ بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا ، المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ، وَلا يَخذُلُهُ ، وَلا يَحقِرُهُ ، التَّقوَى هَاهُنَا ـ وَيُشِيرُ إِلى صَدرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ـ بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ ، كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .


وَأَمَّا العِرضُ فَقَد حَرِصَ الإِسلامُ عَلَى طَهَارَتِهِ وَنَقَائِهِ وَصَفَائِهِ ، وَوَضَعَ سَيَاجَاتٍ لِحِمَايَتِهِ وَوِقَايَتِهِ وَصَيَانَتِهِ ، فَحَرَّمَ النَّظَرَ إِلى العَورَاتِ وَتَتَبُّعَهَا ، وَحَرَّمَ الزِّنَا وَمَقَتَهُ وَقَبَّحَهُ ، وَجَعَلَ حَدَّ فَاعِلِهِ الجَلدَ أَوِ الرَّجمَ ، وَغَلَّظَ في أَمرِ رَميِ المُحصَنَاتِ ، وَعَدَّهُ مِنَ السَّبعِ المُوبِقَاتِ المُهلِكَاتِ ، قَالَ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَنَاتِ ثم لم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقبَلُوا لهم شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يَا مَعشَرَ مَن قَد أَسلَمَ بِلِسَانِهِ وَلم يُفضِ الإِيمَانُ إِلى قَلبِهِ ، لا تُؤذُوا المُسلِمِينَ وَلا تُعَيِّرُوهُم وَلا تَتَّبِعُوا عَورَاتِهِم ، فَإِنَّهُ مَن تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ ، وَمَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَهُ يَفضَحْهُ وَلَو في جَوفِ رَحلِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ : الشِّركُ بِاللهِ ، وَالسِّحرُ ، وَقَتلُ النَّفسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ، وَأَكلُ الرِّبَا ، وَأَكلُ مَالِ اليَتِيمِ ، وَالتَّولي يَومَ الزَّحفِ ، وَقَذفُ المُحصَنَاتِ المُؤمِنَاتِ الغَافِلاتِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .


وَأَمَّا العُقُولُ فَقَد كَرَّمَ اللهُ بها بَني الإِنسَانِ ، وَجَعَلَهَا مَنَاطَ التَّكلِيفِ وَمُتَعَلَّقَهُ ، وَلم يُكَلِّفْ بِعَمَلٍ وَلا أَوجَبَ حِسَابًا عَلَى مَن زَالَ عَقلُهُ بِغَيرِ فِعلٍ مِنهُ ، غَيرَ أَنَّ غَلاءَ العَقلِ وَأَهمِيَّتَهُ ، جَعَلَ الاعتِدَاءَ عَلَيهِ حَتى مِن صَاحِبِهِ أَمرًا مُحَرَّمًا ، وَمِن أَجلِ هَذَا حُرِّمَتِ الخَمرُ وَوُصِفَت بِأَنَّهَا رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ وَأَنَّهَا أُمُّ الخَبَائِثِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ في الخَمرِ وَالمَيسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَل أَنتُم مُنتَهُونَ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الخَمرُ أُمُّ الفَوَاحِشِ وَأَكبَرُ الكَبَائِرِ " رَوَاهُ الطَّبرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، بِكُلِّ هَذِهِ الحُقُوقِ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ ، وَعَنهَا دَافَعَ الإِسلامُ ، وَلأَجلِهَا أُوجِبَ فِعلُ الوَاجِبَاتِ وَحُتِّمَ الانتِهَاءُ عَنِ المَنهِيَّاتِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا مُسَوِّغَ بَل وَلا مَجَالَ لِلتَّفرِيقِ بَينَهَا في اهتِمَامِ المُكَلَّفِينَ ، بَل لا بُدَّ مِن حِمَايَتِهَا كُلِّهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، وَتَأثِيمِ كُلِّ مُعتَدٍ عَلَى أَيٍّ مِنهَا وَمُحَارَبَتِهِ وَمَنعِهِ وَالأَخذِ عَلَى يَدِهِ وَصَدِّهِ ، وَإِنَّ مِمَّا طَالَ أُمَّةَ الإِسلامِ مِن زَحفِ الأَفكَارِ الغَربِيَّةِ وَالشَّرقِيَّةِ النَّتِنَةِ ، أَنَّ مَن يُسَمُّونَ أَنفُسَهُم بِالحُقُوقِيِّي نَ أَو طُلاَّبَ الحُرِّيَّةِ أَوِ المُدَافِعِينَ عَنِ الإِنسَانِيَّةِ ، جَعَلَت جُهُودُهُم تَتَرَكَّزُ عَلَى حَقٍّ وَاحِدٍ مِن هَذِهِ الحُقُوقِ ، لَيسَ هُوَ أَفضَلَهَا وَلا أَهَمَّهَا وَإِن كَانَ مُهِمًّا وَمُقَدَّرًا ، ذَلِكُم هُوَ الحَقُّ المَاليُّ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ العَجِيبِ أَن تَتَعَالى الأَصوَاتُ وَتَنتَشِرُ المُطَالَبَاتُ ، في الصُّحُفِ وَالقَنَوَاتِ ، وَفي بَرَامِجِ التَّوَاصُلِ الاجتِمَاعِيِّ في الشَّبَكَاتِ ، فَلا تَتَجَاوَزُ كُلُّهَا المُطَالَبَةَ بِحَقِّ في وَظِيفَةٍ أَو تَرقِيَةٍ ، أَوِ التَّسَاؤُلِ عَن نَصِيبِ فَردٍ في عَطَاءٍ أَو دَرَجَةٍ ، حَتى لَيَكَادُ يُحصَرُ ظُلمُ الوُلاةِ وَالرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ لِرَعَايَاهُم في استِئثَارِهِم بِالمَالِ وَالمَنَاصِبِ وَالزَّعَامَاتِ ، وَأَمَّا اعتِدَاؤُهُم عَلَى الدِّينِ وَاتِّخَاذُهُ لَهوًا وَلَعِبًا ، وَالتَّقصِيرُ في حِمَايَةِ جَنَابِهِ ، وَمُحَارَبَتُهُ م لِلمُتَمَسِّكِي نَ بِهِ وَمُطَارَدَتُهُ م الدَّاعِينَ إِلى سَبِيلِ رَبِّهِم ، وَإِهَانَتُهُم لِلبَشَرِ وَظُلمُهُم إِيَّاهُم في أَجسَادِهِم أَو هَتكُ أَعرَاضِهِم ، وَالسَّمَاحُ لِكُلِّ دَعِيٍّ أَن يَبُثَّ سُمُومَهُ في أَوسَاطِهِم ، فَلا تَكَادُ تَجِدُ مُتَنَاوِلاً لَهُ إِلاَّ فِئَةٌ مِنَ النَّاصِحِينَ الغَيُورِينَ ، الآمِرِينَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ ، الَّذِينَ هُم خَيرٌ عَلَى مُجتَمَعَاتِهِم في دِينِهَا وَدُنيَاهَا وَأُولاهَا وَأُخرَاهَا ، وَمَعَ هَذَا تَجتَمِعُ الجُهُودُ الشَّيطَانِيَّة ُ عَلَى حَربِهِم ، ظَانَّةً أَنَّهُم بِدِفَاعِهِم عَنِ الدِّينِ وَالعِرضِ ، إِنَّمَا يَحُولُونَ بَينَ النَّاسِ وَبَينَ حُرِّيَاتِهِم ، وَمَا عَلِمَ أُولَئِكَ المُغَرَّرُ بهم وَالمَخدُوعُونَ أَنَّ حِفظَ الدِّينِ وَالعِرضِ ، هُوَ حِمَايَةٌ لِلنُّفُوسِ وَالعُقُولِ وَالأَموَالِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُؤمِنُونَ ـ وَلْيَتَّقِ اللهَ قَومٌ جَعَلُوا الدُّنيَا هَمَّهُم ، وَمَنَاطَ طَاعَتِهِم لِوُلاةِ أَمرِهِم ، وَمِيزَانَ مَحَبَّتِهِم لهم وَرِضَاهُم عَنهُم ، فَبِئسَ القَومُ هُم ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيهِم وَلا يُزَكِّيهِم وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمنَعُ مِنهُ ابنَ السَّبِيلِ ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً لا يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنيَا ، فَإِنْ أَعطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفى لَهُ وَإِلاَّ لم يَفِ لَهُ ، وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلعَةٍ بَعدَ العَصرِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَد أُعطِيَ بها كَذَا وَكَذَا فَأَخَذَهَا "
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " قُلْ تَعَالَوا أَتلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم أَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا وَبِالوَالِدَين ِ إِحسَانًا وَلا تَقتُلُوا أَولادَكُم مِن إِملاقٍ نَحنُ نَرزُقُكُم وَإِيَّاهُم وَلا تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ . وَلا تَقرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتَّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ لا نُكَلِّفُ نَفسًا إِلاَّ وُسعَهَا وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُربى وَبِعَهدِ اللهِ أَوفُوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ "



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ تَقوَاهُ ، وَاستَعِدُّوا بِصَالِحِ الأَعمَالِ لِيَومِ لِقَاهُ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّنَا لا نَقُولُ لِلنَّاسِ لا تُطَالِبُوا بِحُقُوقِكُم المَالِيَّةِ ، أَوِ ارضَوا بِالدُّونِ وَتَلَبَّسُوا بِالمَهَانَةِ ، وَلَكِنَّنَا نَدعُوهُم لاستِيضَاحِ الحَقَائِقِ وَوَزنِ الأُمُورِ بِمِيزَانِ الدِّينِ ، وَمُرَاعَاةِ الأَولَوِيَّاتِ وَاعتِبَارِ المَصَالِحِ وَالمَفَاسِدِ ، وَالعِلمِ بِأَنَّ لِلبُيُوتِ أَبوَابًا لا مَدخَلَ إِلَيهَا إِلاَّ مِنهَا ، وَأَنَّهُ لا يَبذُلُ الأَعلَى لِتَحصِيلِ الأَدنى إِلاَّ جَاهِلٌ ، وَإِذَا ذَهَبَ الدِّينُ وَانتُهِكَ العِرضُ ، فَلا بَارَكَ اللهُ في دُنيًا وَلا مَالٍ ، وَأَنىَّ لِعَقلٍ بَعدَ ذَلِكَ أَن يَستَقِرَّ وَيَنفَعَ صَاحِبَهُ ، أَو يُورِدَهُ مَا يَنفَعُهُ وَيَسُرُّهُ ، وَلأَن يَمُوتَ المَرءُ وَهُوَ عَلَى الدِّينِ الحَقِّ ، خَيرٌ لَهُ مِن أَن تُفتَحَ عَلَيهِ الدُّنيَا ، عَلَى حِسَابِ تَضيِيعِ مَبَادِئِهِ ، ثم يَمُوتَ مِيتَةَ البَهَائِمِ أَو شَرًّا مِنهَا .
إِنَّهُ لَن يَكُونَ المُجتَمَعُ مُجتَمَعًا إِنسَانِيًّا يَشعُرُ كُلُّ فَردٍ فِيهِ بِالطُّمَأنِينَ ةِ وَالارتِيَاحِ ، مَا لم يَكُنِ الأَفرَادُ فِيهِ عَلَى مُستَوًى إِنسَانيٍّ حَقِيقِيٍّ ، يُقَدِّرُ كُلٌّ فِيهِ الآخَرَ وَلا يَستَذِلُّهُ وَلا يُؤذِيهِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الحُرِّيَّةَ الَّتي أَصَمَّ بها مُدَّعُو الحُقُوقِ الآذَانَ وَشَغَلُوا بها الخَلقَ ، لم تُعرَفْ في مَنهَجٍ وَلا نِظَامٍ غَيرِ الإِسلامِ ، فَلا بُدَّ مِن أَن تُفهَمَ كَمَا أَرَادَ اللهُ لا كَمَا أَرَادَ البَشَرُ ، فَهِيَ لَيسَت كَمَا يُرِيدُونَ وَيَفهَمُونَ في نَيلِ كُلِّ شَيءٍ بِلا حُدُودٍ وَلا قُيُودٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ تَحصِيلُ الإِنسَانِ مَا يَنفَعُهُ في إِطَارِ الشَّرِيعَةِ ، وَدُونَ تَعَدٍّ عَلَى المَصلَحَةِ العَامَّةِ لِلآخَرِينَ .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّهُ مَهمَا أُوتيَ الإِنسَانُ مِن نِعَمِ الدُّنيَا ، فَلَن يَنَالَ بها سَعَادَةً إِلاَّ إِذَا سَارَ فِيهَا عَلَى الوَجهِ الَّذِي لأَجلِهِ خُلِقَ ، مُوقِنًا أَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَعَلَ الدُّنيَا عَارِيَّةً لَهُ لِيَتَنَاوَلَ مِنهَا قَدرَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلى النِّعَمِ الدَّائِمَةِ وَالسَّعَادَةِ الحَقِيقِيَّةِ ، وَلَن يَكُونَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلمُؤمِنِينَ " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُم في الأَرضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ "
وَأَمَّا المُنغَمِسُونَ في الدُّنيَا مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِين َ ، فَـ" إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بها في الحَياةِ الدُّنيا وَتَزهَقَ أَنفُسُهُم وَهُم كافِرُونَ "

ناصرعبدالرحمن 31-05-2012 02:41 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
الاختبارات بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة 4/7/1433

الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَبلَ سَنَوَاتٍ وَفي مِثلِ هَذِهِ الأَيَّامِ مِن كُلِّ عَامٍ ، كَانَت حَالَةُ الطَّوارِئِ تُعلَنُ في كَثِيرٍ مِنَ البُيُوتِ ، فَيُمنَعُ مِنهَا الخُرُوجُ وَتَقِلُّ إِلَيهَا الزِّيَارَةُ ، وَتُستَنفَرُ فِيهَا الجُهُودُ وَتُستَفرَغُ الطَّاقَةُ ، وَتَتَحَوَّلُ بَعدَ طُولِ خُمُولٍ وَتَهَاوُنٍ إِلى حِيَاةِ جِدٍّ وَاجتِهَادٍ وَانضِبَاطٍ ، بَل قَد يَصِلُ الوَضعُ في بَعضِهَا إِلى قِمَّةِ التَّوَتُّرِ وَغَايَةِ القَلَقِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِن أَجلِ أَن يَتَفَرَّغَ الأَبنَاءُ لِلقِرَاءَةِ وَالاستِذكَارِ ، فَيَستَعِيدُوا مَعلُومَاتِهِم وَيَضبِطُوهَا وَيُرَتِّبُوهَا ، وَمِن ثَمَّ يَنجَحُونَ في الاختِبَارَاتِ وَيُحَصِّلُونَ أَعلَى الدَّرَجَاتِ ، وَأَمَّا في هَذِهِ السُّنَيَّاتِ المُتَأَخِّرَةِ ، فَقَد خَفَّت هَذِهِ الظَّاهِرَةُ أَوِ اختَفَت ، وَقَلَّ اهتِمَامُ الطُّلاَّبِ وَضَعُفَت مُتَابَعَةُ الأَولِيَاءِ لهم ، حَتى لَتَكَادُ أَيَّامُ الاختِبَارَاتِ تَكُونُ مَرتَعًا خِصبًا لِعَبِيدِ الشَّهَوَاتِ وَصَرعَى الهَوَى وَالغَفَلاتِ ، الَّذِينَ يَتَصَيَّدُونَ الشَّبَابَ لِيُوقِعُوا بهم في شِرَاكِهِم ، وَمِن ثَمَّ يَهوُونَ بهم في حُفَرٍ سَحِيقَةٍ مِنَ الضَّيَاعِ ، قَد يَطُولُ بهمُ الوَقتُ ولَمَّا يَخرُجُوا مِنهَا ، إِمَّا في اعتِيَادِ سَهَرٍ وَإِضَاعَةِ صَلَوَاتٍ ، أَو فِعلِ فَوَاحِشَ وَإِتيَانِ مُنكَرَاتٍ ، أَو إِدمَانِ مُخَدِّرَاتٍ وَمُفَتِّرَاتٍ ، أَو تَنَاوُلِ مُنَبِّهَاتٍ وَقِيَادَةٍ جُنُونِيَّةٍ لِلسَّيَارَاتِ . وَكُلُّهَا أُمُورٌ خَطِيرَةٌ وَمَصَائِبٌ كَبِيرَةٌ ، تُحَتِّمُ عَلَى الجَمِيعِ آبَاءً وَمُعَلِّمِينَ وَرِجَالَ أَمنٍ وَمَسؤُولِينَ ، أَن يَتَحَمَّلُوا المَسؤُولِيَّةَ وَيَرعَوُا الأَمَانَةَ ، فَيَبذُلُوا مَزِيدًا مِنَ الاهتِمَامِ وَيُكَثِّفُوا المُتَابَعَةَ ، وَيَتَعَاوَنُوا عَلَى حِفظِ هَؤُلاءِ الطُّلاَّبِ وَيُرَاقِبُوهُم ، في بُيُوتِهِم وَمَدَارِسِهِم ، وَفي شَوَارِعِهِم وَطُرُقَاتِهِم ، وَعِندَ ذَهَابِهِم وَإِيَابِهِم ، لِئَلاَّ تَكُونَ هَذِهِ الأَيَّامُ بِدَايَةَ انحِرَافٍ تَتَّسِعُ بِهِ الفَجوَةُ بَينَهُم وَبَينَ الخَيرِ وَأَهلِهِ ، وَيَدُومُ شَرُّهَا في مُقتَبَلِ أَعمَارِهِم عَلَيهِم وَعَلى أَهلِيهِم وَبِلادِهِم .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّهُ لَيسَ مِنَ الصَّوَابِ أَن يَتَوَالى مِنَ الآبَاءِ وَالمُعَلِّمِين َ التَّرهِيبُ مِنَ الامتِحَانَاتِ وَجَعلُهَا شَبَحًا يُورِثُ الطُّلاَّبَ خَوفًا وَقَلَقًا , وَلَكِنَّ الوَاجِبَ أَن يَحُثُّوهُم عَلَى بَذلِ الوُسعِ وَالاجتِهَادِ قَدرَ الاستِطَاعَةِ ، وَالاستِعدَادِ لِلامتِحَانَاتِ دُونَ مُبَالَغَةٍ وَلا تَهوِيلٍ ، وَأَن يُعَمَّقَ في نُفُوسِهِم قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ الإِيمَانُ بِاللهِ رَبِّهِم ، وَيُعَوَّدُوا التَّوَكُّلَ عَلَى مَولاهُم وَتَفوِيضَ الأُمُورِ إِلَيهِ وَالاعتِمَادَ عَلَيهِ ، وَسُؤَالَهُ ـ تَعَالى ـ التَّوفِيقَ وَالنَّجَاحَ وَالسَّدَادَ ، فَإِنَّهُ وَحدَهُ الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ الأُمُورِ وَمَفَاتِيحُهَا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلاَ مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ "
وَإِنَّ ممَّا يَجِبُ أن يُرَبَّى عَلَيهِ الطُّلاَّبُ بَل وَالأُمَّةُ جَمِيعًا ، أَنَّهُم متى اتَّقَوُا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَجَعَلُوا هَمَّهُمُ النَّجَاحَ في الآخِرَةِ وَالفَوزَ بِرِضَا رَبِّهِم ، فَاجتَهَدُوا لِذَلِكَ وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِم وَاستَقَامُوا ، وَحَافَظُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَاستَغرَقُوا في العِبَادَاتِ ، وَعَمِلُوا بما تَعَلَّمُوا وَطَبَّقُوهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَيُورِثُهُم بَرَكَةً في الأَوقَاتِ وَالأَعمَارِ ، وَفَتحًا في العُلُومِ وَالفُهُومِ ، وَتَيسِيرًا لِكُلِّ عَسِيرٍ وَتَنفِيسًا لِلكُرُوبِ ، وَأَمَّا إِن هُم جَعَلُوا الدُّنيا هَمًّا لهم وَغَايَةً وَرَأسَ مَالٍ ، فَلَم يَنظُرُوا إِلاَّ إِلى النَّجَاحِ في امتِحَانَاتِهَا ، وَلم يَهتَمُّوا إِلاَّ بِتَحصِيلِ شَهَوَاتِهَا ، وَلم يَتَمَدَّحُوا إِلاَّ بِالتَّفَوُّقِ فِيهَا ، فَمَا أَبعَدَهُم حِينَئِذٍ عَنِ التَّوفِيقِ وَالتَّسدِيدِ ! وَمَا أَحرَاهُم أَن يُوكَلُوا إِلى جُهُودِهِم ! وَكَفَى بِذَلِكَ ضَيَاعًا وَخَسَارَةً ، في الحَدِيثِ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ يَقُولُ : يَا بنَ آدَمَ ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي أَملأْ صَدرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقرَكَ ، وَإِنْ لا تَفعَلْ مَلأتُ يَدَيكَ شُغلاً ولم أَسُدَّ فَقرَكَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيهِ أَمرَهُ ، وَجَعَلَ فَقرَهُ بَينَ عَينَيهِ ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ ، وَمَن كَانَتِ الآخِرَةُ نَيِّتَهُ ، جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمرَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ في قَلبِهِ ، وَأَتَتهُ الدُّنيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
لَقَد خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ الإِنسَانَ لِعِبَادَتِهِ وَإِقَامَةِ شَرعِهِ وَدِينِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنهُم مِن رِزقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطعِمُونِ . إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ " فَإِذَا عَرَفَ المُؤمِنُ الهَدَفَ مِن خَلقِهِ وَإِيجَادِهِ ، عَمِلَ بِهِ وَلَهُ ، وَاستَعَدَّ لِلِقَاءِ رَبِّهِ ، وَأَعَدَّ العُدَّةَ لِلامتِحَانِ الحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مُقبِلٌ عَلَيهِ في قَبرِهِ وَيَومَ حَشرِهِ ، فَفِي الحَدِيثِ الطَّوِيلِ أَنَّ العَبدَ المُؤمِنَ إِذَا وُضِعَ في قَبرِهِ " يَأتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ : مَن رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللهُ . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : دِينيَ الإِسلامُ . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُم ؟ فَيَقُولُ : هُوَ رَسُولُ اللهِ . فَيَقُولانِ لَهُ : وَمَا عِلمُكَ ؟ فَيَقُولُ : قَرَأتُ كِتَابَ اللهِ فَآمَنتُ بِهِ وَصَدَّقتُ ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبدِي فَأَفرِشُوهُ مِنَ الجَنَّةِ وَأَلبِسُوهُ مِنَ الجَنَّةِ وَافتَحُوا لَهُ بَابًا إِلى الجَنَّةِ ، فَيَأتِيهِ مِن رَوحِهَا وَطِيبِهَا ، وَيُفسَحُ لَهُ في قَبرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، وَيَأتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الوَجهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ : أَبشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ ، هَذَا يَومُكَ الَّذِي كُنتَ تُوعَدُ . فَيَقُولُ لَهُ : مَن أَنتَ ، فَوَجهُكَ الوَجهُ يَجِيءُ بِالخَيرِ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الصَّالحُ . فَيَقُولُ : رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ ، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ "
وَأَمَّا الكَافِرُ فَـ" يَأتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجلِسَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ : مَن رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاه هَاه لا أَدرِي . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاه هَاه لا أَدرِي . فَيَقُولانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُم ؟ فَيَقُولُ : هَاه هَاه لا أَدرِي . فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ كَذَبَ عَبدِي فَأَفرِشُوهُ مِنَ النَّارِ ، وَافتَحُوا لَهُ بَابًا إِلى النَّارِ ، فَيَأتِيهِ مِن حَرِّهَا وَسَمُومِهَا ، وَيُضَيَّقُ عَلَيهِ قَبرُهُ حَتى تَختَلِفَ أَضلاعُهُ ، وَيَأتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الوَجهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنتِنُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبشِرْ بَالَّذِي يَسُوؤُكَ ، هَذَا يَومُكَ الَّذِي كُنتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ : مَن أَنتَ ، فَوَجهُكَ الوَجهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ ، فَيَقُولُ : رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعَةَ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَعِندَ التِّرمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ : " لا تَزُولُ قَدَمَا عَبدٍ حَتى يُسأَلَ عَن أَربَعٍ : عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ ؟ وَعَن عِلمِهِ مَا فَعَلَ فِيهِ ؟ وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ ؟ وَعَن جِسمِهِ فِيمَ أَبلاهُ "

فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَحَذَارِ مِن أَن يَملأَ أَحَدُكُم قَلبَهُ بِالدُّنيَا أَو يُكثِرَ فِيهَا التَّمَنِّي ، أَو يَزدَادَ حِرصُهُ عَلَيهَا عَلَى حِسَابِ آخِرَتِهِ " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن بَرَكَةِ العِلمِ النَّافِعِ ، أَنَّهُ لا يَنتَهِي بِامتِحَانٍ يُفَرِّغُ فِيهِ الطَّالِبُ قَلِيلاً مِنَ المَعلُومَاتِ عَلَى وَرَقَاتٍ ، ثم يَنسَاهُ أَو يَتَنَاسَاهُ وَيَنطَلِقُ في دُنيَاهُ ، مِن غَيرِ أَن يَكُونَ لَهُ عَلَيهِ أَثَرٌ حَسَنٌ في سُلُوكِهِ وَأَخلاقِهِ ، وَفي تَعَامُلِهِ وَأَخذِهِ وَعَطَائِهِ .

إِنَّ العِلمَ النَّافِعَ لا يُشبَعُ مِنهُ ، بَل كُلَّمَا ازدَادَ صَاحِبُهُ لَهُ أَخذًا ، عَلِمَ أَنَّهُ لم يَنَلْ مِنهُ شَيئًا ، وَوَجَدَ أَنَّهُ لم يُؤتَ مِنهُ إِلاَّ قَلِيلاً ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَنهُومَانِ لا يَشبَعَانِ : طَالِبُ عِلمٍ ، وَطَالِبُ دُنيَا " رَوَاهُ البَزَّارُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِنَّ مَا نَرَاهُ اليَومَ بَعدَ خُرُوجِ الطُّلاَّبِ مِن قَاعَاتِ الامتِحَانِ ، مِن إِلقَاءِ الكُتُبِ في الشَّوَارِعِ تَدُوسُهَا الأَقدَامُ ، وَيُهَانُ مَا فِيهَا مِن عِلمٍ وَأَعظَمُهُ اسمُ اللهِ وَآيَاتُ كِتَابِهِ وَأَقوَالُ نَبِيِّهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ ، إِنَّهُ لَمُؤَشِّرٌ عَلَى أَنَّ طُلاَّبَنَا يَعِيشُونَ جَهلاً ذَرِيعًا وَسُوءَ فَهمٍ بَالِغًا ، إِنَّهَا أَزمَةٌ يَقَعُ فِيهَا الكِبَارُ مِنَّا قَبلَ الصِّغَارِ ، وَقَد تَبدُو عَلَى المُعلِمِينَ قَبلَ الطُّلاَّبِ ، وَمِن ثَمَّ فَلا عَجَبَ أَن يُستَهَانَ بِالعِلمِ وَأَوعِيَتِهِ ، إِنَّهَا عَدَمُ إِتبَاعِ العِلمِ بِالعَمَلِ ، وَعَدَمُ إِثبَاتِ الأَقوَالِ بِالأَفعَالِ ، وَطَلَبُ العِلمِ مِن أَجلِ الدَّرَجَاتِ وَالشَّهَادَاتِ ، وَجَعلُهُ سُلَّمًا لِلوُصُولِ إلى المَنَاصِبِ وَالوَظَائِفِ ، وَذَلِكَ في حَقِيقَتِهِ نَوعٌ مِنَ المَقتِ لِلنُّفُوسِ وَالبُعدِ عَنِ اللهِ وَقِلَّةِ البَرَكَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ "
أَلا فَرَحِمَ اللهُ امرَأً تَعَلَّمَ لِيَعمَلَ ، وَتَفَقَّهَ لِيُطَبِّقَ ، وَأَخَذَ القُرآنَ لِيَتَخَلَّقَ بِهِ ، فَعَن سَعدِ بْنِ هِشَامٍ قُلْتُ : يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ ، أَنبِئِيني عَن خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَت : أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قُلتُ : بَلَى . قَالَت : فَإِنَّ خُلُقَ نَبيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ القُرآنَ ... " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَكَانَ مِن دُعَائِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اللَّهُمَّ إِني أَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ ، وَمِن قَلبٍ لا يَخشَعُ ، وَمِن نَفسٍ لا تَشبَعُ ، وَمِن دَعوَةٍ لا يُستَجَابُ لها " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ ، وَعِندَ ابنِ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ : " سَلُوا اللهَ عِلمًا نَافِعًا ، وَتَعَوَّذُوا بَاللهِ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ "

وَرَحِمَ اللهُ القَائِلَ :
وَلم أَقضِ حَقَّ العِلمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا *** بَدَا طَمَعٌ صَيَّرتُهُ لِيَ سُلَّمَا
أَأَشقَى بِهِ غَرسًا وَأَجنِيهِ ذِلَّةً *** إِذًا فَاتِّبَاعُ الجَهلِ قَد كَانَ أَحزَمَا
وَلَو أَنَّ أَهلَ العِلمِ صَانُوهُ صَانَهُم *** وَلَو عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا *** مُحَيَّاهُ بِالأَطمَاعِ حَتى تَجَهَّمَا

ناصرعبدالرحمن 31-05-2012 02:42 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

يا أهل الشام لا تحسبوه شرًّا لكم 11 / 7 / 1433



الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، حِينَ يَسمَعُ مُؤمِنٌ بِاللهِ مُصَدِّقٌ بِرَسُولِهِ حَدِيثًا مِن أَحَادِيثِ المُصطَفَى ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيهِ البِشَارَةُ لِقَومٍ أَو مَدحُ جِهَةٍ أَو وَعدٌ بِخَيرٍ ، فَإِنَّهُ لا يَزدَادُ بِهِ إِلاَّ يَقِينًا وَتَصدِيقًا وَفَرَحًا ، لا يَمنَعُهُ مِن ذَلِكَ أَلاَّ يُدرِكَ بِعَقلِهِ القَاصِرِ أَثَرَ مَا سَمِعَ ، أَو أَنَّهَ مُخَالِفٌ في الظَّاهِرِ لِلوَاقِعِ المُشَاهَدِ ؛ لِعِلمِهِ أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ عَنِ الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فَهُوَ حَقٌّ مِن عِندِ اللهِ كَائِنٌ لا مَحَالَةَ ، وَصِدقٌ لا يَقبَلُ الشَّكَّ مِن أَيِّ وَجهٍ . وَإِنَّ مما جَاءَ عَنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ قَولَهُ فِيمَا رَوَاهُ زَيدُ بنُ ثَابِتٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " طُوبى لِلشَّامِ " قُلنَا : لأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ بَاسِطَةٌ أَجنِحَتَهَا عَلَيهَا " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَطُوبى أَيْ رَاحَةٌ وَطِيبُ عَيشٍ حَاصِلٌ لَهَا وَلأَهلِهَا ، أَو هِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ في بَيَانِ مَا عَلَيهِ المَمدُوحُ بها مِن نَعِيمٍ وَنَعمَةٍ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد يَقرَأُ هَذَا الحَدِيثَ أَو يَسمَعُهُ بَعضُ مَن قَلَّ بِالغَيبِ إِيَماَنُهُم ، وَابتُلُوا بِتَقدِيمِ عُقُولِهِمُ الخَاوِيَةِ عَلَى النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ ، فَيَقُولُ : وَأَيُّ نَعِيمٍ لِلشَّامِ وَأَهلِهَا وَأَيُّ نَعمَةٍ ، وَنَحنُ نَرَى اليَهُودَ يُدَنِّسُونَ المَسجِدَ الأَقصَى مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا ، وَالنُّصَيرِيَّ ةُ تَسُومُ أَهلَ السُّنَّةِ العَذَابَ مُنذُ أَكثَرَ مِن أَربَعِينَ سَنَةً ؟ وَهَذِهِ المَصَائِبُ مَا تَزَالُ تَتَوَالى عَلَيهِم وَالقَتلُ فِيهِم مُستَحِرًّا ؟ وَهَذَا لَعَمرُ اللهِ نَوعٌ مِن قُصُورِ النَّظَرِ وَضِيقِ الأُفُقِ وَمَحدُودِيَّةِ التَّفكِيرِ ، بَل هُوَ دَلِيلٌ عَلَى استِحكَامِ مَحَبَّةِ الدُّنيَا في النُّفُوسِ وَتَغَلغُلِهَا في القُلُوبِ وَتَفضِيلِهَا عَلَى الآخِرَةِ ، حَتى عَادَتِ الأَعيُنُ لا تَرَى الخَيرَ وَالشَّرَّ إِلاَّ بِقَدرِ مَا يُنَالُ مِنَ الدُّنيَا أَو يَضِيعُ عَلَى أَهلِهَا مِنهَا ، وَحَتى عَادَ النَّاسُ لا يَعُدُّونَ مِنَ البِلادِ مَحظُوظًا إِلاَّ مَا كَانَت في رَغَدٍ مِنَ العَيشِ آمِنَةً عَلَى دُنيَاهَا ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَن نَصِيبِهَا مِنَ الآخِرَةِ ، أو تَمَسُّكِ أَهلِهَا بِعَقِيدَةٍ وَحَظِّهِم مِن استِقَامَةٍ عَلَى دِينٍ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لا يَلزَمُ مِن فَضِيلَةِ بَلَدٍ وَطِيبِ عَيشِ أَهلِهِ عِندَ اللهِ ، أَنَّهُم لا يُبتَلَونَ وَلا يُصَابُونَ ، لا وَاللهِ ، بَل لَقَد قَضَت سُنَّةُ اللهِ أَن يُبتَلَى المُؤمِنُونَ ، وَأَن يَكُونَ الابتِلاءُ عَلَى قَدرِ قُوَّةِ الدِّينِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " لَتُبلَوُنَّ في أَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم وَلَتَسمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءُ ثم الأَمثَلُ فَالأَمثَلُ ، يُبتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ في دِينِهِ صُلبًا اشتَدَّ بَلاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ في دِينِهِ رِقَّةٌ ابتُلِيَ عَلَى قَدرِ دِينِهِ ... " وَقَالَ : " مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا يُصِبْ مِنهُ " رَوَاهُمَا البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ ، بَل بَيَّنَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ أَنَّ عَدَمَ البَلاءِ لا يَكُونُ إِلاَّ لِلمُنَافِقِينَ ، فَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَثَلُ المُؤمِنِ كَمَثَلِ الخَامَةِ مِنَ الزَّرعِ تُفِيئُهَا الرِّيَاحُ ، تَصرَعُهَا مَرَّةً وَتَعدِلُهَا أُخرَى حَتى يَأتِيَهُ أَجَلُهُ ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الأَرزَةِ المُجذِيَةِ ، الَّتي لا يُصِيبُهَا شَيءٌ حَتى يَكُونَ انجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . لَقَد كَانَ لِمَكَّةَ وَالمَدِينَةِ ، وَهُمَا المَدِينَتَانِ المُقَدَّسَتَان ِ اللَّتَانِ شَهِدَت إِحدَاهُمَا مَولِدَ الإِسلامِ وَفي الأُخرَى شَبَّ وَتَرَعرَعَ ، لَقَد كَانَ لهما وَمَعَ أَفضَلِيَّتِهِم َا وَقَدَاسَتِهِمَ ا نَصِيبٌ مِنَ البَلاءِ ، الَّذِي كَانَ وَمَا زَالَ وَلَن يَزَالَ يُصِيبُ أَجزَاءً مِنَ العَالمِ الإِسلامِيِّ حَتى يَلقَى النَّاسُ رَبَّهُم ، فَقَد ابتُلِيَ فِيهِمَا النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَحبَهُ وَلا سِيَّمَا السَّابِقِينَ مِنهُم ، وَعَانَوا مَا عَانَوا مِنَ المُشرِكِينَ وَالمُنَافِقِين َ وَاليَهُودِ ، وَأَصَابَهُم مِن أَذَاهُم مَا أَصَابَهُم ، وَمَعَ هَذَا فَقَد عَاشُوا نَعِيمًا رُوحِيًّا عَظِيمًا ، وَأَدرَكُوا رَاحَةَ قُلُوبٍ بَالِغَةً ، لم تَستَطِعْ آلَةُ الحَربِ وَالتَّعذِيبِ وَلا فُنُونُ الغَدرِ وَالخِيَانَةِ أَن تَنتَزِعَهَا مِنهُم ، فَيَرجِعُوا عَن دِينِهِم أَو يَتَخَلَّوا عَن إِسلامِهِم ، أَو يَضعُفُوا أَو يُدَاهِنُوا ، لماذَا ؟ لأَنَّهُم ذَاقُوا لَذَّةَ الإِيمَانِ وَخَالَطَت بَشَاشَتُهُ قُلُوبَهُم ، وَاستَطعَمُوا النَّصرَ مِن رَبِّهُمُ الرَّحِيمِ ، وَاستَشعَرُوا الفَوزَ الكَرِيمَ وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ ، فَارتَفَعُوا عَنِ الدُّنيَا الدَّنِيَّةِ ، وَوَصَلُوا بِقُلُوبِهِم إِلى عِيشَةِ الآخِرَةِ الرَّضِيَّةِ ، فَصَارَ العَذَابُ عِندَهُم في سَبِيلِ اللهِ عَذبًا ، وَغَدَت الشَّهَادَةُ أَلَذَّ لَدَيهِم مِنَ الشَّهدِ ، وَأَرخَصُوا في ذَاتِ اللهِ كُلَّ غَالٍ وَنَفِيسٍ ، وَمَا كَانُوا في ذَلِكَ بِدعًا ، وَإِنَّمَا هُم لِمَن سَبَقَهُم عَلَى الأَثَرِ . فَعَن خَبَّابٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : أَتَيتُ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُردَةً وَهُوَ في ظِلِّ الكَعبَةِ ، وَقَد لَقِينَا مِنَ المُشرِكِينَ شِدَّةً ، فَقُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلا تَدعُو اللهَ ؟! فَقَعَدَ وَهُوَ مُحمَرٌّ وَجهُهُ فَقَالَ : " لَقَد كَانَ مَن قَبلَكُم لَيُمشَطُ بِمِشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِن لَحمٍ أَو عَصَبٍ ، مَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ ، وَيُوضَعُ المِنشَارُ عَلَى مَفرِقِ رَأسِهِ فَيُشَقُّ بِاثنَينِ ، مَا يَصرِفُهُ ذَلِكَ عَن دِينِهِ ، وَلَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعَاءَ إِلى حَضرَمَوتَ مَا يَخَافُ إِلاَّ اللهَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ . لَقَد أَيقَنَ المُؤمِنُونَ أَنَّ الفَوزَ الحَقِيقِيَّ هُوَ الفَوزُ في الآخِرَةِ ، وَأَنَّ الخَسَارَةَ المُتَيَقَّنَةَ هِيَ خَسَارَةُ الدِّينِ ، وَمِن ثَمَّ فَلَم يَأسَوا مِنَ الدُّنيَا عَلَى شَيءٍ وَقَد صَحّ لهم دِينُهُم ، وَلم يَحزَنُوا عَلَى مَا ذَهَبَ مِنهَا وَقَد صَفَت عَقِيدَتُهُم ، وَأَمَّا مَا عَلَيهِ أَهلُ الدُّنيَا اليَومَ مِن قِيَاسِ مُؤَشِّرَاتِ السَّعَادَةِ في المُجتَمَعَاتِ بِقَدرِ انغِمَاسِهَا في بُحُورِ الدُّنيَا وَنَيلِهَا مِن زَخَارِفِهَا ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ هُوَ الخِذلانُ بِعَينِهِ ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ بَعضَ مَن أُوتُوا ظَاهِرًا مِنَ العِلمِ بِالحَيَاةِ الدُّنيَا يَرَونَ أَنفُسَهُم مُنَعَّمِينَ ، في حِينِ يَرَونَ أَنَّ مَنِ ابتُلُوا هُم أَهلُ النِّقمَةِ ، وَمَا شَعُرَ أُولَئِكَ الجَهَلَةُ أَنَّ اللهَ كَمَا يَبتَلِي قَومًا بَالشَّرِّ فَإِنَّهُ يَبتَلِي آخَرِينَ بِالخَيرِ ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبيِّ أَكرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُ فَيَقُولُ رَبيِّ أَهَانَنِ " وَقَد أَجَابَ العَلِيمُ الخَبِيرُ بِقَولِهِ : " كَلاَّ " لِيَردَعَ النُّفُوسَ المَهزُوزَةَ وَيَقرَعَ القُلُوبَ المُتَرَدِّدَةَ ؛ لِتَعلَمَ أَنَّ الصَّوَابَ لَيسَ فِيمَا تَرَاهُ في القَرِيبِ العَاجِلِ ، ظَانَّةً أَنّهُ هُوَ المُؤَشِّرُ عَلَى مَحَبَّةِ رَبِّهَا لها ، غَافِلَةً عَن أَنَّ العِبرَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّهَايَةِ السَّعِيدَةِ وَالخَاتِمَةِ الحَسَنَةِ ، وَالَّتي لا تَكُونُ إِلاَّ لِمَن وُفِّقَ فَنَالَهَا بِرِضَا رَبِّهِ ، فَسَعِدَ في أُخرَاهُ سَعَادَةً لا يَشقَى بَعدَهَا أَبَدًا . فَيَا مَعشَرَ المُؤمِنِينَ ، حِينَ تَستَعِرُ نِيرَانُ المُجرِمِينَ مِنَ اليَهُودِ وَالنُّصَيرِيِّ ينَ وَغَيرِهِم مِن أَعدَاءِ الدِّينِ ، فَيَصُبُّوا عُدوَانَهُم عَلَى رُؤُوسِ المُسلِمِينَ وَفي عُقرِ دِيَارِهِم بِالشَّامِ ، فَيَقتُلُوا الشُّيُوخَ وَالعَجَائِزَ ، وَيَهتِكُوا أَعرَاضَ المُسلِمَاتِ العَفِيفَاتِ ، وَيَنحَرُوا الأَطفَالَ الأَبرِيَاءَ كَمَا تُنحَرُ البَهَائِمُ ، في صُوَرٍ تَشمِئَزُّ مِنهَا الفِطَرُ السَّوِيَّةُ ، فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ إِنَّمَا أَرَادَ بِأُولَئِكَ المُعَذَّبِينَ في الدُّنيَا أَن تَكُونَ تِلكَ الابتِلاءَاتُ هِيَ قَاطِعَةَ الشَّرِّ عَنهُم وَحَاسِمَةَ العَذَابِ ، لِيَنعَمُوا بَعدَهَا في جَنَّاتِ وَنَهَرٍ ، في مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ ، بَينَمَا يَتَنَقَّلُ أُولَئِكَ المُجرِمُونَ مِن عَذَابٍ إِلى آخَرَ ، وَيُصَابُونَ في نُفُوسِهِم بِالضِّيقِ وَالحَرَجِ ، ثم لا يَلبَثُونُ أَن تَتَحَقَّقَ فِيهِم سُنَّةُ اللهِ في الظَّالمِينَ ، فَيَهلِكُوا شَرَّ مَهلِكٍ ، وَيَبدَأَ طَرِيقُ إِهَانَةِ اللهِ لهم " وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُكرِمٍ "
نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ حِينَمَا يَمُوتُ أَهلُ الشَّامِ شُهَدَاءَ ، وَتُقطَعُ في سَبِيلِ اللهِ رِقَابُهُم وَيُنحَرُونَ ، عِندَ ذَلِكَ يَحِقُّ لهم أَن يَستَبشِرُوا وَيَفتَخِرُوا وَيَصبِرُوا ، لا أَن يَيأَسُوا وَيَجزَعُوا ، وَيَحِقُّ لِكُلِّ مُؤمِنٍ يَعلَمُ حَقِيقَةَ الدُّنيَا وَكُنهَ الآخِرَةِ ، أَن يُرَدِّدَ قَولَ الحَبِيبِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " طُوبى لأَهلِ الشَّامِ " إِنَّهُ لَفَرقٌ كَبِيرٌ بَينَ مَن يُمَحَّصُ لِيُخَلَّصَ ، وَيُبتَلَى بِالشِّدَّةِ لِيُعَافى ، وَيُسَلَّطُ عَلَيهِ مَن يَسُومُهُ عَذَابًا دُنيَوِيًّا لا يَلبَثُ أَن يَنقَطِعَ بِخُرُوجِ رُوحِهِ ، فَيَلقَى اللهَ شَهِيدًا قَد غُفِرَ لَهُ مَعَ أَوَّلِ قَطرَةٍ مِن دَمِهِ ، وَبَينَ مَن يُملَى لَهُ في دُنيَاهُ وَيُبتَلَى بِالعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ ، وَيُفسَحُ لَهُ لِيَتَمَادَى في الغَيِّ وَلا يُقصِرُ ، ثم يُؤخَذُ عَلَى غِرَّةٍ وَيُهلَكُ في حِينِ غَفلَةٍ ، فَيَوافي بِذُنُوبِهِ عَلَى ظَهرِهِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّ اللهَ لا يُقَدِّرُ عَلَى عِبَادِهِ شَرًّا مَحضًا ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " لا يَسأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الخَيرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ . وَلَئِنْ أَذَقنَاهُ رَحمَةً مِنَّا مِن بَعدِ ضَرَّاءَ مَسَّتهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لي عِندَهُ لَلحُسنى فَلَنُنَبِّئَنّ َ الَّذِينَ كَفَرُوا بما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّه ُم مِن عَذَابٍ غَلِيظٍ . وَإِذَا أَنعَمنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ "




الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ " وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
عِبَادَ اللهِ ، لَيسَ المُؤمِنُ بِالَّذِي يَمدَحُ البَلاءَ أَو يَتَمَنَّى حُصُولَهُ أَو يُعَرِّضُ نَفسَهُ لَهُ ، أَو يُحِبُّ بَقَاءَ الأُمَّةِ عَلَيهِ ، وَلَكِنَّ ممَّا يَفرِضُهُ وَاجِبُ الإِيمَانِ بِالقَدَرِ وَالرِّضَا بِالقَضَاءِ ، الصَّبرَ وَالتَّفَاؤُلَ وَحُسنَ الظَّنِّ بِاللهِ ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيهِ نَبِيُّنَا ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَتى وَهُوَ في أَحلَكِ المَوَاقِفِ وَأَصعَبِ النَّوَازِلِ ، فَهَا هُوَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ في بَعضِ أَيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ يَنتَظِرُ حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمسُ قَامَ فِيهِم فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ ، وَاسأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُم فَاصبِرُوا وَاعلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحتَ ظِلالِ السُّيُوفِ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . فَيَا مُعَافَونَ لا تَطِيرُوا فَرَحًا ، وَيَا مُبتَلَونَ لا تَمُوتُوا كَمَدًا ، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ ثم تُرَدُّونَ إِلى اللهِ مَولاكُمُ الحَقُّ " وَالوَزنُ يَومَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ . وَمَن خَفَّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بما كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظلِمُون " وَإِنَّ لَحظَةً مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ كَفِيلَةُ بِأَن تَمسَحَ عَن أَهلِهَا مَا عَانَوهُ في دُنيَاهُم مِن بَلاءٍ وَمَا أَصَابَهُم مِن بُؤسٍ ، وَلَحظَةٌ مِن عَذَابِ النَّارِ كَافِيَةٌ بِأَن تُنسِيَ المُعَذَّبِينَ مَا انغَمَسُوا فِيهِ مِن شَهَوَاتٍ وَمَا كَانُوا فِيهِ مُترَفِينَ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " يُؤتى بِأَنعَمِ أَهلِ الدُّنيَا مِن أَهلِ النَّارِ يَومَ القِيَامَةِ فَيُصبَغُ في النَّارِ صَبغَةً ، ثُمَّ يُقَالُ : يَا بنَ آدَمَ ، هَل رَأَيتَ خَيرًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ . وَيُؤتى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤسًا في الدُّنيَا مِن أَهلِ الجَنَّةِ ، فَيُصبَغُ صَبغَةً في الجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا بنَ آدَمَ ، هَل رَأَيتَ بُؤسًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بي بُؤسٌ قَطُّ ، وَلا رَأَيتُ شِدَّةً قَطُّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ

ناصرعبدالرحمن 08-06-2012 12:15 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

لتكون ناجحًا 18 / 7 / 1433


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في هَذِهِ الأَيَّامِ خَرَجَ مِنَ المَدَارِسِ أَبنَاءٌ لَنَا وَبَنَاتٌ مَسرُورِينَ مُبتَهِجِينَ ، يَكَادُونَ يَطِيرُونَ فَرَحًا وَفَخرًا ، بَينَمَا عَادَ آخَرُونَ مُنَكَّسَةً رُؤُوسُهُم ضَائِقَةً نُفُوسُهُم ، لا يَرفَعُونَ إِلى نَاظِرٍ طَرفًا وَلا يُعطُونَ سَائِلاً إِجَابَةً .
وَمَعَ أَنَّ الفُرَصَ كَانَت مُتَاحَةً لِلجَمِيعِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، إِلاَّ أَنَّ النَّاجِحِينَ اجتَهَدُوا فَأَدرَكُوا مَا أَمَّلُوا ، بَينَمَا فَرَّطَ المُخفِقُونَ وَقَصَّرُوا ، فَخَرَجُوا مِن مَوسِمِهِم وَلم يُدرِكُوا مَا كَانُوا يَرجُونَهُ ، نَعَم ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ لم يَكُنْ كُلُّ النَّاجِحِينَ عَبَاقِرَةً أَذكِيَاءَ ، وَلا كُلُّ المُخفِقِينَ مُغَفَّلِينَ أَغبِيَاءَ ، وَلَكِنَّهُ الجِدُّ في الطَّلَبِ وَدَوامُ السَّيرِ نَحوَ الهَدفِ ، وَأَخذُ النُّفُوسِ بِالعَزِيمَةِ وَالصَّبرُ لإِدرَاكِ المُبتَغَى .

عِبَادَ اللهِ ، نَحنُ في هَذِهِ الحَيَاةِ في اختِبَارٍ دَائِمٍ ، تَتَكَرَّرُ نَتَائِجُهُ في كُلِّ يَومٍ بَل في كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحظَةٍ ، غَيرَ أَنَّهُ لا يَستَفِيدُ مِن تِلكَ النَّتَائِجِ وَيَستَثمِرُهَا في التَّقَدُّمِ نَحوَ الأَفضَلِ ، إِلاَّ المُوَفَّقُونَ مِن ذَوِي البَصَائِرِ النَّيِّرَةِ وَالقُلُوبِ الحَيَّةِ ، الَّذِينَ يَعلَمُونَ أَنَّ طُلاَّبِ الآخِرَةِ لَن يَرَوُا النَّتِيجَةَ النِّهَائِيَّةَ عَينَ اليَقِينِ إِلاَّ يَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَومَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُم في رَوضَةٍ يُحبَرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ في العَذَابِ مُحضَرُونَ "
وَمِن أَجلِ هَذَا ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّ العُقَلاءَ لا يَزدَادُونَ بِطُولِ العُمُرِ إِلاَّ نَجَاحًا في إِثرِ نَجَاحٍ ، بَينَمَا لا يَزدَادُ المُفَرِّطُونَ بِتَقَدُّمِ أَعمَارِهِم إِلاَّ تَعَثُّرًا تِلوَ تَعَثُّرٍ وَإِخفَاقًا بَعدَ إِخفَاقٍ .

وَيَتَسَاءَلُ مُرِيدٌ لِنَفسِهِ النَّجَاحَ وَالنَّجَاةَ :
هَل مِن سَبِيلٍ لأَكُونَ مِنَ النَّاجِحِينَ الفَائِزِينَ ؟
وَمَا مِقيَاسُ النَّجَاحِ الأُخرَوِيِّ لأَزِنَ بِهِ نَفسِي ؟
فَيُقَالُ : إِنَّ مَن صَدَقَت نِيَّتُهُ وَسَمَت هِمَّتُهُ ، وَصَبَرَ وَصَابَرَ وَجَاهَدَ وَأَحسَنَ ، فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ لَهُ جُهدًا وَعَمَلاً ، وَلا يُخَيِّبُ لَهُ رَجَاءَ وَأَمَلاً ، غَيرَ أَنَّ لِذَلِكَ النَّجَاحِ مَسَارَاتٍ ثَلاثَةً ، مَنِ التَزَمَهَا كَمَا يَنبَغِي وَحَقَّقَ السَّيرَ فِيهَا كَمَا يُرَادُ ، فَهُوَ النَّاجِحُ بِإِذنِ اللهِ ، وَمَن غَفَلَ وَتَسَاهَلَ وَكَثُرَ التِفَاتُهُ ، فَفِيهِ مِنَ النَّقصِ بِقَدرِ مَا نَقَصَ مِنهَا ، تِلكُم ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ هِيَ عِلاقَةُ العَبدِ بِرَبِّهِ ، وَتَعَامُلُهُ مَعَ نَفسِهِ الَّتي بَينَ جَنبَيهِ ، وَصِلَتُهُ بِمَن حَولَهُ ، وَقَد جَمَعَهَا إِمَامُ النَّاجِحِينَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لِمَن أَوصَاهُ في كَلِمَاتٍ مَعدُودَاتٍ وَعِبَارَاتٍ مُوجَزَةٍ ، فَعَن أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ لي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِتَّقِ اللهَ حَيثُمَا كُنتَ ، وَأَتبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
إِنَّها مَوَازِينُ عَظِيمَةٌ وَمَقَايِيسُ وَاضِحَةٌ ، وَسِمَاتٌ كَرِيمَةٌ بَيِّنَةٌ ، يُمكِنُ لِلمَرءِ أَن يَعرِضَ نَفسَهُ عَلَيهَا لِيَعلَمَ أَينَ مَوقِعُهُ ؟
فَتَأَمَّلْ حَالَكَ ـ عَبدَ اللهِ ـ وَأَنتَ تَسِيرُ إِلى أُخرَاكَ ، كَيفَ أَنتَ مَعَ رَبِّكَ ؟
هَلِ استَوَى ظَاهِرُكَ وَبَاطِنُكَ ؟
هَل أَنتَ في الخَلوَةِ كَمَا أَنتَ في الجَلوَةِ ؟
هَل تَخَافُ اللهَ في سِرِّكَ كَمَا تَخشَاهُ في عَلَنِكَ ؟
هَل تَخشَعُ إِذَا كُنتَ وَحدَكَ كَمَا أَنتَ أَمَامَ المَلأِ ؟
هَل تَذكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحيَانِكَ ؟
هَل تَرَاهُ أَمَامَكَ كُلَّمَا هَمَمتَ بِمُخَالَفَةِ أَمرِهِ ؟
إِن كُنتَ هَكَذَا حَقًّا وَصِدقًا ، تَعِيشُ تَقِيًّا نَقِيًّا ، وَتَحيَا خَائِفًا وَجِلاً ، فَهَنِيئًا لَكَ ، فَقَدِ امتَلأَت تَقوًى وَبَلَغتَ مَنزِلَةَ الخَشيَةِ ، فَلَن تَغُشَّ إِذْ ذَاكَ أَحَدًا ، وَلَن تَهتِكَ لِمُسلِمٍ عِرضًا ، وَلَن تَقَعَ عَينُكَ عَلَى حَرَامٍ ، وَلَن تَسمَعَ أُذُنُكَ قَبِيحًا ، وَلَن تَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ تَعذِرُ مِنهُ غَدًا ، لَن تَشتَغِلَ بِنَمِيمَةٍ وَلَن تَغتَابَ ، وَلَن تَبهَتَ وَلَن تَكذِبَ ، وَلَن تَشهَدَ بِزُورٍ وَلَن تَغشَى زُورًا ، سَيَقشَعِرُّ جِلدُكَ كُلَّمَا هَمَمتَ بِمَعصِيَةٍ ، وَسَتَنتَفِضُ كُلَّمَا دَعَتكَ نَفسُكَ لِشَهوَةٍ ، وَسَتَتَذَكَّرُ يَومًا تَرجِعُ فِيهِ إِلى رَبِّكَ ، وَسَيَكُونُ ذَلِكَ لَكَ رَادِعًا عَنِ الحَرَامِ مَانِعًا ، وَسِيَاجًا دُونَ المُشتَبِهِ وَاقِيًا ، لَن تَحتَاجَ إِلى رَقَابَةٍ مِن بَشَرٍ ، وَلَن يَشرَئِبَّ عُنُقُكَ إِلى مَدحٍ مَادِحٍ ، وَلَن يَتَطَامَنَ رَأسُكَ لِذَمِّ قَادِحٍ ، وَلَن يُغَيِّرَكَ مَنصِبٌ وَلا جَاهٌ وَلا مَالٌ ، فَأَنتَ مَعَ اللهِ وَحدَهُ تَتَعَامَلُ ، لَهُ تَرجُو وَمِنهُ تَخَافُ ، تُحِبُّ فِيهِ وَتُبغِضُ فِيهِ ، وَلَهُ تُعطِي وَمِن أَجلِهِ تَمنَعُ ، فَهَنِيئًا لَكَ قَولُهُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّ الَّذِينَ هُم مِن خَشيَةِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِم يُؤمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِم لا يُشرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلى رَبِّهِم رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَهُم لها سَابِقُونَ " وَقَولُهُ : " إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَإِذَا تُلِيَت عَلَيهِم آيَاتُهُ زَادَتهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ . أُولَئِكَ هُمُ المُؤمِنُونَ حَقًّا لَهُم دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِم وَمَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ "
وَقَولُهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن أَحَبَّ للهِ وَأَبغَضَ للهِ ، وَأَعطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ فَقَدِ استَكمَلَ الإِيمَانَ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

عِبَادَ اللهِ ، مَن نَجَحَ في عِلاقَتِهِ مَعَ اللهِ أَوَّلاً ، فَكَانَ لأَمرِهِ طَائِعًا وَفِيمَا عِندَهُ طَامِعًا ، وَلِمَا نَهَى عَنهُ مُجَانِبًا وَلِرِضَاهُ طَالِبًا ، فَإِنَّهُ لَن يَجِدَ بَعدَ ذَلِكَ صُعُوبَةً في تَجَاوُزِ الاختِبَارِ الثَّاني وَالثَّالِثِ ، إِذْ هُمَا مِن ذَاكَ الأَصلِ يَنطَلِقَانِ ، وَعَلَيهِ يُبنَيَانِ ، وَمِنهُ يَستَمِدَّانِ رُوحَهُمَا وَغِذَاءَهُمَا .
مَنِ اتَّقَى اللهَ وَخَافَهُ بِالغَيبِ ، وَعَرَفَ نَفسَهُ حَقَّ المَعرِفَةِ وَقَدَرَهَا قَدرَهَا ، تَعَاهَدَهَا في كُلِّ حِينٍ ، وَعَالَجَهَا مِن كُلِّ مَرَضٍ ، وَزَمَّهَا عَنِ التَّعَدِّي وَالخَطَأِ ، وَخَطَمَهَا عَنِ الظُّلمِ وَالبَغيِ ، لماذَا ؟ لِعِلمِهِ أَنَّهُ بَشَرٌ خَطَّاءٌ وَلا بُدَّ ، مُعَرَّضٌ لِلزَّلَلِ وَلا مَحَالَةَ ، طَبعُهُ النِّسيَانُ وَالغَفلَةُ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يَشعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلى مَا يَغسِلُ بِهِ أَدرَانَ نَفسِهِ ، لِئَلاَّ تَجتَمِعَ عَلَيهِ فَتُلَوِّثَ قَلبَهُ وَتُدَنِّسَ عِرضَهُ ، وَتُسَوِّدَ صَحِيفَتَهُ وَوَجهَهُ ، فَلا تَرَاهُ لِذَلِكَ إِلاَّ تَوَّابًا أَوَّابًا ، رَجَّاعًا لِلحَقِّ غَيرَ مُتَمَادٍ في البَاطِلِ ، قَاعِدَتُهُ الَّتي يَسِيرُ عَلَيهَا في ذَلِكَ وَلا يَحِيدُ عَنهَا ، قَولُ اللهِ ـ تَعَالى ـ : " أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ " وَقَولُ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلا تَستَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ "
وَقَولُ رَسُولِ اللهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيمَا رَوَاهُ التَّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ : " كُلُّ ابنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، النَّاجِحُونَ في الحَيَاةِ قَومٌ مُوَحِّدُونَ ، لِرَبِّهِم مُتَّقُونَ ، وَمِن خَشيَتِهِ مُشفِقُونَ ، قُلُوبُهُم وَجِلَةٌ ، ونُفُوسُهُم مُطمَئِنَّةٌ ، وَصُدُورُهُم بِالإِسلامِ مُنشَرِحَةٌ ، عَلَى نُورٍ مَن رَبِّهِم يَسِيرُونَ ، وَإِلى مَن حَولَهُم يُحسِنُونَ ، لا يُحقِرُونَ أَحَدًا وَلا يَتَكَبَّرُونَ ، وَلا يَغمِطُونَ صَاحِبَ حَقٍّ وَلا يَظلِمُونَ ، يُحِبُّونَ لإِخوَانِهِم مِنَ الخَيرِ مَا يُحِبُّونَهُ لأَنفُسِهِم ، حَيَاتُهُم بَينَ عَدلٍ وَإِحسَانٍ وَإِيتَاءٍ لِذِي القُربى ، وَمِن ثَمَّ فَهِيَ أَغلَى مِن أَن تَمضِيَ في حِقدٍ وَحَسَدٍ أَو بَغضَاءَ وَشَحنَاءَ ، وَأَثمَنُ مِن أَن تُضَاعَ في تَبَادُلِ هَجرٍ وَقَطِيعَةٍ ، وَأَسمَى مِن أَن تُلَوَّثَ بِطُولِ صُدُودٍ وَتَنَافُرِ وُدٍّ ، وَأَمَّا الفَحشَاءُ وَالمُنكَرُ وَالبَغيُ فَهُم عَنهَا بَعِيدُونَ .
لَقَد عَلِمُوا أَنَّهُ لا طَرِيقَ لِلنَّجَاحِ في عِلاقَتِهِم مَعَ الآخَرِينَ إِلاَّ لُزُومُ سَبِيلِ الإِحسَانِ إِلَيهِم وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُم ، وَتَجَنُّبُ الشُّحِّ وَالحَذَرُ مِنَ الكِبرِ وَالغُرُورِ ، لأَنَّهُ مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ وَوَفَّقَهُ وَسَدَّدَهُ ، وَلا تَكَبَّرَ أَحَدٌ إِلاَّ خَذَلَهُ وَوَكَلَهُ إِلى نَفسِهِ ، وَإِنَّمَا تَسُوءُ عِلاقَةُ المَرءِ بِمَن حَولَهُ وَيَكثُرُ تَعَدِّيهِ عَلَيهِم وَظُلمُهُم ، بِقَدرِ تَكَبُّرِهِ عَلَيهِم وَتَعَالِيهِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ أَوحَى إِليَّ : أَنْ تَوَاضَعُوا حَتى لا يَفخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَبغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَا مِن آدَمِيٍّ إِلاَّ في رَأسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٌ ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلمَلَكِ ارفَعْ حَكَمَتَهُ ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلمَلَكِ : دَعْ حَكَمَتَهُ " وَالحَكَمَةُ هِيَ : مَا يُحِيطُ بِحَنَكَيِ الفَرَسِ مِن لِجَامِهِ ، وَالمُقصُودُ أَنَّ مَن تَوَاضَعَ وُفِّقَ لِلصَّوَابِ ، وَمَن تَكَبَّرَ وُكِلَ إِلى نَفسِهِ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَأَقِيمُوا إِلَيهِ وُجُوهَكُم ، وَلا يَغُرَّنَّكُم مَن نَجَحَ في دُنيَاهُ ، وَهُوَ أَبعَدُ مَا يَكُونُ عَن مَولاهُ " فَأَقِمْ وَجهَكَ لِلدِّينِ القَيِّمِ مِن قَبلِ أَن يَأتيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَومَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ . مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ "


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَتَأَمَّلُوا فِيمَا حَولَكُم ، فَإِنَّ في الدُّنيَا عِبَرًا ، وَوَرَاءَ المَوتِ خَبَرًا " وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّه لا وَسِيلَةَ لِنَجَاحِ المَرءِ في عِلاقَتِهِ مَعَ رَبِّهِ وَمَعَ نَفسِهِ وَمَعَ الآخَرِينَ ، كَمَثَلِ تَسلُّحِهِ بِالعِلمِ وَتَدَثُّرِهِ بِالفَهمِ ، وَخَيرُ ذَلِكَ العِلمُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، فَمَن كَانَ بهما أَعلَمَ ، كَانَ في حَيَاتِهِ أَكثَرَ نَجَاحًا وَسَعَادَةً ، وَمَنِ اشتَدَّ بهما جَهلُهُ ، وَقَصَّرَ في الأَخذِ مِنهُمَا قِرَاءَةً وَتَدَبُّرًا ، فَأَنىَّ لَهُ أَن يَكُونَ مَعَ النَّاجِحِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ "
وَمَعَ هَذَا ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّهُ لا تَكفِي سَعَةُ العِلمِ وَلا قُوَّةُ الفَهمِ وَحدَهُمَا ، مَا لم يَكُنْ لِلمَرءِ إِرَادَةٌ جَادَّةٌ وَعَزِيمَةٌ صَادِقَةٌ ، وَحِرصٌ على تَطبِيقِ كُلِّ مَا يَعلَمُ ، وَمُجَاهَدَةٌ لِنَفسِهِ عَلَى إِتبَاعِ الأَقوَالِ بِالأَفعَالِ ، وَإِلاَّ كَانَ عِلمُهُ عَلَيهِ وَبَالاً ، وَلم يَزدَدْ بِهِ إِلاَّ مَقتًا لِنَفسِهِ وَبُعدًا مِن رَبِّهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ "
فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاعلَمُوا أَنَّ سَبَبَ فَشلِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ وَإِخفَاقِهِ في حَيَاتِهِ ، إِنَّمَا هُوَ ضَعفُ الإِرَادَةِ وَقُصُورُ الهِمَّةِ وَفُتُورُ العَزِيمَةِ ، وَأَقوَى أَسبَابِ ذَلِكَ النِّسيَانُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَقَد عَهِدنَا إِلى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلم نَجِدْ لَهُ عَزمًا "
فَلازِمُوا العِلمَ وَالتَّعَلُّمَ ، وَاحرِصُوا عَلَى الفِقهِ وَالتَّفَقُّهِ ، وَتَآمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَتَنَاهَوا عَنِ المُنكَرِ " وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ "

ناصرعبدالرحمن 15-06-2012 12:07 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

الإسلام دين النظام 25 / 7 / 1433



الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالى ـ هَذَا الكَونَ وَأَبدَعَهُ ، وَبَنَاهُ عَلَى نِظَامٍ دَقِيقٍ وَأَحكَمَهُ ، حَتى لا يَتَقَدَّمَ فِيهِ مَخلُوقٌ عَلَى آخَرَ ، وَلا يَتَأَخَّرَ مَأمُورٌ عَمَّا أُمِرَ بِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيلُ نَسلَخُ مِنهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُظلِمُونَ . وَالشَّمسُ تَجرِي لِمُستَقَرٍّ لها ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ . وَالقَمَرَ قَدَّرنَاهُ مَنَازِلَ حَتى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ . لا الشَّمسُ يَنبَغِي لها أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلا اللَّيلُ سَابِقُ النَّهَارَ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسبَحُونَ " هَكَذَا خَلَقَ اللهُ الكَونَ ، وَهَكَذَا حَفِظَهُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتَوالي الدُّهُورِ ، دَقِيقًا في أَجوَدِ صَنعَةٍ ، مُتقَنًا في أَحسَنِ هَيئَةٍ ، لا يَتَغَيَّرُ وَلا يَتَبَدَّلُ ، وَلا يَمِيلُ شَعرَةً عَن سَبِيلِهِ الَّتي قُدِّرَ لَهُ السَّيرُ فِيهَا ، " صُنعَ اللهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ "
تَصَوَّرُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ مَا الَّذِي يَحدُثُ لَو خَرَجَ كَوكَبٌ عَن مَسَارِهِ ، أَوِ اصطَدَمَ نَجمٌ بِآخَرَ ، أَو طَغَى بَحرٌ عَلَى يَابِسَةٍ ، أَو جَفَّ نَهرٌ فَجأَةً بَعدَ جَرَيَانِهِ ، أَو غَارَ بَحرٌ في سَاعَةٍ أَو زَالَ جَبَلٌ في لَحظَةٍ ، إِنَّهُ خَرَابُ الكَونِ وَفَسَادُ المَعَايِشِ وَاختِلالُ الحَيَاةِ ، وَاللهُ يُرِي النَّاسَ في حَيَاتِهِم مِن هَذَا أَمثِلَةً لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ وَيَعتَبِرُونَ ، فَحِينَ يَقَعُ زَلزَالٌ في بُقعَةٍ أَو تُبلَى بِفَيَضَانٍ ، يَتَكَدَّرُ أَهلُهَا وَيَتَنَغَّصُ عَيشُهُم ، وَيُخَيِّمُ عَلَيهِمُ الحُزنُ وَيَتَمَلَّكُهُ مُ الخَوفُ ، وَيَركَبُهُمُ الهَمُّ وَيُحِيطُ بهم الغَمُّ ، وَمِن ثَمَّ يَهُبُّ العَالمُ بِأَسرِهِ مُحَاوِلاً مَسحَ مَا ارتَسَمَ عَلَى تِلكَ البُقعَةِ مِن دَمَارٍ وَفَسَادٍ ، لِتَعُودَ حَيَاةُ النَّاسِ إِلى مَجرَاهَا الطَّبِيعِيِّ ، فَسُبحَانَ اللهِ الَّذِي أَجرَى كُلَّ شَيءٍ في هَذَا الكَونِ عَلَى نِظَامٍ دَقِيقٍ مُحكَمٍ ، وَسَخَّرَهُ لِهَذَا الإِنسَانِ وِفقَ سُنَنٍ ثَابِتَةٍ ، لِيَهنَأَ في عَيشِهِ وَتَستَقِرَّ حَيَاتُهُ ؛ وَمِن ثَمَّ يَقُومُ بِمُهِمَّتِهِ الَّتي أُنزِلَ عَلَى الأَرضِ مِن أَجلِهَا .

عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَ هَذَا الكَونَ وَرَتَّبَ كُلَّ مَا فِيهِ ، جَعَلَ العِبَادَاتِ كَذَلِكَ مُرَتَّبَةً وَمُنَظَّمَةً ، وَحَدَّهَا بِحُدُودٍ مَنَعَ مِن تَعَدِّيهَا وَتَجَاوُزِهَا ، فَأَنتُم تَرَونَ الصَّلَوَاتِ في كُلِّ يَومٍ خَمسًا ، قَبلَهَا وُضُوءٌ وَطَهَارَةٌ ، وَلِكُلٍّ مِنهَا عَدَدُ رَكَعَاتٍ وَهَيئَاتٌ وَصِفَاتٌ ، وَأَوقَاتٌ لا يَجُوزُ تَعَدِّيهَا بَدأً وَلا انتِهَاءً ، وَمِثلُ ذَلِكَ تَرَونَ الزَّكَاةَ ، لها أَحكَامٌ في أَنوَاعِهَا وَوَقتِهَا وَمَقَادِيرِهَا وَنِسَبِهَا ، وَالصَّومُ لَهُ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ وَمُنطَلَقٌ وَغَايَةٌ ، وَالحَجُّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ وَمَنَاسِكُ وَشَعَائِرُ ، يَتَنَقَّلُ العِبَادُ مِن بَعضِهَا لِبَعضٍ في نِظَامٍ لا يَخرُجُونَ عَنهُ وَلا يَتَجَاوَزُونَه ُ ، في أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ وَأُخرَى مَعدُودَاتٍ ، وِللهِ فِيمَا بَينَ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ حُقُوقٌ في اللَّيلِ لا تُقبَلُ في النَّهَارِ ، وَأُخرَى نَهَارِيَّةٌ لا تُؤَخَّرُ لِلَّيلِ ، وَثَمَّةَ كَفَّارَاتٌ وَنَفَقَاتٌ حُدِّدَت بِمَقَادِيرَ مَعلُومَةٍ وَأَوصَافٍ مَضبُوطَةٍ .

عِبَادَ اللهِ ، أَلا تَرَونَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الإِحكَامِ لِسَيرِ الكَونِ وَالتَّنظِيمِ لِلشَّرَائِعِ وَالدِّقَّةِ في العِبَادَاتِ وَالأَحكَامِ إِنَّمَا هُوَ تَربِيَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِلمُسلِمِينَ خَاصَّةً ؛ لِيَكُونُوا في كُلِّ حَيَاتِهِم مُنَظَّمِينَ مُرَتَّبِينَ ، وَعَلَى الصَّوَابِ سَائِرِينَ ، وَعَنِ الخَطَأِ مُتَجَانِفِينَ ؟! إِنَّ الأَمرَ لَكَذَلِكَ ، كَيفَ وَقَد جَاءَ الإِسلامُ بما يُصلِحُ حَيَاةَ النَّاسِ وَيُنَظِّمُهَا وَيُرَتِّبُهَا ، وَيُكسِبُهُمُ السَّعَادَةَ وَالرَّاحَةَ وَالطُّمَأنِينَ ةَ ، فَمِن تَنصِيبِ الإِمَامِ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَتَحرِيمِ الخُرُوجِ عَلَيهِ ، إِلى وُجُوبِ الصِّدقِ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ ، وَلُزُومِ الدِّقَّةِ في المَوَاعِيدِ وَتَقدِيرِ الوَقتِ ، إِلى تَعظِيمِ الأَمَانَةِ وَمَدحِ النَّزَاهَةِ ، وَالأَمرِ بِالوَفَاءِ بِالعُقُودِ وَالتِزَامِ المَوَاثِيقِ وَالإِتقَانِ وَالإِحسَانِ ، إِلى تَحَرِّي الحَلالِ وَالبُعدِ عَنِ الحَرَامِ وَاجتِنَابِ الشُّبُهَاتِ ، وَمُجَانَبَةِ الغِشِّ وَالخَدِيعَةِ وَالتَّطفِيفِ وَأَكلِ الأَموَالِ بِالبَاطِلِ ، وَنَحوِ ذَلِكَ مِنَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالحُدُودِ الشَّرعِيَّةِ وَالتَّعزِيرَات ِ ، الَّتي هِيَ مَجمُوعَةٌ مُتَرَابِطَةٌ مِنَ الأَنظِمَةِ الرَّبَّانِيَّة ِ المُحكَمَةِ ، البَعِيدَةِ الغَايَاتِ المُشرِقَةِ النِّهَايَاتِ ، أَنزَلَهَا لِلعِبَادِ رَبُّ العِبَادِ ، الَّذِي يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ كُلَّ مَا حَولَ الإِنسَانِ لَيَدفَعُهُ إِلى أَن يَكُونَ مُنَظَّمًا في حَيَاتِهِ ، مُرَتَّبًا في وَظِيفَتِهِ ، مُتقِنًا لِعَمَلِهِ ، مُحسِنًا في تَعَامُلِهِ ، صَادِقًا في بَيعِهِ وَشِرَائِهِ ، وَفِيًّا في أَخذِهِ وَعَطَائِهِ ، لِتَزكُوَ نَفسُهُ وَتَكمُلَ ذَاتُهُ ، وَيَنشَرِحَ صَدرُهُ وَيَسعَدَ في حَيَاتِهِ ، لَكِنَّ هَذَا الإِنسَانَ لِسُوءِ حَظِّهِ في بَعضِ الأَزمِنَةِ أَوِ الأَمكِنَةِ ، يَخرُجُ مِن نَعِيمِ النَّظَامِ وَالجِدِّ وَالإِتقَانِ وَالإِحسَانِ ، فَيَتَرَدَّى في جَحِيمِ اللَّهوِ وَالعَبَثِ وَالتَّقصِيرِ وَالإِسَاءَةِ ، وَيَستَسِيغُ حَيَاةَ البَهَائِمِ الدُّونِيَّةِ ، الَّتي لا يُسأَلُ فِيهَا عَامِلٌ عَمَّا عَمِلَ ، وَلا يُستَنكَرُ عَلَى مُتَصَرِّفٍ تَصَرُّفُهُ ، زَاعِمًا أَو مُتَوَهِّمًا أَنَّ هَذِهِ هِيَ الحُرِّيَّةُ ، غَافِلاً عَن أَنَّ الحُرِّيَّةَ إِذَا كَانَت تَركًا لِوَاجِبٍ ، أَوِ انتِهَاكًا لِمَمنُوعٍ ، أَو تَقصِيرًا في أَدَاءٍ ، أَو ضَعفًا في إِتقَانٍ ، أَوِ اختِرَاقًا لِنِظَامٍ أًو مُضَادَّةً لِسُنَّةٍ كَونِيَّةٍ ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ طَرِيقِ النِّهَايَةِ ، وَبِدَايَةُ خَرَابِ عَالَمِهِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ ، سَوَاءٌ عَلَى مُستَوَى بَيتِهِ وَأُسرَتِهِ ، أَو قَريَتِهِ وَمَدِينَتِهِ ، أَو عَلَى مُستَوَى دَولَتِهِ وَحُكُومَتِهِ ، بَل وَحَتى عَلَى المَستَوَى الفَردِيِّ وَالشَّخصِيِّ ، فَمَتى تَرَكَ الجَمِيعُ الوَاجِبَ وَانتَهَكُوا المُحَرَّمَ ، وَخَالَفُوا الأَنظِمَةَ بِدَعوَى الحُرِّيَّةِ وَانقِيَادًا لِرَغَبَاتِهِم ، فَلَن يَترُكُوا لِغَيرِهِمُ المَجَالَ لِلتَّمَتُّعِ بِحُرِّيَّةٍ ، وَسَتَضطَرِبُ الأُمُورُ وَتَختَلِطُ ، وَسَيكُونُ النَّاسُ في أَمرٍ مَرِيجٍ .

