الشباب في أزمة فمن ينقذهم ؟ 7 / 8 / 1432
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، لَقَد خَلَقَ اللهُ الإِنسَانَ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ ، وَمَيَّزَهُ بِالعَقلِ وَاكتِمَالِ الحَوَاسِّ وَجَعَلَ ذَلِكَ غَايَةَ التَّكرِيمِ ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " لَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ في أَحسَنِ تَقوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدنَاهُ أَسفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ فَلَهُم أَجرٌ غَيرُ مَمنُونٍ "
وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلَقَد كَرَّمنَا بَني آدَمَ وَحَمَلنَاهُم في البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاً "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَاللهُ أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لا تَعلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَلم نَجعَلْ لَهُ عَينَينِ . وَلِسَانًا وَشَفَتَينِ . وَهَدَينَاهُ النَّجدَينِ "
غَيرَ أَنَّ هَذَا الإِنسَانَ مَعَ تَكرِيمِ اللهِ لَهُ بِوُفُورِ العَقلِ وَاكتِمَالِ الحَوَاسِّ ، فَهُوَ مَخلُوقٌ مُرَكَّبٌ مِن جَوَانِبَ حَيَوَانِيَّةٍ ، تَظهَرُ في شَهَوَاتٍ يَمِيلُ إِلَيهَا قَلبُهُ ، وَمُغرِيَاتٍ تَرغَبُ فِيهَا نَفسُهُ ، وَهَذِهِ هِيَ نُقطَةُ الضَّعفِ الَّتي وَصَفَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بها حَيثُ قَالَ : " وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا " فَهُوَ ضَعِيفٌ في قُوَّتِهِ الجَسَدَيَّةِ ، ضَعِيفٌ في مُوَاجَهَةِ الفِتَنِ وَالبَلِيَّاتِ ، ضَعِيفٌ أَمَامَ المُغرِيَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، خَاصَّةً أَنَّ تِلكَ الشَّهَوَاتِ حُلوَةٌ مُزَيَّنَةٌ ، مُغرِيَةٌ فَاتِنَةٌ ، وَصَفَهَا ـ تَعَالى ـ بِقَولِهِ : " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ "
وَإِنَّهُ حِينَ يُوَفَّقُ المَرءُ إِلى سُلُوكِ السُّبُلِ المَشرُوعَةِ لِلحُصُولِ عَلَى هَذِهِ الشَّهَوَاتِ ، فَإِنَّ في ذَلِكَ نَجَاتَهُ وَفَوزَهُ ، وَحِينَ يُخذَلُ فَيَسلُكُ سَبِيلَ الحَرَامِ ، فَإِنَّ في ذَلِكَ هَلاكَهُ وَخَسَارَتَهُ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَن يَضمَنْ لي مَا بَينَ لَحيَيهِ ، وَمَا بَينَ رِجلَيهِ ، أَضمَنْ لَهُ الجَنَّةَ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
لَكِنَّ الإِنسَانَ لا يُمكِنُهُ حِفظُ نَفسِهِ إِلاَّ بِحِفظِ مَا كَرَّمَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِهِ ، وَهُوَ ذَلِكُمُ العَقلُ الَّذِي اختَصَّهُ بِهِ مِن بَينِ سَائِرِ الحَيَوَانِ . وَقَد وَبَّخَ اللهُ ـ تَعَالى ـ الكَافِرِينَ بِأَنَّهُم شَرُّ مَن دَبَّ عَلَى وَجهِ الأَرضِ لأَنَّهُم كَفَرُوا وَجَرَّدُوا أَنفُسَهُم مِن نِعمَةِ الانتِفَاعِ بِالعَقلِ ، فَقَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُم لا يُؤمِنُونَ "
