التحذير من الكسب الخبيث
الخطبة الأولى
عـباد الله
لقد جبل الله عز وجل الخلق على حب المال، ورَكَّب في الطباع الحرص على طلبه وتحصيله؛ لأن به قوام حياة الناس وانتظام أمر معايشهم وتمام مصالحهم. وبين الله تعالى في كتابه الكريم أن العمل لكسب العيش وتحصيل ما لا بد منه كان دأب أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: ( وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه : وأنت يا رسول الله؟ فقال : ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)).وأخبر جل وعلا عن داود عليه السلام بقوله : ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) وعن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله : (ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري.وقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كان زكريا نجارًا)). قال الإمام النووي: "فيه جواز الصنائع، وأن النجارة لا تسقط المروءة، وأنها صنعة فاضلة".
وكان أصحاب رسول الله يحترفون بأيديهم ،فاتضح من كل ما تقدم تأكيد الشريعة الإسلامية على أهمية العمل والاكتساب، وأن على كل فرد قادر أن يسعى بنفسه لتحصيل ما يحتاجه من مقومات الحياة، والله تعالى قد قدر الأرزاق وكتبها، وعلى المرء أن يأخذ بجميع الأسبابِ الممكنة لتحصيل الرزق وجمعه، وأن لا يبقى خاملاً ينتظر رزقه، فإن الله تعالى أمر بالسعي في الأرض والتنقل بين أرجائها طلبًا للعمل والكسب، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) قال ابن كثير رحمه الله: "أي: سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، وعن عمر بن الخطاب عن رسول الله قال: ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا ) فأثبت لها رواحًا وغدوًا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل،وقال عمر بن الخطاب : ( لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة)، وتلا قول الله تعالى: ( فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
عباد الله -لقد جاء الشرع الحنيف بالحث على السعي في تحصيل المال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة، وجعـل للحصول عليه ضوابط وقواعـد واضحة المعالم، لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه المصالح للفرد وللجماعة.
وقد أوجب الشارع على المسلم أن يطلب المال ويسعى في أسباب تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح، حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ) متفق عليه، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ( مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ )، وقال رسول الله : ( مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ ) فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن وعزة للمسلم، به تُصان الأعراض وتحفظ الكرامة، وبه يستعان على كثيرٍ من أعمال البر والطاعة، فنعم المال الصالح للمرء الصالح، يقول الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف : (يا حبذا المال، أصون به عرضي، وأُرضي به ربي).
الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.
أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء. المال الحرام مستخبث الأصول، ممحوق البركة والمحصول، إن صرفه صاحبه في برٍ لم يُؤجر، وإن بذله في نفعٍ لم يُشكر، ثم هو لأوزاره مُحتَمِل وعليه معاقب. قال بعض الحكماء: شر المال ما لزمك إثم مكسبه، وحُرمت أجر إنفاقه، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!
تأملوا حال هذا الرجل الذي قد استجمع من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحَرَمَ نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من استعمال للحرام في المأكل والمشرب والملبس
وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين رحمة الله؟! لذا كان السلف الصالح في غاية الخوف من أكل الحرام والمبالغة في التحذير منه :
روى البخاري عن عائشة قالت: كان لأبي بكر الصديق غلام فجاء له يومًا بشيء فأكل منه، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟! فقال أبو بكر : وما هو؟ فقال: تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية وما أُحسنُ الكِهانة إلا أني خدعته، فَلقينِي فأعطاني بذلك هذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه ، وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ، ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء[5]. ورُوي أن عمر بن الخطاب شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ فقال: مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء . وأوصت إحدى الصالحات زوجها وقالت له: يا هذا، اتق الله في رزقنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
عباد الله
إن من العجب أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافة المرض ولا يحتمون من الحرام مخافة النار، وما ذاك إلا لقسوة القلوب واستيلاء الغفلة على النفوس وضعف الإيمان وقلة البصيرة في الدين.
.