عِبَادَ اللهِ ، مَا مِنَّا أَحَدٌ اليَومَ إِلاَّ وَهُوَ يَلحَظُ تَقصِيرَ الكَثِيرِينَ ممَّن حَولَهُ في تِطبِيقِ الأَنظِمَةِ وَتَهَاوُنَهُم بها ، سَوَاءٌ مِنهَا الأَنظِمَةُ الرَّبَّانِيَّة ُ الَّتي بَنى الخَالِقُ عَلَيهَا الكَونَ وَمَن فِيهِ ، أَوِ الَّتي جَاءَت في كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، أَو تِلكَ الَّتي سَنَّهَا وُلاةُ الأَمرِ لِتَسيِيرِ حَيَاةِ النَّاسِ وَضَبطِ شَأنِهِم ، وَالَّتي لَيسَ لهم عُذرٌ في تَركِ تَطبِيقِهَا وَهُم يَعلَمُونَ مَصلَحَتَهَا ، فَضلاً عَن وُجُوبِهَا الشَّرعِيِّ ، الَّذِي هُوَ لازِمٌ مِن لَوَازِمِ طَاعَةِ وَليِّ الأَمرِ ، وَمَعَ فُشُوِّ هَذَا التَّقصِيرِ وَظُهُورِ ذَلِكُمُ التَّجَاوُزِ ، تُستَنكَرُ قِلَّةُ البَرَكَاتِ مَعَ كَثرَةِ المَوَارِدِ ، وَضَعفُ الإِنتَاجِ مَعَ تَقَدُّمِ الآلاتِ ، وَتَعَقُّدُ العَيشِ وَانتِشَارُ الأَمرَاضِ النَّفسِيَّةِ وَالاجتِمَاعِيّ َةِ مَعَ تَحَقُّقِ وَسَائِلِ الرَّفَاهِيَةِ .
وَإِنَّ لَمِمَّا يَحُزُّ في النَّفسِ أَن تَجِدَ مِن أَبنَائِنَا الَّذِينَ سَافَرُوا لِبَعضِ دُوَلِ الشَّرقِ أَوِ الغَربِ أَو عَاشُوا فِيهَا لِسَبَبٍ أَو لآخَرَ ، أَن تَجِدَ مِنهُم إِعجَابًا بِدِقَّةِ النَّاسِ في تِلكَ الدُّوَلِ في مَوَاعِيدِهِم ، وَتَمَسُّكِهِمُ الصَّارِمِ بِالأَنظِمَةِ وَاللَّوَائِحِ ، وَعَدَمِ تَفرِيطِهِم فِيمَا بَينَ أَيدِيهِم مِن تَعلِيمَاتٍ وَضَوَابِطَ ، بَينَمَا تَجِدُهُ هُوَ وَغَيرُهُ في هَذِهِ البِلادِ ، مِن أَقَلِّ النَّاسِ تَمَسُّكًا وَانضِبَاطًا ، وَمِن أَسرَعِهِم تَفَلُّتًا مِن أَوَامِرِ الدَّينِ وَانتِهَاكًا لِلحُرُمَاتِ ، نَاهِيكَ عَنِ الأَنظِمَةِ الدُّنيَوِيَّةِ ..
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ فَإِنَّ لَكُم دِينًا لَو تَمَسَّكتُم بِهِ ، لأَصبَحتُم في القِمَّةِ خُلُقًا وَأَدَبًا وَجَودَةً وَإِتقَانًا ، وَلَصُبَّت عَلَيكُمُ الخَيرَاتُ صَبًّا ، وَلَفُتِحَت عَلَيكُمُ البَرَكَاتُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ ، وَاحذَرُوا الفُسُوقَ وَتَعَدِّي الحُدُودِ وَتَضيِيعَ الأَمَانَاتِ ، فَإِنَّهَا مِن أَسبَابِ هَلاكِ الأُمَمِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا . وَكَم أَهلَكنَا مِنَ القُرُونِ مِن بَعدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا . مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذمُومًا مَدحُورًا . وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لها سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَشكُورًا . كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِن عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحظُورًا . اُنظُرْ كَيفَ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكبَرُ تَفضِيلاً "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ كَمَا أَمَرَكُم يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "

عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ التَّقَيُّدَ بِالنِّظَامِ قَبلَ أَن يَكُونَ قِيمَةً حَضَارِيَّةً وَحَاجَةً تَنمَوِيَّةً ، فَهُوَ فِطرَةٌ كَونِيَّةٌ وَضَرُورَةٌ شَرعِيَّةٌ ، وَلا يُمكِنُ أَن يَصِحَّ مُجتَمَعٌ أَو تَصلُحَ أُمَّةٌ ، وَفي أَعضَائِهَا خَلَلٌ يَقطَعُ دَائِرَةَ النِّظَامِ ، أَو يُفقِدَ سِلسِلتَهُ إِحدَى حَلَقَاتِهَا ، وَإِنَّ الحُكمَ عَلَى أَيِّ مُجتَمَعٍ بِالقُوَّةِ أَوِ الضَّعفِ ، أَوِ وَصفَهُ بِالتَّقَدُّمِ أَوِ التَّخَلُّفِ ، مَرهُونٌ بِمَدَى التِزَامِ أَفرَادِهِ وَمُؤَسَّسَاتِه ِ بِالنَّظَامِ العَامِّ وَتَقيُّدِهِم بِالقَوَاعِدِ المُنَظِّمَةِ لِحَيَاتِهِم .
إِنَّهُ لَمِنَ الضَّعفِ الإِيمَانيِّ قَبلَ أَن يَكُونَ تَخَلُّفًا فِكرِيًّا وَخَلَلاً في التَّصَوُّرِ ، أَن يَرَى بَعضُ النَّاسِ في التِزَامِ الأَنظِمَةِ نَقصًا في رَجُولَتِهِم ، أَو تَقيِيدًا لِحُرِّيَّتِهِم ، أَو حَطًّا مِن كِبرِيَائِهِم ، أَو يَشعُرُوا أَنَّهُ يَحُولُ بَينَهُم وَبَينَ مَصالِحِهِم أَو يَعُدُّونَهُ ظُلمًا لَهُم ، في حِينِ أَنَّ مِنَ المُتَقَرِّرِ لَدَى العُقَلاءِ ، أَنَّهُ لا يُمكِنُ بِغَيرِ تَطبِيقِ النَّظَامِ أَن يَنَالَ النَّاسُ حَقًّا ، وَلا أَن يَنعَمُوا بِعَدلٍ أَو يَجِدُوا أَمنًا ، أَو يَشعُرُوا بِطُمَأنِينَةٍ أَو يَذُوقُوا لِلرَّاحَةِ طَعمًا . بِتَجَاوُزِ النَّظَامِ يَكثُرُ في المُجتَمَعِ التَّظَالُمُ وَالتَّعَدِّي وَالتَّجَاوُزُ ، بِتَجَاوُزِ النَّظَامِ لَن يُبنى مُستَقبَلٌ وَلَن تُعمَرَ دِيَارٌ وَلَن يَحصُلَ استِقرَارٌ .
إِنَّ أُمَّةَ الإِسلامِ يَجِبُ أَن تَتَخَلَّصَ مِن هَذِهِ النَّزعَةِ الجَاهِلِيَّةِ ، الَّتي اعتَادَ أَهلُهَا الغَوغَائِيَّةَ وَخَرقَ النَّظَامِ انسِيَاقًا مَعَ هَوَى النُّفُوسِ ، أَوِ مُرَاعَاةً لِقَريبٍ أَو مُحَابَاةً لِصَدِيقٍ ، أَو طَمَعًا في مَصلَحَةٍ شَخصِيَّةٍ ، أَو حُبًّا لِمَدحٍ أَو خَشيَةً مِنَ ذَمٍّ ، أَو إِبرَازًا لِقُوَّةِ الذَّاتِ وَضَعفِ الخَصمِ .
إِنَّ النِّظَامَ هُوَ العَدلُ ، وَعَلَى العَدلِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ ، وَوَاللهِ لا يُمكِنُ أَن تَتَطَهَّرَ أُمَّةٌ مِن أَدرَانِهَا وَتَنَالَ مَا تَصبُو إِلَيهِ إِلاَّ بِالعَدلِ وَإِعطَاءِ كُلِّ ذَي حَقٍّ حَقَّهُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " إِنَّهُ لا قُدِّسَت أُمَّةٌ لا يَأخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيرَ مُتَعتَعٍ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَإِنَّ اختِزَالَ النِّظَامِ في المَصَالِحِ الشَّخصِيَّةِ وَالرَّغَبَاتِ الفَردِيَّةِ وَنَحوِهَا ، إِنَّهُ لَنَوعٌ مِن تَعَدِّي الحُدُودِ ، وَذَلِكَ هُوَ الظُّلمُ بِعَينِهِ ، وَالظُّلمُ سَبَبٌ لِخَرَابِ البِلادِ وَهَلاكِ العِبَادِ ، وَمُؤذِنٌ بِتَسَلُّطِ بَعضِ النَّاسِ عَلَى بَعضٍ ، وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَكَذَلِكَ نُوَليِّ بَعضَ الظَّالمِينَ بَعضًا بما يَكسِبُونَ "
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ رَاعٍ فِيمَا استُرعِيَ ، وَلْيَعُدِ النَّاسُ لِلجِدِّ وَالحَزمِ ، وَلْيَلزَمُوا الصِّدقَ وَالوَفَاءَ ، وَلْيَضَعُوا الأُمُورَ في أَنصِبَتِهَا وَلْيَعدِلُوا ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَأَوفُوا الكَيلَ إِذَا كِلتُم وَزِنُوا بِالقِسطَاسِ المُستَقِيمِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً " اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ خَشيَتَكَ في السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ ، وَالعَدلَ في الرِّضَا وَالغَضَبِ ، وَالقَصدَ في الفَقرِ وَالغِنى .

ناصرعبدالرحمن 21-06-2012 11:36 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

قل اللهم مالك الملك 2 / 8 / 1433



الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " بَلَى مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كُلَّ يَومٍ يَعِيشُهُ العَاقِلُ في هَذِهِ الحَيَاةِ ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّمُ جَدِيدًا وَيَكتَسِبُ مُفِيدًا ، وَالكَيِّسُ مِنَ النَّاسِ مَنِ اعتَبَرَ بما غَبَرَ ، وَالفَطِنُ مَن أَخَذَ مِنَ المَاضِي دُرُوسًا لِلحَاضِرِ ، وَعَمِلَ بما يُنجِيهِ يَومَ التَّلاقِ " يَومَ هُم بَارِزُونَ لا يَخفَى عَلَى اللهِ مِنهُم شَيءٌ لِمَنِ المُلكُ اليَومَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ . اليَومَ تُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت لا ظُلمَ اليَومَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ "


عِبَادَ اللهِ ، في شُهُورٍ مَضَت فِيمَا بَينَ العَامِ وَالعَامَينِ وَلا تَزِيدُ ، تَوَالَت عَلَى عَالَمِنَا العَرَبيِّ وَالإِسلامِيِّ أَحدَاثٌ جِسَامٌ ، وَمَرَّت بِهِ تَغَيُّرَاتٌ عِظَامٌ ، سَقَطَت حُكُومَاتٌ وَقَامَت حُكُومَاتٌ ، وَتَولىَّ المُلكَ رِجَالٌ وَسَقَطَ رِجَالٌ ، وَمَاتَ حُكَّامٌ وَقُتِلَ رُؤَسَاءُ ، وَأَمِنَت دُوَلٌ وَخَافَت دُوَلٌ ، وَتَحَرَّرَت شُعُوبٌ وَاستُعبِدَت شُعُوبٌ ، فَسُبحَانَ اللهِ الَّذِي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ! سُبحَانَ مَن لا يَحُولُ وَلا يَزُولُ ! سُبحَانَ الحَيِّ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ " إِنَّمَا أَمرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ . فَسُبحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ " " فَسُبحَانَ اللهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ . لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلُونَ " " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ . تُولِجُ اللَّيلَ في النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ في اللَّيلِ وَتُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيرِ حِسَابٍ "
هَذَا شَأنُ اللهِ في خَلقِهِ ، وَذَلِكُم تَدبِيرُهُ في مُلكِهِ ، لا رَادَّ لما قَضَى ، وَلا مَانِعَ لما أَعطَى ، وَلا مُعطِيَ لما مَنَعَ ، وَلا رَافِعَ لما خَفَضَ وَلا خَافِضَ لما رَفَعَ .


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ العَظِيمَةَ ، كَانَت وَمَا زَالَت وَلَن تَزَالَ إِلى أَن يَرِثَ اللهُ الأَرضَ وَمَن عَلَيهَا ، وَمَن قَرَأَ كِتَابَ اللهِ وَفَقِهَهُ ، وَوَعَى التَّأرِيخَ وَتَأَمَّلَ أَحدَاثَهُ ، وَجَدَ مِن ذَلِكَ مَا يَملأُ قَلبَهُ يَقِينًا بِأَنَّهُ لا بَقَاءَ إِلاَّ للهِ ، وَلا مَالِكَ حَقِيقِيَّ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّهُ لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِيَدِهِ ، وَأَنَّهُ لا شِدَّةٌ تَدُومُ وَلا رَخَاءٌ " يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولي الأَبصَارِ "
عَاشَ آدَمُ وَزَوجُهُ في الجَنَّةِ مَا شَاءَ اللهُ لهما أَن يَعِيشَا ، ثم أَنزَلَهُمَا اللهُ إِلى الأَرضِ لِحِكمَةٍ يَعلَمُهَا ، وَعَلَى هَذِهِ الأَرضِ انتَشَرَ بَنُوهُمَا وَتَكَاثَرَ نَسلُهُم ، وَابتُلُوا بِالشَّرِّ وَالخَيرِ ، وَجُعِلَ بَعضُهُم لِبَعضٍ فِتنَةً ، وَعَاشُوا في شَدٍّ وَجَذبٍ وَقُوَّةٍ وَضَعفٍ ، يَرتَفِعُ بَعضُهُم حِقبَةً ثم يَقَعُ ، وَيَعتَلِي آخَرُونَ حِينًا ثم يَهبِطُونَ ، وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ . وَلَو تَأَمَّلَ مُتَأَمِّلٌ مَا جَرَى لأَنبِيَاءِ اللهِ وَأَولِيَائِهِ وَأَصفِيَائِهِ مَعَ أَقوَامِهِم وَمَن حَولَهُم ، لَوَجَدَ هَذِهِ السُّنَّةَ مَاضِيَةً جَارِيَةً ، لا يَكَادُ زَمَانٌ يَخلُو مِن صِرَاعٍ بَينَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَلا مِن تَغلُّبِ جَانِبٍ وَانهِزَامِ جَانِبٍ ، وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ ، دَعَا نُوحٌ قَومَهُ مِئَاتِ السِّنِينَ ، وَلم يَزدَادُوا إِلاَّ فِرَارًا ، وَأَصَرُّوا وَاستَكبَرُوا استِكبَارًا ، وَسَخِرُوا مِنهُ وَاستَهزَؤُوا بِهِ ، ثم كَانَتِ الغَلَبَةُ لَهُ عَلى سَفِينَةٍ صَنَعَهَا بِيَدِهِ ، فَجَرَت في مَوجٍ كَالجِبَالِ تَحتَ عَينِ اللهِ ، حَتى " قِيلَ يَا نُوحُ اهبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّن مَعَكَ "
وَحَاوَلَ قَومُ إِبرَاهِيمَ قَتلَهُ ، وَرَمَوهُ في النَّارِ لِحَرقِهِ ، فَقَاوَمَهُم وَحدَهُ وَهَاجَرَ إِلى رَبِّهِ " فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ "
وَأُرسِلَ هُودٌ إِلى عَادٍ ، فَجَحَدُوا بِآيَاتِ اللهِ وَعَصَوا رُسُلَهُ ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ " وَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا نَجَّينَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا وَنَجَّينَاهُم مِن عَذَابٍ غَلِيظٍ "
وَبَعَثَ اللهُ في ثمودٍ صَالحًا ، فَمَا زَالُوا في شَكٍّ ممَّا جَاءَهُم بِهِ وَرِيبَةٍ ، حَتى أَخَذَهُمُ اللهُ بِالصَّيحَةِ " فَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا نَجَّينَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا وَمِن خِزيِ يَومِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ . وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ فَأَصبَحُوا في دِيَارِهِم جَاثِمِينَ . كَأَن لم يَغنَوا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُم أَلا بُعدًا لِثَمُودَ "
وَأَمَّا لُوطٌ فَبُعِثَ في قَومٍ أُشرِبُوا في قُلُوبِهِم حُبَّ الفَوَاحِشِ وَالعُدُولَ عَنِ الفِطرَةِ السَّوِيَّةِ إِلى الشَّهوَةِ البَهِيمِيَّةِ " فَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا جَعَلنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمطَرنَا عَلَيهَا حِجَارَةً مِن سِجِّيلٍ مَنضُودٍ . مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالمِينَ بِبَعِيدٍ "
وَأَمَّا شُعَيبٌ فَأُرسِلَ إِلى أَهلِ مَديَنَ ، فَأَبَوا إِلاَّ التَّعَلُّقَ بِدُنيَاهُم وَتَفضِيلَهَا عَلَى مَا عِندَ اللهِ ، وَاستَهزَؤُوا بِشُعَيبٍ وَبِصَلاتِهِ ، فَحَذَّرَهُم وَقَالَ لهم : " وَيَا قَومِ لا يَجرِمَنَّكُم شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِثلُ مَا أَصَابَ قَومَ نُوحٍ أَو قَومَ هُودٍ أَو قَومَ صَالِحٍ وَمَا قَومُ لُوطٍ مِنكُم بِبَعِيدٍ " فَمَا ازدَادُوا إِلاَّ عُتُوًّا وَاستِكبَارًا ، فَأَصَابَهُم مَا أَصَابَ مَن قَبلَهُم " وَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا نَجَّينَا شُعَيبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيحَةُ فَأَصبَحُوا في دِيَارِهِم جَاثِمِينَ . كَأَن لم يَغنَوا فِيهَا أَلا بُعدًا لِمَديَنَ كَمَا بَعِدَت ثَمُودُ "
وَهَكَذَا حَدَثَ لِمُوسَى وَقَومِهِ مَعَ فِرعَونَ الَّذِي " عَلا في الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعًا يَستَضعِفُ طَائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَستَحيِي نِسَاءَهُم إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفسِدِينَ " فَلَمَّا أَرَادَ اللهُ ـ تَعَالى ـ أن يَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا في الأَرضِ وَيَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَيَجعَلَهُمُ الوَارِثِينَ وَيُمَكِّنَ لَهُم في الأَرضِ وَيُرِيَ فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَا كَانُوا يَحذَرُونَ ، لَمَّا أَرَادَ اللهُ ذَلِكَ ، دَبَّرَ ـ سُبحَانَهُ ـ بِحِكمَتِهِ لِمُوسَى أَلطَفَ التَّدَابِيرِ ، وَوَقَاهُ كَيدَ فِرعَونَ وَقَومِهِ ، بَل وَقَدَّرَ لَهُ العَيشَ في بَيتِ ذَلِكُمُ الطَّاغِيَةِ وَتَحتَ كَنَفِهِ وَكَفَالَتِهِ ، لِيَكُونَ لَهُ بَعدَ ذَلِكَ عَدُوًّا وَحَزَنًا ، حَتى إِذَا أَرَادَ ـ سُبحَانَهُ ـ نَصرَ المُستَضعَفِينَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَانتَقَمنَا مِنهُم فَأَغرَقنَاهُم في اليَمِّ بِأَنَّهُم كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنهَا غَافِلِينَ . وَأَورَثنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتي بَارَكنَا فِيهَا وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسنى عَلَى بَني إِسرَائِيلَ بما صَبَرُوا وَدَمَّرنَا مَا كَانَ يَصنَعُ فِرعَونُ وَقَومُهُ وَمَا كَانُوا يَعرِشُونَ "
وَللهِ ـ تَعَالى ـ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَولِيَاءُ وَأَعدَاءٌ يَدفَعُ بِبَعضِهِم بَعضًا ، وَقَد قَصَّ عَلَينَا في كِتَابِهِ كَثِيرًا مِن أَنبَائِهِم لِنَتَّعِظَ وَنَعتَبِرَ " ذَلِكَ مِن أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيكَ مِنهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ . وَمَا ظَلَمنَاهُم وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم فَمَا أَغنَت عَنهُم آلِهَتُهُمُ الَّتي يَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَيءٍ لَمَّا جَاءَ أَمرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُم غَيرَ تَتبِيبٍ . وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ . إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِمَن خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَومٌ مَجمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَومٌ مَشهُودٌ "


أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَلا يَغتَرَّنَّ قَوِيٌّ بِقُوَّتِهِ ، وَلا يَيأَسَنَّ ضَعِيفٌ لِضَعفِهِ ، وَاعتَبِرُوا فَقَد قَرَأتُم وَسَمِعتُم ، بَل وَرَأَيتُم وَشَهِدتُم ، فَخُذُوا العِبرَةَ قَبلَ أَن تَكُونُوا عِبرَةً ، وَكُونُوا مَعَ الصَّابِرِينَ ، وَادعُوا اللهَ أَن يُفرِغَ عَلَى إِخوَانِكُمُ المُؤمِنِينَ المُستَضعَفِينَ صَبرًا وَأَن يُثَبِّتَ أَقدَامَهُم وَيَنصُرَهُم عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ . فَإِنَّهُ ـ تَعَالى ـ قَد نَصَرَ الفِئَةَ القَلِيلَةَ الصَّابِرَةَ عَلَى الكَثِيرَةِ البَاغِيَةِ " فَهَزَمُوهُم بِإِذنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَولا دَفعُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ لَفَسَدَتِ الأَرضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضلٍ عَلَى العَالمِينَ "



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَكُونُوا مَعَهُ يَكُنْ مَعَكُم ، فَإِنَّهُ ـ تَعَالى ـ الَّذِي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ، يُعِزُّ مَن يَشَاءُ بِأَن يَهدِيَهُ وَيَشرَحَ صَدرَهُ لِلإِسلامِ ، فَيُقبِلَ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَأنَسَ بِالقُربِ مِنهُ ، وَيُوَفِّقَهُ لِلعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربى ، وَيُذِلُّ مَن يَشَاءُ بِأَن يَكِلَهُ إِلى نَفسِهِ فَيَجحَدَ رَبَّهُ وَيَكفُرَ بِهِ ، وَيُعرِضَ عَن طَاعَتِهِ وَيَستَكبِرَ وَيَستَنكِفَ ، وَيَستَوحِشَ بِالبُعدِ عَنهُ ، فَيَكُونَ ظَالِمًا بَاغِيًا مُتَجَاوِزًا .
وَإِنَّ في اعتِلاءِ حُكَّامٍ فِيمَا مَضَى وَنُزُولِ آخَرِينَ ، وَارتِفَاعِ رُؤَسَاءَ وَانخِفَاضِ كُبَرَاءَ ، ومَوتِ مَن مَاتَ وَسَجنِ مَن سُجِنَ ، إِنَّ في ذَلِكَ لأَكبَرَ العِبَرِ وَأَعظَمَ الدَّلائِلِ ، عَلَى كَونِ مُلكِ هَذِهِ الدُّنيَا قَصِيرًا وَإِنْ طَالَ ، حَقِيرًا وَإِنْ تَعَاظَمَ ، قَلِيلاً وَإِنْ تَكَثَّرَ ، فَكَيفَ بما دُونَهُ مِن وِزَارَاتٍ أَو رِئَاسَةِ إِدَارَاتٍ ، أَو مُلكِ أَموَالٍ وَأَسهُمٍ وَعَقَارَاتٍ ، بَل كَيفَ بِدَرَاهِمَ مَعدُودَةٍ وَفُتَاتٍ ، فَهَنِيئًا لِمَن أَطَالَ الفِكرَةَ فَأَخَذَ العِبرَةَ ، وَأَدَامَ النَّظَرَ فَاعتَبَرَ ، وَيَا لَخَسَارَةِ مَنِ اغتَرَّ وَافتُتِنَ ، فَبَاعَ بَاقِيًا بِفَانٍ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَـ" إِنَّ الأَرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ " " وَلَقَد كَتَبنَا في الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ "
وَأَمَّا في يَومِ القِيَامَةِ فَإِنَّ المُلكَ كُلَّهُ للهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَومَ هُم بَارِزُونَ لا يَخفَى عَلَى اللهِ مِنهُم شَيءٌ لِمَنِ المُلكُ اليَومَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " إِنَّا نَحنُ نَرِثُ الأَرضَ وَمَن عَلَيهَا وَإِلَينَا يُرجَعُونَ "
وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ وَغَيرِهِ قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " يَطوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ يَومَ القِيَامَةِ ، ثم يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمنى ، ثم يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَينَ الجَبَّارُونَ ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُون َ ؟ ثم يَطوِي الأَرَضِينَ ، ثم يَأخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ ، ثم يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَينَ الجَبَّارُونَ ؟ أَينَ المُتَكَبِّرُون َ ؟ "


اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ أَن تُوقِظَ قُلُوبَنَا مِن رَقَدَاتِ الغَفلَةِ ، وَأَن تَغفِرَ لَنَا الذَّنبَ وَالزَّلَةَ ، اللَّهُمَّ ارحَمْ مَن مَاتَ مِن وُلاتِنَا عَلَى الحَقِّ ، اللَّهُمَّ وَوَفِّقِ الأَحيَاءَ لما تُحِبُّ وَتَرضَى ، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِم لِلبِرِّ وَالتَّقوَى ، اللَّهُمَّ وَاجعَلْهُم هُدَاةً مُهتَدِينَ ، غَيرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ ، سِلمًا لأَولِيَائِكَ ، حَربًا عَلَى أَعدَائِكَ ، يُحِبُّونَ بِحُبِّكَ مَن أَحَبَّكَ ، وَيُعَادُونَ بِعَدَاوَتِكَ مَن عَادَاكَ ، اللَّهُمَّ وَارزُقْهُمُ البِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ ، الَّتي تَدُلُّهُم عَلَى الخَيرِ وَتُعِينُهُم عَلَيهِ ، وَجَنِّبْهُم بِطَانَةَ الفَسَادِ وَالسُّوءِ وَالفِتنَةِ يَا رَبَّ العَالمِينَ .

ناصرعبدالرحمن 28-06-2012 04:10 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

والعاقبة للتقوى 9 / 8 / 1433


الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُوهُ " وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَصَصُ القُرآنِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِن أَخبَارِ السَّابِقِينَ ، وَمَا احتَوَتهُ مِن أَحدَاثٍ وَمَوَاقِفَ لِرُسُلِ اللهِ مَعَ أَقوَامِهِم ، لم تُنزَلْ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ لِلاستِمتَاعِ بها وَكَفَى ، أَو لِمَعرِفَةِ تَسَلسُلِهَا التَّأرِيخِيِّ وَالتَّسَلِّي بها فَحَسبُ ، وَلَكِنَّهَا جَاءَت لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ وَغَايَاتٍ جَلِيلَةٍ ، لِيَستَفِيدَ مِنهَا الفَردُ في حَيَاتِهِ ، وَتَستَلهِمَهَا الأُمَّةُ في مَجمُوعِهَا ، وَيَتَّخِذَهَا الوُلاةُ مُنطَلَقًا لِتَسيِيرِ شُؤُونِ حُكمِهِم وَمُرتَكَزًا لِتَثبِيتِ دَعَائِمِ مُلكِهِم ، وَتَستَمِدَّ مِنهَا الرَّعِيَّةُ مَثَلاً لما سَيَكُونُ عَلَيهِ حَالُ مَن أَحسَنَ ، أَو عَاقِبَةُ مَن أَسَاءَ ، فَلا تَطغَى حِينَ تَغنى ، وَلا تَيأَسُ حِينَ تَبأَسُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لَقَد كَانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لأُولي الأَلبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفتَرَى وَلَكِنْ تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصِيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ في هَذِهِ الحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكرَى لِلمُؤمِنِينَ . وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ اعمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُم إِنَّا عَامِلُونَ . وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ . وَللهِ غَيبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَاقصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلَقَد أَرسَلنَا رُسُلاً مِن قَبلِكَ مِنهُم مَن قَصَصنَا عَلَيكَ وَمِنهُم مَن لم نَقصُصْ عَلَيكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأتيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبطِلُونَ "
إِنَّ في قَصَصِ القُرآنِ تَثبِيتًا لِلقُلُوبِ ، وَمَوعِظَةً وَذِكرَى لِلنُّفُوسِ ، وَتَصبِيرًا لِلمُنتَظِرِينَ وَطَمأَنَةً لِلمُتَرِقِّبِي نَ ، وَبَيَانًا لما عِندَ اللهِ مِنَ النَّصرِ المُبِينِ وَالتَّمكِينِ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ ، وَمَا يَحُلُّ مِنَ المَثُلاتِ بِالمُعَانِدِين َ المُتَمَرِّدِين َ ، وَزِيَادَةَ إِخبَارٍ بِأَنَّ اللهَ لَيسَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَجرِي وَيَكُونُ .


أَلا وَإِنَّ ممَّا دَلَّت عَلَيهِ قَصَصُ القُرآنِ وَخُتِمَ بِهِ بَعضُهَا لِيَكُونَ قَاعِدَةً عَظِيمَةً يَسِيرُ عَلَيهَا عِبَادُ اللهِ وَلا يَحِيدُونَ ، لِتَكُونَ لهمُ العَاقِبَةُ الحَمِيدَةُ وَالنِّهَايَةُ السَّعِيدَةُ ، مَا صُرِّحَ بِهِ في أَكثَرَ مِن قِصَّةٍ مِن أَنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ ، فَبَعدَ أَن قَصَّ اللهُ ـ تَعَالى ـ لَنَا مَا جَرَى لِنُوحٍ مَعَ قَومِهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " تِلكَ مِن أَنبَاءِ الغَيبِ نُوحِيهَا إِلَيكَ مَا كُنتَ تَعلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَومُكَ مِن قَبلِ هَذَا فَاصبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ "
وَذَكَرَ ـ تَعَالى ـ وَصِيَّةَ مُوسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ لِقَومِهِ بَعدَ أَن هَدَّدَهُم فِرعَونُ بِتَقتِيلِ أَبنَائِهِم وَاستِحيَاءِ نِسَائِهِم ، فَكَانَ ممَّا أَوصَى بِهِ أَنْ : " قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُوا بِاللهِ وَاصبِرُوا إِنَّ الأَرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ بَعدَ ذِكرِ إِهلاكِ قَارُونَ الطَّاغِيَةِ : " تِلكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرضِ وَلا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ "
وَفي خِطَابِهِ ـ تَعَالى ـ لِنَبِيِّهِ محمدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " وَأمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى "


إِنَّهَا قَاعِدَةٌ قُرآنِيَّةٌ تَحكِي سُنَّةً رَبَّانِيَّةً ، وَتُكَرِّرُ الوَعدَ ممَّن لا يُخلِفُ المِيعَادَ بِحُسنِ العَاقِبَةِ لِلمُتَّقِينَ في الدُّنيَا قَبلَ الآخِرَةِ ، وَالتَّمكِينِ لهم في الأَرضِ وَنَصرِهِم عَلَى عَدُوِّهِم . وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ عَلَى المُتَّقِينَ أَن يَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ ممَّا وَعَدَهُم بِهِ رَبُّهُم مَا دَامُوا عَلَى عَهدِهِ سَائِرِينَ ، وَأَلاَّ يَكُونُوا مِنهُ في شَكٍّ مَهمَا طَالَ لَيلُ الانتِظَارِ أَو غَشِيَتهُم ظُلمَةُ الظَّالِمِينَ ، فَلِبَاسُ التَّقوَى خَيرٌ ، وَعَاقِبَةُ أَهلِهَا خَيرٌ . وَمَهمَا مَرَّ بِأُمَّةِ الإِسلامِ مِن ضَعفٍ وَتَفَرُّقٍ وَتَشَرذُمٍ ، أَو تَسَلُّطِ أَعدَاءٍ وَتَفَوُّقِ مُنَاوِئِينَ ، فَإِنَّ كُلَّ هَذَا الزَّبَدِ لا يَجُوزُ أَن يَطغَى عَلَى التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ بِأَنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ ، وَأَصحَابُ العَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ ، لا يَجُوزُ لهم مَهمَا طَالَ عَلَيهِمُ لَيلُ الابتِلاءِ ، أَن يَبحَثُوا خَارِجَ دَائِرَةِ الإِسلامِ أَو يَذهَبُوا غَربًا أَو شَرقًا ، لِيَستَورِدُوا مَبَادِئَ أُخرَى غَيرَ مَبدَئِهِمُ الرَّصِينِ ، أَو يَعتَنِقُوا مَذَاهِبَ مُختَلِفَةً لا تَمُتُّ بِصِلَةٍ إِلى دِينِهِم ، ظَانِّينَ أَنَّ هَذَا سَيَكُونُ طَرِيقًا لِنَصرِهِم عَلَى أَعدَائِهِم وَتَمكِينِهِم في دِيَارِهِم ، غَافِلِينَ عَن كَونِ شُعُورِهِمُ البَائِسِ بِالهَزِيمَةِ في دَاخِلِ نُفُوسِهِم ، وَانبِهَارِهِم بِتَقَدُّمِ أَعدَائِهِم ، وَغَفلَتِهِم عَن سِرِّ عِزِّهِم ، هُوَ أَوَّلَ أَسبَابِ هَزِيمَتِهِم أَمَامَ أُولَئِكَ الأَعدَاءِ ، وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِم مِنَ التَّغَلُّبِ عَلَيهِم .
وَيَا سُبحَانَ اللهِ ! كَيفَ يَبحَثُ مُنهَزِمٌ عِندَ عَدُوِّهِ عَن أَسبَابِ انتِصَارِهِ ، وَهُوَ الَّذِي نُزِّلَت عَلَيهِ مِن رَبِّهِ الآيَاتُ البَيَّنَاتُ ، بِأَنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ ، وَبَشَّرَهُ نَبِيُّهُ بِأَنَّ أُمَّتَهُ بَاقِيَةٌ وَظَاهِرَةٌ إِلى آخِرِ الزَّمَانِ ، لها العَاقِبَةُ الحَسَنَةُ وَالسَّنَاءُ وَالرِّفعَةُ وَالتَّمكِينُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ رَبِّي قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنِّي إِذَا قَضَيتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ ، وَإِنِّي أَعطَيتُكَ لأُمَّتِكَ أَلاَّ أُهلِكَهُم بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَلاَّ أُسَلِّطَ عَلَيهِم عَدُوًّا مِن سِوَى أَنفُسِهِم يَستَبِيحُ بَيضَتَهُم ، وَلَوِ اجتَمَعَ عَلَيهِم مَن بِأَقطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعضُهُم يُهلِكُ بَعضًا ، وَيَسبي بَعضُهُم بَعضًا " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفعَةِ وَالدِّينِ وَالتَّمكِينِ في الأَرضِ ، فَمَن عَمِلَ مِنهُم عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنيَا لم يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
أَلا فَمَا أَحوَجَ الأُمَّةَ الإِسلامِيَّةَ ، بِجَمَاعَاتِهَا وَأَفرَادِهَا أَن يَتَدَبَّرُوا مَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِن رَبِّهِم ، وَيَستَفِيدُوا الدُّرُوسَ مِنَ السِّنِينَ الَّتي سَارُوا فِيهَا خَلفَ أَعدَائِهِم في مَنَاهِجِهِم وَقَوانِينِهِم ، مُخَالِفِينَ أَمرَ رَبِّهِم في أَنظِمَةِ حُكمِهِم وَسُلُوكِهِم ، وَمَا جَنَوهُ جَرَّاءَ ذَلِكَ اللَّهَثِ مِن تَخَلُّفٍ وَتَرَاجُعٍ وَضَعفٍ ، وَشِدَّةِ تَأَثُّرٍ بِغَيرِهِم وَعَدَمِ تَأثِيرٍ فِيمَن سِوَاهُم ، ممَّا يَدُلُّ عَلَى حَاجَتِهِم إِلى التَّقوَى ، وَخُصُوصًا وَهُم يَعِيشُونَ هَذِهِ الأَزمِنَةَ الَّتي تَعُجُّ بِالصَّوَارِفِ وَالمُغرِيَاتِ وَالفِتَنِ وَالمُلهِيَاتِ ، وَالَّتي لَوَتِ الأَعنَاقَ عَن مَعرِفَةِ الحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ ، وَصَرَفَتِ الأَبصَارَ إِلى زَهرَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا ، وَأَذهَلَتِ العُقُولَ عَن أَنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ .


أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " اُدعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ . وَإِنْ عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ . وَاصبِرْ وَمَا صَبرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحزَنْ عَلَيهِم وَلا تَكُ في ضَيقٍ مِمَّا يَمكُرُونَ . إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاحمَدُوهُ وَلا تَجحَدُوهُ ، وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَكُونُوا مَعَ المُتَّقِينَ في كُلِّ شَأنِكُم ، وَالزَمُوا التَّقوَى فِيمَا تَأتُونَ وَفِيمَا تَذَرُونَ ، وَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا فَتَمُدُّوا أَعيُنَكُم إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِن زَهرَتِهَا ، فَإِنَّمَا كُلُّ ذَلِكَ فِتنَةٌ ، وَمَا عِندَ اللهِ خَيرٌ وَأَبقَى ، وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى .


غَيرَ أَنَّ ممَّا يَجِبُ أَن يُعلَمَ أَنَّ تِلكَ العَاقِبَةَ الحَسَنَةَ لأَهلِ التَّقوَى ، مَرهُونَةٌ بِتَحقِيقِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِن نَحوِ قَولِهِ لِسَيِّدَ المُتَّقِينَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " فَاصبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ غُرُوبِهَا وَمِن آنَاءِ اللَّيلِ فَسَبِّحْ وَأَطرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرضَى . وَلا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى . وَأمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى "
فَالمُتَّقُونَ مُبتَلَونَ بِأَعدَاءٍ كُثُرٍ ، مِن كُفَّارٍ وَمُشرِكِينَ وَمَلاحِدَةٍ وَمُنَافِقِينَ ، وَسَيَسمَعُونَ مِنهُم وَيَجِدُونَ أَذًى كَثِيرًا ، بَينَ كُفرٍ وَاستِهزَاءٍ وَجُحُودٍ وَإِعرَاضٍ ، فَيَجِبُ أَلاَّ تَضِيقَ بِذَلِكَ صُدُورُهُم ، وَأَلاَّ تَذهَبَ أَنفُسُهُم حَسَرَاتٍ عَلَيهِم ، وَأَن يَتَّجِهُوا إِلى رَبِّهِم وَخَالِقِهِم وَمَن بِيَدِهِ الأَمرُ كُلُّهُ ، فَيُسَبِّحُوا بِحَمدِهِ وَيَذكُرُوهُ عَلَى كُلِّ أَوقَاتِهِم وَفي جَمِيعِ أَحوَالِهِم ، وَلا يَغفَلُوا عَنهُ وَلا يَنسَوهُ ، وَلا تَشغَلَهُم عَنهُ أَعرَاضُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَزِينَتُهَا وَمَتَاعُهَا ، وَمَا فِيهَا مِن مَالٍ وَأَولادٍ وَجَاهٍ وَسُلطَانٍ ؛ لأَنَّهَا عَلَى مَا فِيهَا مِن رَوَاءٍ وَجَمَالٍ وَبَهَاءٍ ، فَإِنَّمَا هِيَ زَهرَةٌ سَرِيعَةُ الذُّبُولِ ، وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى .
فَلْنَتَّقِ اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَلْنُحَقِّقِ العُبُودِيَّةَ التَّامَّةَ لَهُ ـ تَعَالى ـ وَلْنُقَوِّ العِلاقَةَ بِهِ ـ سُبحَانَهُ ـ ، فَإِنَّهُ الَّذِي لَهُ " غَيبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ "
جَعَلَني اللهُ وَإِيَّاكُم وَالمُسلِمِينَ ممَّن إِذَا أُنعِمَ عَلَيهِ شَكَرَ ، وَإِذَا ابتُلِيَ صَبَرَ ، وَإِذَا أَذنَبَ استَغفَرَ .

ضيف 29-06-2012 10:31 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
http://im23.gulfup.com/2012-06-29/1340954917761.jpg

ناصرعبدالرحمن 05-07-2012 05:21 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها 16 / 8 / 1433



الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، صَحَّ عَنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ فِيمَا رَوَاهُ الحَاكِمُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أَنَّ نَفسًا لَن تَمُوتَ حَتى تَستَكمِلَ أَجَلَهَا وَتَستَوعِبَ رِزقَهَا ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ ، وَلا يَحمِلَنَّ أَحَدَكُمُ استِبطَاءُ الرِّزقِ أَن يَطلُبَهُ بِمَعصِيَةِ اللهِ ؛ فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ لا يُنَالُ مَا عِندَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ "
وَمَعنى قَولِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَأَجمِلُوا في الطَّلَبِ " أَيِ اطلُبُوهُ بِالطُّرُقِ الجَمِيلَةِ المُحَلَّلَةِ ، بِتُؤَدَةٍ وَتَرَفُّقٍ ، وَبِلا كَدٍّ وَلا حِرصٍ ، وَلا تَهَافُتٍ عَلَى الحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ ، وَلا تَنكَبُّوا عَلَى طَلَبِ الدُّنيَا وَتَشتَغِلُوا بِهِ عَنِ الخَالِقِ الرَّازِقِ ـ سٌبحَانَهُ ـ .


عِبَادَ اللهِ ، المُؤمِنُ يَعلَمُ أَنَّهُ لَو سَعَى في طَلَبِ الدُّنيَا سَعيًا حَثِيثًا ، وَوَاصَلَ في ذَلِكَ سَهرَ اللَّيلِ بِتَعَبِ النَّهَارِ ، فَإِنَّهُ لَن يُحَصِّلَ غَيرَ مَا قُدِّرَ لَهُ ، وَلَن يَتَجَاوَزَ مَا قُسِمَ لَهُ ، كَيفَ وَقَد كُتِبَ لَهُ رِزقُهُ وَهُوَ في بَطنِ أُمِّهِ ، وَمَضَى بِهِ القَلَمُ قَبلَ أَن تُخلَقَ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ بِخَمسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ؟! وَالوَاقِعُ عَلَى ذَلِكَ خَيرُ شَاهِدٍ ، فَكَم ممَّن هُوَ مُنذُ أَن بَلَغَ الحُلُمَ إِلى أَن شَابَ وَهَرِمَ وَهُوَ في شَقَاءٍ وَتَعَبٍ وَنَصَبٍ ، لا يَعرِفُ غَيرَ طَلَبِ الدُّنيَا ، حَرِيصًا عَلَى جَمعِهَا وَمَنعِهَا ، مُستَعجِلاً نَصِيبَهُ مِنهُا ، بَاذِلاً وُسعَهُ لِزِيَادَتِهَا وَكَثرَتِهَا ، وَمَعَ هَذَا هُوَ في عَيشٍ أَشبَهَ مَا يَكُونُ بِالكَفَافِ ، إِنْ لم يَكُنْ مُتَحَمِّلاً في ذِمَّتِهِ حُقُوقًا لِلآخَرِينَ ، وَفي المُقَابِلِ كَم تَرَى مِن بَطِيءٍ في سَعيِهِ إِلى دُنيَاهُ ، قَلِيلِ الاجتِهَادِ في تَحصِيلِ رِزقِهِ ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ وَاسِعُ الرِّزقِ كَثِيرُ المَالِ ، يَرَى أَنْ لَو بَاعَ الحَصَى أَو عَرَضَ عَلَى النَّاسِ التُّرَابَ ، لاشتَرَوهُ مِنهُ بِأَغلَى مَا يَملِكُونَ .