كَمَا بَيَّنَ ـ سُبحَانَهُ ـ أَنَّ سَبَبَ وُقُوعِ أَهلِ النَّارِ في الضَّلالِ هُوَ تَعطِيلُهُم حَوَاسَّهُمُ الَّتي هِيَ رَوَافِدُ العَقلِ ، حَتَّى صَارُوا وَكَأَنَّهُم لا أَسمَاعَ لَهُم وَلا أَبصَارَ وَلا قُلُوبَ ، بَل صَارُوا أَجسَادًا حَيَّةً مُتَحَرِّكَةً كَالأَنعَامِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُم قُلُوبٌ لا يَفقَهُونَ بها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرُونَ بها وَلَهُم آذَانٌ لا يَسمَعُونَ بها أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ "
وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعُونَ أَو يَعقِلُونَ إِنْ هُم إِلاَّ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلاً "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَمِنهُم مَن يَستَمِعُونَ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ وَلَو كَانُوا لا يَعقِلُونَ . وَمِنهُم مَن يَنظُرُ إِلَيكَ أَفَأَنتَ تَهدِي العُميَ وَلَو كَانُوا لا يُبصِرُونَ . إِنَّ اللهَ لا يَظلِمُ النَّاسَ شَيئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُم يَظلِمُونَ "
أَلا وَإِنَّ شَرَّ آفَاتِ العَقلِ هُوَ اتِّبَاعُ الهَوَى وَالانقِيَادُ لِدَاعِي الشَّهَوَاتِ ، وَلِذَلِكَ فَقَد حَذَّرَنَا ـ تَعَالى ـ مِنِ اتِّبَاعِ الهَوَى ، مُبَيِّنًا أَنَّهُ ضَلالٌ وَفَسَادٌ ، قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ : " وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدىً مِنَ اللهِ "
وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهوَاءَهُم لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ وَمَن فِيهِنَّ "
وَأَمَّا الشَّهَوَاتُ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ لا بُدَّ لِلإِنسَانِ مِنهَا بِقَدرٍ مُعَيَّنٍ ، فَقَد جَاءَ الإِسلامُ بَتَهذِيبِهَا وَالأَمرِ بِطَلَبِهَا بِالحَلالِ وَالتَّوَسُّطِ في تَنَاوُلِهَا ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِن بَطنٍ ، بِحَسبِ ابنِ آدَمَ أُكْلاتٌ يُقِمنَ صُلبَهُ ، فَإِن كَانَ لا مَحَالَةَ ، فَثُلُثٌ طَعَامٌ وَثُلُثٌ شَرَابٌ وَثُلُثٌ لِنَفسِهِ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " وَفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهوَتَهُ وَيَكُونَ لَهُ فِيهَا أَجرٌ ؟ قَالَ : " أَرَأَيتُم لَو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيهِ فِيهَا وِزرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ " رَوَاهُ مُسلِمٌ .
