.





من أروع ما قرأت !
فكرا ً ومضمونا ً ..





هاني الظاهري





من يتابع آراء الكتاب السعوديين تجاه الفتاوي التي أطلقها بعض الإسلاميين أخيراً يعتقد أن كل فرد في السعودية ترك شؤونه وخرج إلى الشوارع راكضاً يبحث عن فتوى تسمح له باستكمال حياته.


كتاب ومثقفون ورجال دين ومنتسبون للفكر الليبرالي تفرغوا طوال الأيام الماضية للمطالبة بضبط الفتاوى واحتكارها لجهة دون أخرى في ظاهرة غريبة يمكن تسميتها بـ"فوبيا الفتاوي", فهنا ثورة لتأييد فتوى الكلباني عن الغناء وهناك ثورة لمعارضة فتوى إرضاع الكبير وبين هذه وتلك غضب من فتوى لم تصدر بعد, ونداءات متتالية بتدخل المفتي بل وهناك من تحمس قليلاً وطالب بسجن وجلد أصحاب آراء و وجهات نظر كل ذنبهم أن آراءهم سميت "فتاوي".


ليس ثمة شيء مثير للسخرية أكثر من أن تجد مجتمعاً يكذب على نفسه ويصدق كذبته ويستميت بعد ذلك للدفاع عنها ومقاتلة مكذبيها, فمنذ متى كانت الأغاني كمثال حرام فعلياً على أرض الواقع في السعودية؟..

نعلم جيداً أن هناك فئة تحرمها في الكتب والمناهج الدراسية والمسألة لا تعدو ذلك, فأكبر شركات إنتاج الأغاني في العالم العربي موجودة في السعودية ولا تكاد تخلو سيارة سعودي من جديد الألبومات الطربية وفي أسوأ الأحوال إذاعة الغناء الشهيرة mbc اف ام, أي أن فتوى الإباحة أو فتوى التحريم لا تهمان الناس ولن تغيرا من سلوكهم, مهما ارتفعت أصوات مؤيدي أو معارضي أي منهما.


أما الغاضبون من فتوى إرضاع الكبير فكان يجدر بهم أن يسألوا أنفسهم: منذ متى كان السعوديون ينتظرون رأي "مطوع" حتى ينطلقوا إلى خدور نسائهم لحثهن على إرضاع الرجال الغرباء أو حلب اثدائهن في كؤوس و"طاسات" للتخلص من أثم الاختلاط والخلوة..؟ ما هذه السخرية بعقول الناس؟

لماذا لا يُترك كل شخص يُفتي براحته فطالما أن فتواه لا تحرض على قتل أو إرهاب أو تأليب على ولاة الأمر, فهي مجرد وجهة نظر عادية, ومن حقه أن يعلنها في كل مكان بأعلى صوته, ولا داعٍ للمناداة بنظام كهنوت جديد يسيطر على وجهات النظر الدينية المسماة "فتاوي" لأنها في الأخير لا تلزم أحداً.


إن إعطاء وجهات النظر الدينية (الفتاوي) هالة أكبر من حجمها وتصويرها كأوامر ربانية أمر مثير للسخرية, فللبشر عقول تسيرهم وليسوا بانتظار فرمانات دينية لاتغني ولا تسمن من جوع, كما أن إعطاء الفتوى هالة قدسية والمناداة بحصرها على أشخاص معينين أو لجنة معينة أمر مسيء لسمعة السعوديين فهو يتضمن رسالة مبطنة تصورهم كنعاج بانتظار الأمر للانطلاق للمرعى, بل وتصادر حريتهم جميعاً في إبداء وجهات النظر في المسائل الدينية التي لم تكن يوماً ملكاً لأحد.


ليقل كل صغير وكبير وامرأة و رجل في هذا البلد رأيه في المسائل الدينية وليفتي كل منهم حتى يتعب فهذا من أبسط حقوقهم ومن حق أي كان أن يؤيدهم أو يعارضهم لكن لا تزايدوا على عقول الناس ولا تصوروا مجتمعنا كـ"حوش أغنام" يقتات على علف الفتاوي, وتتقافزون بعد ذلك للمطالبة باحتكار صناعة العلف لمصنع معين..


ثم ما ضركم إن رضع فلان من فلانة أو امتنع فلان عن الرقص على أغنية فلانة..؟ هذه حريات شخصية يا سادة لا شأن لكم بها, يمكنكم السخرية من فتوى إرضاع الرجال ويمكنكم كذلك الضحك على من يبيح أو يحرم الغناء لكن لا تصادروا أصوات الناس وتشجعوا على قمع حرية الرأي بحجة ضبط الفتوى التي تبقى في أفضل حالاتها كلام يطير في الهواء ولا يصمد بأي حال من الأحوال أمام قوة الطبيعة البشرية والرغبات الإنسانية, ولتعلموا أن الملايين من خلق الله الغلبانين لديهم الاستعداد الكامل لقذف جميع الفتاوي في البحر إن توقعوا مجرد توقع أن التزامهم بها سيرفع أسعار الرز .



.