إِخوَةَ الإِيمَانِ ، نَحنُ في زَمَنٍ قَلَّت فِيهِ القَنَاعَةُ ، وَزَادَ حِرصُ النَّاسِ عَلَى التَّكَثُّرِ وَالتَّظَاهُرِ بِالغِنى ، وَجَعَلَ كُلُّ امرِئٍ يُقَلِّدُ مَن حَولَهُ فِيمَا يَسكُنُونَ وَيَركَبُونَ وَيَلبَسُونَ ، وَيُجَارِيهِم فِيمَا يَأكُلُونَ وَيَشرَبُونَ ، وَآخَرُونَ خَفَّت مِنهُمُ العُقُولُ وَسَحَرَ أَلبَابَهُم مَا تَرَاهُ أَعيُنُهُم ، فَقَلَّدُوا غَيرَهُم حَتى فِيمَا لم تَدعُهُم إِلَيهِ ضَرُورَةٌ قَاهِرَةٌ ، وَتَابَعُوا الآخَرِينَ فِيمَا لم تَفرِضْهُ عَلَيهِم حَاجَةٌ مُلِحَّةٌ ، حَتى لُيَخَيَّلُ لأَحَدِهِم أَنْ لَوِ اشتَرَى النَّاسُ التُّرَابَ لَوَجَبَ عَلَيهِ أَن يَشتَرِيَهُ لِيُجَارِيَهُم ، وَلَو شَرِبُوا الهَوَاءَ لَشَرِبَهُ تَشَبُّهًا بهم ، وَلَو سَارُوا عَلَى المَاءِ لَمَا استَرَاحَ حَتى يَسِيرَ سَيرَهُم وَيَتبَعَهُم ، وَقَد أَلزَمَت كُلُّ هَذِهِ الأَفكَارِ الرَّدِيئَةِ وَحُبُّ التَّقلِيدِ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ مَا لَيسُوا بِهِ بِمُلزَمِينَ ، فَلَم يُجمِلُوا في طَلَبِ الدُّنيَا كَمَا أُمِرُوا ، وَلم يَقنَعُوا بما آتَاهُمُ اللهُ مِنهَا فَيُفلِحُوا ، بَل تَشَوَّفُوا إِلى مَا عِندَ غَيرِهِم ، وَذَهَبُوا في طَلَبِ المَالِ كُلَّ مَذهَبٍ ، فَمِن آكِلٍ لِلرِّبَا أَضعَافًا مُضَاعَفَةً ، إِلى مُتَنَاوِلٍ لِلرِّشوَةِ وَالسُّحتِ بِلا خَشيَةٍ ، إِلى مُتَسَاهِلٍ بِالغِشِّ في المُعَامَلاتِ ، مُخَادِعٍ في البَيعِ وَالشِّرَاءِ ، إِلى مُتَلَصِّصٍ عَلَى الأَموَالِ العَامَّةِ بِطُرُقٍ مُلتَوِيَةٍ ، مُعتَدٍ عَلَى بَيتِ مَالِ المُسلِمِينَ بِحِيَلٍ وَاهِيَةٍ .
وَهَذِهِ الطُّرُقُ الَّتي لا يَشُكُّ مُسلِمٌ تَقِيٌّ نَقِيٌّ في حُرمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ الوَاقِعُونَ فِيهَا قِلَّةً إِذَا مَا قُورِنُوا بِالمُتَطَهِّرِ ينَ مِنهَا ، إِلاَّ أَنَّ ثَمَّةَ بَابًا آخَرَ شَدِيدًا عَلَى الذِّمَمِ ، ثَقِيلاً عَلَى الصُّدُورِ ، مُذهِبًا لِلسُّرُورِ وَالحُبُورِ ، جَالِبًا لِلهَمِّ وَالغَمِّ ، مُوقِعًا في حُفَرٍ عَمِيقَةٍ ، مُدخِلاً في أَنفَاقٍ مُظلِمَةٍ ، وَمَعَ هَذَا وَلَجَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في هَذَا الزَّمَانِ بِلا تَرَوٍّ وَلا حِسَابٍ لِمَا وَرَاءَهُ ، ذَلِكُم هُوَ بَابَ الدُّيُونِ ، فَكَم ممَّن تَرَاهُ يَتَحَرَّزُ مِن أَكلِ الحَرَامِ ، وَيَبتَعِدُ قَدرَ الطَّاقَةِ عَنِ تَنَاوُلِ المُشتَبَهِ ، وَلَكِنَّهُ لا يَألُو مَا حَمَّلَ بِهِ نَفسَهُ مِن أَموَالِ الآخَرِينَ وَأَثقَلَ ظَهرَهُ مِن حُقُوقِهِم ، وَمَا يَزَالُ بِهِ التَّهَاوُنُ بما أَخَذَ ، حَتى يَقَعَ اضطِرَارًا في مُخَالَفَاتٍ وَمَكرُوهَاتٍ ، وَقَد يَقتَرِفُ مَعَاصِيَ وَمُوبِقَاتٍ ، وَيَتَحَمَّلُ أَوزَارًا وَسَيِّئَاتٍ ، مَا كَانَ لَهُ لَولا مَا عَلَيهِ مِن دُيُونٍ أَن يَقَعَ فِيهَا وَيَتَحَمَّلَهَ ا ، فَمِنَ الكَذِبِ وَإِخلافِ الوَعدِ ، إِلى كَثرَةِ الحَلِفِ وَإِطلاقِ الأَيمَانِ ، مُرُورًا بِسُؤَالِ النَّاسِ وَاستِعطَائِهِم وَاستِجدَائِهِم ، وَوُقُوعًا في التَّقصِيرِ في النَّفَقَاتِ الوَاجِبَةِ ، وَعَدَمِ القُدرَةِ عَلَى الإِنفَاقِ فِيمَا يُرضِي اللهَ ، كُلُّ ذَلِكَ يُصِيبُ المُتَهَاوِنِين َ في الدُّيُونِ ، دَعْ عَنكَ مَا تَتَنَغَّصُ بِهِ حَيَاتُهُم ، وَالمُشكِلاتِ الَّتي تَنشَأُ في بُيُوتِهِم ، وَانشِغَالَهُم في صَلَوَاتِهِم ، وَعَدَمَ خُشُوعِهِم في عِبَادَاتِهِم ، وَتَقَلُّبَهُم عَلَى فُرُشِهِم وَالنَّاسُ نَائِمُونَ ، وَصَمتَهُم وَالنَّاسُ يَضحَكُونَ ، وَلَو أَنَّهُم قَنِعُوا بما آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَرَتَّبُوا أُمُورَ حَيَاتِهِم عَلَى قَدرِ مَا عِندَهُم وَمَا يَملِكُونَ ، لأَرَاحُوا وَاستَرَاحُوا ، وَلَعَاشُوا حَيَاةً هَانِئَةً وَادِعَةً ، يَحُفُّهَا الرِّضَا وَتَغشَاهَا السَّعَادَةُ ، وَتَنتَهِي بهم إِلى النَّجَاحِ وَالفَلاحِ ، مِصدَاقًا لِقَولِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .


عِبَادَ اللهِ ، إِنَّ الغَفلَةَ المُطبِقَةَ عَمَّا قَضَاهُ الخُالِقُ وَقَدَّرَهُ ، مِن قِسمَةِ المَعِيشَةِ بَينَ النَّاسِ وَاختِلافِ دَرَجَاتِهِم فِيهَا ، جَعَلَتِ الكَثِيرِينَ مَعَ مَا هُم فِيهِ مِن ضِيقِ حَالٍ وَتَوَسُّطِ مَعِيشَةٍ ، يَستَدِينُونَ وَيَقتَرِضُونَ ؛ لِيَتَوَسَّعُوا في المُبَاحَاتِ وَيَتَمَتَّعُوا بِزَهرَةِ الحَيَاةِ ، فَهَذَا لا يَقنَعُ إِلاَّ بِأَفخَمِ العِمَارَاتِ وَأَوسَعِهَا ، وَذَاكَ لا يَركَبُ إِلاَّ أَحدَثَ السَّيَارَاتِ وَأَوطَأَهَا ، وَثَمَّةَ مَن يَختَارُ أَجوَدَ الأَطعِمَةَ وَيَلبَسُ أَفخَرَ الثِّيَابِ ، وَهُنَالِكَ مَنِ استَسَاغَ الإِسرَافَ وَالتَّبذِيرَ بِدَعوَى الكَرَمِ ، وَتَمتَدُّ الحَالُ حَتى تَصِلَ إِلى هَذِهِ التِّقنِيَاتِ الَّتي استَنزَفَت أَموَالَ النَّاسِ عَبرَ أَجهِزَتِهَا المَحمُولَةِ وَالمَنقُولَةِ وَالثَّابِتَةِ ، وَيَتَبَاهَى النَّاسُ في الأَفرَاحِ وَالمُنَاسَبَات ِ ، وَيُسَافِرُونَ بِالدَّينِ لِتَزجِيَةِ الأَوقَاتِ ، وَلِرَبَّاتِ المَنَازِلِ لَدَى ضِعَافِ القِيَامِ دَورٌ فِيمَا يَحصُلُ ، إِذْ يُرهِقنَهُم بِاستِبدَالِ الأَثَاثِ بَينَ الفَينَةِ وَالأُخرَى ، أَو جَلبِ الخَادِمَاتِ بِلا حَاجَةٍ ، أَو الذَّهَابِ إِلى الأَسوَاقِ الغَالِيَةِ وَشِرَاءِ مَا يَحتَجنَ وَمَا لَيسَ لهن فِيهِ حَاجَةٌ ، وَهَكَذَا يَقَعُ النَّاسُ في فَخِّ الدُّيُونِ وَشَرَكِ القُرُوضِ بِسَبَبِ المُجَارَاةِ وَالمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ ، وَالتَّنَافُسِ في مَبَاهِجِ الدُّنيَا وَمُتَعِهَا .
وَتَظَلُّ مِثلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ تَتَفَشَّى في المُجتَمَعِ يَومًا بَعدَ آخَرَ ، وَتَزدَادُ البَلِيَّةُ بها حِينًا بَعدَ حِينٍ ، وَلا يَتَّعِظُ النَّاسُ لِسُوءِ الحَظِّ بِبَعضِهِم ، إِنَّهُ الجَهلُ بِقِيمَةِ الدُّنيَا وَحَقِيقَةِ العَيشِ فِيهَا ، إِنَّهُ الاستِسلامُ لِرَغَبَاتِ النَّفسِ وَتَتَبُّعُ شَهَوَاتِهَا ، وَلَو تَفَكَّرَ عَاقِلٌ وَتَبَصَّرَ وَتَأَمَّلَ ، وَوَعَى مَا وَرَدَ في الأَثَرِ عَمَّن غَبَرَ ، لَوَجَدَ النَّفسَ البَشَرِيَّةَ طَمَّاعَةً لا تَرضَى بِالقَلِيلِ وَلا يَكفِيهَا الكَثِيرُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لَو كَانَ لابنِ آدَمَ وَادٍ مِن مَالٍ لابتَغَى إِلَيهِ ثَانِيًا ، وَلَو كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لابتَغَى لهما ثَالِثًا ، وَلا يَملأُ جَوفَ ابنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن تَابَ " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .


أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَغنُوا النُّفُوسَ بِالقَنَاعَةِ ، وَاملَؤُوا القُلُوبَ بِالرِّضَا ، وَكُونُوا عَلَى ذِكرٍ دَائِمٍ بما عَلِمتُمُوهُ مِن حَقِيقَةِ الدُّنيَا وَأَنَّهَا دَارُ فَنَاءٍ ، وَتَأَمَّلُوا فِيمَا آتَاكُمُ اللهُ دُونَ كَثِيرٍ مِمَّن حَولَكُم مِنَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيةِ وَالأَمنِ ، تَجِدُوا أَنَّ لَدَيكُم مَغَانِمَ غَالِيَةً وَخَيرًا كَثِيرًا ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لَيسَ الغِنى عَن كَثرَةِ العَرَضِ ، وَلَكِنَّ الغِنى غِنى النَّفسِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " كُنْ في الدُّنيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَو عَابِرُ سَبِيلٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم ، وَلا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم ، فَهُوَ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن أَصبَحَ مِنكُم آمِنًا في سِربِهِ ، مُعَافىً في جَسَدِهِ ، عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَت لَهُ الدُّنيَا بِحَذَافِيرِهَا " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَغَيرُهُمَا وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ في الغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَنَسأَلُكَ القَصدَ في الغِنى وَالفَقرِ ، وَنَسأَلُكَ نَعِيمًا لا يَنفَدُ ، وَقُرَّةَ عَينٍ لا تَنقَطِعُ ، وَنَسأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجهِكَ ، وَالشَّوقَ إِلى لِقَائِكَ ، في غَيرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلا فِتنَةٍ مُضِلَّةٍ ، وَأَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ .



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ " وَاعلَمُوا أَنَّ أَسبَابَ تَحَمُّلِ النَّاسِ الدُّيُونَ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ ، لا تَخرُجُ في الغَالِبِ عَن مُخَالَفَتِهِم مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الإِنفَاقِ عَلَى قَدرِ مَا يُؤتَاهُ أَحَدُهُم مِنَ الرِّزقِ ، وَقَد قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجعَلُ اللهُ بَعدَ عُسرٍ يُسرًا "
وَقَد مَدَحَ ـ سُبحَانَهُ ـ عِبَادَ الرَّحمَنِ بِقَولِهِ : " وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لم يُسرِفُوا وَلم يَقتُرُوا وَكَانَ بَينَ ذَلِكَ قَوَامًا " وَمِنَ الأَسبَابِ لِهَذِهِ الدُّيُونِ ، الانسِيَاقُ وَرَاءَ الدِّعَايَاتِ الإِعلامِيَّةِ لِشَرِكَاتِ التَّقسِيطِ ، وَالانخِدَاعُ بِالتَّسهِيلاتِ الَّتي تُقَدِّمُهَا المَصَارِفُ لِلتَّموِيلِ ، وَالَّتي أَظهَرَت أَنَّ كَثِيرِينَ يُفَكِّرُونَ بِأَعيُنِهِم لا بِعُقُولِهِم ، وَأَنَّهُم كَثِيرًا مَا يَقَعُونَ فَرَائِسَ لِهَذِهِ الدِّعَايَاتِ .
فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَعِيشُوا حَيَاتَكُم كَمَا قُدِّرَ لَكُم ، وَأُنفِقُوا عَلَى قَدرِ مَا أُوتِيتُم ، وَلا تُخِيفُوا أَنفُسَكُم بَعدَ أَمنِهَا ، فَفِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ ، عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : " لا تُخِيفُوا أَنفُسَكُم بَعدَ أَمنِهَا " قَالُوا : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قال : " الدَّينُ "

ناصرعبدالرحمن 12-07-2012 11:42 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
مسؤولية الكلمة 23 / 8 / 1433
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَفِي عَصرٍ تَقَدَّمَت فِيهِ وَسَائِلُ الاتِّصَالاتِ ، وَتَوَفَّرَت بَرَامِجُ لِلتَّوَاصُلِ الاجتِمَاعِيِّ وَالمُحَادَثَات ِ ، وَسَهُلَتِ المُرَاسَلاتُ وَالمُكَاتَبَات ُ ، إِذْ ذَاكَ قَلَّ شَأنُ الكَلِمَةِ عِندَ الكَثِيرِينَ وَخَفَّ مِيزَانُهَا ، وَصَارُوا لا يُلقُونَ بَالاً لما يَكتُبُونَ ، بَل صَارَ شَأنُ الكَلِمَةِ لَدَى أَحَدِهِم كَضَغطَةِ زِرٍّ في جَوَّالِهِ أَو حَاسِبِهِ ، ثم هُوَ لا يَحسِبُ لما بَعدَ ذَلِكَ حِسَابًا .
وَإِذَا كَانَ لِلكَلِمَةِ ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ مِنَ التَّأثِيرِ مَا لها ، في بَثِّ الفَرَحِ أَو نَشرِ الحُزنِ ، أَو جَمعِ الصَّفِّ أَو تَفرِيقِهِ ، أَو إِقَامَةِ البِنَاءِ أَو هَدمِهِ ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَمرًا قَد غَفَلَ عَنهُ كَثِيرُونَ ، مَعَ أَنَّ لِلكَلِمَةِ فِيهِ أَثَرَهَا في قُربِ العَبدِ مِن رَبِّهِ أَو بُعدِهِ مِن خَالِقِهِ ، ذَلِكُم هُوَ مَا يُمكِنُ أَن يُسَمَّى بِالمِصدَاقِيَّ ةِ ، أَو مَسؤُولِيَّةِ الكَلِمَةِ وَتَبِعَتِهَا ، أَو بِلَفظٍ آخَرَ ، قَدرُ الكَلِمَةِ في وَاقِعِ قَائِلِهَا وَكَاتِبِهَا ، وَحَظُّهُ مِن تَطبِيقِهَا عَلَى نَفسِهِ .
إِنَّ سُهُولَةَ الكِتَابَةِ في هَذِهِ الأَجهِزَةِ الحَدِيثَةِ وَتِلكَ الشَّبَكَاتِ ، وَكَونَهَا قد لا تَحتَاجُ إِلاَّ إِلى القَصِّ أَوِ النَّسخِ ، ثم اللَّصقِ وَالإِرسَالِ لأَشخَاصٍ آخَرِينَ ، إِنَّ ذَلِكَ جَعَلَ مِنَ الكَلِمَةِ لَدَى الكَثِيرِينَ مُجَرَّدَ حَرَكَاتٍ يُؤَدِّيهَا أَحَدُهُم في ثَوَانٍ مَعدُودَةٍ ، دُونَ شُعُورٍ أَو إِحسَاسٍ بِثِقَلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ وَوَزنِهَا .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد أَمَرَ اللهُ ـ تَعَالى ـ المُؤمِنِينَ بِأَن يَتَّقُوهُ وَيَقُولُوا قَولاً سَدِيدًا ، وَوَعَدَهُم بِأَن يُصلِحَ لهم بِذَلِكَ أَعمَالَهُم وَيَغفِرَ لَهُم ذُنُوبَهُم . وَالقَولُ السَّدِيدُ الَّذِي هَذِهِ نَتِيجَتُهُ ، إِنَّمَا هُوَ القَولُ المُستَقِيمُ الَّذِي لا اعوِجَاجَ فِيهِ وَلا انحِرَافَ ، وَفي مَوضِعٍ آخَرَ يَضرِبُ اللهُ لِلكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ مَثَلاً بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتي أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا في السَّمَاءِ ، تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذنِ رَبِّهَا ، وَأَمَّا الكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ فَإِنَّمَا هِيَ شَجَرَةٌ خَبِيثَةٌ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ ، وَلَو نَظَرَ مُتَأَمِّلٌ فِيمَا يَكتُبُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَيَنشُرُونَهُ مِن رَسَائِلَ قَد تَبدُو في الظَّاهِرِ عَلَى جَانِبٍ مِنَ الجَمَالِ وَالكَمَالِ وَقُوَّةِ التَّأثِيرِ ، ثم وَازَنَ بَينَ مَا يُكتَبُ وَبَينَ الأَفعَالِ وَالتَّصَرُّفَا تِ في الوَاقِعِ ، لَوَجَدَ أَنَّ وَصفَ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ لا يَنطَبِقُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا يُكتَبُ وَلِلأَسَفِ الشَّدِيدِ ، حَتى وَإِن زَانَ لَفظُهَا وَتَمَاسَكَت كَلِمَاتُهَا وَتَنَاسَقَت عِبَارَاتُهَا ، وَحَسُنَ سَبكُهَا وَجَمُلَ رَونَقُهَا ، لماذا ؟ لأَنَّ الكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ مُتَأَصِّلَةٌ في قَلبِ صَاحِبِهَا ثَابِتَةٌ فِيهِ كَثُبُوتِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ في قَلبِ الأَرضِ ، وَهِيَ في الوَقتِ نَفسِهِ مُثمِرَةٌ ، أَي ظَاهِرَةُ الأَثَرِ عَلَى جَوَارِحِهِ وَفي تَعَامُلِهِ مَعَ مَن حَولَهُ ، وَأَمَّا الكَلِمَةُ الَّتي لا مِصدَاقِيَّةَ لها في قَلبِ صَاحِبِهَا ، فَهِيَ الكَلِمَةُ الخَبِيثَةُ الَّتي هِيَ كَالشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ قَد تَخَضَرُّ وَتَتَعَالى ، وَتَتَشَابَكُ أَغصَانُهَا وَتَبدُو لِلنَّاظِرِ نَضِرَةً ذَاتَ رَوَاءٍ وَبَهَاءٍ ، وَيُخَيَّلُ إِلى بَعضِ النَّاسِ أَنَّهَا أَضخَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ وَأَقوَى ، وَلَكِنَّ جُذُورَهَا في التُّربَةِ قَرِيبَةٌ ، وَمَا هِيَ إِلاَّ أَقَلُّ رِيحٍ تَهُبُّ عَلَيهَا فَتَجتَثُّهَا مِن فَوقِ الأَرضِ فَلا تَرَى لها قَرَارًا وَلا بَقَاءً ، وَهَذَا مَثَلُ كَثِيرٍ مِمَّا يُكتَبُ وَيُرسَلُ مِن كَلِمَاتٍ وَعِبَارَاتٍ وَنَصَائِحَ ، لا تَرَى لها في قُلُوبِ أَصحَابِهَا اعتِقَادًا صَادِقًا لِمَضمُونِهَا ، وَلا تُحِسُّ أَنَّهَا مُستَقِرَّةٌ في نُفُوسِهِم وَلا مُنشَرِحَةٌ بها صُدُورُهُم ، فَهُم لا يُطَبِّقُونَهَا عَلَى أَنفُسِهِم أَوَّلاً ، وَلا يَرَى النَّاسُ أَثَرَهَا في تَعَامُلِهِم مَعَهُم وَلا في شُؤُونِ حَيَاتِهِم ثَانِيًا ، وَلَكِنَّهُم يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ ، وَيَتَظَاهَرُون َ بما لا يُبطِنُونَ ، وَيَتَشَبَّعُون َ بما لم يُعطَوا .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَأَمَّلُوا هَذَا الحَدِيثَ العَظِيمَ لِتَعلَمُوا كَيفَ يَتَعَامَلُ الإِسلامُ مَعَ الكَلِمَةِ وَصَاحِبِهَا ، في إِشَارَةٍ إِلى أَنَّهُ مَسؤُولٌ عَنهَا ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِن إِتبَاعِهَا بما يُثبِتُهَا وَيَجعَلُهَا وَاقِعًا حَيًّا ، فَعَن سُفيَانَ بنِ عبدِاللهِ الثَّقَفِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قُلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، قُلْ لي في الإِسلامِ قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدًا بَعدَكَ . قَالَ : " قُلْ : آمَنتُ بِاللهِ ثم استَقِمْ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . فَانظُرُوا ـ يَا رَعَاكُمُ اللهُ ـ قَولَهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ لِمَنِ استَوصَاهُ بِوَصِيَّةٍ جَامِعَةٍ ، لَقَد أَمَرَهُ أَن يَقُولَ كَلِمَةً بِلِسَانِهِ ، ثم يُتبِعَهَا بِالسَّيرِ في وَاقِعِهِ عَلَى مَا تَستَلزِمُهُ تِلكَ الكَلِمَةُ ، مِنِ استِقَامَةٍ وَعَدَمِ اعوِجَاجٍ أَوِ انحِرَافٍ ، فَهَل نَحنُ كَذَلِكَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ ؟ هَل نَحنُ مِمَّن يَحسِبُ لِكُلِّ كَلِمَةٍ قَبلَ النُّطقِ بها أَو كِتَابَتِهَا حِسَابًا ؟ الوَاقِعُ يَشهَدُ أَنَّنَا لَسنَا كَذَلِكَ ، فَكَم مِمَّن يُرسِلُ لَكَ مَوعِظَةً عَن فَضلِ عَمَلٍ صَالحٍ مَا ، وَاللهُ يَعلَمُ مِن حَالِهِ أَنَّهُ مِنَ المُتَكَاسِلِين َ عَنهُ ! وَكَم مِمَّن تَشُدُّكَ حُرُوفُهُ في الحَثِّ عَلَى حُسنِ الخُلُقِ وَطِيبِ التَّعَامُلِ ، فَإِذَا عَامَلتَهُ أَو سَبَرتَ تَصَرُّفَهُ حَتى مَعَ أَهلِهِ وَأَقرَبِ النَّاسِ إِلَيهِ ، وَجَدتَهُ مِن أَسوَأِ الخَلقِ خُلُقًا وَأَسرَعِهِم غَضَبًا وَأَقرَبِهِم نَزَقًا وَأَخَفِّهِم عَقلاً ! وَكَم مِمَّن يَشغَلُكَ بِإِرسَالِ المَقَاطِعِ الَّتي تَتَحَدَّثُ عَن أَحوَالِ المُسلِمِينَ وَمَا يُصِيبُهُم مِن جُوعٍ أَو خَوفٍ أَو قَتلٍ وَتَشرِيدٍ ، وَتَرَاهُ إِذَا دُعِيَ إِلى أَقَلِّ مَا يَنصُرُهُم بِهِ ، لم تَجِدْ لَهُ فِعلاً وَلم تَسمَعْ لَهُ رِكزًا ، بَل لَعَلَّهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ نَفسِهِ ، لم يُحَرِّكْ لِسَانَهُ في يَومٍ بِدُعَاءٍ خَالِصٍ لإِخوَانِهِ المُستَضعَفِينَ بِأَن يَسُدَّ اللهُ جُوعَهُم وَيُبَدِّلَ خَوفَهُم أَمنًا وَيَنصُرَهُم عَلَى القَومِ المُجرِمِينَ ، أَفَلا يَخَافُ أَحَدُنَا ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ وَهَذَا شَأنُهُ مِن أَن يَكُونَ في زُمرَةِ الكَذَّابِينَ ؟! أَلا يَخَافُ أَن يَكُونَ تَمَادِيهِ في ذَلِكَ فُجُورًا يُهلِكُهُ ؟! إِنَّهَا نَتَائِجُ عَظِيمَةٌ أَو أُخرَى وَخِيمَةٌ ، يُحَدِّدُهَا صِدقُ العَبدِ أَو كَذِبُهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " عَلَيكُم بِالصِّدقِ ، فَإِنَّ الصِّدقَ يَهدِي إِلى البِرِّ ، وَإِنَّ البِرَّ يَهدِي إِلى الجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرُّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حَتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقًا . وَإِيَّاكُم وَالكَذِبَ ، فَإِنَّ الكَذِبَ يَهدِي إِلى الفُجُورِ ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
عِبَادَ اللهِ ، كَفَانَا اتِّجَاهًا إِلى المِثَالِيَّاتِ البَرَّاقَةِ الزَّائِفَةِ ، وَحَذَارِ حَذَارِ مِن أَن نَقُولَ مَا لا نَفعَلُ ، أَو نُرِيَ الآخَرِينَ غَيرَ مَا يَخفَى مِنَّا ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِمَقتِ اللهِ لَنَا ، وَكَيفَ يَنتَظِرُ الخَيرَ مَن مَقَتَهُ اللهُ وَأَبعَدَهُ ؟! أَلا فَمَا أَجمَلَهُ بِالمُسلِمِ أَن يَزِنَ فِعلَهُ عَلَى قَولِهِ ، وَأَن يَضبِطَ قَولَهُ بِفِعلِهِ ، وَأَن يَردِمَ الهُوَّةَ بَينَ هَذَينِ ، وَيَجعَلَهُمَا في وَاقِعِهِ مُتَطَابِقَينِ ، لِتَكمُلَ ذَاتُهُ وَتَشرُفَ نَفسُهُ ، وَيُقتَدَى بِهِ في الخَيرِ ولا يَكُونَ لِغَيرِهِ فِتنَةً ! إِنَّنَا ـ إِخوَةَ الإِيمَانِ ـ نَحتَاجُ إِلى أُنَاسٍ يَفعَلُونَ قَبلَ أَن يَقُولُوا ، وَإِذَا قَالُوا التَزَمُوا وَاستَقَامُوا ، وَقَد قِيلَ : مَقَامُ رَجُلٍ في أَلفٍ ، خَيرٌ مِن مَقَالِ أَلفٍ في رَجُلٍ ، نَعَم ، مَقَامُ رَجُلٍ مُطَبِّقٍ لما يَقُولُ ، مُحَاسِبٍ لِنَفسِهِ فِيمَا يَكتُبُ ، تَنطِقُ بِالخَيرِ أَفعَالُهُ قَبلَ أَقوَالِهِ ، هُوَ خَيرٌ مِن أَن يَجتَمِعَ أَلفُ رَجُلٍ قَوَّالُونَ غَيرَ فَعَّالِينَ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَأَتبِعُوا سَدِيدَ القَولِ بِرَشِيدِ العَمَلِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ "




الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
عِبَادَ اللهِ ، هَل يَجِبُ عَلَى المَرءِ عَلَى هَذَا أَن يَتَوَقَّفَ عَنِ الكِتَابَةِ تَوَقُّفًا كُلِّيًّا ، وَيُمسِكَ لِسَانَهُ وَقَلَمَهُ فَلا يَتَفَوَّهَ بِكَلِمَةٍ وَلا يَخُطَّ حَرفًا ، فَنَقُولُ : أَمَّا عَنِ الشَّرِّ فَنَعَم ، وَقَد قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ : " وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَسكُتْ " لَكِنَّنَا لَيسَ عَن هَذَا نَتَكَلَّمُ ، فَهُوَ مِمَّا لا يَختَلِفُ فِيهِ مُسلِمَانِ وَلا يَتَمَارَى فِيهِ مُؤمِنَانِ ، وَلَكِنَّنَا نَرمِي إِلى أَمرٍ أَعظَمَ مِن هَذَا وَأَكمَلَ ، ذَلِكُم هُوَ البُعدُ كُلَّ البُعدِ عَنِ انتِحَالِ المَرءِ في كِتَابَتِهِ شَخصِيَّةَ النَّاصِحِ وَتَظَاهُرِهِ في أَقوَالِهِ بِلِبَاسِ النَّاجِحِ ، وَهُوَ في وَاقِعِ أَمرِهِ جَاهِلٌ مُبِينٌ ، مُخفِقٌ في أُسُسِ دِينِهِ مُفَرِّطٌ في أَركَانِهِ ، وَلَقَد أَحسَنَ مَن مَدَحَ الخَلِيفَةَ الزَّاهِدَ عُمَرَ بنَ عَبدِالعَزِيزِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ حَيثُ قَالَ في وَصفِهِ :
وَأَرَاكَ تَفعَلُ مَا تَقُولُ وَبَعضُهُم
مَذِقُ الحَدِيثِ يَقُولُ مَا لا يَفعَلُ
وَكَم مِمَّن هُوَ في زَمَانِنَا مَذِقُ الحَدِيثِ ، يَكتُبُ مَا لا يَفعَلُ ، وَيُرسِلُ مَا لا يُطَبِّقُ ، وَيَتَشَبَّعُ بما لَيسَ فِيهِ ، فَمَا أَشبَهَهُ بِمَن قَالَ اللهُ فِيهِم : " أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعقِلُونَ " ! إِنَّهَا خِفَّةٌ في العَقلِ أَن يَتَمَادَى المَرءُ في لِبسِ ثِيَابِ النَّاصِحِينَ ، وَيَنسَى أَنَّهَا لم تَستُرْ لَهُ عَورَةً ، وَيَتَغَافَلُ عَن أَعيُنِ الرُّقَبَاءِ الَّتي لا تَزَالُ تَلحَظُهُ في كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكُونٍ ، وَتَرمُقُهُ في كُلِّ دُخُولٍ له وَخُرُوجٍ ، وَتَعرِضُ فِعلَهُ عَلَى قَولِهِ ، فَمَا طَابَقَهُ أَخَذُوا بِهِ ، وَمَا فَارَقَهُ رَمَوا بِهِ في وَجهِهِ .
لَقَد حَكَى اللهُ ـ تَعَالى ـ عَن شُعَيبٍ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ قَولَهُ لِقَومِهِ : " وَمَا أُرِيدُ أَن أُخَالِفَكُم إِلى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَمَا تَوفِيقِي إِلَّا بِاللهِ " وَإِنَّ في ذَلِكَ لأَبلَغَ إِشَارَةٍ إِلى أَنَّ طَرِيقَ المُصلِحِينَ هِيَ مُوَافَقَةُ الفِعلِ لِلقَولِ ، وَأَنَّ مَن خَالَفَ فِعلُهُ قَولَهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ دَاعِيَةُ فَسَادٍ لا إِمَامَ رَشَادٍ . إِنَّ مِنَ الحِكمَةِ أَن يَبدَأَ المَرءُ بِنَفسِهِ فَيُصلِحَهَا وَيُهَذِّبَهَا وَيُقَوِّمَ عِوَجَهَا ، وَحِينَهَا فَسَيَكُونُ أَبلَغَ وَاعِظٍ وَإِن هُوَ لم يَتَكَلَّمْ ، وَسَيَنقُلُ الخَيرَ وَإِن لم يَكتُبْ ، وَمَا أَحسَنَ قَولَ القَائِلِ :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعلِمُ غَيرَهُ
هَلاَّ لِنَفسِكَ كَانَ ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السَّقَامِ وَذِي الضَّنَى
كَيمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
اِبدَأْ بِنَفسِكَ فَانهَهَا عَن غَيِّهَا
فَإِذَا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكِيمُ
لَيتَ شِعرِي مَاذَا يُرِيدُ مَن يَتَزَيَّنُ بما لم يَفعَلْ ، أَوَلَم يَقرَأْ قَولَ اللهِ ـ سُبحَانَهُ ـ : " لا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ يَفرَحُونَ بما أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بما لم يَفعَلُوا فَلا تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ " أَوَلَم يَتَأَمَّلْ مَا قَالَهُ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فِيمَا رَوَاهُ مُسلِمٌ : " المُتَشَبِّعُ بما لم يُعطَ كَلابِسِ ثَوبَي زُورٍ " ؟! وَأَخِيرًا ، لِيَجعَلْ كُلُّ امرِئٍ بَينَ عَينَيهِ قَولَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " يُؤتَى بِالرَّجُلِ يَومَ القِيَامَةِ ، فَيُلقَى في النَّارِ ، فَتَندَلِقُ أَقتَابُ بَطنِهِ ، فَيَدُورُ بها كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَى ، فَيَجتَمِعُ إِلَيهِ أَهلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ : يَا فُلانُ ، مَا لَكَ ؟ أَلَم تَكُنْ تَأمُرُ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَى عَنِ المُنكَرِ ؟! فَيَقُولُ : بَلَى ، قَد كُنتُ آمُرُ بِالمَعرُوفِ وَلا آتِيهِ ، وَأَنهَى عَنِ المُنكَرِ وَآتِيهِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .

ناصرعبدالرحمن 19-07-2012 05:23 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

إلى من شهد الشهر 1 / 9 / 1433



الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " أَمَّن هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحذَرُ الآخِرَةَ وَيَرجُو رَحمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ . قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَأَرضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، عَجَلَةُ الأَيَّامِ دَائِرَةٌ ، وَفُرصَةُ العُمُرِ وَاحِدَةٌ ، وَمَا مَضَى مِنَ الحَيَاةِ فَلا يُرجَى ، وَالمُستَقبَلُ غَيبٌ لا يُدرَى ، وَإِنَّ أَسعَدَ النَّاسِ في هَذِهِ الدُّنيَا ، مَن تَحَرَّى مَا يُرضِي اللهَ في سَاعَتِهِ فَعَمِلَ بِهِ ، وَأَتَى بما يَلزَمُهُ فِيهَا مِنَ العُبُودِيَّةِ لِرَبِّهِ عَلَى الوَجهِ الَّذِي يُرضِيهِ عَنهُ ، وَالمُؤمِنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ ، يَعلَمُ أَنَّ للهِ في اللَّيلِ عَمَلاً لا يَقبَلُهُ في النَّهَارِ ، وَعَمَلاً في النَّهَارِ لا يَقبَلُهُ في اللَّيلِ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ يَغتَنِمُ الوَقتَ اغتِنَامًا ، وَيُؤَدِّي كُلَّ عَمَلٍ في حِينِهِ ، وَيَملأُ سَاعَاتِ عُمُرِهِ بما يَرجُو بِهِ عِندَ رَبِّهِ رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ في الجَنَّاتِ ، فَهُوَ في وَقتِ الصَّلاةِ مَعَ الرَّاكِعِينَ ، وَفي الأَسحَارِ مَعَ المُستَغفِرِينَ ، وَفي رَمَضَانَ مَعَ الصَّائِمِينَ القَائِمِينَ المُنفِقِينَ . وَلا يَزَالُ عَلَى ذَلِكَ رَاجِيًا خَائِفًا ، لا يَفرُغُ مِن طَاعَةٍ إِلاَّ وَصَلَهَا بِأُخرَى ، مُمتَثِلاً أَمرَ رَبِّهِ لإِمَامِ العَابِدِينَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد بُلِّغتُم شَهرًا كَرِيمًا ، وَأَدرَكتُم مَوسِمًا عَظِيمًا ، وَسَتَشهَدُونَ إِنْ حَيِيتُم أَيَّامًا غَالِيَةً وَلَيَاليَ ثَمِينَةً ، كُلُّهَا فُرَصٌ لِلعِبَادَةِ سَانِحَةٌ ، وَأَبوَابٌ لِلتَّقَرُّبِ مَفتُوحَةٌ ، فَمَاذَا أَنتُم فَاعِلُونَ ؟
وَفي أَيِّ طَرِيقٍ سَتَغدُونَ ؟
وَعَلَى أَيِّ حَالٍ سَتَرُوحُونَ ؟
إِنَّ كُلَّ عَبدٍ وَلا بُدَّ غَادٍ في شَهرِهِ وَرَائِحٌ ، فَبَائِعٌ نَفسَهُ إِمَّا لِمَولاهُ فَرَابِحٌ ، وَإِمَّا مُوبِقُهَا بِاتِّبَاعِ هَوَى النَّفسِ وَشَيَاطِينِ الجِنِّ وَالإِنسِ ، فَيَا عَبدَ اللهِ ، يَا مَن أَكرَمَكَ اللهُ وَاصطَفَاكَ ، وَجَعَلَكَ مُؤمِنًا وَقَد كَفَرَ أَكثَرُ النَّاسِ ، وَهَدَاكَ وَقَد ضَلَّ أَكثَرُ مَن في الأَرضِ ، وَعَافَاكَ وَالنَّاسُ حَولَكَ في البَلاءِ يَتَقَلَّبُونَ ، يَا مَن شَهِدتَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ ، لَقَد عَاهَدتَ رَبَّكَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ العَظِيمَةِ ، أَن تَكُونَ عَبَدًا رَبَّانِيًّا ، مُخلِصًا للهِ الدِّينَ ، مُتَّبِعًا سَيِّدَ المُرسَلِينَ ، فَإِنْ أَنتَ وَفَيتَ بِالعَهدِ فَهَنِيئًا لَكَ تَحقِيقُ مَا خُلِقتَ مِن أَجلِهِ ، حَيثُ قَالَ رَبُّكَ وَخَالِقُكَ : " وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونَ " وَأَبشِرْ بِخَيرِ الجَزَاءِ وَحُسنِ العَاقِبَةِ ، فَعَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَن يُدخِلَهُ الجَنَّةَ جَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ أَو جَلَسَ في أَرضِهِ الَّتي وُلِدَ فِيهَا ... " الحَدِيثَ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ، وَعَن عَمرِو بنِ مُرَّةَ الجُهَنيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيتَ إِنْ شَهِدتُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، وَصَلَّيتُ الصَّلَوَاتِ الخَمسَ ، وَأَدَّيتُ الزَّكَاةَ ، وَصُمتُ رَمَضَانَ وَقُمتُهُ ، فَمِمَّن أَنَا ؟ قَالَ : " مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ " رَوَاهُ البَزَّارُ وَابنُ خُزَيمَةَ وَابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
إِنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ الَّذِي هَذَا جَزَاؤُهُ وَتِلكَ عَاقِبَةُ أَهلِهِ وَمَنزِلَتُهُم عِندَ رَبِّهِم ، لا يُعقَلُ أَن يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الإِمسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَحَسبُ ، دُونَ تَقَيُّدٍ بِبَقِيَّةِ أَوَامِرِ الدِّينِ وَنَوَاهِيهِ ، وَلَكِنَّهُ ذَلِكَ الصِّيَامُ الَّذِي يَسبِقُهُ إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتَطهِيرٌ لِلقُلُوبِ وَتَنقِيَةٌ لِلصُّدُورِ ، وَتَوبَةٌ نَصُوحٌ مِنَ الكَبَائِرِ وَالمُوبِقَاتِ ، ثم يَصحَبُهُ إِقامٌ لِلصَّلاةِ وَإِيتَاءٌ لِلزَّكَاةِ ، وَاستِكثَارٌ مِن نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ وَعَفوِ الصَّدَقَاتِ ، وَلَهَجٌ بِذِكرِ الرَّحمَنِ وَقِرَاءَةِ القُرآنِ ، وَأَمَّا أَن يَدخُلَ رَمَضَانُ وَيَخرُجَ ، وَتَارِكُ صَلاةِ الفَجرِ مَعَ الجَمَاعَةِ مَا زَالَ مُصِرًّا عَلَى كَبِيرَتِهِ ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ مَاضٍ في مُصِيبَتِهِ ، وَالحَاسِدُ يَتَقَلَّبُ في مِحنَتِهِ ، وَآكِلُ الحَرَامِ غَارِقٌ في شَهوَتِهِ ، وَهَاجِرُ القُرآنِ عَلَى سَهوِهِ وَغَفلَتِهِ ، فَهَذَا عَينُ الغَبنِ وَمَحضُ الخَسَارَةِ . وَإِنَّهُ لَمِنَ المُحزِنِ حَقًّا ، أَلاَّ يُبَاليَ أَعدَادٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَخَاصَّةً الشَّبَابَ ، بما تَرَكُوا مِنَ الصَّلَواتِ المَكتُوبَاتِ ، أَو أَتَوهُ مِنَ المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ ، أَو شَاهَدُوهُ مِنَ فَضَائِحِ الإِعلامِ والمُحَرَّمَاتِ ، وَأَن يَستَنكِفَ آخَرُونَ مِنَ الكِبَارِ وَيَستَكبِرُوا عَن إِصلاحِ ذَاتِ بَينِهِم ، أَو يَغفُلُوا عَن تَطهِيرِ مَآكِلِهِم وَمَشَارِبِهِم ، نَاهِيكَ عَمَّن يَهجُرُونَ سُنَّةَ السُّحُورِ ، وَمَن يَغفُلُونَ عَنِ الاستِغفَارِ بِالأَسحَارِ ، وَمَن لا يَكَادُونَ يَختِمُونَ كِتَابَ رَبِّهِم وَلَو مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَمَن لا يُنفِقُونَ طُوَالَ شَهرِهِم قَلِيلاً وَلا كَثِيرًا ، فَإِلى اللهِ المُشتَكَى مِن نُفُوسٍ تَمُرُّ بها السَّنَوَاتُ في أَعقَابِ السَّنَوَاتِ ، وَهِيَ مَا تَزَالُ في غَيِّهَا مُستَمِرَّةً ، وَلِخَطَئِهَا مُستَمرِئَةً ، فَهَل تَرَى مِثلَ هَذِهِ النُّفُوسِ مُستَفِيدَةً شَيئًا مِن شَهرِ رَمَضَانَ ؟ لا يُظَنُّ ذَلِكَ وَالعِلمُ عِندَ اللهِ ، لأَنَّ رَمَضَانَ شَهرُ المُتَّقِينَ ، وَقَد ذَكَرَ اللهُ مِن صِفَاتِ المُتَّقِينَ أَنَّهُم " إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللهَ فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلم يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ " وَفي الصَّحِيحَينِ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَت أَبوَابُ الجَنَّةِ ، وَغُلِّقَت أَبوَابُ النَّارِ ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ "
وَعِندَ ابنِ مَاجَهْ وَغَيرِهِ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ هَذَا الشَّهرَ قَد حَضَرَكُم ، وَفِيهِ لَيلَةٌ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ مَن حُرِمَهَا فَقَد حُرِمَ الخَيرَ كُلَّهُ ، وَلا يُحرَمُ خَيرَهَا إِلاَّ مَحرُومٌ " فَإِذَا كَانَت أَبوَابُ الرَّحمَةِ في رَمَضَانَ مُفَتَّحَةً ، وَأَبوَابُ جَهنَّمَ مُغَلَّقَةً ، وَالشَّيَاطِينُ مُسَلسَلَةً ، وَلَيلَةُ القَدرِ الَّّتي هِيَ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ في رَمَضَانَ قَطعًا ، فَمَن ذَا الَّذِي بَعدُ يُصِرُّ ويُضِيعُ الفُرصَةَ ، وَيُعرِضُ عَن مَأدُبَةِ رَبِّهِ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ، وَاحرِصُوا عَلَى أَن تَكُونُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ نَبِيُّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فى شَهرِ رَمَضَانَ مِنَ الإِكثَارِ مِن أَنوَاعِ العِبَادَاتِ ، فَقَد كَانَ جِبرِيلُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ يُدَارِسُهُ القُرآنَ في رَمَضَانَ ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ جِبرِيلُ أَجوَدَ بِالخَيرِ مِنَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ ، فَكَانَ يُكثِرُ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالإِحسَانِ ، وَالاعتِكَافِ وَالصَّلاةِ وَالذِّكرِ وَتِلاوَةِ القُرآنِ ، وَكَانَ يَخُصُّ رَمَضَانَ مِنَ العِبَادَةِ بما لا يَخُصُّ بِهِ غَيرَهُ مِنَ الشُّهُورِ ، فَاقتَدُوا بِهِ وَسِيرُوا عَلَى هَديِهِ تُفلِحُوا " لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ . أَيَّامًا مَعدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيرًا فَهُوَ خَيرٌ لَهُ وَأَن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم إِنْ كُنتُم تَعلَمُونَ . شَهرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ . وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُو ا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ "




الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا اللهَ ذِكرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً . هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيكُم وَمَلائِكَتُهُ لِيُخرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤمِنِينَ رَحِيمًا . تَحِيَّتُهُم يَومَ يَلقَونَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُم أَجرًا كَرِيمًا "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِذَا كَانَ المُسلِمُ في رَمَضَانَ مَأمُورًا بِالصِّيَامِ عَن بَعضِ الحَلالِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَسَائِرِ المُفَطِّرَاتِ ، فَإِنَّهُ مَأمُورٌ في سَائِرِ عُمُرِهِ وَفي كُلِّ أَوقَاتِهِ بِالصِّيَامِ عَن كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ ، وَأَلاَّ يَستَعمِلَ جَوَارِحَهُ الَّتي أَنعَمَ اللهُ بها عَلَيهِ إِلاَّ فِيمَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ ، وَذَلِكُم هُوَ في الحَقِيقَةِ صَومُ المُتَّقِينَ ، أَمَّا مَن يَصُومُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ سَاعَاتٍ مَعدُودَةً ، ثم هُوَ في أَثنَاءِ ذَلِكَ وَبَعدَهُ مُطلِقٌ جَوَارِحَهُ لِتَرتَعَ في مَعَاصِي اللهِ ، فَمَا وُاللهِ صَامَ وَلا عَرَفَ مَعنى الصِّيَامِ ، فَفِي البُخَارِيِّ وَغَيرِهِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيسَ للهِ حَاجَةٌ في أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ "
وَرَوَى ابنُ خُزَيمَةَ وَابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : " لَيسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكلِ وَالشُّربِ ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغوِ وَالرَّفَثِ ، فَإِن سَابَّكَ أَحَدٌ أَو جَهِلَ عَلَيكَ فَقُلْ إِني صَائِمٌ إِني صَائِمٌ "


أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ في شَهرِكُم ، وَصُومُوا عَمَّا حَرَّمَ اللهُ طُولَ دَهرِكُم ، وَإِيَّاكُم وَالنَّظَرَ أَوِ الاستِمَاعَ إِلى مَا لا يَحِلُّ ، زُمُّوا الأَلسِنَةَ عَنِ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَقَولِ الزُّورِ وَ" مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصمُتْ " أَطلِقُوا الأَيدِي بِالعَطَاءِ وَالإِنفَاقِ فِيمَا يُرضِي اللهَ ، بِالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّفطِيرِ ، وَدَعمِ بَرَامِجِ الدَّعوَةِ وَمَشرُوعَاتِ الخَيرِ ، قُومُوا للهِ قَانِتِينَ ، وَاركَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ، وَتَقَرَّبُوا إِلى اللهِ بِالفَرَائِضِ وَأَكثِرُوا مِنَ النَّوَافِلِ ، وَصُفُّوا الأَرجُلَ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ مَعَ المُسلِمِينَ وَلا تَنصَرِفُوا قَبلَ الإِمَامِ ، فَإِنَّهُ مَن قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتى يَنصِرَفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيلَةٍ ، اِقرَؤُوا القُرآنَ في بُيُوتِكُم وَمَسَاجِدِكُم ، وَتَدَبَّرُوهُ وَتَدَارَسُوهُ ، وَخُذُوا بما تَستَطِيعُونَهُ مِن أَسبَابِ المَغفِرَةِ ، وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ ، وَالخَاسِرُ مَنِ انسَلَخَ الشَّهرُ وَهُوَ مَرهُونٌ بِذُنُوبِهِ وَتَقصِيرِهِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَرَغِمَ أَنفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيهِ رَمَضَانُ ثم انسَلَخَ قَبلَ أَن يُغفَرَ لَهُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

ناصرعبدالرحمن 26-07-2012 03:21 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
مسارعة في الخيرات لدعوات مستجابات 8 / 9 / 1433




الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في الآيَاتِ الَّتي ذَكَرَ اللهُ فِيهَا الصِّيَامَ وَإِنزَالَ القُرآنِ في شَهرِ رَمَضَانَ ، وَبَيَّنَ فِيهَا لِعِبَادِهِ بَعضَ الأَحكَامِ لِمَن شَهِدَ مِنهُمُ الشَّهرَ وَلِمَن كَانَ مُسَافِرًا ، وَغَيرَ ذَلِكَ مِن أَحكَامٍ مَعَ أَهلِيهِم وَبَدءِ صِيَامِهِم وَانتِهَائِهِ ، في ثَنَايَا تِلكَ الآيَاتِ العَظِيمَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَستَجِيبُو ا لي وَلْيُؤمِنُوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ " ممَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهرَ رَمَضَانَ وَمَوسِمَ القُرآنِ وَأَيَّامَ الصِّيَامِ وَلَيَاليَ القِيَامِ ، مِن أَعظَمِ المَوَاضِعِ الَّتي يُشرَعُ فِيهَا الدُّعَاءُ وَاللُّجُوءُ إِلى اللهِ ، إِذْ هُوَ ـ تَعَالى ـ قَرِيبٌ مُجِيبٌ ، يَسمَعُ الدُّعَاءَ وَيُحَقِّقُ الرَّجَاءَ ، وَيَستَجِيبُ لِلدَّاعِي وَيُرشِدُهُ وَيُوَفِّقُهُ وَيُسَدِّدُهُ ، غَيرَ أَنَّ ممَّا يَلفِتُ الانتِبَاهَ أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى ـ جَعَلَ لإِجَابَةِ دُعَائِنَا شَرطًا فَقَالَ : " فَلْيَستَجِيبُو ا لي " فَحَتى يُجِيبَ ـ سُبحَانَهُ ـ دُعَاءَنَا وَيُحَقِّقَ رَجَاءَنَا وَيُبَلِّغَنَا آمَالَنَا ، فَلا بُدَّ مِنِ استِجَابَتِنَا لَهُ قَبلَ ذَلِكَ ، وَإِذَا نَحنُ فَعَلنَا ذَلِكَ وَكُنَّا للهِ ـ تَعَالى ـ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيُرِيدُ ، فَسَوفَ يَستَجِيبُ ـ سُبحَانَهُ ـ لَنَا وَيَجَعَلُنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ .
فَهَل فَكَّرنَا بِجِدٍّ كَيفَ نَستَجِيبُ للهِ حَتى يُجِيبَ دُعَاءَنَا ؟ إِنَّهُ لأَمرٌ كَبِيرٌ وَقَد يَكُونُ وَاسِعًا ، وَلَكِنَّ ثَمَّةَ مَوَاضِعَ وَرَدَ فِيهَا إِجَابَةُ اللهِ ـ تَعَالى ـ لِعَدَدٍ مِنَ أَنبِيَائِهِ ، ثم بَيَانُ استِجَابَتِهِم لَهُ قَبلَ ذَلِكَ ، فَتَعَالَوا بِنَا نَستَعرِضُهَا عَلَى عَجَلٍ ، لِنَتَعَرَّفَ كَيفَ استَجَابُوا لِرَبِّهِم قَبلَ أَن يَستَجِيبَ هُوَ دُعَاءَهُم ، فَإِنَّ أَنبِيَاءَ اللهِ ـ عَلَيهِمُ السَّلامُ ـ هُم أَعرَفُ الخَلقِ بِرَبِّهِم ، وَأَبصَرُهُم بما يُرضِيهِ وَيَستَدِرُّ رَحمَتَهُ وَيَستَجلِبُ إِجَابَتَهُ ، فَفِي سُورَةِ الأَنبِيَاءِ يَقُولُ اللهُ ـ تَعَالى ـ : " وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبلُ فَاستَجَبنَا لَهُ فَنَجَّينَاهُ وَأَهلَهُ مِنَ الكَربِ العَظِيمِ " فَمَا هُوَ إِلاَّ أَن نَادَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ حَتى جَاءَتهُ الاستِجَابَةُ مِن رَبِّهِ ـ تَعَالى ـ مُبَاشَرَةً ، وَنُجِّيَ هُوَ وَأَهلُهُ مِنَ الكَربِ العَظِيمِ .
وَيَقُولُ ـ تَعَالى ـ : " وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاستَجَبنَا لَهُ فَكَشَفنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَينَاهُ أَهلَهُ وَمِثلَهُم مَعَهُم رَحمَةً مِن عِندِنَا وَذِكرَى لِلعَابِدِينَ " لَقَد جَاءَتِ الاستِجَابَةُ بَعدَ الدُّعَاءِ وَالابتِهَالِ إِلى اللهِ بِصِفَةِ الرَّحمَةِ ، فَكَشَفَ اللهُ المَرَضَ عَن نَبِيِّهِ أَيُّوبَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ وَرَدَّ عَلَيهِ أَهلَهُ وَبَارَكَ لَهُ في جِسمِهِ وَمَالِهِ .
وَيَقُولُ ـ تَعَالى ـ عَن يُونُسَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَن نَقدِرَ عَلَيهِ فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالمِينَ . فَاستَجَبنَا لَهُ وَنَجَّينَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤمِنِينَ " لَقَدِ ابتُلِيَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ بِظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ : ظُلمَةُ البَحرِ وَظُلمَةُ بَطنِ الحُوتِ وَظَلامُ اللَّيلِ ، وَمَا هُوَ إِلاَّ أَنِ ابتَهَلَ إِلى رَبِّهِ وَدَعَاهُ دُعَاءَ المُعَظِّمِ لِرَبِّهِ المُقِرِّ بِذَنبِهِ ، حَتى جَاءَتهُ الاستِجَابَةُ لِتُنقِذَه مِن تِلكَ الظُّلُمَاتِ .
وَأَمَّا زَكَرِيَّا ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ فَإِنَّهُ لم يُرزَقْ وَلَدًا تَقَرُّ بِهِ عَينُهُ ، فَدَعَا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَنَادَاهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرني فَردًا وَأَنتَ خَيرُ الوَارِثِينَ . فَاستَجَبنَا لَهُ وَوَهَبنَا لَهُ يَحيى وَأَصلَحنَا لَهُ زَوجَهُ " نَعَم ، لَقَدِ استَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَوَهَبَهُ الوَلَدَ مَعَ كِبَرِ سِنِّهِ وَكِبَرِ سِنِّ زَوجِهِ ، وَلَكِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ، فَاستَجَابَ لَهُ وَرَزَقَهُ يَحيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ .
لَقَدِ استَجَابَ اللهُ ـ تَعَالى ـ لأَنبِيَائِهِ ، وَآتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُم سُؤلَهُ ، فَمَا سِرُّ تِلكَ الاستِجَابَاتِ ؟!
إِنَّ الجَوَابَ الشَّافيَ مَوجُودٌ في سُورَةِ الأَنبِيَاءِ نَفسِهَا ، ذَكَرَهُ ـ تَعَالى ـ بَعدَ ذِكرِهِ دُعَاءَ أَنبِيَائِهِ وَاستِجَابَتَهُ لهم ، فَمَاذَا قَالَ ـ تَعَالى ـ عَنهُم ؟ وَبِأَيِّ شَيءٍ وَصَفَهُم ؟
لَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ عَنهُم : " إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ "
ذَلِكُم هُوَ سِرُّ استِجَابَةِ اللهِ لَهُم ، وَتِلكَ هِيَ الصِّفَاتُ العَظِيمَةُ الَّتي استَحَقُّوا بها الإِجَابَةَ ، إِنَّهَا صِفَاتٌ بَيِّنَةٌ ، وَشُرُوطٌ وَاضِحَةٌ ، وَطَرِيقٌ لا لَبسَ فِيهَا وَلا غُمُوضَ " إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ "
مُسَارَعَةٌ في الخَيرَاتِ ، وَخَوفٌ وَرَجَاءٌ ، وَخُشُوعٌ وَخُضُوعٌ ، فَأَينَ نَحنُ مِن هَذِهِ الصِّفَاتِ ؟
وَمَا حَالُنَا في شَهرِنَا مَعَ الخَيرَاتِ ، هَل نَحنُ في الخَيرَاتِ مُسَارِعُونَ ؟
وَإلى أَسبَابِ المَغفِرَةِ مُسَابِقُونَ ؟
أَم أَنَّنَا مُتَبَاطِئُونَ مُتَكَاسِلُونَ ؟
لِيَنظُرْ كُلٌّ مِنَّا حَالَهُ مَعَ الصَّلَوَاتِ المَفرُوضَةِ أَوَّلاً ، مَا حَظُّهُ مِنَ المُحَافَظَةِ عَلَيهَا مَعَ الجَمَاعَةِ ؟
وَهَل هُوَ حَرِيصٌ عَلَى إِدرَاكِ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ مَعَ الإِمَامِ ؟
وَإِذَا كَانَ ممَّن يَسهَرُ في لَيلِهِ عَلَى القِيلِ وَالقَالِ أَوِ اللَّعِبِ أَو مُشَاهَدَةِ القَنَوَاتِ ، فَهَل هُوَ ممَّن يُفَوِّتُ صَلاةَ الفَجرِ وَلا يَحسِبُ لها حِسَابًا ؟
وَإِذَا كَانَ ممَّن يَتَحَامَلُونَ عَلَى أَنفُسِهِم حَتى يُصَلُّوا الفَجَرَ مَعَ الجَمَاعَةِ ، فَكَيفَ حَالُهُ مَعَ صَلاتَيِ الظُّهرِ وَالعَصرِ ؟
إِنَّ ذَلِكُم هُوَ أَعظَمُ مِيزَانٍ لِمَعرِفَةِ حَظِّ النَّفسِ مِنَ المُسَارَعَةِ في الخَيرَاتِ ، إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ ، فَمَن كَانَ عَلَيهَا مُحَافِظًا ، وَلِخَمسِهَا مَعَ الجَمَاعَةِ شَاهِدًا ، وَعَلَى إِدرَاكِ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ حَرِيصًا ، فَهُوَ فِيمَا سِوَاهَا مِنَ الخَيرَاتِ مُسَارِعٌ ، مَن حَافَظَ عَلَى الصَّلاةِ كَمَا يَجِبُ ، دَفَعَهُ ذَلِكَ إِلى أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، وَحَمَلَهُ عَلَى الإِنفَاقِ في سَبِيلِ اللهِ ، وَسَهَّلَ عَلَيهِ حِفظَ جَوَارِحِهِ عَنِ الحَرَامِ وَاقتِرَافِ الآثَامِ ، وَأَحيَا قَلبَهُ فَحَفِظَ عَهدَهُ وَقَامَ بما يَجِبُ عَلَيهِ لِرَبِّهِ وَلِخَلقِهِ ، وَاقرَؤُوا في ذَلِكَ قَولَ رَبِّكُم ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا , وَإِذَا مَسَّهُ الخَيرُ مَنُوعًا . إِلاَّ المُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُم عَلَى صَلاتِهِم دَائِمُونَ . وَالَّذِينَ في أَموَالِهِم حَقٌّ مَعلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ . وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَومِ الدِّينِ . وَالَّذِينَ هُم مِن عَذَابِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ . إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِم غَيرُ مَأمُونٍ . وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ . إِلاَّ عَلَى أَزوَاجِهِم أَو مَا مَلَكَت أَيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ . وَالَّذِينَ هُم لأَمَانَاتِهِم وَعَهدِهِم رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ . وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلاتِهِم يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ في جَنَّاتٍ مُكرَمُونَ "
لَقَد بُدِئَت صِفَاتُ هَؤُلاءِ المُسَارِعِينَ في الخَيرَاتِ بِالصَّلاةِ وَخُتِمَت بِالصَّلاةِ ، فَاتَّقُوا اللهَ يَا مَن تَرجُونَ أن يُجِيبَ اللهُ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ دُعَاءَكُم ، وَيَسمَعَ نِدَاءَكُم وَيُحَقِّقَ رَجَاءَكُم ، وَسَارِعُوا في الخَيرَاتِ وَحَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ، ثم ليَكُنْ دَافِعُكُم في ذَلِكَ الرَّغبَةَ فِيمَا عِندَ اللهِ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ ، وَالرَّهبَةَ ممَّا أَعَدَّهُ مِن العَذَابِ الأَلِيمِ ، كُونُوا بَينَ خَوفٍ وَرَجَاءٍ ، تَذَكَّرُوا أَنَّ عِندَ اللهِ جَنَّةً أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ ، وَنَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ ، وَلْيَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا في خُشُوعِكم بَينَ يَدَي رَبِّكُم ، خُشُوعًا عَامًّا في كُلِّ أَمرِكُم ، لَيسَ في صَلاتِكُم وَدُعَائِكُم فَحَسبُ ، وَلَكِنْ في كُلِّ أَمرِكُم وَجَمِيعِ شَأنِكُم ، أَطِيبُوا المَطَاعِمَ وَالمَشَارِبَ خَوفًا مِنَ اللهِ ، وَاعفُوا وَاصفَحُوا رَجَاءَ مَا عِندَ اللهِ ، وَأَخبِتُوا إِلى رَبِّكُم وَأَنِيبُوا لَهُ ، وَكُونُوا إِلى الحَقِّ رَجَّاعِينَ ، ذَلِكُم هُوَ شَأنُ الخَاشِعِينَ " الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاقُو رَبِّهِم وَأَنَّهُم إِلَيهِ رَاجِعُونَ " قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَبَشِّرِ المُخبِتِينَ . الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُم وَالمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ "




الخطبة الثانية :



أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤمِنُونَ " وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي أُعِدَّت لِلكَافِرِينَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، سَارِعُوا في الخَيرَاتِ ، وَتَسَابَقُوا إِلى الصَّالِحَاتِ ، وَآمِنُوا بِرَبِّكُم إِيمَانَ الصَّادِقِينَ ، وَاحتَسِبُوا كُلَّ مَا تَعمَلُونَهُ وَتُقَدِّمُونَه ُ لِوَجهِ اللهِ ، رَغبَةً فِيمَا عِندَهُ وَخَوفًا ممَّا أَعَدَّهُ ، وَاخشَعُوا لَهُ ـ تَعَالى ـ وَأَخبِتُوا ، ثم أَبشِرُوا بِإِجَابَةِ دُعَائِكُم وَتَحَقُّقِ رَجَائِكُم ، وَنَيلِكُم أَعظَمَ مَرغُوبٍ فِيهِ وَهُوَ جَنَّةُ رَبِّكُم ، فَعَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن أَصبَحَ مِنكُمُ اليَومَ صَائِمًا ؟ " قَالَ أَبُو بَكرٍ : أَنَا . قَالَ : " فَمَن تَبِعَ مِنكُمُ اليَومَ جَنَازَةً ؟ " قَالَ أَبُو بَكرٍ : أَنَا . قَالَ : " فَمَن أَطعَمَ مِنكُمُ اليَومَ مِسكِينًا ؟ " قَالَ أَبُو بَكرٍ : أَنَا . قَالَ : " فَمَن عَادَ مِنكُمُ اليَومَ مَرِيضًا ؟ " قَالَ أَبو بَكرٍ : أَنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا اجتَمَعنَ في امرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
إِنَّهَا صُورَةٌ مُشرِقَةٌ مِن صُوَرِ المُسَارَعَةِ في الخَيرَاتِ وَاستِبَاقِهَا ، يُطَبِّقُهَا الصِّدِيقُ أَعظَمُ الأُمَّةِ إِيمَانًا بَعدَ نَبِيِّهَا ، لِيُبَيِّنَ لَنَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ المُسَابَقَةَ في الخَيرَاتِ ، سَبَبٌ لِحُصُولِ أَعظَمِ مَرغُوبٍ وَهُوَ الجَنَّةُ ، فَكَيفَ بما عَدَاهُ ممَّا يَسأَلُهُ العَبدُ رَبَّهُ مِن أَمرِ دِينِهِ أَو دُنيَاهُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَكُونُوا مِنَ المُسَارِعِينَ المُسَابِقِينَ المُخبِتِينَ الخَاشِعِينَ ، وَاضرِبُوا في كُلِّ بِرٍّ وَخَيرٍ بِسَهمٍ " وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ "
وَاحذَرُوا ممَّا زَيَّنَهُ الشَّيطَانُ لِبَعضِ العَابِدِينَ ، الَّذِينَ بَدَلاً مِنَ المُسَابَقَةِ في الخَيرَاتِ وَالتَّنَافُسِ في الطاَّعَاتِ ، صَارُوا يَتَسَابَقُونَ إِلى الخُرُوجِ مِنَ المَسَاجِدِ وَالتَّخَفُّفِ مِنَ العِبَادَاتِ . وَصَلاةُ التَّرَاوِيحِ عَلَى ذَلِكَ من الشَوَاهِدِ ، فَاصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ، فَإِنَّمَا لأَنفُسِكُم تُقَدِّمُونَ " مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفرُهُ وَمَن عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِم يَمهَدُونَ . لِيَجزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ .

ناصرعبدالرحمن 03-08-2012 12:57 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

رمضان والذين جاهدوا ومن يمنون 15 / 9 / 1433

الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا " " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَفي وَقتِ الفِتَنِ الَّتي تَمُوجُ بِالأُمَّةِ وَتَعصِفُ بِالقُلُوبِ ، وَيَتَطَلَّعُ المُؤمِنُ الصَّادِقُ الإِيمَانِ إِلى النَّجَاةِ مِنهَا وَالخَلاصِ مِن مُضِلاَّتِهَا ، وَلُقيَا رَبِّهِ عَلَى العَهدِ مُستَقِيمًا عَلَى الصِّرَاطِ ، فَإِنَّهُ لا عِلاجَ وَلا دَوَاءَ ، وَلا مَخرَجَ وَلا مَنجَى ، إِلاَّ الفِرَارُ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " فَفِرُّوا إِلى اللهِ إِني لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ "
نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ لا مُخَلِّصَ إِلاَّ الإِخلاصُ ، وَلا مُنجِيَ إِلاَّ صِدقُ اللُّجُوءِ إِلى اللهِ ، وَلا سَبِيلَ إِلاَّ اتِّبَاعُ السُّنَنِ وَاقتِفَاءُ الأَثَرِ ، وَمَن صَدَقَ في ذَلِكَ وَكَانَ فِيهِ جَادًّا ، أَكثَرَ مِنَ العِبَادَةِ ، وَجَاهَدَ نَفسَهُ عَلَى الطَّاعَةِ ، عَمَلاً بِقَولِ الهَادِي البَشِيرِ وَالسِّرَاجِ المُنِيرِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِليَّ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ . وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ في سُورَةِ العَنكَبُوتِ " الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ . وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ "
وَفي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتي بَيَّنَت سُنَّةَ الابتِلاءِ وَحَتمِيَّتَهَا ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنهَا لِلمُؤمِنِينَ لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُونَ مِنَ الكَاذِبِينَ ، وَلِيَظهَرَ أَهلُ الجِدِّ وَالفَصلِ مِن أَهلِ الكَسَلِ وَالهَزْلِ ، نَجِدُ أَنَّ المَولى ـ سُبحَانَهُ ـ يُبَيِّنُ لِعِبَادِهِ مُبَاشَرَةً طَرِيقَ النَّجَاةِ وَالخَلاصِ ، لِيَسلُكَهُ مَن كَانَ صَادِقًا وَبِلِقَاءِ اللهِ مُوقِنًا ، حَيثُ يَقُولُ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَن كَانَ يَرجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنيٌّ عَنِ العَالمِينَ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّئَاتِهِم وَلَنَجزِيَنَّه ُم أَحسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعمَلُونَ "
إِنَّهَا المُجَاهَدَةُ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ نَعَم ، إِنَّهَا المُجَاهَدَةُ ، لا بُدَّ لِلمُؤمِنِ مِنهَا مَا دَامَت رُوحُهُ في جَسَدِهِ ، إِذِ الأَعدَاءُ مِن حَولِهِ كَثِيرُونَ ، وَالمُشغِلاتُ وَالمُلهِيَاتُ أَكثَرُ وَأَشَدُّ تَنَوُّعًا وَتَلَوُّنًا ، أَقرَبُهَا نَفسُهُ الَّتي بَينَ جَنبَيهِ ، وَشَرُّهَا شَيطَانُهُ الَّذِي يَجرِي مِنهُ مَجرَى الدَّمِ ، ثم هَوَى النَّفسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ، ثم الدُّنيَا الغَرَّارَةُ الخَدَّاعَةُ ، وَلا خَلاصَ مِن ضَلالٍ وَغِوَايَةٍ ، وَلا سَبِيلَ إِلى استِقَامَةٍ وَهِدَايَةٍ ، إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَالمُجَاهَدَةِ ، وَالصَّبرِ وَالمُصَابَرَةِ ، وَالثَّبَاتِ وَالمُرَابَطَةِ ، وَمِن ثَمَّ نَجِدُ أَنَّ المَولى ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ كَمَا بَدَأَ سُورَةَ العَنكَبُوتِ بَعدَ ذِكرِ الفِتَنِ بِذِكرِ المُجَاهَدَةِ ، فَقَد خَتَمَهَا بِبَيَانِ ثَمرَةِ المُجَاهَدَةِ ، فَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " كُلَّ ذَلِكَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ لِيَتَبَيَّنَ لِلمُؤمِنِ أَنَّ طَرِيقَ الجَنَّةِ لَيسَ كَمَا تَتَصَوَّرُ بَعضُ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةُ أَو تَتَمَنَّى وَتَتَشَهَّى ، يُنَالُ بِأَقَلِّ الجُهدِ وَأَيسَرِ العَمَلِ ، أَو بِاتَّبِاعِ هَوَى النُّفُوسِ وَكَثرَةِ التَّلَفُّتِ ، دُونَ صَبرٍ وَمُصَابَرَةِ وَمُجَاهَدَةِ ، وَاستِمرَارِ عَلَى الطَّاعَةِ وَاستِقَامَةٍ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَإِكرَاهٍ لَهَا لِتَسِيرَ عَلَى مَا سَارَ عَلَيهِ الصَّادِقُونَ المُشَمِّرُونَ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ المُؤمِنَ الصَّادِقَ عَالي الهِمَّةِ ، عَظِيمُ الرَّغبَةِ فِيمَا عِندَ اللهِ مِنَ الجَزَاءِ ، وَمِن ثَمَّ فَهُوَ لا يَقنَعُ بِالدُّونِ ، وَلا يَمِيلُ إِلى الأَقَلِّ وَالأَصغَرِ وَالأَدنى ، بَل هُوَ دَائِمُ التَّطَلُّعِ إِلى الأَكمَلِ وَالأَحسَنِ وَالأَعلَى ، يَستَشعِرُ وَلا سِيَّمَا في مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ وَالطَّاعَاتِ كَهَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ أَنَّهُ في مَيدَانِ سِبَاقٍ وَمُنَافَسَةٍ وَمُسَارَعَةٍ ، وَزَمَانِ اغتِنَامٍ لِلأَجرِ وَاستِكثَارٍ مِنَ الأَعمَالِ الفَاضِلَةِ ، وَلِذَا فَهُوَ آخِذٌ إِهبَتَهُ مُعِدٌّ عِدَّتَهُ ، مُشَمِّرٌ عَن سَاعِدِ الجِدِّ وَالاجتِهَادِ ، مُستَعِدٌّ لِيُسَابِقَ إِلى الخَيرِ وَيُنَافِسَ فِيهِ ، مُمتَثِلاً أَمرَ رَبِّهِ حِينَ دَعَا المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ فَقَالَ : " وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أَعِدَّت لِلمُتَّقِينَ "
وَقَالَ : " سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ " وَحِينَ قَالَ بَعدَ أَن وَصَفَ شَيئًا مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ : " وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُون َ " وَالمُؤمِنُ حِينَ يَفعَلُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَفعَلُه أَمَلاً في أَن يَكُونَ ممَّنَ امتَدَحَهُمُ اللهُ ـ تَعَالى ـ حَيثُ قَالَ : " وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ . في جَنَّاتِ النَّعِيمِ "
إِنَّ المُؤمِنَ العَاقِلَ لَيَعلَمُ أَنَّهُ لا بُدَّ في هَذَا السِّبَاقِ العَظِيمِ وَالسُّوقِ الرَّابِحَةِ وَالمُوسِمِ الكَرِيمِ ، مِن مُجَاهَدَةِ النَّفسِ وَمُغَالَبَتِهَ ا ، وَحَملِهَا عَلَى مَا تَكرَهُ وَنَهيِهَا عَنِ الهَوَى ، وَعَدَمِ التَّنَازُلِ مَعَهَا فِيمَا تَشتَهِي ، إِذْ هُوَ يَعلَمُ أَنْ لا سَبِيلَ لِنَجَاتِهَا إِلاَّ بِتَجَرُّعِهَا مَرَارَةَ الصَّبرِ وَتَحَمُّلِهَا مَشَقَّةَ الطَّاعَةِ ، وَأَنَّ تَركَهَا تَتَمَتَّعُ بِحَلاوَةِ الشَّهَوَاتِ العَاجِلَةِ وَلَذَّةِ الرَّغَبَاتِ القَرِيبَةِ ، إِنَّمَا هُوَ الرِّضَا بِانزِلاقِهَا لِلحَضِيضِ بَعدَ حِينٍ ، وَمَن كَانَ في شَكٍّ مِن ذَلِكَ أَو نِسيَانٍ لَهُ ، فَلْيَستَمِعْ قَولَ النَّاصِحِ الصَّادِقِ المُشفِقِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ في الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ : " حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ "
وَعِندَ مُسلِمٍ : " حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّكُم في مَوسِمٍ عَظِيمٍ مَضَى نِصفُهُ وَذَهَبَ شَطرُهُ ، وَيُوشِكُ أَن تَتَصَرَّمَ أَيَّامُهُ سَرِيعًا وَتَنقَضِي لَيَالِيهِ جمِيعًا ، وَالغَافِلُ في غَفلَتِهِ وَالمُفَرِّطُ في سِنَتِهِ ، أَلا فَلا تُغلَبُنُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ النُّفُوسِ عَلَى الخَيرِ ، وَتَصبِيرِهَا في مَوَاطِنِ العِبَادَةِ ، وَرَبطِهَا في مَيَادِينِ الطَّاعَةِ ، فَإِنَّ بَينَ أَيدِيكُم فُرَصًا لِلتَّنَافُسِ وَالمُسَابَقَةِ لا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ ، وَصُوَرًا جَلِيلَةً مِنَ القُربَةِ وَالعِبَادَةِ لا يَصبِرُ عَلَيهَا إِلاَّ السَّابِقُونَ المُجَاهِدُونَ ، كَالتَّبكِيرِ إِلى الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَاتِ ، وَالحِرصِ عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ في الجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ ، وَالقُربِ مِنَ الإِمَامِ وَإِدرَاكِ تَكبِيرَةِ الإِحرَامِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لَو يَعلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثم لم يَجِدُوا إِلاَّ أَن يَستَهِمُوا عَلَيهِ لاستَهَمُوا ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في التَّهجِيرِ لاستَبَقُوا إِلَيهِ ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ وَالصُّبحِ لأَتوهُمَا وَلَو حَبوًا " مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
ثم إِنَّ دُونَ ذَلِكَ وَقَرِيبًا مِنهُ عِبَادَاتٍ وَطَاعَاتٍ وَنَوَافِلَ وَقُرُبَاتٍ ، تَحتَاجُ إِلى صَبرٍ وَمُصَابَرَةٍ وَمُجَاهَدَةٍ ، مِن أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِمَنِ اعتَادَ إِخَرَاجَهَا في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ ، وَتَفطِيرِ الصَّائِمِينَ ، وَبَذلِ الصَّدَقَاتِ وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ ، وَالمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَالإِكثَارِ مِنَ النَّوَافِلِ ، وَزَمِّ الأَلسِنَةِ عَنِ الهَمزِ وَاللَّمزِ وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَقَولِ الزَّورِ ، وَإِلزَامَهَا قِرَاءَةَ القُرآنِ وَذِكرَ اللهِ وَالدُّعَاءَ ، وَأَدَاءِ صَلاةِ القِيَامِ وَإِتمَامِهَا مَعَ الإِمَامِ ، وَعَدَمِ التَّضَجُّرِ ممَّن يَحرِصُ مِن مُوَفَّقِي الأَئِمَّةِ عَلَى إِتمَامِهَا في القِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالذِّكرِ وَالدُّعَاءِ ، وَالأَهَمُّ مِن ذَلِكَ وَالأَعظَمُ ، شُكرُ اللهِ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ وَوَفَّقَ إِلَيهِ وَهَدَى ، وَالحَذَرُ مِنَ استِكثَارِ العَمَلِ أَوِ المَنِّ بِهِ وَالأَذَى ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " قَالَتِ الأَعرَابُ آمَنَّا قُلْ لم تُؤمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسلَمنَا وَلَمَّا يَدخُلِ الإِيمَانُ في قُلُوبِكُم وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتكُم مِن أَعمَالِكُم شَيئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُم وَاللهُ يَعلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ . يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَنْ أَسلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَنْ هَدَاكُم لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُم صَادِقِينَ . إِنَّ اللهَ يَعلَمُ غَيبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بما تَعمَلُونَ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاحذَرُوا أَسبَابَ سَخَطِ المَولى ـ جَلَّ وَعَلا ـ فَإِنَّ أَجسَامَكُم عَلَى النَّارِ لا تَقوَى ، وَجَاهِدُوا النُّفُوسَ عَلَى مَا يُنجِيهَا وَيُورِدُهَا جَنَّةَ المَأوَى ، فَإِنَّهُ لا نَجَاةَ وَلا خَلاصَ إِلاَّ بِالمُجَاهَدَةِ ، قَالَ الإِماَمُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : مُعَلِّقًا عَلَى قَولِهِ ـ تَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا " قَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : عَلَّقَ ـ سُبحَانَهُ ـ الهِدَايَةَ بِالجِهَادِ ، فَأَكمَلُ النَّاسِ هِدَايَةً أَعظَمُهُم جِهَادًا ، وَأَفرَضُ الجِهَادِ جِهَادُ النَّفسِ وَجِهَادُ الهَوَى وَجِهَادُ الشَّيطَانِ وَجِهَادُ الدُّنيَا ، فَمَن جَاهَدَ هَذِهِ الأَربَعَةَ في اللهِ ، هَدَاهُ اللهُ سُبُلَ رِضَاهُ المُوصِلَةَ إِلى جَنَّتِهِ ، وَمَن تَرَكَ الجِهَادَ فَاتَهُ مِنَ الهُدَى بِحَسَبِ مَا عَطَّلَ مِنَ الجِهَادِ . اِنتَهَى كَلامُهُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وَهُوَ كَلامُ إِمَامٍ عَالمٍ عَامِلٍ ، وَتَأَمَّلُوا مِنهُ قَولَهُ : فَأَكمَلُ النَّاسِ هِدَايَةً أَعظَمُهُم جِهَادًا ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ ـ وَاللهُ أَعلَمُ ـ مِن قَولِهِ ـ تَعَالى ـ في نِهَايَةِ الآيَةِ نَفسِهَا حَيثُ قَالَ : " وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ " وَالمُحسِنُونَ الَّذِينَ نَالُوا شَرَفَ مَعِيَّةِ اللهِ لهم بِالتَّأيِيدِ وَالعُونِ وَالنَّصرِ وَالهِدَايَةِ ، لَيسُوا هُمُ المُتَفَضِّلِين َ كَمَا قَد يُخَيَّلُ لِبَعضِ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ الفَقِيرَةِ ، الَّتي بُلِيَت بِالمَنِّ عَلَى رَبِّهَا بما تَعمَلُ وَاستِكثَارِ مَا تُقَدِّمُ ، وَلَكِنَّ المُحسِنِينَ ـ وَرَبِّ الكَعبَةِ ـ هُمُ المُتقِنُونَ لأَعمَالِهِم ، المُخلِصُونَ فِيهَا لِرَبِّهِم ، الحَرِيصُونَ عَلَى الإِتيَانِ بها عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِم ، وَهَؤُلاءِ هُمُ الحَقِيقُونَ بِأَن يَزِيدَهُمُ اللهُ تَوفِيقًا وَتَسدِيدًا جَزَاءً لإِحسَانِهِم ، حَيثُ قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقوَاهُم " وَالإِيمَانُ لَيسَ كَلِمَةً تُقَالُ بِاللِّسَانِ دُونَ أَن يَكُونَ لها حَقِيقَةٌ في القُلُوبِ وَأَثَرٌ في الجَوَارِحِ ، إِنَّهُ أَمَانَةٌ وَتَكَالِيفُ وَأَعبَاءٌ ، وَجِهَادٌ وَصبرٌ وَمُصَابَرَةٌ ، وَجُهدٌ يَحتَاجُ إِلى احتِمَالٍ ، فَأَينَ مِن ذَلِكَ مَن يَمضِي عَلَيهِمُ الشَّهرُ الكَرِيمُ وَهُم يُمَاطِلُونَ وَيُسَوِّفُونَ وَلا يُجَاهِدُونَ ؟ أَينَ مِنهُ مَن يَتَتَبَّعُونَ أَخَفَّ المَسَاجِدِ صَلاةً وَأَعجَلَهُمُ انصِرَافًا وَأَسرَعَهُم خُرُوجًا ؟ بَل أَينَ مِنهُ مَن لا يَكَادُونَ يُدرِكُونَ خَمسَ الفَرَائِضِ مَعَ الجَمَاعَةِ ؟ وَمَن قَد يَبخَلُونَ بِالزَّكَاةِ وَمَن لا يَتَصَدَّقُونَ وَلا يُفَطِّرُونَ ؟ أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنيُّ الحَمِيدُ . إِنْ يَشَأْ يُذهِبْكُم وَيَأتِ بِخَلقٍ جَدِيدٍ . وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ . وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى وَإِنْ تَدعُ مُثقَلَةٌ إِلى حِملِهَا لا يُحمَلْ مِنهُ شَيءٌ وَلَو كَانَ ذَا قُربى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخشَونَ رَبَّهُم بِالغَيبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفسِهِ وَإِلى اللهِ المَصِيرُ "
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ ثَبَاتًا عَلَى الحَقِّ وَنَجَاةً مِنَ الفِتَنِ ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ وَشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِكَ ، اللَّهُمَّ لَولاكَ مَا اهتَدَينَا وَلا تَصَدَّقنَا وَلا صُمنَا وَلا صَلَّينَا ، اللَّهُمَّ فَاغفِرْ لَنَا مَا قَدَّمنَا وَمَا أَخَّرنَا ، وَمَا أَسرَرنَا وَمَا أَعلَنَّا وَمَا أَسرَفَنَا ، وَمَا أَنتَ أَعلَمُ بِهِ مِنَّا ، أَنتَ المُقَدِّمُ وَأَنتَ المُؤَخِّرُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ

ناصرعبدالرحمن 09-08-2012 07:58 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

عشر رمضان وإحسان العمل 22 / 9 / 1433


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَكُلُوا مِن رِزقِهِ وَاشكُرُوا لَهُ وَلا تَكفُرُوهُ " لَيسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَأَحسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَا مِن مُسلِمٍ يَشهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ وَيَلتَزِمُ شَرَائِعَ الإِسلامِ ، فَيُصلِي وَيَصُومُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللهِ عَلَيهِ في مَالِهِ وَيَحُجُّ وَيَعتَمِرُ ، وَيَفعَلُ الخَيرَ جُهدَهُ وَيَتَحَرَّى البِرَّ طَاقَتَهُ ، إِلاَّ وَهُوَ يَرجُو رَحمَةَ اللهِ ، نَعَم ـ عِبَادَ اللهِ ـ إِنَّ السَّائِرِينَ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مَهمَا اختَلَفَتِ الطُّرُقُ الَّتي يَسلُكُونَهَا بَعدَ المُحَافَظَةِ عَلَى أَركَانِ الإِسلامِ وَوَاجِبَاتِهِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنَّ مَقصِدَهُم تَحصِيلُ رَحمَةِ اللهِ وَالفَوزُ بِجَنَّتِهِ " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرجُونَ رَحمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "

أَفَتَدرُونُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ مَن هُم أَقرَبُ النَّاسِ مِن رَحمَةِ اللهِ وَمَن أُولَئِكَ المُستَحِقُّونَ لها ؟!
إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ ، نَعَم ، إِنَّهُمُ المُحسِنُونَ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلا تُفسِدُوا في الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا وَادعُوهُ خَوفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحسِنِينَ "
فَمَن هُمُ المُحسِنُونَ ـ يَا عِبَادَ اللهِ ـ ؟!
إِنَّ مِن أَخَصِّ صِفَاتِهِم مَا وَرَدَ في الآيَةِ السَّابِقَةِ ، مِن أَنَّهُم أَهلُ الإِصلاحِ في الأَرضِ وَعَدَمِ الإِفسَادِ ، وَشَرُّ الإِفسَادِ في الأَرضِ هُوَ إِتيَانُ المَعَاصِي وَاقتِرَافُ السَّيِّئَاتِ وَالمُوبِقَاتِ ، وَأَعظَمُ الإِصلاحِ لها فِعلُ الطَّاعَاتِ وَالتَّزَوُّدُ مِنَ الحَسَنَاتِ وَالاستِكثَارُ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ ، فَإِنَّ المَعَاصِيَ وَالسَّيِئَاتِ تُفسِدُ الأَعمَالَ وَالأَخلاقَ ، وَتُنَغِّصُ المَعَايَشَ وَتُضَيِّقُ الأَرزَاقَ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالبَحرِ بمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا "
وَأَمَّا الطَّاعَاتُ وَالصَّالحَاتُ ، فَبِهَا تَصلُحُ الأَخلاقُ وَتَزكُو الأَعمَالُ ، وَتَتَّسِعُ الأَرزَاقُ وَيُفسَحُ في الآجَالِ ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَهلَ الإِحسَانِ حَرِيصُونَ عَلَى الاستِكثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالصَّالحَاتِ ، بَعِيدُونَ عَنِ الإِصرَارِ عَلَى المَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ ، ثم هُم مَعَ ذَلِكَ شَدِيدُو اللَّجَأِ إِلى رَبِّهِم ـ جَلَّ وَعَلا ـ يَدعُونَهُ دُعَاءَ عِبَادَةٍ بِأَفعَالِهِم وَأَحوَالِهِم ، وَدُعَاءَ مَسأَلَةٍ بِتَضَرُّعِهِم وَأَقوَالِهِم ، خَوفًا مِن عِقَابِهِ وَطَمَعًا في ثَوَابِهِ ، لا يَستَكثِرُونَ عَلَيهِ أَعمَالَهُم الصَّالحَةَ مَهمَا عَظُمَت أَو تَنَوَّعَت ، وَلا يَمُنُّونَ بما قَدَّمُوا وَلا يُعجَبُونَ بِأَنفُسِهِم ، وَلا يَدعُونَ دُعَاءَ مَن هُوَ غَافِلٌ لاهٍ مُلتِفَتٌ عَن رَبِّهِ ، وَلَكِنَّهُم يَطمَعُونَ في قَبُولِ أَعمَالِهِم وَدَعَوَاتِهِم بِرَحمَةِ رَبِّهِم ، وَيَخَافُونَ مِن رَدِّهَا بِسَيِئٍ فَعَلُوهُ أَو تَقصِيرٍ أَتَوهُ . وَهُم مَعَ إِحسَانِهِم في عِبَادَةِ رَبِّهِم مُحسِنُونَ إِلى خَلقِهِ ، لِعِلمِهِم وِيَقِينِهِم أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ العَبدُ أَكثَرَ إِحسَانًا ، كَانَ رَبُّهُ قَرِيبًا مِنهُ بِرَحمَتِهِ وَمَعِيَّتِهِ ، وَمَن كَانَ مِنَ اللهِ قَرِيبًا وَكَانَ اللهُ مِنهُ قَرِيبًا ، كَانَ إِلَيهِ حَبِيبًا وَكَانَ ـ تعالى ـ لَهُ مُجِيبًا . قَالَ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَإِنَّمَا اُختُصَّ أَهلُ الإِحسَانِ بِقُربِ الرَّحمَةِ لأَنَّهَا إحسَانٌ مِن اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ ، وَإِحسَانُهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ إنَّمَا يَكُونُ لأَهلِ الإِحسَانِ ؛ لأَنَّ الجَزَاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ ، وَكُلَّمَا أَحسَنُوا بِأَعمَالِهِم أَحسَنَ إلَيهِم بِرَحمَتِهِ ، وَأَمَّا مَن لم يَكُن مِن أَهلِ الإِحسَانِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَن الإِحسَانِ بَعُدَت عَنهُ الرَّحمَةُ ، بُعدٌ بِبُعدٍ وَقُربٌ بِقُربٍ ، فَمَن تَقَرَّبَ إلَيهِ بِالإِحسَانِ تَقَرَّبَ اللهُ إلَيهِ بِرَحمَتِهِ ، وَمَن تَبَاعَدَ عَن الإِحسَانِ تَبَاعَدَ اللهُ عَنهُ بِرَحمَتِهِ . انتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ .

وَمِن صِفَاتِ المُحسِنِينَ مَا وَصَفَهُم بِهِ رَبُّهُم حَيثُ قَالَ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كَانُوا قَبلَ ذَلِكَ مُحسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيلِ مَا يَهجَعُونَ . وَبِالأَسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ , وَفي أَموَالِهِم حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ "
وَيَا للهِ ! كَم هِيَ مُتَحَقِّقَةٌ تِلكَ الصِّفَاتُ فِيمَن وَفَّقَهُمُ اللهُ في هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ وَلا سِيَّمَا في هَذِهِ العَشرِ المُبَارَكَةِ ، فَأَخَذُوا أَنفُسَهُم بِالجِدِّ والصَّبرِ وَالحِرصِ عَلَى الإِحسَانِ ، فَأَسهَرُوا لَيلَهُم في صَلاةٍ وَذِكرٍ وَدُعَاءٍ وَطُولِ قِيَامٍ ، وَأَظمَؤُوا نَهَارَهُم بِالصِّيَامِ ، وَلم يَجعَلُوا لما يُنفِقُونَهُ في سَبِيلِ اللهِ قَدرًا مَعلُومًا ، بَل أَطلَقُوا أَيدِيَهُم في الخَيرِ طَلَبًا لما عِندَ اللهِ ، وَهُم مَعَ ذَلِكَ مُستَغفِرُونَ ، أَوَّابُونَ تَوَّابُونَ ، لم يَرُوغُوا رَوَغَانِ البَطَّالِينَ وَلم يَلتَفِتُوا التِفَاتَ العَاجِزِينَ ، الَّذِينَ إِمَّا أَن يَتَتَبَّعُوا المَسَاجِدَ الَّتي تَسرِقُ الصَّلاةَ بِعَدَمِ الطُّمَأنِينَةِ وَالخُشُوعِ وَقِلَّةِ ذِكرِ اللهِ ، وَإِمَّا أَن يَأخُذُوا مَعَ الإِمَامِ رَكعَتَينِ أَو أَربَعًا ثم يَنصَرِفُوا قَبلَ انصِرَافِهِ ، شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِقِلَّةِ الصَّبرِ وَعَدَمِ الاهتِمَامِ بِتَجوِيدِ العَمَلِ وَإِتقَانِهِ .

إِنَّ المُحسِنِينَ لم يَجتَهِدُوا وَيَصبِرُوا ، إِلاَّ لِعِلمِهِم أَنَّ إِحسَانَهُم في عَمَلِهِم إِنَّمَا هُوَ إِحسَانٌ لأَنفُسِهِم في دُنيَاهُم وَأُخرَاهُم ، وَلِيَقِينِهِم أَنَّ ذَلِكَ الإِحسَانَ هُوَ الطَّرِيقُ المُوصِلُ لِمَعِيَّةِ اللهِ لهم وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُم ، وَمِن ثَمَّ الفَوزُ بِجَنَّتِهِ وَالنَّظَرِ إِلى وَجهِهِ الكَرِيمِ ، كَمَا قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنْ أَحسَنتُم أَحسَنتُم لأَنفُسِكُم وَإِنْ أَسَأتُم فَلَهَا "
وَكَمَا قَالَ : " لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيرٌ "
وَقَالَ : " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "
وَقَالَ : " وَأَحسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنِينَ "
وَقَالَ : " لِلَّذِينَ أَحسَنُوا الحُسنى وَزِيَادَةٌ "
وَقَالَ : " وَيَجزِي الَّذِينَ أَحسَنُوا بِالحُسنى "
وَقَالَ : " إِنَّ المُتَّقِينَ في ظِلالٍ وَعُيُونٍ . وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشتَهُونَ . كُلُوا وَاشرَبُوا هَنِيئًا بما كُنتُم تَعمَلُونَ . إِنَّا كَذِلَكَ نَجزِي المُحسِنِينَ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد مَضَى مِن شَهرِكُمُ الثُّلُثَانِ وَلَيلَتَانِ ، وَلم يَبقَ إِلاَّ سَبعُ لَيَالٍ أَو ثَمَانٍ ، فَاللهَ اللهَ بِإِتقَانِ العَمَلِ وَالإِحسَانِ ، فَـ" إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ " وَإِيَّاكُم وَمَا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ في كُلِّ رَمَضَانَ ، حَيثُ يَنشَطُونَ قَلِيلاً في أَوَّلِ الشَّهرِ ، ثم لا يَزَالُ بهم التَّقصِيرُ في أَوسَطِهِ ، فَإِذَا مَا حَضَرَت عَشرُ البَرَكَةِ وَالعَفوِ وَالغُفرَانِ ، تَرَكُوا المَسَاجِدَ الَّتي هِيَ أَحَبُّ البِقَاعِ إِلى اللهِ ، وَانصَرَفُوا إِلى الأَسوَاقِ الَّتي هِيَ أَبغَضُ البِقَاعِ إِلَيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَاختِمُوا شَهرَكُم بِخَيرِ عَمَلِكُم فَـ" إِنَّمَا الأَعمَالُ بِالخَوَاتِيمِ " وَاستَقِيمُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّكُم وَاصبِرُوا فَـ" إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ " " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ "



الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى ، وَاقتَدُوا بِنَبِيِّكُم المُصطَفَى وَالحَبِيبِ المُجتَبى ، فَقَد كَانَ مِن إِحسَانِهِ العَمَلَ وَإِتقَانِهِ ، أَن يَختِمَ رَمَضَانَ بِمُضَاعَفَةِ العَمَلِ في عَشرِهِ الأَخِيرَةِ ، عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ يَجتَهِدُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيرِهِ . رَوَاهُ مُسلِمٌ , وَعَنها ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : كَانَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا دَخَلَ العَشرُ شَدَّ مِئزَرَهُ وَأَحيَا لَيلَهُ وَأَيقَظَ أَهلَهُ . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَهَذَا لَفظُ البُخَارِيِّ .

وَقَد بَلَغَ بِهِ الاجتِهَادُ وَالتَّفَرُّغُ لِلطَّاعَةِ وَالحِرصُ عَلَى إِحسَانِ العَمَلِ وَطَلَبِ لَيلَةَ القَدرِ ، أَنْ كَانَ يَعتَكِفُ في مَسجِدِهِ وَيَعتَزِلُ النَّاسَ ، فَعَن أَبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : اِعتَكَفَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَشرَ الأُوَلِ مِن رَمَضَانَ وَاعتَكَفنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ . فَاعتَكَفَ العَشرَ الأَوسَطَ فَاعتَكَفنَا مَعَهُ ، فَأَتَاهُ جِبرِيلُ فَقَالَ : إِنَّ الَّذِي تَطلُبُ أَمَامَكَ . فَقَامَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشرِينَ مِن رَمَضَانَ فَقَالَ : " مَن كَانَ اعتَكَفَ مَعَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَلْيَرجِعْ ؛ فَإِنِّي أُرِيتُ لَيلَةَ القَدرِ وَإِنِّي نُسِّيتُهَا ، وَإِنَّهَا في العَشرِ الأَوَاخِرِ في وِترٍ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
فَاجتَهِدُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ فَإِنَّمَا هِيَ عَشرُ لَيَالٍ أَو تِسعٌ ، مَن قَامَهَا مَعَ الإِمَامِ ، فَهُوَ حَرِيٌّ بِإِدرَاكِ لَيلَةِ القَدرِ وَالفَوزِ بِعَظِيمِ الأَجرِ ، وَأَمَّا الاشتِغَالُ بِتَحدِيدِ لَيلَةِ القَدرِ وَالبَحثِ عَن عَلامَاتِهَا ، فَإِنَّمَا هُوَ ممَّا أَملَتهُ نُفُوسُ المُتَكَاسِلِين َ عَلَيهِم ، وَشَغَلَهُم بِهِ الشَّيطَانُ عَمَّا أَرَادَهُ رَبُّهُم إِذْ أَخفَى لَيلَةَ عَنهُم لِيَجتَهِدُوا وَيُكثِرُوا مِنَ الطَّاعَةِ ، فَيَعظُمَ لهم بِذَلِكَ الأَجرُ وَيُحَطَّ عَنهُمُ الوِزرُ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَاشتَغِلُوا بما يَنفَعُكُم ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ طَالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَسَت قُلُوبُهُم ، فَإِنَّمَا هِيَ أَيَّامٌ مَعدُودَةٌ وَأَعمَارٌ مَحدُودَةٌ ، وَالعِبرَةُ بِكَمَالِ النِّهَايَاتِ لا بِنَقصِ البِدَايَاتِ .

мάкίг άг-јάώ 14-08-2012 04:37 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 


الله يجزاك خير موضوع مفيد





ناصرعبدالرحمن 16-08-2012 07:28 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
وإياك أخوي.. بارك الله فيك

ناصرعبدالرحمن 16-08-2012 07:29 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

في ختام شهر الصيام 29 / 9 / 1433


الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفىَّ كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "

أّيُّهَا المُسلِمُونَ ، شَهرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ ، شَهرُ القُرآنِ وَمَوسِمُ العَفوِ وَالغُفرَانِ ، الَّذِي كُنَّا بِالأَمسِ نَنتَظِرُهُ ، وَتَبَادَلنَا التَّهَانيَ بِبُلُوغِهِ ، ثم فَرِحنَا بِإِدرَاكِ العَشرِ الأَخِيرَةِ مِنهُ ، وَمِنَّا مَنِ استَثمَرَ أَوقَاتَهُ الفَاضِلَةَ وَمِنَّا مَنِ استَثقَلَهَا ، هَا هُوَ اليَومَ يُؤذِنُ بِالرَّحِيلِ وَيُلَوِّحُ بِالوَدَاعِ ،،
مَضَى رَمَضَانُ مَحمُودًا وَأَوفى
عَلَينَا الفِطرُ يَقدُمُهُ السُّرورُ
وَفي مَرِّ الشُّهُورِ لَنَا فَنَاءٌ
وَنَحنُ نُحِبُّ أَن تَفنى الشُّهُورُ
اللهُ المُستَعَانُ ، مَضَى رَمَضَانُ كَأَنَّمَا هُوَ سَحَابَةُ صَيفٍ سَرِيعَةٌ ، أَمَّا الأَعمَالُ فَقَد أُودِعَت كِتَابًا لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحصَاهَا ، وَسَجَّلَهَا حَافِظُونَ كِرَامٌ كَاتِبُونَ ، يَعلَمُونَ مَا تَفعَلُونَ ، وَغَدًا سَتَجِدُ كُلُّ نَفسٍ مَا عَمِلَت مِن خَيرٍ مُحضَرًا ، وَمَا عَمَلِت مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَو أَنَّ بَينَهَا وَبَينَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ، فَلَيتَ شِعرِي أَيَّ شَيءٍ أَودَعنَاهُ صَحَائِفَنَا ؟
وَمَا الَّذِي سَنَلقَاهُ غَدًا بَينَ أَيدِينَا إِذَا بُعِثنَا ؟
هَل سَنَجِدُ قِيَامًا طَوِيلاً وَقُنُوتًا ، وَاستِغفَارًا في الأَسحَارِ وَطُولَ دُعَاءٍ في السُّجُودِ ؟
هَل سَنَرَى خَتَمَاتٍ عَدِيدَةً لِكِتَابِ اللهِ وَذِكرًا كَثِيرًا ؟
هَل سَنُوَاجِهُ أَموَالاً أُنفِقَت في سَبِيلِ اللهِ زَكَاةً وَصَدَقَةً وَتَفطِيرَ صَائِمِينَ وَتَفرِيجَ كُرُبَاتٍ وَقَضَاءَ حَاجَاتٍ ؟
أَم سَتَكُونُ الأُخرَى وَنَكُونَ مِمَّنَ أضَاعَ صَلاتَهُ وَاتَّبَعَ شَهَوَاتِهِ ، وَهَجَرَ كِتَابَ رَبِّهِ وَلم يَذكُرْهُ إِلاَّ قَلِيلاً ، وَبَخِلَ بما آتَاهُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَطَفَّفَ وَلم يُتقِنْ عَمَلَهُ ؟
كُلُّ امرِئٍ أَدرَى بما أَمضَى ، وَهُوَ أَعلَمُ بما قَدَّمَ " بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَو أَلقَى مَعَاذِيرَهُ "
وَأَمَّا اللهُ ـ تَعَالى ـ فَهُوَ الكَرِيمُ البَرُّ الرَّحِيمُ الغُفُورُ الشُّكُورُ ، وَقَد قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " فَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالحَاتِ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلا كُفرَانَ لِسَعيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ " وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالحَاتِ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلمًا وَلا هَضمًا "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " لَيسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمَانيِّ أَهلِ الكِتَابِ مَن يَعمَلْ سُوءًا يُجزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمُونَ نَقِيرًا . وَمَن أَحسَنُ دِينًا مِمَّن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلاً "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ الَّذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ . لِيُوَفِّيَهُم أُجُورَهُم وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ "
وَقَالَ في أَهلِ الجَنَّةِ : " وَأَقبَلَ بَعضُهُم عَلَى بَعضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبلُ في أَهلِنَا مُشفِقِينَ . فَمَنَّ اللهُ عَلَينَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِن قَبلُ نَدعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في كُلِّ مُوسِمٍ مِن مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ ، الَّتي لا تُقَدَّرُ سَاعَاتُهَا بِثَمَنٍ وَلا تُعَوَّضُ لَحَظَاتُهَا ، يَعِظُ الوَاعِظُونَ وَتَرتَفِعُ أَصوَاتُ النَّاصِحِينَ ، يَصِيحُونَ بِالنَّاسِ أَنْ هَلُمَّ إِلى رَبٍّ كَرِيمٍ ، يُعطِي الجَزِيلَ عَلَى القَلِيلِ ، وَيُضَاعِفُ الأَجرَ لِمَن يَشَاءُ وَهُوَ الوَاسِعُ العَلِيمُ ، إِلاَّ أَنَّ العِبَادَ لا يَنفَكُّونَ عَن تَوفِيقٍ مِنَ اللهِ أَو خِذلانٍ ، بِحَسَبِ طَلَبِ الخَيرِ وَالاستِعدَادِ لِقَبُولِ الحَقِّ ، أَوِ الإِعرَاضِ عَنهُ وَنِسيَانِ العَهدِ ، فَثَمَّةَ أَقوَامٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ ، قَد عَلِمَ ـ سُبحَانَهُ ـ مِن نُفُوسِهِم حُبًّا لِلخَيرِ وَاستِعدَادًا لِلهُدَى ، وَمِن ثَمَ يَبعَثُ ـ تَعَالى ـ نُفُوسَهُم لِلعِبَادَةِ وَيُحَبِّبُ إِلَيهِمُ الطَّاعَةَ ، وَيُوَفِّقُهُم لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الخَيرِ وَالمُنَافَسَةِ فِيهِ ، وَيُكَرِّهُ إِلَيهِم مَا يَشغَلُهُم عَنهُ مِن مُلهِيَاتٍ وَشَهَوَاتٍ ، وَيُزَهِّدُهُم فِيمَن لا يَأمُرُونَ بِخَيرٍ وَلا يُعِينُونَ عَلَى حَقٍّ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ . فَضلاً مِنَ اللهِ وَنِعمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقوَاهُم "
وَفي المُقَابِلِ فَإِنَّ هُنَالِكَ مَن هُم بَعِيدُونَ عَنِ اللهِ مُعرِضُونَ عَن رَحمَتِهِ ، لا يَرفَعُونَ بِمَوَاسِمِ الخَيرِ رَأسًا ، وَلا يَتَقَرَّبُونَ فِيهَا بِمَزِيدِ طَاعَةٍ ، وَلا يَنتَهُونَ عَن سَابِقِ مَعصِيَةٍ ، وَلِذَا فَهُم غَيرُ مُوَفَّقِينَ وَلا مُسَدَّدِينَ ، بَل لا تَرَاهُم إِلاَّ مُتَكَاسِلِينَ مُتَأَخِّرِينَ ، لا يُهِمُّ أَحَدَهُم جَاءَ مَعَ السَّابِقِينَ أَم قَعَدَ مَعَ الخَالِفِينَ ، وَلا يَتَحَرَّكُ لَهُ شُعُورٌ أَن تَقَدَّمَ المُوَفَّقُونَ إِلى الخَيرِ خُطُوَاتٍ وَارتَقُوا في التَّقوَى دَرَجَاتٍ ، وَهُوَ مَا زَالَ في أَوحَالِ تَقصِيرِهِ وَطَاعَةِ نَفسِهِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ وَشَيطَانِهِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمِنهُم مَن يَستَمِعُ إِلَيكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِن عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَاتَّبَعُوا أَهوَاءَهُم "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلَو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُم فَثَبَّطَهُم وَقِيلَ اقعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ "
وَبَينَ أُولَئِكَ القَومِ السَّابِقِينَ وَهَؤُلاءِ الخَالِفِينَ ، أَقوَامٌ وَفِئَامٌ كَثِيرُونَ ، تَتَجَاذَبُهُم نَوَازِعُ خَيرٍ وَدَوَاعِي شَرٍّ ، فَإِن صَفَت نُفُوسُهُم وَنَظَرُوا إِلى تِلكَ القِلَّةِ المُؤمِنَةِ المُسَابِقَةِ المُسَارِعَةِ ، اِرتَقَوا قَلِيلاً وَزَادُوا مِن طَاعَاتِهِم ، وَإِن هم أَرخَوا لأَنفُسِهِم العِنَانَ وَجَالَسُوا المُخَذِّلِينَ وَأَطَاعُوهُم فِيمَا يَشتَهُونَ ، رَجَعُوا إِلى يَسِيرٍ مِنَ العَمَلِ وَلم يَذكُرُوا اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً ، فَحَرَمُوا أَنفُسَهُم أُجُورًا كَثِيرَةً وَفَرَّطُوا في حُسنِ ثَوَابٍ ، وَإِنَّ ممَّا يُؤسَفُ لَهُ في السَّنَوَاتِ المُتَأَخِّرَةِ ، أَن صَارَ مَن يُرِيدُ الاجتِهَادَ في الطَّاعَةِ وَالاستِكثَارَ مِنهَا قَدرَ طَاقَتِهِ ، لا يَجِدُ مَن يُعِينُهُ ممَّن حَولَهُ ، بَل لا يَجِدُ إِلاَّ التَّثبِيطَ وَالتَّرَاجُعَ وَالدَّعوَةَ إِلى التَّخفِيفِ ، وَكَأَنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَسُنَنَ سَيِّدِ المُرسَلِينَ قَد ثَقُلَت عَلَى النُّفُوسِ أَو صَارَت لها أَغلالاً وَقُيُودًا ، مِمَّا يُشعِرُ مُرِيدَ الخَيرِ بِالغُربَةِ وَالعُزلَةِ .
وَإِنَّ وَاقِعَ النَّاسِ في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ وَتَسَابُقَهُم في الخُرُوجِ مِنهَا وَتَخفِيفِهَا ، ممَّا يَشهَدُ لِذَلِكَ ، فَلِلهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ ، وَنَسأَلُهُ الثَّبَاتَ عَلَى الحَقِّ وَالصَّبرَ عَلَى السُّنَةِ " وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ . إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَملأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ "
وَإِنَّهُ لَمِن أَعجَبِ العَجَبِ أَن يَزدَادَ العِلمُ انتِشَارًا ، وَيَعلَمَ النَّاسُ أَنَّ خَيرَهُم مَن طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ، وَمَعَ هَذَا تَرَى مِنهُم مَن كُلَّمَا تَقَدَّمَ بهم العُمُرُ وَازدَادُوا مِنَ الدُّنيَا بُعدًا وَلِلآخِرَةِ قُربًا ، وَحَقَّ عَلَيهِمُ الازدِيَادُ مِنَ صَالحِ العَمَلِ ، وَالتَّجَانُفُ عَنِ الدُّنيَا وَطُولِ الأَمَلِ ، أَخَذُوا يَتَرَاجَعُونَ وَيَتَصَابَونَ ، وَإِلى التَّفَلُّتِ يَصبُونَ ، أَوَهَذَا هُوَ مَا استَفَادُوهُ مِن عِلمِهِم طُولَ عُمرِهِم ؟
أَوَهَذَا هُوَ مَا أَفَادَهُم بِهِ تَعَمُّقُهُم في المَعرِفَةِ ؟
أَلا تَبًّا لِعِلمٍ لا يُقَرِّبُ صَاحِبَهُ مِن رَبِّهِ وَيَجعَلُهُ لِلجَنَّةِ أَكثَرَ شَوقًا ، ذَاكَ وَاللهِ عِلمٌ هُوَ وَالجَهلُ سَوَاءٌ ، بَل قَد يَكُونُ الجَهلُ خَيرًا مِنهُ ، وَصَدَقَ القَائِلُ :
إِذَا مَا لم يُفِدْكَ العِلمُ خَيرًا
فَخَيرٌ مِنهُ أَنْ لَو قَد جَهِلتَا
وَإِنْ أَلقَاكَ فَهمُكَ في مَهَاوٍِ
فَلَيتَكَ ثم لَيتَكَ مَا فَهِمتَا
لَقَد بَيَّنَ اللهُ في كِتَابِهِ أَنَّ العِلمَ مَضِنَّةُ التَّذَكُّرِ وَالخَشيَةِ ، وَدَاعٍ إِلى طُولِ العِبَادَةِ وَكَثرَةِ الطَّاعَةِ ، وَأَنَّ أَهلَهُ هُم أَهلُ العُقُولِ الزَّاكِيَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَمَّن هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحذَرُ الآخِرَةَ وَيَرجُو رَحمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلبَابِ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّمَا يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ "
فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ ، وَمِن دُعَاءٍ لا يُسمَعُ ، وَمِن قَلبٍ لا يَخشَعُ ، وَمِن نَفسٍ لا تَشبَعُ ، اللَّهُمَّ اجعَلْنَا ممَّن صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا فَغَفَرتَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ ، اللَّهُمَّ اجعَلْنَا ممَّن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا واحتِسَابًا فَغَفَرتَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ ، اللَّهُمَّ أَيقِظْ قُلُوبَنَا مِن رَقَدَاتِ الغَفلَةِ ، وَأَحسِنْ عَاقِبَتَنَا في الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِن خِزيِ الدُّنيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ .


الخطبة الثانية :

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَأَحسِنُوا في بَقِيَةِ شَهرِكُم ، وَكُونُوا مَعَ اللهِ طُولَ دَهرِكُم ، فَإِنَّ عَملَ المُؤمِنِ لا يَنقَضِي أَبَدًا حَتى يَلقَى رَبَّهُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتى يَأتِيَكَ اليَقِينُ "
لَقَدِ اِنقَضَى رَمَضَانُ وَقَدِ اعتَادَ كَثِيرٌ مِنَّا الطَّاعَاتِ وَأَلِفُوهَا ، وَمَضَى وَقَد صَامُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَنَبَذُوهَا ، فَيَا مَن أَلِفتَ الخَيرَ تَمَسَّكَ بِهِ وَاستَمِرَّ عَلَيهِ ، وَاستَقِمْ كَمَا أُمِرتَ وَحَافِظْ عَلَى تَوبَتِكَ ، وَإِيَّاكَ أَن تَعُودَ بَعدَ رَمَضَانَ إلى الفُتُورِ وَالكَسَلِ ، فَإِنَّ مِن عَلامَاتِ قَبُولِ العَمَلِ الصَّالحِ الاستِمرَارَ فَيهِ وَالازدِيَادَ مِنهُ ، ثم تَذَكَّرُوا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَقَد أَنعَمَ اللهُ عَلَيكُم فَصُمتُم وَقُمتُم ، في أَمنٍ وَعَافِيَةٍ وَرَخَاءٍ ، أَنَّ حَولَكُم مَن يَنتَظِرُونَ أَن تَمُدُّوا لهم يَدَ العَونِ وَتُقَدِّمُوا لهم المُسَاعَدَةَ ، لِيَهنَؤُوا بِالعِيدِ مَعَكُم وَيَلبَسُوا الجَدِيدَ مِثلَكُم ، فَاجعَلُوا مِن شُكرِ اللهِ عَلَى نِعمَتِهِ أَن تُقَدِّمُوا لإِخوَانِكُمُ الفُقَرَاءِ وَالمُحتَاجِينَ مَا تَجِدُونَهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيرًا وَأَعظَمَ أَجرًا ، وَاستَغفِرُوا اللهَ في خِتَامِ شَهرِكُم ، وَكَبِّرُوهُ في لَيلَةِ العِيدِ ، وَأَخرِجُوا زَكَاةَ الفِطرِ ، وَاشهَدُوا صَلاةَ العِيدِ ، فَإِنَّهَا شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ ، أَوجَبَهَا بَعضُ العُلَمَاءِ عَلَى الأَعيَانِ ، وَإِيَّاكُم وَمَا اعتَادَهُ بَعضُ النَّاسِ هَدَاهُمُ اللهُ ، حَيثُ لا يُصَدِّقُونَ أَن يَسمَعُوا بِخُرُوجِ رَمَضَانَ حَتى يَعمَدُوا إِلى أَسلِحَتِهِمُ النَّارِيَّةَ ، وَيُوقِدُوا السَّمَاءَ بها وَيُبَارِيَ بَعضُهُم بَعضًا بِإِطلاقِ أَكبرِ عَدَدٍ مِن رَصَاصِهَا ، وَكَأَنَّمَا هُم يُعلِنُونَ الفَرحَةَ وَالبَهجَةَ بِانقِضَاءِ رَمَضَانَ ، أَو لَكَأَنَّمَا كَانُوا في سِجنٍ فَأُطلِقَ سَرَاحُهُم مِنهُ .
وَحَتى وَإِن كَانَ هَذَا فَرَحًا بِالعِيدِ ، فَإِنَّ ممَّا لا يَخفَى خُطُورَةَ هَذِهِ الأَسلِحَةِ ، وَأَنَّ لِلإِمسَاكِ بها سَكرَةً وَنَشوَةً وَخَاصَّةً لَدَى الجُهَّالِ ، قَد يَحصُلُ بِسَبَبِهَا مَا لا تُحمَدُ عُقبَاهُ ، وَالمُعَافى مَن عَافَاهُ اللهُ وَجَمَّلَهُ بِالتَّعَقُّلِ ، وَرَزَقَهُ شُكرَ النِّعمَةِ بِالعَمَلِ الصَّالحِ وَذِكرِ اللهِ القائل : " وَلِتُكمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ

ناصرعبدالرحمن 17-08-2012 03:35 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

خطبة عيد الفطر 1433


الخطبة الأولى :

اللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ . اللهُ أَكبرُ كَبِيرًا ، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا ، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً ، اللهُ أَكبرُ مَا وَحَّدَهُ المُوَحِّدُونَ وَذَكَرُوهُ فَارتَفَعُوا ، اللهُ أَكبرُ مَا جَحَدَهُ الجَاحِدُونَ وَنَسُوهُ فَاتَّضَعُوا ، الحَمدُ للهِ مُعِزِّ الحَقِّ وَمُبدِيهِ ، وَمُذِلِّ البَاطِلِ وَمُردِيهِ ، لَهُ المَشِيئَةُ المَاضِيَةُ ، وَالعَظَمَةُ البَادِيَةُ ، أَحمَدُهُ حَمدًا لا انتِهَاءَ لأَمَدِهِ ، وَأَشكرُهُ شُكرًا لا إِحصَاءَ لِعَدَدِهِ ، وَأَشهَدُ أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَردٌ صَمَدٌ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَلا صَاحِبَةَ وَلا وَلَدَ ، وَأَشهَدُ أَنَّ محمدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ ، اختَصَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَحَبَاهُ ، وَأَولاهُ مِنَ الكَرَامَةِ مَا حَازَ بِهِ الفَضلَ وَحَوَاهُ ، بَعَثَهُ عَلَى حِينِ فَترَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَخَلاءٍ مِن وَاضِحِ السُّبُلِ ، فَجَاهَدَ بمن أَطَاعَهُ مَن عَصَاهُ ، وَبَلَغَ في الإِرشَادِ غَايَتَهُ وَمُنتَهَاهُ ، حَتى دَخَلَ النَّاسُ في الدِّينِ أَفوَاجًا ، وَسَلَكُوا في نُصرَتِهِ صِرَاطًا وَاضِحًا وَمِنهَاجًا ، فَصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ ، وَمَن سَارَ عَلَى نَهجِهِ وَسَنَنِهِ وَدَربِهِ ، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا إِلى يَومِ الدِّينِ .

أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَاحمَدُوهُ عَلَى إِتمَامِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ ، وَاشكُرُوهُ عَلَى مَا آتَاكُم ، وَكَبِّرُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُم ، أَكمَلَ لَكُمُ الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيكُمُ النِّعمَةَ ، وَبَعَثَ فِيكُم خَيرَ نَبيٍّ وَجَعَلَكُم مِن خَيرِ أُمَّةٍ ، وأَنزَلَ عَلَيكُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ ، بَسَطَ رِزقَكُم ، وَأَظهَرَ أَمنَكُم ، وَأَحسَنَ مُعَافَاتَكُم ، وَمِن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ أَعطَاكُم ، فَافرَحُوا بما خَصَّكُم بِهِ دُونَ غَيرِكُم " هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ مِن قَبلُ وَفي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " " لَقَد مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ " " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءَتكُم مَوعِظَةٌ مِن رَبِّكُم وَشِفَاءٌ لما في الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِلمُؤمِنِينَ . قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعُونَ " اللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، أُمَّةُ الإِسلامِ أُمَّةٌ مَرحُومَةٌ ، وَحتى وَإِنْ هِيَ جُعِلَت عَافِيَتُهَا في أَوَّلِهَا ، وَكَانَ خَيرُ قُرُونِهَا الثَّلاثَةَ الأُولى مِنهَا ، وَإِنْ كَانَ سَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ مُنكَرَةٌ ، إِلاَّ أَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ أُمَّةٌ مُمتَدَّةُ السُّلطَانِ ، ظَاهِرَةُ البُرهَانِ ، مَنصُورَةٌ بِوَعدٍ مِنَ الرَّحمَنِ ، مَحفُوظٌ كِتَابُهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقصَانِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّ هُم في الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنّ َهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَني لا يُشرِكُونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ اللهَ زَوَى ليَ الأَرضَ فَرَأَيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَإِنَّ أُمَّتي سَيَبلُغُ مُلكُهَا مَا زُوِيَ لي مِنهَا ، وَأُعطِيتُ الكَنزَينِ الأَحمَرَ وَالأَبيَضَ ، وَإِنِّي سَأَلتُ رَبِّي لأُمَّتي أَلاَّ يُهلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَلاَّ يُسَلِّطَ عَلَيهِم عَدُوًّا مِن سِوَى أَنفُسِهِم فَيَستَبِيحَ بَيضَتَهُم ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ ، وَإِنِّي أَعطَيتُكَ لأُمَّتِكَ أََلاَّ أُهلِكَهُم بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَلاَّ أُسَلِّطَ عَلَيهِم عَدُوًّا مِن سِوَى أَنفُسِهِم يَستَبِيحُ بَيضَتَهُم وَلَوِ اجتَمَعَ عَلَيهِم مَن بِأَقطَارِهَا أَو قَالَ مَن بَينَ أَقطَارِهَا حَتى يَكُونَ بَعضُهُم يُهلِكُ بَعضًا وَيَسبيَ بَعضُهُم بَعضًا " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
اللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ ، إِنَّهُ عَهدٌ مِنَ اللهِ وَهُوَ لا يُخلِفُ المِيعَادَ ، وَضَمَانٌ مِنَ الرَّحمَنِ وَهُوَ خَيرٌ حَافِظًا ، أَن يَمتَدَّ سُلطَانُ الإِسلامِ حَتى يَحكُمَ العَالَمَ بِأَسرِهِ ، وَأَن تَظَلَّ أُمَّتُهُ بَاقِيَةً وَلَو كَادَ لها كُلُّ مَن في الأَرضِ ، لا تُستَأصَلُ وَلا تُجتَثُّ ، وَلا يَخمُدُ لها نُورٌ وَلا يَسقُطُ لها ذِكرٌ .
وَهَا هِيَ أُمَّةُ الإِسلامِ مُنذُ خَمسَةَ عَشَرَ قَرنًا ، تَتَصَدَّى لِلنَّوَائِبِ وَلا تُبَالي بِالنَّكَبَاتِ ، يُحَارِبُهَا عَرَبُ الجَزِيرَةِ وَيَتَحَزَّبُون َ ضِدَّهَا ، ثم مَا يَلبَثُونَ أَن يَدخُلُوا في دِينِ اللهِ أَفوَاجًا ، وَيُنَاوِئُهَا الفُرسُ وَيُنَاصِبُونَه َا العِدَاءَ ، ثم لا تَزَالُ بهم حَتى تَقضِيَ عَلَيهِم في سُنَيَّاتٍ مَعدُودَةٍ ، فَلا تَقُومُ لهم بَعدَهَا قَائِمَةٌ وَلا يَظهَرُ لهم مُلكٌ ، ثم يُسَلَّطُ عَلَيهَا التَّتَرُ وَالمَغُولُ حَتى كَادُوا يُبِيدُونَهَا ، فَتَنتَفِضُ عَلَيهِم وَتُقَاوِمُ مَدَّهُم وَتُوقِفُ زَحفَهُم ، ثم مَا تَزَالُ بَعدُ مَعَ الرُّومِ في شَدٍّ وَجَذبٍ ، تَغلِبُهُم حِينَ يَقوَى في أَفرَادِهَا الدِّينُ وَيَملأُ قُلُوبَهُمُ اليَقِينُ ، وَيَنَالُونَ مِنهَا حِينَ تَضعُفُ وَتَنسَى ، تَغفُو عَن كَيدِهِم قَلِيلاً وَلَكِنَّهَا لا تَمُوتُ ، وَتَضعُفُ أَمَامَهُم يَسِيرًا وَلَكِنَّهَا لا تَزُولُ ، وَمَا يَزَالُ اللهُ يَبعَثُ فِيهَا مُصلِحِينَ مُجَدِّدِينَ ، يَنفُخُونَ الرُّوحَ في جَسَدِهَا فَتَصحُو ، وَيُعَالِجُونَه َا فتَتَعَافى ، وَيَرعَونَهَا فتُشَفى .