يُقَالُ هَذَا الكَلامُ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَنَحنُ نَرَى شَبَابَ اليَومِ قَد غَلَبَت شَهَوَاتُهُم عُقُولَهُم ، وَصَارُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ يُعَانُونَ مِن مُشكِلاتٍ وَتَمُرُّ بهم أَزَمَاتٌ ، مَا بَينَ فَرَاغٍ فِكرِيٍّ ، وَتَدَنِّي مُستَوًى عِلمِيٍّ ، وَأَزَمَاتِ عَمَلٍ وَزَوَاجٍ وَسَكَنٍ ، يَزِيدُهَا شِدَّةً ضَعفُ التَّوجِيهِ مِنَ الأَولِيَاءِ وَالمُرَبِّينَ ، وَيُعَقِّدُهَا سُوءُ التَّربِيَةِ وَتُوَفُّرُ القُدَوَاتِ السَّيِّئَةِ وَالبَرَامِجِ المُضِلَّةِ ، في ظِلِّ هَذِهِ الوَسَائِلِ الَّتي استَغَلَّهَا أَعدَاءُ الإِسلامِ لإِفسَادِ الأُمَّةِ وَإِمَاتَةِ عُقُولِ أَبنَائِهَا ، وَتَبدِيلِ فِطَرِهِم وَنَحرِ حَيَائِهِم وَعَفَافِهِم . إِنَّهَا لأَزمَةٌ أَن يَعِيشَ الشَبَابُ بِلا هَدَفٍ وَلا رِسَالَةٍ ، وَيَحيَونَ وَلا شُعُورَ لَدَيهِم بِمَسؤُولِيَّةٍ ، أَزمَةٌ حِينَ يَتَدَنَّى مُستَوَاهُمُ العِلمِيُّ ، وَيَقِلُّ وَعيُهُم بما يُرَادُ مِنهُم وَمَا يُخَطَّطُ لَهُم ، أَزمَّةٌ حِينَ تَكثُرُ المَدَارِسُ وَالمَعَاهِدُ وَالجَامِعَاتُ وَالكُلِّيَّاتُ ، ثُمَّ تَقِلُّ نَوعِيَّةُ المُتَخَرِّجِين فِيهَا وَيَضعُفُ مُستَوَاهُم ، فَلا يُطَبِّقُونَ مَا تَعَلَّمُوهُ ، وَلا يَعمَلُونَ بما دَرَسُوهُ ، بَل يَكُونُ قُصَارَى جُهدِ أَحَدِهِم أَن يَكتُبَ عَلَى أَورَاقِ الإِجَابَةِ كَلامًا حَفِظَهُ بِلا عِلمٍ ، وَأَن يَجتَرَّ في الاختِبَارِ نَظَرِيَّاتٍ التَهَمَهَا بِلا وَعيٍ وَلا فَهمٍ ، ثُمَّ يَتَنَاسَى كُلَّ ذَلِكَ بَعدَ خُرُوجِهِ مِن قَاعَةِ الامتِحَانِ وَانتِهَاءِ مَوسِمِ الاختِبَارِ ، نَاسِيًا أَنَّ العِلمَ يَجِبُ أَن يَكُونَ مِنَ المَهدِ إِلى اللَّحدِ ، وَأَنَّ النَّجَاحَ الحَقِيقِيَّ هُوَ تَطبِيقُ مَا تَعَلَّمَهُ عَلَى أَرضِ الوَاقِعِ ، وَالاستِفَادَةُ مِنهُ في حَيَاتِهِ العَمَلِيَّةِ وَتَعَامُلُهُ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الشَّبَابَ يُعَانُونَ مِن أَزَمَاتٍ وَمُشكِلاتٍ ، تَظهَرُ بِوُضُوحٍ في أَوقَاتِ العُطَلِ وَالإِجَازَاتِ ، مِنهَا تَركُ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ ، وَإِطلاقُ النَّظَرِ في فَاسِدِ القَنَوَاتِ ، ، وَفي جَانِبٍ آخَرَ تَجِدُ المُخَدِّرَاتُ إِلى الشَّبَابِ طَرِيقَهَا في غَفلَةٍ مِنَ الآبَاءِ ، فَتُدَمِّرُ عُقُولَهُم وَتُخَرِّبُ أَخلاقَهُم ، وَتُفسِدُ فِطَرَهُم وَتَجعَلُهُم يُغرِقُونَ في الشَّهَوَاتِ ، ثُمَّ لا يُفَكِّرُونَ وَقَد أَدمَنُوهَا في مُثُلٍ عُليَا ، وَلا يَنطَلِقُونَ في حَيَاتِهِم مِن قِيَمٍ سَامِيَةٍ ، بَل يُصبِحُ أَحَدُهُم كَالبَهِيمَةِ العَجمَاءِ ، وَقَد يَنحَطُّ حَتَّى يَكُونَ أَسفَلَ مِنهَا وَأَقَلَّ شَأنًا .
