الموضوع: نرجس
عرض مشاركة واحدة
#2 (permalink)  
قديم 16-06-2007, 07:39 PM
سمير الفيل
.::V I P::.
.::قاص وروائي مصري::.
سمير الفيل غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 898
 تاريخ التسجيل : 16-06-2007
 فترة الأقامة : 6197 يوم
 أخر زيارة : 04-03-2009 (06:12 PM)
 العمر : 73
 المشاركات : 54 [ + ]
 التقييم : 323
 معدل التقييم : سمير الفيل مبدع سمير الفيل مبدع سمير الفيل مبدع سمير الفيل مبدع
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي بقية : نرجس



وقبل أن يجيب فوجيء باللكمة الأولى تطـّير سنتين من فمه ، وقبل أن يجيب همس الثاني في أذنه : أبقى اتشطر على العيال حلو.
وبقبضة يديه المعقودتين نزل على أم رأسه فلم يحط منطقا . لكنهما ألقيا ماءً باردا على وجهه وأكملا الطريحة . وأمي تشاهد كل شيء ، وتحملني حين لاأستطيع الخطو من شدة ما بقدميّ من جروح .
قالت لي وهي تنظر له بشماته : من يريد أن يعمل جدعا يبقى يعمل جدعا على الرجال وليس العيال؟
حط عينيه في الأرض ، وانسل الرجلان من المكان بعد أن فعلا شيئا غريبا ، لقد غابا لنصف ساعة ، بعدها جاءا لأمي ومن مسقط السلم ندها : يا أم مشمش . العلقة دي لوجه الله .
حين نزلت أمي لتسأل عن سبب عودتهما دفعا بالنقود إليها ، ومع النقود حملاها لفة ساخنة .
جلسنا نأكل الكباب لأول مرة منذ موت أبي ، فيما أغالب وجع قدمي ّ ، وحول الطبلية جلس أخوتي أحمد وتوفيق وأشجان ، كانت أكبرنا بوردتين في الوجنتين وكحل رباني حول العينين .
حين انتهينا تربست أمنا علينا الباب ، وعادت لحي الصاغة فاسترجعت أسورتها الذهبية المتموغة ، وهي تزغرد أن الله قد جعل في الأرض من يأخذ بحق الغلابة والمنكسرين من التجار والسماسرة .
قالت لي نرجس وهي تهزني بشدة : إنصت السمع . إنه يصعد إلى هنا .
حبسنا أنفاسنا ، والتصقت بي ولاحظت ارتجافة خفيفة تسري من جسدها لجسدي ، ومن أعلى نظرنا نحوه ، وجدناه يفتش الأركان ، وعشة الدجاج ، وما وراء زلع الجبن وخزين السكر والملح ، وأجولة الأرز ، والحزم المكدسة من الثوم والبصل وقشور الرمان لزوم البرد والكحة .
ثم ألقى نظرة مستطلعة للشخشيخة وفكر لحظة أن يعتليها فلم يجد ما يمكنه من ذلك .
شعرت بأنفاسها تكاد تتوقف ، مدت يدا ففكت الزارر الأول ، وبرقش الضوء ورود ثوبها ، وبان نهدان صغيران مستكينان ، وهي تغمض عينيها وتدخلني في بطء مميت .
شعرت بسحر غامض ، وزلزلنني هذا التوحد المخيف ، حتى كدت أتخلى عنها وأهبط نحو سطح منزلنا ، فلن يجرؤ على أن يأتي ، فطنت لما يدور في ذهني إذ تمسكت بي أكثر وربتت علي يدي . سمعناه يضرب كفا بكف ، و يبرطم في توعد مخيف : فص ملح وذاب . يكون الأرض انشقت وبلعتها . سوف تتلقى عقابها حين تعود !
رأيناه يهبط السلم ، وسمعنا الدرابزين يئن تحت ثقل خطواته الغضبى ، أسلمت لي شفتيها ، وخفت أن يعذبني الله ، لأن أمي قالت لي مرة أن من يقبل النساء يدخل النار ، قبلتها وجلا ، وهي همست في نشوة : أشكرك . لقد حميتني من هذا المجنون !
سألتها ، وأنا أمسح طعم قبلتها بأن امرر شفتي ّ على طرف قميصي : نرجس . لماذا تزوجتيه إذن؟
قالت وكأنها تلوم نفسها : قسمة ونصيب .
ثم أرادت أن أتاكد أنها لا تكذب علي ، فأمسكت يدي ، وكشفت ظهرها وجعلتني أتحسس جروحها . مررت يدي فمسني تيار كهربي صاعق ، ورأيت أن الله قد خلق الجحيم لمثل هذه اللحظة ، قلت وأنا أستجمع بعض شجاعتي : نرجس . بشرتك ناعمة جدا .
ضحكت هامسة : كل النساء هكذا !
قلت محتجا : أمي ليست هكذا !
كادت تفلت منها ضحكة مجنونة تفضحنا ، ونظرت للوميض الذي رأته في عيني رغم الظلام المراوغ : كانت يوما مثلي؟ والزمن يحول بشرتنا الناعمة إلى أخرى خشنة .
أضافت بعد قليل : وسوء الحظ يحول الوجه الضحوك إلى آخر باك ٍ.
سألتها وهي ترد يدي بعد أن شعرت بشيء غامض يجرح جلستنا : مشمش . هل تحافظ على سرنا؟
قبل أن أجيب صعدت أمي السطح ، وراحت تحبّـس دجاجها وديكها الوحيد في العش ، ثم رفعت يديها إلى السماء وتمتمت : الولد مشمش غاب . يارب إحفظه ده كبدي ونن عيني . ده برضه من رائحة المرحوم .
كدت أقفز من أعلى الشخشيخة ، وأجثو تحت قدميها ، وأطلب منها السماح ، ثم أصرخ في وجهها : وأنا أحبك يا أمي .
قبل أن تعاود هبوطها ، سمعت صوتها ، وكأنها تحدث إنسانا معها : وحشني أبو أحمد قوي .
تابعت ونحن نتحرك بحذر لنتابع هبوطها : لولا الولاد كنت اتصرفت ورحت له!
اهتز جسد نرجس الملاصق لي وهي تحاول أن تكتم ضحكها . وحين واربت أمي باب السطوح ، قالت لي همسا : كل الستات تخاف من الرجالة . وما تستغناش عنهم .
سألتها وكلي خوف : ست نرجس . عايز أبوسك لو سمحت ؟
قالت وهي تضع الإبهام والسبابة فوق شفتي : ستدخل النار ؟أمك قالت هذا !
ألا تصدقها يا مشمش ؟
هززت رأسي وأنا أكاد أبكي : أعرف يا نرجس . أعرف . لكن روحي تختنق . أرجوك دعيني أتحسس جروحك من جديد .
لامتني نظرتها المتحيرة ، تنهدت في قلب الظلمة العطشى ، ولفنا هدوء سرمدي ،
وقد أحسست أنني قد دخلت النار فعلا !

دمياط 18/8/2005



 توقيع : سمير الفيل

سمير الفيل
قاص وروائي مصري


مدونتي : http://samir-feel.maktoobblog.com/?all=1

رد مع اقتباس