وَإِنَّهُ وَمُنذُ قَرنٍ مِنَ الزَّمَانِ ، وفي حِينِ ضَعفٍ لِلتَّوحِيدِ وَفُتُورٍ في العَقِيدَةِ ، وَانتِشَارٍ لِلبِدَعِ وَالشِّركِيَّات ِ ، وَتَعَلُّقٍ بِالقُبُورِ وَالخُرَافَاتِ ، وَعَفَاءٍ لِرُسُومِ السُّنَةِ وَخَفَاءٍ لِلأَثَرِ ، استَولى الأَعدَاءُ عَلَى الأُمَّةِ وَأَسقَطُوا دَولَتَهَا ، وَمَزَّقُوا جَسَدَهَا وَتَقَاسَمُوا أَرضَهَا ، ثم صَوَّرُوا لها بما أُوتُوهُ مِن قُوَّةٍ إِعلامِيَّةٍ وَفِتنَةٍ دِعَائِيَّةٍ ، أَنَّهُم قُوَّةٌ لا تُقهَرُ وَسُلطَانٌ لا يُغلَبُ ، أَو لَكَأَنَّمَا هُم أُسُودُ العَالَمِ وَذِئَابُ الأَرضِ ، وَلَيسَ مَن سِوَاهُم إِلاَّ أَغنَامٌ تَرعَى مِن فُتَاتِ مَوَائِدِهِم وَتَستَظِلُّ بِحَضَارَتِهِم وَتَحتَمِي بِهِم ، وَرَاجَتِ الحِيلَةُ عَلَى كَثِيرِينَ ، وَاستَولَتِ الهَزِيمَةُ عَلَى مُثَقَّفِينَ ، وَأَصَابَ الجَمِيعَ الوَهنُ وَأَحَاطَت بهمُ الذِّلَّةُ ، حَتى وَصَلَتِ الحَالُ بِبَعضِ مَن فِيهِ بَقِيَّةٌ مِن دِينٍ ، إِلى أَن يُنادِيَ بِالانعِزَالِ وَتَتَبُّعِ شَعَفِ الجِبَالِ ، وَتَرَقُّبِ قُوَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ تَخرُجُ بِخُرُوجِ المَهدِيِّ أَو تَنزِلُ بِنُزُولِ المَسِيحِ ، لِتُنقِذَ الأُمَّةَ وَتُعِيدَ لها مَجدَهَا . وَيَتَمَادَى الطُّغيَانُ بِأَهلِهِ ، وَيَمتَلِئُونَ كِبرًا وَعُجبًا ، حَتى إِذَا ظَنُّوا أَنَّهُم عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَادِرُونَ " وَظَنُّوا أَنَّهُم مَانِعَتُهُم حُصُونُهُم مِنَ اللهِ " يَأبى اللهُ ـ تَعَالى ـ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ ، إِلاَّ أَن يُذَكِّرَ الأُمَّةَ وَعدَهُ لِنَبِيِّهَا وَعَهدَهُ لها ، وَأَنَّهَا قَد تُصَابُ وَتُفتَنُ وَتُبتَلَى ، وَأَمَّا الاستئِصَالُ وَالاجتِثَاثُ فَلا وَأَلفُ لا ، وَيَشَاءَ اللهُ أَن يُرِيَ العَالَمَ بِأَسرِهِ أَنَّ هَذِهِ الشُّعُوبَ المُسلِمَةَ ، لا تَحتَاجُ وَإِن ضَعُفَت عُدَّتُهَا ، إِلاَّ إِلى الاجتِمَاعِ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ، وَالائتِلافِ عَلَى رَأيٍ مُوَحَّدٍ ، وَرَفعِ رَايَةِ الجِهَادِ وَالعَودَةِ إِلى الدِّينِ ، حَتى تَغدُوَ قُوَّةً لا تُقهَرُ وَسَيلاً لا يُوقَفُ أَمَامَهُ ، وَيَشَاءُ اللهُ أَن يُؤتَى الكُفَّارُ وَالطُّغَاةُ مِن حَيثُ لم يَحتَسِبُوا ، وَأَن يُقذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعبُ ممَّن استَضعَفُوا ، فَتَثُورُ شُعُوبٌ هُنَا وَهُنَاكَ ، لِيَرَى العَالَمُ رَأيَ العَينِ ، أَنَّ اللهَ الَّذِي " أَهلَكَ عَادًا الأُولى . وَثَمُودَ فَمَا أَبقَى . وَقَومَ نُوحٍ مِن قَبلُ إِنَّهُم كَانُوا هُم أَظلَمَ وَأَطغَى . وَالمُؤتَفِكَةَ أَهوَى . فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى " لِيَرَوا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهَلاكِ الظَّالمِينَ في كُلِّ عَصرِ وَمِصرٍ ، وَيَشَاءُ ـ سُبحَانَهُ ـ أَن تَكُونَ نِهَايَةُ كُلِّ ظَالِمٍ مِن جِنسِ عَمَلِهِ ، فَمَن كَانَ كَارِهًا لِلشَّرِيعَةِ وَاضطَرَّ شَعبَهُ لِلهِجرَةِ مِن بَلَدِهِم فِرَارًا بِدِينِهِم , يَكُونُ خُرُوجُهُ مِن بِلادِهِ هُرُوبًا ، ثم لا يَجِدُ مَلجَأً إِلاَّ في بَلَدٍ تُطَبَّقُ فِيهِ الشَّرِيعَةُ , لِيَسمَعَ صَوتَ الأَذَانِ الَّذِي طَالمَا حَارَبَهُ ، وَيَرَى جُمُوعَ المُصَلِّينَ الَّذِينَ طَالمَا عَادَاهُم . وَمَن ظَنَّ أَنَّهُ مَلَكَ كُلَّ شَيءٍ فَسَمَّى نَفسَهُ مَلِكَ المُلُوكِ , وَاحتَقَرَ شَعبَهُ وعَدَّهُم كَالجُرذَانِ , يُسَلِّطُهُمُ اللهُ عَلَيهِ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ ، فيُخرِجُونَهُ مِن أُنبُوبِ الصَّرفِ الصِّحِّيِّ ذَلِيلاً حَقِيرًا ، وَيَجُرُّونَهُ مُتَوَسِّلاً بَاكِيًا , لِيَكُونَ جَزَاؤُهُ مِن جِنسِ عَمَلِهِ , وَالثَّالِثُ الَّذِي جَعَلَ دُولَتَهُ سِجنًا لِلصَّالحِينَ وَامتِهَانًا لِلمُصلِحِينَ , يُذِيقُهُ اللهُ مَرَارَةَ السِّجنِ بَعدَ الحُرِّيَّةِ ، وَيَرَى الذُّلَّ بَعدَ العِزِّ , بَل وَيَشَاءُ اللهُ أَن يُرِيَهُ أَحَدَ مَن سَجَنَهُم وَعَذَّبَهُم , يَخرُجُ لِيَعتَلِيَ كُرسِيَّ الرِّئَاسَةِ , فَيَغدُو السَّجِينُ حَاكِمًا وَالحَاكِمُ سَجِينًا ، فَسُبحَانَ مُغَيِّرِ الأَحوَالِ , لا رَادَّ لأَمرِهِ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ ، هُوَ مَالِكُ المُلكِ ، يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَيَنزِعُهُ مِمَّن يَشَاءُ ، وَيُعِزُّ مَن يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَن يَشَاءُ ، بِيَدِهِ الخَيرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ، وَمَا يَزَالُ المُسلِمُونَ يَنتَظِرُونَ البُشرَى في أَرضِ الشَّامِ المُبَارَكَةِ ، الَّتي قَدَحَ شَرَارَةَ الجِهَادِ فِيهَا صِبيَةٌ يَلعَبُونَ ، ثم اعتَلَى صَهوَتَهُ كِبَارٌ مُؤمِنُونَ , لِيُستَشهَدَ مِنهُم مَن يُستَشهَدُ ، وَيَنَالَ الآخَرُونَ شَرَفَ القَضَاءِ عَلَى الدَّولَةِ البَاطِنِيَّةِ المُجرِمَةِ , وَإِنَّا لَنَرَاهُ قَرِيبًا بِإِذنِ اللهِ , وَيَومَئِذٍ يَفرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصرِ اللهِ , فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتَمَسَّكُوا بما أَنتُم عَلَيهِ مِنَ التَّوحِيدِ وَصَفَاءِ العَقِيدَةِ " وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ . وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا " " وَلْتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ "
حَذَارِ مِنَ الظُّلمِ وَالطُّغيَانِ ، وَكُفرِ النِّعمَةِ وَالنِّسيَانِ ، جَرِّدُوا التَّوحِيدَ للهِ ، وَنَقُّوا القُلُوبَ مِنَ الشِّركِ وَالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ ، وَخَلِّصُوهَا مِنَ التِّعَلُّقِ بِغَيرِ اللهِ ، وَفَرِّغُوهَا مِنَ التَّوَكُّلِ وَالاعتِمَادِ إِلاَّ عَلَيهِ ، وَاحمُوهَا مِنَ التَّوَجُّهِ إِلاَّ إِلَيهِ ، وَمِنَ الخَوفِ إِلاَّ مِنهُ ، فَإِنَّ الرُّكُونَ إِلى الَّذِينَ كَفَرُوا لم يَنفَعْ مَن مَضَوا فِيهِ عَشَرَاتِ السِّنِينَ ، وَإِيَّاكُم أَن تُقِيمَكُمُ الدُّنيَا أَو تُقعِدَكُم ، أَو تُقَرِّبَكُم مِن طَاعَةٍ أَو تُبعِدَكُم ، أَو تَجعَلُوهَا مَحَكًّا لِوَلاءٍ وَرِضَا ، أَو سَبَبًا لتَبَرُّؤٍ وَسُخطٍ ، فَلا وَاللهِ لا يُمكِنُ أَن يَصلُحَ بذَلِكَ حَالٌ وَلا شَأنٌ ، وَلا أَن يَتَحَقَّقَ بِسَبَبِهِ رَخَاءٌ وَلا أَمنٌ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " مَن كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ ، جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَملَهُ ، وَأَتَتهُ الدُّنيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَن كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ ، جَعَلَ اللهُ فَقرَهُ بَينَ عَينَيهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيهِ شَملَهُ ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
إِنَّهُ لا أَمنَ وَلا استِقرَارَ ، وَلا رَاحَةَ لِقُلُوبٍ وَلا اطمِئنَانَ لِنُفُوسٍ ، إِلاَّ لأَهلِ تَوحِيدِ اللهِ المُتَوَكِّلِين َ عَلَيهِ " الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ " " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبُنَا اللهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ . فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضلٍ لم يَمسَسْهُم سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضلٍ عَظِيمٍ " وَإِنَّهُ لا عَهدَ عِندَ اللهِ لأَحَدٍ إِلاَّ لِمَن أَقَامَ دِينَهُ ، فَاحذَرُوا مَكرَ اللهِ بِالمُكَذِّبِين َ اللاَّعِبِينَ ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُم تَمَسُّكَ الصَّادِقِينَ ، فَقَدَ وُعِدَ المُؤمِنُونَ وَأَهلُ التَّقوَى وَالصَّلاةِ ، بِسِعَةِ الرِّزقِ وَفَتحِ البَرَكَاتِ " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذنَاهُم بما كَانُوا يَكسِبُونَ . أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأسُنَا بَيَاتًا وَهُم نَائِمُونَ . أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنَا ضُحًى وَهُم يَلعَبُونَ . أَفَأَمِنُوا مَكرَ اللهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللهِ إِلاَّ القَومُ الخَاسِرُونَ " " وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى " اللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .



الخطبة الثانية :

اللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ . الحَمدُ للهِ الَّذِي بِنِعمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالحَاتُ وَتَكمُلُ ، وَبِطَاعَتِهِ تَحلُوالحَيَاةُ وَتَجمُلُ ، لم يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلكِ وَلم يَكُنْ لَهُ وَليٌّ مِنَ الذُّلِّ ، أَحمَدُهُ ـ تَعَالى ـ وَأَشكُرُهُ ، وَأَتُوبُ إِلَيهِ وَأَستَغفِرُهُ ، وَأَشهَدُ أَنَّ محمدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ ، بَعَثَهُ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيفِ حَتى يُعبَدَ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزقُهُ تَحتَ ظِلِّ رُمحِهِ ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَن خَالَفَ أَمرَهُ . صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ ، وَمَن سَارَ عَلَى نَهجِهِ وَاقتَفَى أَثَرَهُ .

أَمَّا بَعدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ ، إِنَّكُم في عِيدٍ وَيَومٍ سَعِيدٍ ، أَتمَمتُمُ الصِّيَامَ وَأَدرَكتُمُ القِيَامَ ، وَزَكَّيتُم وَتَصَدَّقتُم وَفَطَّرتُمُ الصَّائِمِينَ ، وَمِنكُم مَنِ اعتَمَرَ وَفِيكُم مَنِ اعتَكَفَ ، وَهَا أَنتُم قَد مُدَّ في آجَالِكُم حَتى أَكمَلتُمُ العِدَّةَ وَكَبَّرتُمُ اللهُ عَلَى مَا هَدَاكُم ، وَبَلَغتُم بَهجَةَ العِيدِ وَلَبِستُمُ الجَدِيدَ ، فَاحمَدُوا رَبَّكُم وَاشكُرُوهُ ، وَاذكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَأَدِيمُوا طَاعَتَهُ وَلا تَنسَوهُ ، تَمَسَّكُوا بما اكتَسَبتُمُوهُ في شَهرِكُم ، وَاستَقِيمُوا عَلَيهِ طُولَ دَهرِكُم ، وَلا تَنقُضُوا بِالمَعَاصِي مَا فَتَلتُمُوهُ ، فَإِنَّ العِيدَ لَيسَ انفِلاتًا مِنَ المُثُلِ وَلا تَنَصُّلاً مِنَ الطَّاعَاتِ , وَلا قَطعًا لِلصِّلَةِ بِاللهِ وَانطِلاقًا لِلشَّهَوَاتِ , بَل هُوَ فَرَحٌ رَبَّانيٌّ وَسُرُورٌ إِيمَانيٌّ , يَسعَدُ فِيهِ مَن وَحَّدَ رَبَّهُ وَأَدَّى مَا عَلَيهِ ، وَحَقَّقَ التَّقوَى وَبَرَّ وَالِدَيهِ ، فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم ، وَاحفَظُوا أَمرَهُ يَحفَظْكُم ، وَكُونُوا مَعَهُ يَكُنْ مَعَكُم ، خَافُوهُ في السِّرِّ وَالعَلَنِ ، وَتَعَرَّفُوا عَلَيهِ في الرَّخَاءِ يَعرِفْكُم في الشِّدَّةِ ، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ، وَاشهَدُوا الجُمُعَ وَالجَمَاعَاتِ ، وَصِلُوا رَمَضَانَ بِصِيَامِ سِتٍّ مِن شَوَّالٍ ؛ فَإِنَّ " مَن صَامَ رَمَضَانَ وَأَتبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ كَانَ كَصَومِ الدَّهرِ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
اِقرَؤُوا القُرآنَ في كُلِّ حِينٍ ، فَإِنَّهُ حَبلُ اللهِ المَتِينُ وَصِرَاطُهُ المُستَقِيمُ ، مَن تَمَسَّكَ بِهِ نجا ، وَمَن حَادَ عَنهُ غَوَى ، وَمَنِ ابتَغَى الهُدَى في غَيرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ .
أَفشُوا السَّلامَ وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ ، وَتَصَافَحُوا وَتَصَالَحُوا ، وَلِينُوا وَتَوَاضَعُوا ، وَتَبَسَّمُوا وَتَرَاحَمُوا ، وَ" أَوفُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُم "
وَاحفَظُوا حَقَّ الجِوَارِ ، وَاحذَرُوا مُحَارَبَةَ اللهِ بِالرِّبَا ، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِلى الزِّنَا وَالخَنَا ، لَقَد تَمَيَّزتُم في هَذِهِ البِلادِ بِالسِّترِ وَالاحتِشَامِ ، وَصِيَانَةِ الأَعرَاضِ وَحِمَايَةِ الشَّرَفِ ، وَإِنَّ ثَمَّةَ دَعَوَاتٍ فَاسِدَةً حَاقِدَةً ، جَعَلَت هَمَّهَا وَهَدَفَهَا وَغَايَةَ خُبثِهَا ، أَن تَخرُجَ المَرأَةُ مِن بَيتِهَا وَتَهتِكَ سِترَهَا وَتَخلَعَ حَيَاءَهَا ، وَتَختَلِطَ بِالرِّجَالِ في الأَعمَالِ وَالأَسوَاقِ وَالنَّوَادِي ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ ثم الحَذَرَ وَالحَذَرَ ، فَإِنَّمَا تِلكَ نَارٌ لم تَتَمَكَّنْ مِن بَلَدٍ إِلاَّ أَوقَدَتهُ فَسَادًا ثم جَعَلَتهُ رَمَادًا ، قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَلا رَيبَ أَنَّ تَمكِينَ النِّسَاءِ مِنِ اختِلاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ أَصلُ كُلِّ بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ ، وَهُوَ مِن أَعظَمِ أَسبَابِ نُزُولِ العُقُوبَاتِ العَامَّةِ ، كَمَا أَنَّهُ مِن أَسبَابِ فَسَادِ أُمُورِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ ، وَاختِلاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثرَةِ الفَوَاحِشِ وَالزِّنَا ، وَهُوَ مِن أَسبَابِ المَوتِ العَامِّ وَالطَّوَاعِينِ المُتَّصِلَةِ ... إِلى أَن قَالَ : فَمِن أَعظَمِ أَسبَابِ المَوتِ العَامِّ كَثرَةُ الزِّنَا ، بِسَبَبِ تَمكِينِ النِّسَاءِ مِنِ اختِلاطِهِنَّ بِالرِّجَالِ ، وَالمَشيِ بَينَهُم مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَجَمِّلاتٍ ، وَلَو عَلِمَ أَولِيَاءُ الأَمرِ مَا في ذَلِكَ مِن فَسَادِ الدُّنيَا وَالرَّعِيَّةِ قَبلَ الدِّينِ ، لَكَانُوا أَشَدَّ شَيءٍ مَنعًا لِذَلِكَ . اِنتَهَى كَلامُهُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ رِجَالاً وَنِسَاءً ، فَإِنَّ مِن كُلِّ شَيءٍ يَذهَبُ عِوَضٌ وَخَلَفٌ ، وَلَيسَ لِلدِّينِ وَالعِرضِ إِذَا مَاتَا عِوَضٌ وَلا خَلَفٌ . اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ .

ناصرعبدالرحمن 23-08-2012 11:47 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

استقيموا ولن تحصوا 6 / 10 / 1433


الخطبة الأولى :



أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَاتَّقُوهُ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ ، اُذكُرُوهُ ذِكرًا كَثِيرًا ، وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً " إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، الإِنسَانُ في دُنيَاهُ مُسَافِرٌ لا يَركَنُ إِلى إِقَامَةٍ ، وَسَائِرٌ لا يَعرِفُ استِقرَارًا وَلا تَوَقُّفًا ، وَرَاحِلٌ مَعَ الزَّمَنِ بِاستِمرَارٍ وَإِن هُوَ لَزِمَ مَكَانًا وَاحِدًا وَلم يَبرَحْ ، وَكُلُّ يَومٍ يَمضِي أَو شَهرٍ يَنقَضِي ، فَإِنَّهُ يَزِيدُ في عُمُرِهِ وَيَنقُصُ مِن أَجَلِهِ ، وَلا بُدَّ لَهُ في نِهَايَةِ الأَمرِ مِن يَومٍ يَلقَى فِيهِ رَبَّهُ وَيُرَدُّ إِلى مَولاهُ ، وَحِينَهَا يَنتَهِي سَفَرُهُ وَيَستَقِرُّ إِلى دَارَينِ لا ثَالِثَ لهما . وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ المُؤمِنَ العَاقِلَ يَسلُكُ الطَّرِيقَ الَّتي تُوصِلُهُ إِلى رَبِّهِ ، وَلا يَشتَغِلُ بِالسُّبُلِ الَّتي تُشَتِّتُ أَمرَهُ وَتُضِيعُ عَلَيهِ عُمُرَهُ . وَلَمَّا كَانَ الوَاقِعُ أَنَّ أَقصَرَ الطُّرُقِ وَأَقرَبَهَا مَا كَانَ مُستَقِيمًا غَيرَ ذِي عِوَجٍ ، كَانَ المُؤمِنُ مُرَغَّبًا في الاستِقَامَةِ مَأمُورًا بها ، مُثنىً عَلَيهِ إِن هُوَ لَزِمَهَا ، مَوعُودًا بِالخَيرِ في الدُّنيَا وَأَفضَلِ الجَزَاءِ في الأُخرَى إِن صَبَرَ عَلَيهَا ، قَال ـ تَعَالى ـ : " فَاستَقِمْ كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَأَلَّوِ استَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسقَينَاهُم مَاءً غَدَقًا "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم تُوعَدُونَ . نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَحِيمٍ "
وَلِعِظَمِ أَمرِ الاستِقَامَةِ وَأَهمِّيَّتِهَ ا ، وَوُجُوبِ استِشعَارِ الحَاجَةِ إِلَيهَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ ، كَانَ أَوَّلُ دُعَاءٍ يَسأَلُهُ المُصَلِّي رَبَّهُ في صَلاتِهِ ، أَن يَطلُبَ مِنهُ هِدَايَتَهُ إِلى الطَّرِيقِ المُستَقِيمِ ، وَيُجَنِّبَهُ طُرُقَ الضَّلالِ وَسُبُلَ الغَضَبِ ، ثم مَا يَزَالُ يُكَرِّرُ هَذَا الدُّعَاءَ في كُلِّ رَكعَةٍ ، لا تَصِحُّ صَلاتُهُ إِلاَّ بِقِرَاءَةِ السُّورَةِ الَّتي هُوَ فِيهَا ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " اِهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِم وَلا الضَّالِّينَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الاستِقَامَةَ هِيَ الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ لِلإِنسَانِ ، وَهِيَ نَجَاتُهُ وَكَمَالُهُ ، وَمَا دُونَهَا إِلاَّ الهَلاكُ وَالخَسَارَةُ وَالنَّقصُ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَالعَصرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ وَتَوَاصَوا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبرِ " فَلا بُدَّ لِلمُسلِمِ لِيَنجُوَ مِنَ الخَسَارَةِ وَيَكمُلَ في نَفسِهِ وَيُكمِلَ مَن حَولَهُ ، أَن يَعرِفَ طَرِيقَ الاستِقَامَةِ وَيَعلَمَهُ ، ثم يَعمَلَ بِهِ وَيَلتَزِمَ تَطبِيقَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، ثم يَدعُوَ إِلَيهِ وَيُوصِيَ غَيرَهُ بِلُزُوِمِهِ ، ثم يَثبُتَ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ وَيَدُومَ صَابِرًا مُصَابِرًا ، مُدَافِعًا مَا يُضَادُّهُ حَتى يَلقَى رَبَّهُ ، سَالِكًا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ في هَذَا الشَّأنِ حَيثُ قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَهُ : " فَاستَقِمْ كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطغَوا إِنَّهُ بمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلا تَركَنُوا إِلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ . وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكرَى لِلذَّاكِرِينَ . وَاصبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ . فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ " فَطَرِيقُ الاستِقَامَةِ هُوَ طَرِيقُ التَّائِبِينَ المُنِيبِينَ ، أَهلِ الوَسَطِيَّةِ وَالخَيرِيَّةِ ، الَّذِينَ لا يَتَّصِفُونَ بِزِيَادَةٍ وَلا طُغيَانٍ ، وَلا يَركَنُونَ إِلى ظُلمٍ وَتَسَاهُلٍ بِحَقٍّ ، عَلَى صَلاتِهِم مُحَافِظُونَ ، وَمِنَ الحَسَنَاتِ مُستَكثِرُونَ ، صَابِرُونَ عَلَى الطَّاعَةِ مُرَابِطُونَ ، لأَعمَالِهِم مُحسِنُونَ ، بِالمَعرُوفِ آمِرُونَ ، وَعَنِ المُنكَرِ نَاهُونَ ، لا تَغُرُّهُم حَيَاةٌ بِتَرَفٍ فَيُغرِقُوا في سَرَفٍ .


عِبَادَ اللهِ ، تَمُرُّ بِالمُسلِمِينَ مَوَاسِمُ الاستِكثَارِ مِنَ الخَيرِ وَالأَجرِ ، وَأَوقَاتُ الاجتِهَادِ في الطَّاعَةِ وَأَزمِنَةُ التَّزَوُّدِ بِالتَّقوَى ، فَتَنشَطُ النُّفُوسُ في العَمَلِ الصَّالحِ وَتَرغَبُ فِيهِ ، وَتَخِفُّ الأَروَاحُ لِلخَيرِ وَتَتَّسِعُ الصُّدُورُ لِلبِرِّ ، وَيَتَقَرَّبُ النَّاسُ إِلى رَبِّهِم بِالنَّوَافِلِ مَعَ الفَرَائِضِ ، ثم مَا تَلبَثُ المَوَاسِمُ أَن تَمضِيَ بما فِيهَا وَتَنصِرَفَ بما أُودِعَت ، فَمَن ظَلَّ بَعدَهَا عَلَى استِقَامَتِهِ وَالتَزَمَ بِطَاعَتِهِ ، فَذَاكَ هُوَ النَّاجِي بِرَحمَةِ رَبِّهِ ، وَمَنِ انفَلَتَ أَمرُهُ وَفَرَّطَ ، وَسَقَطَ بَعدَ قِيَامٍ وَتَرَاجَعَ بَعدَ إِقدَامٍ ، فَمَا أَحرَاهُ أَن يَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ !
قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ ـ أَيْ نَشَاطٌ وَرَغبَةٌ ـ وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَترَةٌ ، فَمَن كَانَت فَترَتُهُ إِلى سُنَّتي فَقَدِ اهتَدَى ، وَمَن كَانَت فَترَتُهُ إِلى غَيرِ ذَلِكَ فَقَد هَلَكَ " رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ بِلُزُومِ سَبِيلِ الخَيرِ وَالحَذَرِ مِنَ سُبُلِ الشَّرِّ ، فَعَن جَابِرِ بنِ عَبدِاللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : كُنَّا عِندَ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ فَخَطَّ خَطًّا وَخَطَّ خَطَّينِ عَن يَمِينِهِ وَخَطَّ خَطَّينِ عَن يَسَارِهِ ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ في الخَطِّ الأَوسَطِ فَقَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللهِ ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَعَنِ النَّوَّاسِ بنِ سَمعَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ عَن رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ : ضَرَبَ اللهُ ـ تَعَالى ـ مَثَلاً صِرَاطًا مُستَقِيمًا ، وَعَلَى جَنبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ، وَعَلَى الأَبوَابِ سُتُورٌ مُرخَاةٌ ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، ادخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلا تَتَعَوَّجُوا ، وَدَاعٍ يَدعُو مِن فَوقِ الصِّرَاطِ ، فَإِذَا أَرَادَ الإِنسَانُ أَن يَفتَحَ شَيئًا مِن تِلكَ الأَبوَابِ قَالَ : وَيحَكَ لا تَفتَحْهُ ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفتَحْهُ تَلِجْهُ ، فَالصِّرَاطُ الإِسلامُ ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَالأَبوَابُ المُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ ـ تَعَالى ـ وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ الهِا ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَالدَّاعِي مِن فَوقُ وَاعِظُ اللهِ في قَلبِ كُلِّ مُسلِمٍ " رَوَاهُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
اللَّهُمَّ رَبَّ جُبرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ عَالمَ الغَيبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنتَ تَحكُمُ بَينَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَختَلِفُونَ ، اهدِنَا لما اختُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِكَ ؛ إِنَّكَ تَهدِي مَن تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ . اللَّهُمَّ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَئِذْ هَدَيتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لُدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ . اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ .



الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَاعلَمُوا أَنَّ أَسَاسَ النَّجَاةِ الاستِقَامَةُ عَلَى الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، بِأَن يُصبِحَ المَرءُ وَيُمسِيَ عَبدًا رَبَّانِيًّا في كُلِّ طَرِيقٍ ، مُتبِعًا مَا يَعلَمُهُ بِالعَمَلِ وَالتَّطبِيقِ ، هَمُّهُ رِضَا رَبِّهِ في كُلِّ سِعَةٍ وَضِيقٍ ، لا أَن يَكُونَ مُتَذَبذِبًا في سَيرِهِ ، تَابِعًا لِشَيطَانِهِ أَو هَوَى نَفسِهِ أَو هَوَى غَيرِهِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ عَن عِيسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُم فَاعبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " ألم أَعهَدْ إِلَيكُم يَا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُم عُدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنِ اعبُدُوني هَذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " قُلْ إِنَّني هَدَاني رَبِّي إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ . قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكِي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالمِينَ . لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " فَلِذَلِكَ فَادعُ وَاستَقِمْ كَمَا أُمِرتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ : " قَد جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذنِهِ وَيَهدِيهِم إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبِيتًا . وَإِذًا لآَتَينَاهُم مِن لَدُنَّا أَجرًا عَظِيمًا . وَلَهَدَينَاهُم صِرَاطًا مُستَقِيمًا "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَاستَقِيمُوا عَلَى مَا يُحِبُّهُ في كُلِّ حِينٍ وَآنٍ ، يَكُن لَكُم عَلَى مَا تُحِبُّونَ وَيُحِبَّكُم وَيُوَفِّقْكُم ، وَاعلَمُوا أَنَّ خَيرَ ذَلِكَ وَأَعظَمَهُ الفَرَائِضُ وَخَاصَّةً الصَّلاةَ ، ثم التَّزَوُّدُ مِنَ النَّوَافِلِ وَتَقوَى اللهِ ، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ : " وَمَا تَقَرَّبَ إِليَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ ممَّا افتَرَضتُ عَلَيهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بِالنَّوَافِلِ حَتى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذِي يَسمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بها ، وَرِجلَهُ الَّتي يَمشِي بها ، وَإِن سَأَلَني لأُعطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ استَعَاذَني لأُعِيذَنَّهُ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِستَقِيمُوا وَلَن تُحصُوا ، وَاعلَمُوا أَنَّ خَيرَ أَعمَالِكُمُ الصَّلاةَ ، وَلا يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إِلاَّ مُؤمِنٌ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

ناصرعبدالرحمن 31-08-2012 12:50 AM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم 13 / 10 / 1433
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ " " وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، في صَبَاحِ الغَدِ بِإِذنِ اللهِ ، يَغدُو إِلى المَدَارِسِ آلافٌ مِنَ الطُّلاَّبِ وَالطَّالِبَاتِ وَالمُعَلِّمِين َ وَالمُعَلِّمَات ِ ، يَحدُو كَلاًّ مِنهُم إِلى النَّجَاحِ أَمَلٌ كَبِيرٌ ، وَيَدفَعُهُم إِلَيهِ شَوقٌ عَظِيمٌ . وَإِنَّهُ مَهمَا يَكُنْ مِن تَهَيُّؤٍ وَاستِعدَادٍ وَبَذلِ جُهدٍ وَاجتِهَادٍ ، فَإِنَّهُ لا غِنى لِلعِبَادِ جَمِيعًا عَن تَوفِيقِ اللهِ لهم ، وَلا نَجَاحَ لهم في دُنيَاهُم وَلا أُخرَاهُم إِلاَّ بِتَسدِيدِ اللهِ لهم وَعِنَايَتِهِ بهم .
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى *** فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ
قَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ "
وَالتَّوفِيقُ مِنَ الأُمُورِ الَّتي لا تُطلَبُ إِلاَّ مِنَ اللهِ ، إِذْ لا يَقدِرُ عَلَيهِ إِلاَّ هُوَ ، فَمَن طَلَبَهُ مِن غَيرِهِ فَهُوَ مَحرُومٌ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " إِنَّكَ لا تَهدِي مَن أَحبَبتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَن يَشَاءُ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ عَن شُعَيبٍ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " وَمَا تَوفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ "
قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وَقَد أَجمَعَ العَارِفُونَ بِاللهِ أنَّ التَّوفِيقَ هُوَ أَلا يَكِلَكَ اللهُ إِلى نَفسِكَ ، وَأَنَّ الخِذلانَ هُوَ أَن يُخَلِّيَ بَينَكَ وَبَينَ نَفسِكَ .
وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَّمَ فَاطِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ أَن تَقُولَ إِذَا أَصبَحَت وَإِذَا أَمسَت : " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحمَتِكَ أَستَغِيثُ ، وَأَصلِحْ لي شَأني كُلَّهُ ، وَلا تَكِلْني إِلى نَفسِي طَرفَةَ عَينٍ أَبَدًا "
إِذَا عُلِمَ هَذَا وَتُيُقِّنَ مِنهُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّ ممَّا يَجِبُ عَلَى أَهلِ العِلمِ مُعَلِّمِينَ وَطُلاَّبًا ، أَن يَطلُبُوا التَّوفِيقَ وَالنَّجَاحَ مِن مَالِكِهِ ـ سُبحَانَهُ ـ وَأَن يَبذُلُوا لِذَلِكَ أَسبَابَهُ وَيَسلُكُوا سُبُلَهُ ، فَإِنَّ تَوفِيقَ اللهِ لِلعَبدِ لا يَكُونُ مَعَ القُعُودِ وَالكَسَلِ وَالاستِسلامِ لِلأَوهَامِ ، وَلَكِنَّهُ مُرتَبِطٌ بِأَسبَابٍ مَن أَتَى بها وَحَقَّقَهَا هُدِيَ وَكُفِيَ ، وَمِن خَيرِ ذَلِكَ مَا صَرَّحَ بِهِ نَبيُّ اللهِ شُعَيبٌ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ لِقَومِهِ كَمَا حَكَى اللهُ عَنهُ : " وَمَا تَوفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ " إِنَّهُمَا أَمرَانِ عَظِيمَانِ يَحصُلُ بهما التَّوفِيقُ ، التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ ، وَالإِنَابَةُ إِلَيهِ ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ ـ تَعَالى ـ وَمَلأَ الإِخلاصُ لَهُ قَلبَهُ ، وَعَلِمَ ـ سُبحَانَهُ ـ مِنهُ صِدقَ نِيَّتِهِ ، وَأَكثَرَ مِن دُعَاءِ رَبِّهِ وَاللُّجُوءِ إِلَيهِ ، وَعَمِلَ بما عَلِمَ قَدرَ طَاقَتِهِ ، وَكَانَ رَجَّاعًا إِلى اللهِ غَيرَ مُصِرٍّ عَلَى خَطَئِهِ وَذَنبِهِ ، فَقَد أَخَذَ بِمَجَامِعِ الأَسبَابِ المُوصِلَةِ إِلى التَّوفِيقِ .
إِنَّ مِنَ النَّاسِ اليَومَ مُعَلِّمِينَ وَطُلاَّبًا ، مَن بَعُدُوا عَن هَذِهِ الأَسبَابِ ، وَأَخَذَت بهم بُنَيَّاتُ الطَّرِيقِ عَنِ التَّحقِيقِ ، وَبَعُدُوا عَنِ الطَّرِيقِ المُستَقِيمِ ، وَمِن ثَمَّ لم يُوَفَّقُوا وَلم يُسَدَّدُوا ، وَلم يَنَالُوا في حَيَاتِهِم نَجَاحًا وَلا فَلاحًا ، فَمَعَ نَفَاسَةِ العِلمِ الَّذِي هُم بِصَدَدِ تَعَلُّمِهِ وَتَعلِيمِهِ وَالعَمَلِ بِهِ ، فَقَد خَالَفَ أَقوَامٌ الهَدَفَ الأَسمَى وَتَرَكُوا الغَايَةَ العُظمَى ، وَبَدَلاً مِن أَن يَتَعَلَّمُوا لِيَعمَلُوا وَيُعَلِّمُوا ، وَيَتَأَدَّبُوا في حَيَاتِهِم وَتَرقَى مُعَامَلاتُهُم ، وَيُؤَدِّبُوا غَيرَهُم وَيَكُونُوا قُدوةً لهم في الخَيرِ ، جَعَلُوا مِنَ العِلمِ سُلَّمًا لِنَيلِ مَآرِبَ دُنيَوِيَّةٍ دَنِيئَةٍ ، وَقَصَدُوا بِهِ نَيلَ أَعلَى الشَّهَادَاتِ وَأَفخَمِ الأَوسِمَةِ ، وَتَحصِيلَ الوَظَائِفِ وَالتَّوَشُّحَ بِالجَاهِ عِندَ النَّاسِ ، فَسَقَطُوا لِذَلِكَ وَلم يَرتَفِعُوا ، وَآخَرُونَ لم يُقَرِّبْهُم عِلمُهُم مِنَ اللهِ ، بَل مَا زَالُوا إِلى إِطفَاءِ نُورِهِ بِالمَعَصِيَةِ سَاعِينَ ، وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حَيثُ قَالَ :
وَلم أَقضِ حَقَّ العِلمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا *** طَمَعٌ صَيَّرتُهُ لِيَ سُلَّمَا
وَلم أَبتَذِلْ في خِدمَةِ العِلمِ مُهجَتي *** لأَخدِمَ مَن لاقَيتُ لَكِنْ لأُخدَمَا
أَأَشقَى بِهِ غَرسًا وَأَجنِيهِ ذِلَّةً *** إِذًا فَاتِّبَاعُ الجَهلِ قَد كَانَ أَحزَمَا
وَلَو أَنَّ أَهلَ العِلمِ صَانُوهُ صَانَهُم *** وَلَو عَظَّمُوهُ في النُّفُوسِ لِعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَذَّلُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا *** مُحَيَّاهُ بِالأَطمَاعِ حَتى تَجَهَّمَا
وَمَا كَانَ أَعقَلَ الشَّافِعِيَّ إِذَ يَقُولُ :
شَكُوتُ إِلى وَكِيعٍ سُوءَ حِفظِي *** فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعَاصِي
وَقَالَ اعلَمْ بِأَنَّ العِلمَ نُورٌ *** وَنُورُ اللهِ لا يُؤتَاهُ عَاصِي
وَقَد جَاءَ في ذِكرِ أَوَّلِ النَّاسِ يُقضَى لهم يَومَ القِيَامَةِ " وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ القُرآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ : فَمَا عَمِلتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمتُ العِلمَ وَعَلَّمتُهُ ، وَقَرَأتُ فِيكَ القُرآنَ ، قَالَ : كَذَبتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمتَ العِلمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ ، وَقَرَأتَ القُرآنَ لِيُقَالَ قَارِئٌ ، فَقَد قِيلَ ، ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجهِهِ حَتى أُلقِيَ في النَّارِ " رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " لا تَعَلَّمُوا العِلمَ لِتُبَاهُوا بِهِ العُلَمَاءَ ، أَو لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ ، أَو لِتَصرِفُوا بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيكُم ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ في النَّارِ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
أَلا فَلْيَتَّقِ اللهَ أَهلَ العِلمِ مُعَلِّمِينَ وَطُلاَّبًا ، وَلْيَطلُبُوهُ لِوَجهِ اللهِ ، وَلْيَكُنِ المُعَلِّمُونَ قُدوَةً لِطُلاَّبِهِم في تَطبِيقِ مَا يَقُولُونَ ، وَلْيُروهُم مِن أَنفُسِهِم صُورَةً صَادِقَةً لما يَجِبُ أَن يَكُونَ عَلَيهِ صَاحِبُ العِلمِ ، مِن إِتبَاعِ القَولِ بِالعَمَلِ ، وَالرُّقِيِّ في الأَخذِ وَالعَطَاءِ ، وَاللِّينِ في التَّعَامُلِ وَالبُعدِ عَنِ الجَفَاءِ ، وَالصَّبرِ عَلَى الشَّدَائِدِ وَالَّلأوَاءِ ، وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِن أَن يَكُونَ العِلمُ في جَانِبٍ وَالعَمَلُ في جَانِبٍ ، فَإِنَّ هَذَا مِن أَشَدِّ المَقتِ لِلنَّفُوسِ وَتَضيِيعِ طَرِيقِ التَّوفِيقِ ، وَهُوَ في الوَقتِ نَفسِهِ سَفَهٌ في الرَّأيِ وَضَعفٌ في العَقلِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفعَلُونَ . كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفعَلُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ عَن بَني إِسرَائِيلَ : " أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعقِلُونَ "
وَقَالَ بَعضُهُم :
تَلُومُ المَرءَ عَلَى فِعلِهِ *** وَأَنتَ مَنسُوبٌ إِلى مِثلِهِ
مَن ذَمَّ شَيئًا وَأَتَى مِثلَهُ *** فَإِنَّمَا يُزرِي عَلَى عَقلِهِ
إِنَّهَا لَخَسَارَةٌ عَلَى المُعَلِّمِ أَوِ المُتَعَلِّمِ أَن يَكُونَ حَسَنَ القَولِ سَيِّئَ الفِعلِ ، كَبِيرًا في شَهَادَتِهِ صَغِيرًا في عِبَادَتِهِ ، يَصِفُ لِلآخَرِينَ الدَّوَاءَ وَهُوَ وَاقِعٌ في الدَّاءِ ، وَصَدَقَ القَائِلُ :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ *** هَلاَّ لِنَفسِكَ كَانَ ذَا التَّعلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السَّقَامِ وَذِي الضَّنى *** كَيمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنتَ سَقِيمُ
وَنَرَاكَ تُصلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا *** أَبَدًا وَأَنتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
فَابدَأْ بِنَفسِكَ فَانهَهَا عَن غَيِّهَا *** فَإِذَا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقبَلُ مَا تَقُولُ وَيُهتَدَى *** بِالقَولِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَّعلِيمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ *** عَارٌ عَلَيكَ إِذَا فَعَلتَ عَظِيمُ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ ، وَقَلبٍ لا يَخشَعُ ، وَنَفسٍ لا تَشبَعُ ، وَدُعَاءٍ لا يُسمَعُ .
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ كَمَا لا تَنفَعُ الأَموَالُ إِلاَّ بِإِنفَاقِهَا ، فَإِنَّ العُلُومَ لا تَنفَعُ إِلاَّ مَن عَمِلَ بها وَرَاعَى وَاجِبَاتِهَا وَمُقتَضَيَاتِه َا ، وَقَد جَاءَ عَن أَبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ بَإِسنَادٍ لا بَأسَ بِهِ أَنَّهُ قَالَ : " مَثَلُ عِلمٍ لا يُعمَلُ بِهِ كَمَثَلِ كَنزٍ لا يُنفَقُ مِنهُ في سَبِيلِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ "
وَإِنَّ كُلَّ صَاحِبِ عِلمٍ مَسؤُولٌ عَنهُ يَومَ القِيَامَةِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تَزُولُ قَدَمَا عَبدٍ حَتى يُسأَلَ عَن أَربَعٍ : عَن عُمُرِهِ فِيمَ أَفنَاهُ ؟ وَعَن عِلمِهِ مَا فَعَلَ فِيهِ ؟ وَعَن مَالِهِ مِن أَينَ اكتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنفَقَهُ ؟ وَعَن جِسمِهِ فِيمَ أَبلاهُ ؟ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
إِنَّنَا في زَمَنٍ لا نَشكُو قِلَّةً في العِلمِ وَلا غِيَابًا لِلعُلَمَاءِ ، وَلا ضَعفًا في الثَّقَافَةِ وَلا نُدرَةً في مَصَادِرِ المَعرِفَةِ ، وَإِنَّمَا شَكوَانَا وَبَلوَانَا ، وَالَّتي أُتِينَا مِن قِبَلِهَا وَقَلَّ صَلاحُنَا ، إِنَّمَا هِيَ في مُخَالَفَةِ العَمَلِ لِلقَولِ ، وَقِلَّةِ القُدوَةِ الحَسَنَةِ ، وَصَدَقَ مَن قَالَ :
لم نُؤتَ مِن جَهلٍ وَلَكِنَّنَا *** نَستُرُ وَجهَ العِلمِ بِالجَهلِ
نَكرَهُ أَن نَلحَنَ في قَولِنَا *** وَلا نُبَالي اللَّحنَ في الفِعلِ
وَمَا أَصدَقَ مَا قَرَّرَهُ بَعضُ الحُكَمَاءِ حَيثُ قَالَ : لَن يَبلُغَ أَلفُ رَجُلٍ في إِصلاحِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِحُسنِ القَولِ دُونَ حُسنِ الفِعلِ ، مَا يَبلُغُ رَجُلٌ وَاحِدٌ في إِصلاحِ أَلفِ رَجُلٍ بِحُسنِ الفِعلِ دُونَ القَولِ ...
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَاحرِصُوا عَلَى العَمَلِ بما تَعلَمُونَ ، وَحَذَارِ حَذَارِ مِن ظُلمِ النُّفُوسِ بِتَحمِيلِهَا عِلمًا لا تَعمَلُ بِهِ ، فَإِنَّ اللهَ قَد ذَمَّ بهذا اليَهُودَ وَشَبَّهَهُم بِأَغبى الحَيَوانِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّورَاةَ ثُمَّ لم يَحمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحمِلُ أَسفَارًا بِئسَ مَثَلُ القَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ "

ناصرعبدالرحمن 06-09-2012 11:34 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 
الخطبة الأولى :


أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ "


أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن رَحمَةِ اللهِ بِنَا وَفَضلِهِ عَلَينَا ، أَن جَعَلَنَا مُسلِمِينَ ، وَأَلحَقَنَا بِأُمَّةِ خَيرِ المُرسَلِينَ " هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ مِن قَبلُ وَفي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " الإِسلامُ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ هُوَ صِبغَةُ اللهِ لَنَا ، وَهُوَ الشَّرَفُ الَّذِي نَتَدَثَّرُ بِهِ وَنَحمِلُهُ ، وَالتَّاجُ الَّذِي نَفتَخِرُ بِهِ وَنَتَبَاهَى ، فَلا وَطَنِيَّةَ وَلا حِزبِيَّةَ ، وَلا عَصَبِيَّةَ وَلا قَبَلِيَّةَ ، وَلا انتِمَاءَ لِجَمَاعَةٍ وَلا مَذهَبٍ غَيرَ جَمَاعَةِ المُسلِمِينَ وَمَذهَبِهِم " إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم "
وَالإِسلامُ هُوَ الاستِسلامُ للهِ بِالتَّوحِيدِ ، وَالانقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ ، وَالخُلُوصُ مِنَ الشِّركِ . يَكُونُ الإِنسَانُ مِن أَهلِهِ وَالمُنتَسِبِين َ إِلَيهِ بِمُجَرَّدِ النُّطقِ بِشَهَادَةِ الحَقِّ ، وَمِن ثَمَّ يَعصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يَشهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَنَّ مُحمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاَّ بِحَقِّ الإِسلامِ ، وَحِسَابُهُم عَلَى اللهِ ـ تَعَالى ـ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَالإِسلامُ الحَقِيقِيُّ الَّذِي يَجِبُ أَن يَحيَا عَلَيهِ المُسلِمُونَ وَيَتَمَسَّكُوا بِهِ ولا يَمُوتُوا إِلاَّ عَلَيهِ ، لَهُ سِمَةٌ عَظِيمَةٌ لا بُدَّ أَن تَنطَوِيَ عَلَيهَا القُلُوبُ ، وَشَاهِدٌ وَاضِحٌ لا بُدَّ أَن تَرَاهُ الأَعيُنُ وَيُلمَسَ في الوَاقِعِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " بَلَى مَن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ فَلَهُ أَجرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَمَن أَحسَنُ دِينًا مِمَّن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبرَاهِيمَ خَلِيلاً " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَمَن يُسلِمْ وَجهَهُ إِلى اللهِ وَهُوَ مُحسِنٌ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى وَإِلى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ "
إِنَّ نُطقَ اللِّسَانِ بِالشَّهَادَتَي نِ وَالإِقرَارَ بهما ، يَجِبُ أَن يَتبَعَهُ إِسلامُ الوَجهِ للهِ وَإِحسَانُ العَمَلِ ، وَإِسلامُ الوَجهِ للهِ يَعني الاستِسلامَ المُطلَقَ وَالتَّسلِيمَ التَّامَّ ، استِسلامًا مَعنَوِيًّا وَعَمَلِيًّا ، وَتَسلِيمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، فَلا مَعبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ اللهُ ، وَلا حُكمَ إِلاَّ للهِ " قُلْ إِنِّي أُمِرتُ أَنْ أَعبُدَ اللهَ مُخلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيتُ رَبِّي عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ . قُلِ اللهَ أَعبُدُ مُخلِصًا لَهُ دِيني . فَاعبُدُوا مَا شِئتُم مِن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ "
وَمَعَ هَذَا فَلا بُدَّ مِنَ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ عَلَى ذَاكَ الاستِسلامِ البَاطِنِ وَالإِخلاصِ الخَفِيِّ ، وَذَلِكُمُ الدَّلِيلُ المُعلَنُ هُوَ إِحسَانُ العَمَلِ ، بِاتِّبَاعِ الأَوَامِرِ وَتَركِ النَّواهِي .
وَالإِسلامُ بهذَا وِحدَةٌ بَينَ الشُّعُورِ الدَّاخِلِيِّ وَالسُّلُوكِ الخَارِجِيِّ , وَامتِزَاجٌ بَينَ عَقِيدَةِ القَلبِ وَعَمَلِ الجَوَارِحِ , إِنَّهُ إِيمَانٌ قَلبِيٌّ وَإِحسَانٌ عَمَلِيٌّ ، إِنَّهُ مَنهَجٌ لِلحَيَاةِ الإِنسَانِيَّةِ كُلِّهَا في كُلِّ عَصرٍ وَمِصرٍ ، بِهِ تَتَوَحَّدُ الشَّخصِيَّةُ الإِنسَانِيَّةُ بِكُلِّ نَشَاطِهَا وَاتِّجَاهَاتِه َا ، وَبِه تَسمُو جَمِيعُ غَايَاتِهَا وَتَتَهَذَّبُ كُلُّ شَهَوَاتِهَا ، فَتَستَحِقُّ عَظِيمَ الأَجرِ مِن عِندِ رَبِّهَا ، وَيَذهَبُ عَنهَا كُلُّ خَوفٍ وَلا يُسَاوِرُهَا أَيُّ حَزَنٍ ، وَمِن ثَمَّ كَانَ الإِسلامُ هُوَ دِينَ جَمِيعِ الأَنبِيَاءِ ، وَمَنهَجَ مَن تَبِعَهُم مِنَ الأَولِيَاءِ وَالأَتقِيَاءِ ، وَالآيَاتُ في كِتَابِ اللهِ تَشهَدُ بِذَلِكَ وَتُقَرِّرُهُ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ عَن نُوحٍ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " فَإِنْ تَوَلَّيتُم فَمَا سَأَلتُكُم مِن أَجرٍ إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسلِمِينَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ عَن إِبرَاهِيمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " مَا كَانَ إِبرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسلِمًا "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ عَنهُ : " إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسلِمْ قَالَ أَسلَمتُ لِرَبِّ العَالمِينَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ عَنهُ وَعَن إِسمَاعِيلَ ـ عَلَيهِمَا السَّلامُ ـ : " وَإِذْ يَرفَعُ إِبرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيتِ وَإِسمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجعَلْنَا مُسلِمَينِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَينَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
وَقَالَ عَن مُوسَى ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " وَقَالَ مُوسَى يَا قَومِ إِنْ كُنتُم آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُم مُسلِمِينَ "
وَقَالَ عَن عِيسَى وَالحَوَارِيِّي نَ : " وَإِذْ أَوحَيتُ إِلى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بي وَبِرَسُولي قَالُوا آمَنَّا وَاشهَدْ بِأَنَّنَا مُسلِمُونَ "
وَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّا أَنزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحكُمُ بها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيّ ُونَ وَالأَحبَارُ بما استُحفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ "
وَقَالَ عَن سُلَيمَانَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " فَلَمَّا جَاءَت قِيلَ أَهَكَذَا عَرشُكِ قَالَت كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلمَ مِن قَبلِهَا وَكُنَّا مُسلِمِينَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ عَن يُوسُفَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ : " رَبِّ قَد آتَيتَني مِنَ المُلكِ وَعَلَّمتَني مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ أَنتَ وَلِيِّي في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّني مُسلِمًا وَأَلحِقني بِالصَّالِحِينَ "
بَل حَتى فِرعَونُ الَّذِي دُعِيَ إِلى الإِسلامِ فَأَبى وَاستَكبَرَ ، لَمَّا أَدرَكَهُ الغَرَقُ " قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسلِمِينَ "
إِنَّهُ الإِسلامُ ، دِينُ كُلِّ شَيءٍ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ " أَفَغَيرَ دِينِ اللهِ يَبغُونَ وَلَهُ أَسلَمَ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ طَوعًا وَكَرهًا وَإِلَيهِ يُرجَعُونَ "
نَعَم ، إِنَّ الإِسلامَ دِينُ كُلِّ شَيءٍ ، وَاللهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ ، وَمِن ثَمَّ فَلا غَرَابَةَ أَن يُسلِمَ كُلُّ شَيءٍ لِمَن أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ ، وَأَن يَقِفَ كُلُّ شَيءٍ في وَجهِ مَن أَعرَضَ عَنِ اللهِ ، وَأَن يَدخُلَ النَّقصُ عَلَى كُلِّ مَنِ انتَقصَ مِن إِسلامِهِ شَيئًا بِحَسَبِهِ ، وَلَذَا فَقَد أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالإِسلامِ بِعَامَّةٍ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ "
وَلَمَّا كَانَ أَهلُ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ في القِمَّةِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِإِسلامِهِم ، إِذْ ذَاكَ خَضَعَ لَهُم كُلُّ شَيءٍ ، وَخَافَ مِنهُم كُلُّ شَيءٍ ، وَلم يَقِفْ في وُجُوهِهِم أَيُّ شَيءٍ ، وَلم يَزَلِ النَّقصُ يَدخُلُ عَلَى الأُمَّةِ بِنَقصِهَا مِن تَمَسُّكِهَا بِدِينِهَا وَانصِرَافِهَا إِلى دُنيَاهَا ، حَتى إِذَا فَرَّطَت كَثِيرًا في إِسلامِهَا ، عَادَت مِنَ الضَّعفِ بِمَكَانٍ لا يَرَاهَا مَن حَولَهَا شَيئًا وَلا يَعتَدُّونَ بها ، وَصَدَقَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ حَيثُ قَالَ : " يُوشِكُ الأُمَمُ أَن تَدَاعَى عَلَيكُم كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلى قَصعَتِهَا " فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِن قِلَّةٍ نَحنُ يَومَئِذٍ ؟ قَالَ : " بَل أَنتُم يَومَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُم غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيلِ ، وَلَيَنزِعَنَّ اللهُ مِن صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنكُم ، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ في قُلُوبِكُمُ الوَهْنَ " فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا الوَهْنُ ؟ قَالَ : " حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ، فَإِنَّ اللهَ لم يَجعَلِ المُسلِمِينَ كَالمُجرِمِينَ .
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا وَمَا أُنزِلَ إِلى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَالأَسبَاطِ وَمَا أُوتيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتيَ النَّبِيُّونَ مِن رَبِّهِم لاَ نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنهُم وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ "




الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَأَسلِمُوا الوُجُوهَ إِلَيهِ وَلا تَكفُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ قُوَّةَ المُسلِمِينَ وَغَلَبَتَهُم وَانتِصَارَهُم عَلَى كُلِّ عَدُوٍّ لَهُم بَعُدَ أَو قَرُبَ ، إِنَّمَا هُوَ بِقَدرِ مَا يَكُونُ في قُلُوبِهِم مِنِ استِسلامٍ لِرَبِّهِم وَانقِيَادٍ لَهُ ، وَصَرفٍ لِلعِبَادَةِ إِلَيهِ وَتَوَجُّهٍ بِالوُجُوهِ إِلَيهِ ، وَعَدَمِ التِفَاتٍ عَنِ صِرَاطِهِ المُستَقِيمِ يَمنَةً أَو يَسرَةً ، نُزُوعًا إِلى رَغبَةِ نَفسٍ أَو انجِذَابًا لِهَوًى ، أَو نُزُولاً عِندَ رَأيِ قَبِيلَةٍ أَو مُسَايَرَةً لِعَشِيرَةٍ ، أَو تَعَلُّقًا بِشَخصٍ أَو تَعَصُّبًا لِمَنهَجٍ ، أَو خَوفًا مِن دَولَةٍ أَو هَيبَةً لِسُلطَانٍ ، وَقَد أُمِرَ المُسلِمُونَ أَن يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً ، مُعتَصِمِينَ بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا ، غَيرَ مُتَفَرِّقِينَ وَلا مُختَلِفِينَ ، وَوُعِدُوا إِذْ ذَاكَ أَن تَكُونَ لَهُمُ القُوَّةُ ، وَتَتَنَزَّلَ عَلَيهِم مِنَ اللهِ الرَّحمَةُ ، وَأَن تَمتَلِئَ صُدُورُ أَعدَائِهِم بِالرُّعبِ مِنهُم وَالهَيبَةِ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدخِلُهُم في رَحمَةٍ مِنهُ وَفَضلٍ وَيَهدِيهِم إِلَيهِ صِرَاطًا مُستَقِيمًا "
وَأَمَّا حِينَ تَتَجَاذَبُ الأُمَّةَ فِتَنُ الأَهوَاءِ ، وَتَتَنَازَعُهُ م شُعَبُ الآرَاءِ ، فَمَا أَضعَفَهُم حِينَهَا أَمَامَ الأَعدَاءِ ! قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ "
بَل إِنَّهُم حِينَئِذٍ إِنَّمَا يَسعَونَ في طَرِيقِ الشَّقَاءِ وَالعَذَابِ ، قَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ "

إِنَّهُ لَظُلمٌ كَبِيرٌ أَن يَتَحَوَّلَ بَعضُ المُسلِمِينَ وَخَاصَّةً مِن أَهلِ العِلمِ وَالدَّعوَةِ وَالمُثَقَّفِين َ ، عَن سِعَةِ الإِسلامِ وَرَحَابَتِهِ ، وَيَدخُلُوا في مَضَايِقَ مُظلِمَةٍ مِنَ التَّحَزُّبِ ، وَالانتِمَاءِ لِبَلَدٍ أَو عُنصُرٍ أَو مَذهَبٍ ، أَو مُؤَسَّسَةٍ أَو دَائِرَةٍ أَو مَكتَبٍ ، وَيَا للهِ ! كَم يُمنَى العَمَلُ الإِسلامِيُّ بِعَامَّةٍ ، وَبَعضُ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالرُّؤَسَاءِ بِخَاصَّةٍ ، بِمَن يَفُتُّ في عَضُدِهِم مِن إِخوَانِهِم ، الَّذِينَ بَدَلاً مِن أَن يَنصُرُوهُم وَيَكُونُوا مَعَهُم في خَندَقٍ وَاحِدٍ ، مُتَسَلِّحِينَ بِسَعَةِ الأُفُقِ وَمُرَاعَاةِ المَصَالِحِ العَامَّةِ ، صَارُوا لا يَحمِلُونَ إِلاَّ هَمَّ أَنفُسِهِم وَمَصَالِحِهِمُ الخَاصَّةِ ، وَالأَحدَاثُ الَّتي تَمُرُّ بها أُمَّةُ الإِسلامِ عَلَى مُستَوَى حُكُومَاتِهَا ، وَالأَنشِطَةُ الَّتي يَتَوَلاَّهَا أَفرَادُهَا وَمُؤَسَّسَاتُه َا ، خَيرُ شَاهِدٍ عَلَى هَذَا الظُّلمِ " وَمَن أَظلَمُ مِمَّنِ افتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدعَى إِلى الإِسلامِ وَاللهُ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ . يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أُمَّةَ الإِسلامِ ـ وَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً وَصَفًّا وَاحِدًا " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرصُوصٌ " قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَقَالَ : " المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ، وَلا يَخذُلُهُ ، وَلا يَحقِرُهُ ، التَّقوَى هَاهُنَا ـ وَيُشِيرُ إِلى صَدرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ـ بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمِ . كُلُّ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَامٌ . دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .

ناصرعبدالرحمن 05-10-2012 11:49 PM

رد: خطب الشيخ عبدالله البصري
 

القناعة أربح بضاعة 19 / 11 / 1433



الخطبة الأولى :

أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرجًا . وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا "

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَقدِيرُ النِّعَمِ أَوِ ازدِرَاؤُهَا ، سَبَبٌ لِلقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ، أَو سَبِيلٌ إِلى الطَّمَعِ وَالجَشَعِ ، وَمَرَدُّ ذَلِكَ في الغَالِبِ هُوَ نَظرُ الإِنسَانِ إِلى مَن حَولَهُ ، فَإِنْ هُوَ مَدَّ عَينَيهِ إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ أَقوَامٌ مِن زَهرَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا ، وَتَشَوَّفَ إِلى مَا يَملِكُهُ الأَغنِيَاءُ وَالكُبَرَاءُ وَالمُترَفُونَ ، أَدَّى بِهِ ذَلِكَ إِلى ازدِرَاءِ مَا عِندَهُ مِن نِعَمِ اللهِ الكَثِيرَةِ ، فَجَعَلَ يَتَطَلَّعُ إِلى مَا لا يُطِيقُ ، وَجَعَلَت نَفسُهُ تَتَلَهَّفُ عَلَى مَا لا يُحَصِّلُ ، وَأَمَّا إِنْ رَزَقَهُ اللهُ التَّبَصُّرَ وَالتَّأَمُّلَ في الأَكثَرِينَ ، وَعَلِمَ بِأَنَّهُم أَقَلُّ مِنهُ في الدُّنيَا حَظًّا وَأَضيَقُ رِزقًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَيُورِثُهُ تَقدِيرَ مَا أَنعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيهِ ، وَالكَفَّ عَمَّا لَيسَ في يَدَيهِ ، وَالالتِفَاتَ إِلى مَا يُصلِحُ شَأنَهُ في أُخرَاهُ ، لِعِلمِهِ أَنَّهُ لَن يَكُونَ إِلاَّ مَا قَدَّرَ اللهُ ، وَلَن يَنَالَ أَحَدٌ غَيرَ مَا قُسِمَ لَهُ ، وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم ، وَلَا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم ، فَإِنَّهُ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ "
إِنَّهَا وَصِيَّةٌ نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ ، وَتَوجِيهٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ ، لَوِ اتَّخَذَهُ المُسلِمُ مَنهَجًا لَهُ في هَذَا الجَانِبِ المُهِمِّ مِن حَيَاتِهِ ، لَرُزِقَ شُكرَ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِ بِالاعتِرَافِ بها ، وَلَتَحَدَّثَ بها وَلَو بَينَهُ وَبَينَ نَفسِهِ ، وَلَرُزِقَ الاستِعَانَةَ بها عَلَى طَاعَةِ الخَالِقِ المُنعِمِ ـ سُبحَانَهُ ـ وَلَسَلِمَ مِن كَثِيرٍ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ غَيرُهُ مِن دُيُونٍ ، أَو مَا يَتَعَدَّونَ عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ ، أَو مَا يَتَّصِفُونَ بِهِ مِن سَيِّئِ خُلُقٍ وَلَئِيمِ طَبعٍ ، وَهِي السَّيِّئَاتُ الَّتي يَدفَعُ الكَثِيرِينَ إِلَيهَا أَو إِلى بَعضِهَا ، نَظَرُهُم بِتَلَهُّفٍ إِلى مَن هُوَ فَوقَهُم ، وَتَغَافُلُهُم عَمَّن هُوَ أَسفَلَ مِنهُم .
إِنَّ القُلُوبَ لَتَمرَضُ وَإِنَّ النُّفُوسَ لَتَسقَمُ ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيُبتَلَى بِالهَمِّ وَالغَمِّ ، مِن دَوَامِ النَّظَرِ إِلى مَن هُوَ أَكثَرُ مِنهُ في الدُّنيَا حَظًّا ، وَنِسيَانِ مَن هُوَ أَقَلُّ مِنهُ عَطَاءً وَنَصِيبًا ، وَلِهَذَا فَإِنَّ أَعظَمَ دَوَاءٍ لِتِلكَ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ وَالنُّفُوسِ الخَوَّارَةِ ، أَن يَلحَظَ أَصحَابُهَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ أَنَّهُم لَيسُوا الأَقَلَّ مِن غَيرِهِم نَصِيبًا وَلا الأَسوَأَ حَظًّا ، بَل ثَمَّةَ مَن هُوَ دُونَهُم في عَقلِهِ أَو مَالِهِ ، وَهُنَاكَ مَن هُوَ أَوضَعُ نَسَبًا وَأَقَلُّ شَرَفًا ، وَمَن هُوَ أَدنى جَاهًا أَو عِلمًا ، وَالدُّنيَا مَلِيئَةٌ بِالمُبتَلَينَ بِأَصنَافِ البَلاءِ في أَجسَادِهِم أَو دِينِهِم أَو خَلقِهِم أَو خُلُقِهِم ، في حِينِ أَنَّ آخَرِينَ يُوَازِنُونَ أَنفُسَهُم بِالأَغنِيَاءِ وَأَهلِ الجَاهِ ، فَيَزدَادُونَ غَمًّا وَهَمًّا ، وَلَو وَازَنُوهَا بِالفُقَرَاءِ وَالمَحرُومِينَ ، لَمَا وَسِعَتهُمُ الدُّنيَا مِنَ الفَرَحِ ، وَلَطَفَحَ بِهِمُ السُّرُورُ ، وَلأَكثَرُوا مِن شُكرِ رَبِّهِم وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ وَحَمدِهِ ، فَعُوفُوا وَسَلِمُوا مِنَ البَلاءِ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، قَد يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّ في هَذَا الحَدِيثِ تَحطِيمًا لِلطُّمُوحِ وَتَقيِيدًا لِلتَّفكِيرِ ، وَقَتلاً لِرُوحِ التَّنَافُسِ الشَّرِيفِ ، وَمَنعًا لِلنَّاسِ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالازدِيَادِ مِنَ الخَيرِ ، وَلَيسَ الأَمرُ كَذَلِكَ ، وَمَا كَانَ الإِسلامُ لِيَأمُرَ أَتبَاعَهُ بِهَذَا وَلا يُقِرُّهُم عَلَيهِ ، إِذْ مَا هُوَ بِدِينِ رَهبَنَةٍ وَلا تَبَتُّلٍ تَامٍّ ، وَلا انقِطَاعٍ عَمَّا يَقُوتُ الإِنسَانَ وَيُقِيمُ أَوَدَهُ ، وَلا انصِرَافٍ عَمَّا يَضمَنُ لَهُ الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ وَالعِيشَةَ النَّقِيَّةَ ، وَلَكِنَّ المَقصُوَدَ أَن يَتَّصِفَ المُسلِمُ بِالقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ؛ لِيَهنَأَ بِحَيَاتِهِ وَيَصفُوَ لَهُ عَيشُهُ ، وَلا يَكُونَ كَحَالِ مَن شَغَلُوا أَنفُسَهُم بِمُطَارَدَةِ الآخَرِينَ وَالنَّظَرِ إِلى مَا أُوتُوا ، ظَانِّينَ أَنَّهُم بِذَلِكَ يَدفَعُونَ أَنفُسَهُم لِلصُّعُودِ في مَرَاقي السَّعَادَةِ ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ مَن كَانَ هَذَا شَأنَهُ ، يَنظُرُ فِيمَا عِندَ فُلانٍ وَيَطمَعُ أَن يَكُونَ مِثلَ فُلانٍ ، وَيَتَطَلَّعُ إِلى مِثلِ مَالِ هَذَا ولا يَقنَعُ بِغَيرِ جَاهِ ذَاكَ ، فَلَن يُحَصِّلَ السَّعَادَةَ أَبَدًا ؛ لأَنَّ مَعنى ذَلِكَ أَنَّهُ لَن يَسعَدَ إِلاَّ إِذَا أَصبَحَ أَعلَى النَّاسِ في كُلِّ شَيءٍ ، وَهَذَا مِن أَبعَدِ المُحَالِ ؛ وَقَدِ اقتَضَت الحِكمَةُ الرَّبَّانِيَّة ُ في هَذَا الكَونِ ، أَنَّ مَن كَمُلَت لَهُ أَشيَاءُ قَصُرَت عَنهُ أَشيَاءُ ، وَمَن عَلا بِأُمُورٍ سَفُلَت بِهِ أُمُورٌ ، وَيَأبى اللهُ ـ تَعَالى ـ الكَمَالَ المُطلَقَ لأَحَدٍ مِن خَلقِهِ كَائِنًا مَن كَانَ ؛ وَمِن ثَمَّ كَانَتِ القَنَاعَةُ وَالرِّضَا مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعظَمِ المِنَحِ الَّتي يُغبَطُ عَلَيهَا صَاحِبُهَا ، بَل هِيَ الفَلاحُ وَالنَّجَاةُ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ .
وَإِذَا كَانَ بَعضُ السَّلَفِ قَد جَعَلَ أَعلَى مَنَازِلِ القَنَاعَةِ أَن يَقتَنِعَ المُسلِمُ بِالبُلغَةِ مِن دُنيَاهُ ، وَيَصرِفَ نَفسَهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا سِوَاهُ ، ثم جَعَلَ أَوسَطَ حَالِ المُقتَنِعِ أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الكِفَايَةِ ، وَيَحذِفَ الفُضُولَ وَالزِّيَادَةَ ، ثم جَعَلَ أَدنى مَنَازِلِهَا أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الوُقُوفِ عَلَى مَا سَنَحَ ، فَلا يَكرَهُ مَا أَتَاهُ وَإِن كَانَ كَثِيرًا ، وَلا يَطلُبُ مَا تَعَذَّرَ وَإِن كَانَ يَسِيرًا . فَإِنَّنَا نَقُولُ لِلنَّاسِ : إِن لم تَتَّصِفُوا بِأَعلَى القَنَاعَةِ وَهُوَ الزُّهدُ في الدُّنيَا وَالتَّقَلُّلُ مِنهَا ، فَكُونُوا مِن أَهلِ الكِفَايَةِ تَرتَاحُوا وَتَسلَمُوا ، وَإِلاَّ فَمَا لَكُم عَنِ المَرتَبَةِ الثَّالِثَةِ ، الَّتي تُنَمُّونَ فِيهَا أَموَالَكُم وَتِجَارَاتِكُم ، وَتَضرِبُون في الأَرضِ طَلَبًا لِرِزقِ رَبِّكُم ، وَتَمشُونَ في مَنَاكِبِهَا سَعيًا فِيمَا يُصلِحُ شَأنَكُم ، وَلَكِنْ بِلا تَجَاوُزٍ لِحُدُودِ اللهِ ، وَلا تَخَوُّضٍ في مَالِ اللهِ ، وَلا تَحَاسُدٍ وَلا تَنَافُسٍ وَلا تَكَاثُرٍ ، وَلا تَسَخُّطٍ مِن مَرتَبَةٍ وَلا تَبَرُّمٍ مِن مِهنَةٍ ، وَلا اتِّصَافٍ بِالنِّفَاقِ وَإِذلالٍ لِلنُّفُوسِ لِغَيرِ اللهِ مِن أَجلِ مَنصِبٍ أَو جَاهٍ ، وَلا تَنَازُلٍ عَنِ المَبَادِئِ أَو تَميِيعٍ لِلثَّوَابِتِ رَغبَةً في المَالِ ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يُقَرُّ ، قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى . وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لَا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَا كَانَتِ القَنَاعَةُ لِتَمنَعَ مِن مُلكِ مَالٍ وَلو كَانَ وَفِيرًا ، وَلا مِن تَحصِيلِ جَاهٍ وَلَو كَانَ عَرِيضًا ، وَلَكِنَّهَا تَأبى أَن يَلِجَ حُبُّ الدُّنيَا قَلبَ المُسلِمِ فَيَملِكَ عَلَيهِ عَقلَهُ وَيَستَحوِذَ عَلَى تَفكِيرِهِ ، حَتى يَدفَعَهُ إِلى مَنعِ مَا عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ أَو تَعَدِّي مَا يَردَعُهُ مِن حُدُودٍ ، أَوِ إِلى أَن يَتَكَاسَلَ عَن طَاعَةٍ أَو يُفَرِّطَ في فَرِيضَةٍ ، أَو يَرتَكِبَ مُحَرَّمًا أَو يَستَسهِلَ مَكرُوهًا ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَالزَمُوا القَنَاعَةَ ، وَاتَّخِذُوهَا سِلاحًا وَاجعَلُوهَا لِلسَّعَادَةِ مِفتَاحًا ، واملَؤُوا بها قُلُوبَكُم تَرتَاحُوا ، وَيَحصُلْ لَكُمُ الأَمنُ وَالطُّمَأنِينَ ةُ في الدُّنيَا ، وَالفَوزَ وَالفَلاحَ في الأُخرَى ، " يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجزَى إِلَّا مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ "


الخطبة الثانية :


أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد ضَمِنَ اللهُ لَكُم أَرزَاقَكُم بِقُدرَتِهِ ، وَقَسَمَهَا بَينَكُم بِحِكَمَتِهِ ، وَلَن يَسُوقَ مَا لم يُقَدَّرْ مِنهَا حِرصُ حَرِيصٍ ، وَلَن يَرُدَّ مَا قُدِّرَ كَرَاهَةُ كَارِهٍ ، وَلَكِنَّ مَن قَنِعَ طَابَ عَيشُهُ ، وَمَن طَمِعَ طَالَ طَيشُهُ ، وَلا يَزَالُ الرَّجُلُ كَرِيمًا عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ ، يُحِبُّونَهُ وَيُكرِمُونَهُ وَيُجِلُّونَهُ ، مَا لم يَتَطَلَّعْ إِلى مَا في أَيدِيهِم وَيُنَافِسْهُم عَلَى مَا عِندَهُم ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ استَخَفُّوا بِهِ وَكَرِهُوهُ وَأَبغَضُوهُ ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ حَيثُ قَالَ : " مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم ، وَلَكِنْ أَخشَى أَن تُبسَطَ عَلَيكُمُ الدُّنيَا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " اِزهَدْ في الدُّنيَا يُحِبَّكَ اللهُ ، وَازهَدْ فِيمَا عِندَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ " رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .

أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ المُؤمِنَ القَانِعَ في نَعِيمٍ وَرَاحَةٍ ، إِن تَجَدَّدَت لَهُ نِعمَةٌ أَو رَبِحَ شَكَرَ ، وَإِن أُخِذَت مِنهُ أُخرَى أَو خَسِرَ صَبَرَ ؛ يَعلَمُ أَنَّهُ مَهمَا حَصَّلَ مِن زَهرَةِ الدُّنيَا ، فَإِنَّ ثَمَّةَ مَن هُوَ أَفضَلُ مِنهُ في شَيءٍ ، وَمَهمَا فَاتَهُ مِن حُطَامِهَا ، فَإِنَّ هُنَالِكَ مَن هُوَ أَقَلُّ مِنهُ في أَشيَاءٍ ؛ وَإِذَا كَانَ الفَقرُ قَد عَضَّهُ فَقَد أَكَلَ غَيرَهُ ، وَإِذَا كَانَتِ المِحَنُ قَد أَضعَفَتهُ فَقَد أَقعَدَت مَن سِوَاهُ ، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَإِذَا تَاقَت إِلى مَا عِندَ غَيرِكُم نُفُوسُكُم ، وَارتَفَعَت إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم رُؤُوسُكُم ، فَاخفِضُوهَا وَلَو مَرَّةً لِتُبصِرُوا مَن هُوَ تَحتَكُم ، وَتَطَامَنُوا لِتَعرِفُوا مَوَاقِعَ أَقدَامِكُم ، قَبلَ أَن تُفجَؤُوا بِانقِضَاءِ الأَجَلِ وَانقِطَاعِ الأَمَلِ ، فَيُسَوِّيَ المَوتُ بَينَ غَنِيِّكِم وَفَقِيرِكِم ، وَيُلحِقَ مَالِكَكُم بِأَجِيرِكِم ، ثم لا يُفَرِّقَ دُودُ الأَرضِ بَينَ صُعلُوكٍ مِنكُم وَلا أَمِيرٍ ، وَلا بَينَ كَبِيرٍ وَلا صَغِيرٍ ، وَ" أَكثِرُوا ذِكرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ المَوتَ ؛ فَإِنَّهُ لم يَذكُرْهُ أَحَدٌ في ضِيقٍ مِنَ العَيشِ إِلاَّ وَسَّعَهُ عَلَيهِ ، وَلا ذَكَرَهُ في سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهَا عَلَيهِ " وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ ، لِتَكُونُوا عَلَى ذِكرٍ مِمَّا رَوَاهُ مُسلِمٌ عَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا شَبِعَ آلُ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِن خُبزٍ وَشَعِيرٍ يَومَينِ مُتَتَابِعَينِ حَتى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ
وَرَوَى الشَّيخَانِ عَنهَا قَالَت : كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ مِن أَدَمٍ وَحَشوُهُ مِن لِيفٍ "
وَلا تَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنهُ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ كَانَ عَن قِلَّةٍ وَعَدَمٍ دَائِمَينِ ، لا وَاللهِ وَبِاللهِ وَتَاللهِ ، وَلَكِنْ لأَنَّهُ كَانَ أَزكَى النَّاسِ عَقلاً وَأَصلَحَهُم قَلبًا ، وَأَكمَلَهُم إِيمَانًا وَأَقوَاهُم يَقِينًا ، فَقَد صَارَ أَكثَرَهُم قَنَاعَةً بِالقَلِيلِ وَرِضًا بِاليَسِيرِ ، وَأَندَاهُم كَفًّا وَأَسخَاهُم نَفسًا ، حَتى كَانَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ يُفَرِّقُ المَالَ العَظِيمَ عَلَى طَالِبِيهِ وَيُعطِيهِ سَائِلِيهِ ، ثم يَبِيتُ طَاوِيًا ثِقَةً فِيمَا عِندَ اللهِ مِن عَاجِلِ الرِّزقِ في الدُّنيَا وَآجِلِ الأَجرِ في الآخِرَةِ .


الساعة الآن 01:41 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
- arab-line : Search Engine Friendly URLs by vBSEO 3.3.0 TranZ By Almuhajir

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010

... جميع الحقوق محفوظه لمجالس رويضة العرض لكل العرب ...

.. جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر صاحبها ...ولا تعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر المنتدى..

a.d - i.s.s.w