وَمِن أَزَمَاتِ الشَّبَابِ الانغِمَاسُ في المَلاهِي وَالمُثِيرَاتِ ، مِن أَغَانيَّ مَاجِنَةٍ وَرَقصَاتٍ مَائِعَةٍ ، وَرَسَائِلِ جَوَّالٍ مُنحَطَّةٍ وَصُوَرٍ مُسِفَّةٍ ، ، وَأَجهِزَةِ أَلعَابٍ مُدَمِّرَةٍ ، تُعَلِّمُ الجَرَائِمَ وَتُعَوِّدُ عَلَى التَّمَرُّدِ ، لَقَدِ انتَشَرَتِ المَسرَحِيَّاتُ وَالتَّمثِيلِيّ َاتُ في أَكثَرِ القَنَوَاتِ ، وَارتَفَعَ صَوتُ الغِنَاءِ وَالمُوسِيقَى ، وَكَثُرَ الرَّقصُ وَالتَمَيُّعُ ، وَقُصِدَ إِلى نَشرِ الإِبَاحِيَّةِ قَصدًا ، وَصَارَ الرَّاقِصُونَ وَالرَّاقِصَاتُ يَتَبَارَونَ في ذَلِكَ وَيَعُدُّونَه فَنًّا مِنَ الفُنُونِ ، بَل وَيُسَمُّونَهُ فَنًّا رَفِيعًا ، هَكَذَا يَزعُمُونَ ، وَاللهُ يَعلَمُ أَنَّهُم لَكَاذِبُونَ ، وَالحَقِيقَةُ أَنَّ الأَمَةَ لم تَستَفِدْ مِن هَذِهِ المَلاهِي لا عِزَّةً في النُّفُوسِ وَلا صَلاحًا في القُلُوبِ ، وَلا تَقوِيمًا لِلأَخلاقِ وَلا تَهذِيبًا لِلسُّلُوكِ ، وَلا بِنَاءً لِلقِيَمِ وَلا حِفظًا لِلشِّيَمِ ، لم يَرتَفِعْ بها مُستَوَى الشُّعُوبِ الثَّقَافيِّ ، وَلم تُغرَسْ بها في نُفُوسِ الشَّبَابِ فَضِيلَةٌ ، بَل عَلَى العَكسِ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ ، لم تُحَصِّلِ الأُمَّةُ مِنهَا إِلاَّ الخَلاعَةَ وَالمُجُونَ وَالبَلاءَ ، وَذَهَابَ العَفَافِ وَنَزعَ الحَيَاءِ ، وَقَلَّ أَن تُوجَدَ أُغنِيَّةٌ أَو تَمِثِيلِيَّةٌ إِلاَّ وَفِيهَا تَهيِيجٌ لِلشَّهَوَاتِ ، وَحَثٌّ عَلَى مُحَرَّمِ العِلاقَاتِ ، وَإِفسَادٌ لأَخلاقِ الأَبنَاءِ وَالبَنَاتِ ، وَنَشرٌ لِلعُريِّ وَتَعلِيمٌ لِلحُبِّ الكَاذِبِ وَبَثٌّ لِلإِعجَابِ الخَادِعِ . وَقَدِ انسَاقَ السَّوَادُ الأَعظَمُ مِنَ الشَّبَابِ مَعَ هَذِهِ المَوجَةِ العَاتِيَةِ مِنَ المَلاهِي ، فَصَارَ الغِنَاءُ لَهُم عَادَةً ، يَسمَعُونَ المُطرِبِينَ وَالمُطرِبَاتِ غَادِينَ رَائِحِينَ ، وَيُشَاهِدُونَ التَّمثِيلِيَّا تِ وَالمَسرَحِيَّا تِ لَيلاً وَنَهَارًا ، حَتَّى طُمِسَ عَلَى قُلُوبِ بَعضِهِم فَنَسُوا ذِكرَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَانصَرَفُوا إِلى مَا أَفسَدَ قُلُوبَهُم ، وَصَارَ بَعضُهُم بَدَلاً مِن أَن يَنظُرَ إِلى العُلَمَاءِ وَالبَاحِثِينَ وَالمُختَرِعِين َ بِإِجلالٍ وَتَقدِيرٍ وَيَتَمَنَّى أَن يَكُونَ مِثلَهُم ، إِذَا بِهِ يَتَمَنَّى أَن يَكُونَ مِثلَ الفَنَّانِ أَوِ المُمَثِّلِ أَوِ المُهَرِّجِ . وَإِنَّهُ وَإِن كَانَ لا بَأسَ مِن أَن يَلهُوَ المَرءُ بما هُوَ حَلالٌ وَمُبَاحٌ ، وَأَن يُرَفِّهَ عَن نَفسِهِ أَو يَسِيرَ في الأَرضِ لِيُمَتِّعَ بَصَرَهُ بِمَحَاسِنِ مَا خَلَقَ اللهُ ، وَأَن يَستَمِعَ لِلأَنَاشِيدِ الَّتي لا تَحتَوِي عَلَى مُوسِيقَى ، وَأَن يَلعَبَ الأَلعَابَ المُبَاحَةَ كَالرِّمَايَةِ وَالسِّبَاحَةِ ، وَأَن يُمَارِسَ رُكُوبَ الخَيلِ أَو غَيرَهُ ، وَأَن يُتقِنَ عَمَلَهُ وَيَتَفَنَّنَ في هِوَايَاتِهِ ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا العَفَنَ الَّذِي تُكشَفُ فِيهِ العَورَاتُ وَتُهتَكُ السُّتُورُ ، وَيُدعَى الشَّبَابُ إِلى المُنكَرَاتِ وَفَاحِشِ الأُمُورِ ، إِنَّهُ لا يَستَحِقُّ أَن يُسَمَّى فَنًّا ، وَلا يَجُوزُ أَن يَكُونَ تَرفِيهًا عَنِ النَّفسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ في الحَقِيقَةِ حَرقٌ لِلنُّفُوسِ وَإِفسَادٌ لِلقُلُوبِ ، وَتَدمِيرٌ لِلعُقُولِ وَهَدَمٌ لِلأَخلاقِ .
فَمَنِ المَسؤُولُ عَنِ الشَّبَابِ وَهَذِهِ بَعضُ حَالِهِم ؟ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهلِ بَيتِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيتِ زَوجِهَا وَمَسؤُولَةٌ عَن رَعِيَّتِهَا ، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ ، فَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ "
فَكُلٌّ مَسؤُولٌ وَعَلَيهِ جُزءٌ مِن مُهِمَّةِ الإِصلاحِ ، فَالحَاكِمُ مَسؤُولٌ وَالوَالِدَانِ مَسؤُولانِ ، وَالمَدرَسَةُ مَسؤُولَةٌ وَالجَامِعَةُ كَذَلِكَ ، وَعَلَى المُجتَمَعِ في هَذَا الشَّأنِ مَا عَلَيهِ ، وَأَمَّا المَسؤُولِيَّةُ المُبَاشِرَةُ ، فَإِنَّهَا مِنَ الشَّابِّ عَن نَفسِهِ ، فَهُوَ المَسؤُولُ الأَولُ عَن إِصلاحِ قَلبِهِ وَتَهذِيبِ نَفسِهِ . مُصِيبَةٌ أَن يَظُنَّ الشَّابُّ أَنَّهُ سَيَظَلُّ هَكَذَا صَغِيرًا دَائِمًا ، غَافِلاً عَن أَنَّهُ سَوفَ يَكبُرُ وَيَتَسَلَّمُ مَقَالِيدَ الأُمُورِ يَوَمًا مَا ، وَمِن ثَمَّ فَلا بُدَّ أَن يَتَعَاهَدَ نَفسَهُ بِالعِلمِ وَالثَّقَافَةِ ، وَأَن يَشُقَّ طَرِيقَهُ لِلقِيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ ، وَأَن يَختَارَ في طَرِيقِهِ صَدِيقًا عَاقِلاً وَجَلِيسًا صَالِحًا ، وَيَنتَقِيَ خَلِيلاً تَقِيًّا وَرَفِيقًا رَضِيًّا ، فَإِنَّ مَن صَادَقَ الصَّالِحِينَ اكتَسَبَ مِنهُمُ الخَيرَ وَأَخَذَ عَنهُمُ الصَّلاحَ ، وَمَن عَاشَرَ الفَاسِقِينَ المَائِعِينَ أُصِيبَ بِمَرَضِهِم ، وَإِذَا وَقَعَتِ الإِصَابَةُ فَهِيَ خَطِيرَةٌ جِدًّا ، وَقَلَّمَا شُفِيَ صَدِيقٌ مِن عَادَةٍ سَيِّئَةٍ اكتَسَبَهَا مِن صَدِيقٍ أَحمَقَ ، أَو تَعَافى مِن بَلوَى عَلَّمَهُ إِيَّاهَا رَفِيقٌ جَاهِلٌ . قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " لا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤمِنًا ، وَلا يَأكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ .
وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ ، فَلْيَنظُرْ أَحَدُكُم مَن يُخَالِلُ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ . وَلا يَغتَرَّنَّ أَحَدٌ بِمُوَافَقَةِ أَصدِقَائِهِ لَهُ فِيمَا تَهوَاهُ نَفسُهُ وَتَشتَهِيهِ ، فَقَد قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ في أَمثَالِ هَؤُلاءِ : " الأَخِلاَّءُ يَومَئِذٍ بَعضُهُم لِبَعضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المُتَّقِينَ "
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ جَمِيعًا ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ " وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ " اللَّهُمَّ أَصلِحْ لَنَا دَينَنَا الَّذِي هُوَ عِصمَةُ أَمرِنَا ، وَأَصلِحْ لَنَا دُنيَانَا الَّتي فِيهَا مَعَاشُنَا ، وَأَصلِحَ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتي فِيهَا مَعَادُنَا ، وَاجعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيرٍ ، وَاجعَلِ المَوتَ رَاحَةً لَنَا مِن كُلِّ شَرٍّ .
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ " وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ سَبَبَ وُقُوعِ الشَّبَابِ فِيمَا يَقَعُونَ فِيهِ مِن أَزَمَاتٍ وَمُشكِلاتٍ ، إِنَّمَا هُوَ وُفُورُ الصِّحَّةِ وَكَمَالُ القُوَّةِ وَحِدَّةُ النَّشَاطِ ، مَعَ كَثرَةِ الفَرَاغِ وَقِلَّةِ الشُّغلِ ، وَتَوَفُّرِ المَالِ لَهُم مِن أَولِيَاءِ الأُمُورِ أَو مِن مَصَادِرَ أُخرَى . وَهَذِهِ كُلُّهَا مِمَّا يُفسِدُ المَرءَ وَيُسَاعِدُ عَلَى انحِرَافِهِ ، وَقَد قَالَ القَائِلُ :
إِنَّ الشَّبَابَ وَالفَرَاغَ وَالجِدَة *** مَفسَدَةٌ لِلمَرءِ أَيُّ مَفسَدَةٌ
أَمَّا وَهَذِهِ الثَّلاثُ مُتَوَفِّرَةٌ وَلا سِيَّمَا في أَوقَاتِ الإِجَازَاتِ ، فَحَرِيٌّ بِنَا أَن نَتَعَاوَنَ جَمِيعًا آبَاءً وَإِخوَانًا كِبَارًا وَمَسؤُولِينَ وَمُرَبِّينَ ، فَنُوَجِّهَهَا الوِجهَةَ السَّلِيمَةَ ، وَنَسعَى لأَن يُحَقِّقَ أَبنَاؤُنَا مِنهَا أَكبَرَ قَدرٍ مِنَ الفَائِدَةِ ، لا أَن يَخرُجُوا مِن إِجَازاتِهِم وَقَدِ اكتَسَبُوا مِنَ الأَخلاقِ أَرذَلَهَا وَأَخَذُوا مِنَ العَادَاتِ أَسوَأَهَا ، وَهَا هِيَ النَّوَادِي الصَّيفِيَّةُ الثَّقَافِيَّةُ تُقَامُ في المَدَارِسِ ، وَبَينَ أَيدِيكُمُ الدَّورَاتُ الصَّيفِيَّةُ لِحِفظِ القُرآنِ في المَسَاجِدِ ، وَالسَّفَرُ لأَدَاءِ العُمرَةِ أَو زِيَارَةِ مَسجِدِ رَسُولِ اللهِ مِن خَيرِ مَا تُشَدُّ لَهُ الرِّحَالُ ، وَلا بَأسَ أَن تُسَافِرَ الأُسرَةُ لِصَلَةِ رَحِمٍ أَو حُضُورِ زَوَاجِ قَرِيبٍ ، أَو لِتَمشِيَةٍ في رُبُوعِ البِلادِ لاكتِشَافِ جَدِيدٍ وَتَغيِيرِ النُّفُوسِ لِلأَحسَنِ . وَالحَذَرَ الحَذَرَ مِمَّا انتَشَرَ في الإِجَازَاتِ مِن طُولِ السَّهَرِ وَالعُكُوفِ عَلَى القَنَوَاتِ المَاجِنَةِ ، وَتَركِ الشَّبَابِ يَجتَمِعُونَ عَلَى مَا لا يَعلَمُ الأَولِيَاءُ حَقِيقَتَهُ ، ثُمَّ يَنَامُونَ عَنِ الصَّلاةِ المَكتُوبَةِ طُولَ النَّهَارِ وَكَأَنَّهُم قَد رُفِعَ عَنهُمُ القَلَمُ ، فَـ"كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ "